الاثنين، أكتوبر ١٥، ٢٠١٢

صناعة الرفاهية وصناعة الفقر والبؤس: دور المؤسسات


عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها انقسمت شبه الجزيرة الكورية إلى قسمين، الشمال ويقع تحت إدارة الاتحاد السوفيتي، والجنوب والذي وقع تحت إدارة الولايات المتحدة  في عام 1945، حتى عام 1950 شكلت كوريا الشمالية جيشا قويا وزحفت على كوريا الجنوبية واحتلت العاصمة سيول، قامت الحرب الكورية منذرة بقيام حرب عالمية أخرى، ولكن سرعان ما تم دحر القوات الكورية الشمالية من كوريا الجنوبية، كان وان بيوان يونج وأخوه جنديان في الجيش الكوري الشمالي، وأثناء انسحاب الجيش نحو الشمال استطاع وان بيوان يونج التخفي والهرب والبقاء والعمل في كوريا الجنوبية كصيدلي، بينما أخذ الجيش الكوري الشمالي أخوه معهم في طريق العودة مرة أخرى إلى الشمال ليعمل طبيبا في الجيش الكوري الشمالي. عاش الأخوان يونج في ظل نظامين مختلفين لحوالي 50 عاما. في عام 2000 سمحت حكومتي الدولتين لبعض المواطنين من الشمال بالتجمع مع أسرهم في الجنوب لفترة زمنية قصيرة، فالتقي وان بيوان يونج بأخيه الذي يعمل طبيا في الجيش الكوري الشمالي.

عندما تعمل طبيبا في جيش لنظام ديكتاتوري فإنه من المفترض أن تكون حياتك مريحة نوعا ما، فمثل هذه الوظيفة تعد جيدة في ظل النظام الديكتاتوري، ولكن حتى هذا المنصب لا يؤدي إلى هذه النتيجة في كوريا الشمالية. عندما التقى الأخوان سأل وان بيوان يونج أخاه الذي يعمل طبيبا، كيف هي حياتك في الشمال؟، فأجاب بأنه يعيش حياة جيدة، بمفاهيم كوان للحياة الجيدة سأل أخوه هل لديك سيارة؟ فأجاب الطبيب لا، قال له هل لديك تليفون؟ فأجاب، ابنتي التي تعمل في وزارة الخارجية لديها تليفون، ولكن بدون معرفة الكود لا يمكنك الاتصال بها. وان بيوان يونج كان يعلم أن الشمال فقير وأنهم في حاجة إلى النقود، فناول أخاه الطبيب بعض النقود لكي يستعين بها على حياته، ولكن أخاه رفض استلامها لأنه لا فائدة ترجى من أخذها منه، فسوف تصادرها الحكومة منه عند العودة إلى الشمال. لاحظ وان بيوان يونج أن اخوه الطبيب يرتدي بالطو ليس بحالة جيده، فقال له خذ هذا البالطو الخاص بي البسه عندما تعود إلى الشمال، فرفض أخوه الطبيب قائلا، لا أستطيع أن أرتدي البالطو الخاص بك. لقد أعارتني الحكومة هذا البالطو لكي استخدمه أثناء رحلتي نحو الجنوب، ولا يمكنني أن اخلعه. لاحظ وان بيوان يونج، أن أخوه يلتفت دائما أثناء الحديث كأنه يبحث عن من يتنصت عليه أثناء الحديث، فتلك هي الحياة التي تعود عليها طوال حياته منذ أن انقسمت شبه الجزيرة الكورية.

النظام في الشمال يكذب على شعبه وعلى العالم في كل شيء، حتى عندما سمح لمواطنيه بالخروج خارج كوريا الشمالية للمرة الأولى، حرص على إظهارهم في صورة تخفي تماما الحقيقة التي يعيشون عليها من خلال إعارتهم حتى الملابس التي يرتدونها. كيم ايل سونج استطاع أن يعتلي منصب الرئيس في كوريا الشمالية بمساعدة الاتحاد السوفيتي، وفي الجنوب تمكن من فرض سيطرته على البلاد وأصبح ديكتاتورا، وكون واحدا من أكثر النظم شمولية في العالم، فقد منع الملكية الخاصة والحرية وممارسة الحقوق السياسية، ومن ثم قتل كافة الحوافز نحو العمل والتطوير والابتكار، ولم نعد نسمع من كوريا الشمالية سوى أخبار المجاعات وفشل المحاصيل، والمساعدات الدولية للحيلولة دون وفاة الملايين نتيجة سوء التغذية.   

في الجنوب تم تصميم المؤسسات على النظام الغربي، فبعد 1961 قام الرئيس الكوري بارك بضخ الائتمان وبمنح الإعانات للمشروعات الخاصة فبعث روح الابتكار والمبادرة في ظل نظام يحترم الملكية ويوفر الحوافز اللازمة لها، واهتمت كوريا الجنوبية بتعليم سكانها واستفادت الصناعة الكورية من المتعلمين ومن ابتكاراتهم وتمكنت من نقل التكنولوجيا وتطويرها، وتوسعت تجارتها الخارجية وأصبحت العلامات التجارية تدق أسوار أسواق العالم بتنافسية تضاهي أقوى الصناعات في العالم.

بينما في الشمال اكتشف السكان أنه لا فائدة ترجى من التعب وبذل المجهود في الحقول الحكومية، أو في المشروعات العامة فلا حوافز نحو الابتكار أو الإبداع، في الوقت الذي لم يحرص فيه كيم ايل سونج على تغيير المؤسسات والسماح بالملكية الخاصة أو بالحرية أو الديمقراطية، وظل التركيز الأساسي للنظام على حماية الكرسي وحماية مصالح الأسرة التي اصبح الحكم فيها أحد العلامات البارزة في كوريا منذ اعتلى كيم ايل سونج كرسي الحكم في 1947، وكذلك مصالح الصفوة التي تلتف حول الأسرة.

النظام الكوري في الجنوب نجح في تكوين دولة مؤسسات تحترم الحرية والملكية وتوفر الحوافز نحو الإبداع فارتفعت مستويات الدخول، وازدادت مستويات الرفاه، بينما لم يتمكن النظام في الشمال سوى من صناعة الفقر والبؤس في ظل مؤسسات لا تمارس سوى البطش بمن يفكر في أحلامه في أن يجرؤ أن يتحدى المؤسسات. في كوريا الشمالية يعيش الأنسان 10 أعوام اقل من متوسط العمر الذي يقضيه الفرد على قيد الحياة في الجنوب. في كوريا الشمالية لا توجد مياه نظيفة ولا إمدادات مستمرة أو مستقرة من الكهرباء، فمن يجوب حول الأرض في سفينة فضاء يلحظ أن كوريا الشمالية مظلمة في الليل بينما تتلألأ سيول عاصمة الجنوب في الليل كواحدة من أكبر العواصم إضاءة في العالم.

شتان ما بين الحياة التي يحياها وان بيوان يونج في الجنوب وأخوه الطبيب في الشمال. ما الذي صنع هذا الفارق؟ بالطبع ليس الثقافة أو الجغرافيا او الجهل؛ الفرضيات التي استند إليها العلماء في تفسير الفوارق في النمو بين الدول، وإنما المؤسسات التي أعطت وان بيوان يونج الفرصة الكاملة في الجنوب في أن يحيا حياة جيدة ويتمتع بمستوى مرتفع من الدخل والخدمات، بينما لم يوفر النظام في الشمال لأخوة سوى بالطو يعيره إياه لكي يلبسه عندما يقابل به أخيه في الجنوب لأول مرة بعد فراق 50 عاما، تغيرت خلالها حياة كل منهما على نحو جوهري. 

(من خلاصة قراءتي لكتاب Why Nations Fail)

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق