الجمعة، أغسطس ٢٩، ٢٠١٤

العالم بسياستين نقديتين متعارضتين

عقد هذه الأسبوع المؤتمر الاقتصادي للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في قاعة جاكسون، وهو مؤتمر سنوي ينظمه بنك الاحتياطي الفيدرالي في مدينة كنساس أحد فروع الاحتياطي الفيدرالي الـ 12 منذ 1987، ويضم المؤتمر رؤساء أهم البنوك المركزية في العالم ووزراء المالية وقادة القطاع المالي في العالم، وتتم فيه مناقشة أهم القضايا الاقتصادية التي تواجه الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي بشكل عام، ولأهمية المؤتمر فإن المؤسسات المالية والأسواق تتابع من كثب ما يدور فيه وما يتمخض عنه من نتائج، وقد اكتسب هذا المؤتمر أهمية خاصة منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية، حيث أصبح أحد أهم اللقاءات التي تتم سنويا في العالم من الناحية الاقتصادية. وقد احتل مؤتمر هذا العام أهمية خاصة، وخصوصا أن القوتين الاقتصاديتين الرئيستين في العالم أصبحتا على مفترق الطرق بالنسبة لأوضاعهما الاقتصادية، حيث من المتوقع أن نشهد تحولا في سياساتهما النقدية بحيث تسيران في اتجاه مخالف.
ألقى كل من رئيس الاحتياطي الفيدرالي البروفيسور يلين ورئيس البنك المركزي الأوروبي خطابيهما اللذان كان ينتظرهما العالم، كانت أوضاع سوق العمل الأمريكي والتحولات الجوهرية فيها هي محور حديث السيدة يلين، وكما يتضح من جوهر الخطاب أن ضغوط سوق العمل الأمريكي تتحسن على نحو واضح، ولكنها في الوقت ذاته تؤكد أن السياسات الحالية ستستمر، وقد استهلت يلين خطابها بالحديث عن مشكلة البطالة وتحديات خلق الوظائف الجديدة في سوق العمل الأمريكي الذي تعرض لأكبر وأطول أزمة بطالة في تاريخه منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي.
ففي أعقاب انطلاق الأزمة المالية العالمية أخذ نزيف فقدان الوظائف في سوق العمل في التسارع حتى بلغ معدل البطالة أعلى مستوياته في 2009، عندما تجاوز نسبة 10 في المائة، مما عني أن عددا لا بأس به من قوة العمل أصبح بلا عمل، يبحث عنه ولكنه لا يجده، غير أنه بمرور الوقت تحسنت قدرة سوق العمل عل فتح المزيد من فرص العمل الجديدة، التي بلغت في 2014 نحو 230 ألف فرصة شهريا في المتوسط، مقارنة بنحو 190 ألف فرصة في السنوات الماضية، نتيجة لهذا التطور الإيجابي أخذت معدلات البطالة في التراجع حتى بلغت 6.2 في المائة في تموز (يوليو) الماضي، ليقترب معدل البطالة الامريكي من مستوياته الطبيعية، والواقع أن سيناريوهات سوق العمل الأمريكي طوال سنوات الأزمة كان جانبا كبيرا منها متشائما، ولم يكن هناك في الحسبان توقع أن تتحسن ظروف سوق العمل على النحو الذي ينتهي بانخفاض معدلات البطالة على هذا النحو السريع.
غير أن يلين تشير إلى أنه من المبكر الحديث عن أن سوق العمل قد استعاد عافيته، وبأن مخاطر البطالة قد تلاشت من الاقتصاد الأمريكي، فالتطورات الهيكلية لسوق العمل في الوقت الحالي تجعل من الصعب تقديم تقييم صحيح للأوضاع الحقيقية لضغوط السوق ومن ثم صياغة السياسات النقدية على أساس هذه التطورات.
أهم التطورات الهيكلية تزايد نسبة العمال الذين يعملون لبعض الوقت وهم مرغمون على ذلك وفي الوقت ذاته تزايد نسبة البطالة طويلة الأجل في الوقت الذي تتراجع فيه نسبة المساهمة لقوة العمل، وعوامل هيكلة أخرى مثل شيخوخة قوة العمل وبطء معدلات نمو الأجور وغير ذلك، ومع ذلك تؤكد يلين أن اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوح ترى أنه إذا تطورت أوضاع سوق العمل على نحو أفضل من الآن أو بدأ معدل التضخم في الارتفاع فإن تعديل سياسات معدلات الفائدة الصفرية ربما يكون سريعا أيضا.
على الجانب الآخر فقد أكد ماريو دراجي رئيس البنك المركزي الأوروبي على ضرورة تحول السياسات الحالية لأوروبا بصورة معاكسة للسياسات الانكماشية التي انتهجتها أوروبا في إطار ما يسمى بالتقشف الاقتصادي لمواجهة الضغوط المالية الناجمة عن تدهور أوضاع الديون السيادية للعديد من دول المنطقة، وهو ما ترتب عليه تداعيات أخطر على المدى الطويل بتعمق انحدار اقتصادات اليورو في الكساد بما فيها الاقتصادات الرائدة مثل ألمانيا. فقد أشارت نتائج النمو عن الربع الثاني من هذا العام إلى تراجع النمو في الاقتصاد الألماني لأول مرة الذي يمثل محرك النمو الأساسي في المنطقة، في الوقت الذي تزايد فيه القلق بشأن النمو في فرنسا وإيطاليا. من ناحية أخرى، فقد أظهرت البيانات أن معدل التضخم المتوسط في المنطقة لا يتجاوز 0.4 في المائة، في الشهر الماضي، وهو مستوى منخفض جدا بالنسبة للمستويات المستهدفة، مما يبدد المخاوف حول أثر السياسات النقدية التوسعية في المستوى العام للأسعار، في الوقت الذي بلغ فيه معدل البطالة المتوسط في المنطقة 11.5 في المائة في حزيران (يونيو)، وهو مستوى مرتفع جدا مقارنة بمعدلات البطالة في الاقتصادات الصناعية المنافسة في الولايات المتحدة واليابان، في إشارة إلى أن استعادة النشاط الاقتصادي في المنطقة ما زالت بعيدة المنال. بصفة خاصة حذر دراجي من تراجع التوقعات التضخمية في أوروبا. فاليوم توحي تطورات معدل التضخم بأن منطقة اليورو تنجرف بصورة أكبر نحو الانحسار السعري، الأمر الذي يزيد من مخاطر سقوط المنطقة في دائرة الانكماش السعري، بما لها من آثار على تعميق الآثار الاقتصادية للكساد، ولذلك أكد دراجي على الدور الذي يجب أن تلعبه البنوك المركزية الأوروبية في تبني إجراءات لتحفيز النشاط الاقتصادي في المنطقة لدفع مستويات الطلب الكلي وخفض ضغوط أسواق العمل ودفع الأسعار نحو الارتفاع، مؤكدا أيضا الدور المساند الذي يمكن أن تلعبه السياسات المالية في مساندة السياسات النقدية التوسعية، وذلك في إشارة إلى قرب حدوث تحول في مستهدفات البنك المركزي الأوروبي، بتبني سياسات نقدية توسعية ربما تأخذ شكل جرعات جديدة من التيسير الكمي من خلال قيام البنك المركزي الأوروبي بشراء المزيد من السندات، بهدف التأثير في هيكل العوائد على الأصول المالية على النحو الذي يؤدي إلى تشجيع مستويات الطلب الكلي، خصوصا الاستثماري. من ناحية أخرى فإن هذه الملاحظات حول دور السياسات المالية توحي بتحول اتجاهات السياسة المالية في المنطقة وهجر المنطقة للسياسات التقشفية التي اتبعتها لفترة والتي أصبح من الواضح أنها لا تعمل على النحو الذي كان يراد منها، حيث تسببت في تعقد أوضاع سوق العمل الأوروبي.
كان البنك المركزي الأوروبي قد وافق في يونيو الماضي على حزمة من السياسات النقدية التوسعية تشمل تبني معدلات الفائدة السالبة وتوفير خطوط إضافية لإقراض البنوك لمدة أربع سنوات، فضلا عن استعداده لشراء السندات المغطاة بالأصول، وقد أكد دراجي أن خطط شراء السندات المغطاة بالأصول تسير على نحو سريع، التي يتوقع أن تسهم في تخفيف شروط الائتمان في المنطقة.
لقد أسهمت بالفعل السياسات التوسعية التي تتبعها منطقة اليورو في انخفاض اليورو في مقابل الدولار وهو ما يتوقع أن يترتب عليه ارتفاع القدرة التنافسية للاقتصاد الأوروبي في مواجهة الاقتصاد الأمريكي، على النحو الذي سيسهم في مضاعفة الآثار الإيجابية للسياسات النقدية التوسعية بزيادة الطلب الخارجي، في الوقت الذي يساعد فيه على الحد من الضغوط التضخمية في المنطقة، ويتوقع أن يستمر هذا الاتجاه لليورو بسبب اختلاف اتجاه السياسات النقدية بين المنطقة والولايات المتحدة. ومن المتوقع أن تتجه الولايات المتحدة نحو رفع معدلات الفائدة مع تحسن الأوضاع الاقتصادية، ربما في منتصف العام القادم مثلما تشير محاضر اجتماعات لجنة السوق المفتوح الفيدرالية، في الوقت الذي يتوقع أن يتبنى فيه البنك المركزي الأوروبي معدلات الفائدة منخفضة لفترة طويلة قادمة.
من الواضح إذن أننا قد نشهد سياستين نقديتين متناقضتين عبر ضفتي الأطلنطي، واحدة توسعية في أوروبا والأخرى تقييدية في أمريكا، فما هو الأثر المتوقع لمثل هذا الوضع؟ أتوقع أن هذه السياسات ستعقد من اتجاهات النشاط الاقتصادي في كل من أوروبا والولايات المتحدة، بسبب الاعتماد المتبادل الواسع بين الاقتصادين، أكثر من ذلك فإن طول فترة التباعد بين السياستين سيعقد أوضاع التعافي لكلا الاقتصادين، وأعتقد أنه ليس من مصلحة كل من الولايات المتحدة وأوروبا أن تستخدما سياستين نقديتين متناقضتين، وأن تنسيق هذه السياسات ربما يصبح ضرورة ملحة في المستقبل. فهل يؤجل الاحتياطي الفيدرالي من عملية تعديل سياساته النقدية حتى تتحسن الأوضاع في منطقة اليورو؟ هذا ما سنعرف الإجابة عنه في المستقبل.

الاثنين، أغسطس ٢٥، ٢٠١٤

اختبار ضغط




أستمتع حاليا مع كتاب وزير المالية الأمريكي السابق تيموثي جايثنر بعنوان "اختبار ضغط" في إشارة الى اختبارات الضغط التي أجرتها دول العالم لمؤسساتها المالية لاختبار قدرتها على استيعاب صدمات الأزمة وسيناريوهات الخسائر والاحتياجات الرأسمالية التي تحتاج إلى في حال تعرضها لتلك الصدمات.
حيث يحكي من المطبخ أحداث الأزمة المالية العالمية يوما بيوم، بل وأحيانا ساعة بساعة، والعوامل التي أدت الى انهيار النظام،
بصفة خاصة اطلعت على أبعاد جديدة لسقوط بنك ليمان براذرز، لم أكن على دراية بها، وهو بنك الاستثمار الذي أدى انهياره إلى سقوط العالم في هاوية الكساد الذي ما زلنا نعيشه حتى اليوم.
أدركت بصورة أكبر الدرس الخطير الذي نتج عن انهيار هذا البنك، والمعني الحقيقي لعبارة Too big to fail، أو Too interconnected to fail.
الكتاب غني جدا بالأحداث، ولا أعتقد أننا يمكن أن نفهم العوامل المؤدية للأزمة المالية العالمية والكساد الذي تبعها بدون قراءة هذا الكتاب، وهو متوفر بنسخ مختلفة، ورقية والكترونية وصوتية.
أنصح باقتناء هذا الكتاب وتفاصيله هي:

Timothy F. Geithner "Stress Test: Reflections on Financial Crises" 2014 by Crown Publishers

الأحد، أغسطس ٢٤، ٢٠١٤

وفاة مارثا

وفاة مارثا آخر حمامة من الحمام الزاجل في العالم ..النسخة القديمة من انترنت الماضي ...بهذا الشكل يكون الحمام الزاجل قد انقرض من العالم ،،، بعد أن كان متواجد بالمليارات ،،، مع استخدام البريد والهاتف والبرق والتلكس والانترنت لم يعد الإنسان بحاجة الى هذا المخلوق الجميل... كم حمل هذا المخلوق من رسائل في الماضي ... رسائل حب،،، كره،،، خيانة،، تجسس،، معلومات عسكرية،، الخ دون أن يعلم المسكين ماذا يحمل بين طيات جسمه.. 

http://www.ft.com/intl/cms/s/2/459ed93e-26ed-11e4-a46a-00144feabdc0.html#slide8

Photo: ‎وفاة مارثا 

وفاة مارثا آخر حمامة من الحمام الزاجل في العالم ..
النسخة القديمة من انترنت الماضي ...
بهذا الشكل يكون الحمام الزاجل قد انقرض من العالم ،،، 
بعد أن كان متواجد بالمليارات ،،، 
مع استخدام البريد والهاتف والبرق والتلكس والانترنت لم يعد الإنسان بحاجة الى هذا المخلوق الجميل... 
كم حمل هذا المخلوق من رسائل في الماضي ... 
رسائل حب،،، كره،،، خيانة،، تجسس،، معلومات عسكرية،، الخ دون أن يعلم المسكين ماذا يحمل بين طيات جسمه.. 

http://www.ft.com/intl/cms/s/2/459ed93e-26ed-11e4-a46a-00144feabdc0.html#slide8‎

السبت، أغسطس ٢٣، ٢٠١٤

التاريخ المختصر للنقود في أمريكا

التاريخ المختصر للنقود في أمريكا
http://www.planbeconomics.com/2014/08/brief-history-of-us-money

النمو السكاني أهم تحديات مصر



أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن السكان يتزايدون في مصر بحوالي مليوني شخص في السنة (أي ما يوازي عدد سكان دولة صغيرة تقريبا كل السنة). وأن الكثافة السكانية في القاهرة بلغت مستويات مرتفعة جدا تصل إلى 47285 شخص لكل كيلو متر مربع في القاهرة.

السكان أحد أهم الموارد الاقتصادية للدول وأهم مصادر القوة لو احسن استغلالها، ولكني أعتقد أن الكتلة السكانية هي أهم التحديات التي تواجه مصر في الوقت الحالي نظرا لأن:

- النمو السكاني غير مخطط
- عملية الإعداد للداخلين الجدد من الخريجين إلى سوق العمل تتم على نحو سيئ للغاية.
- النمو السكاني يؤدي الى تزايد الضغوط على الخدمات العامة، بصفة خاصة التعليم والصحة وخدمات الكهرباء والماء والمواصلات والاتصالات .. الخ مع ضعف فرص الاستثمار في البنى التحتية اللازمة لتدبير هذه الخدمات على النحو المناسب.
- أن توزيع السكان الجغرافي غير متوازن بسبب النمو الإقليمي غير المتوازن وتركيز الاهتمام بالمدن الكبرى مع اهمال المناطق الأخرى، خصوصا في صعيد مصر.
- ضعف قدرة الاقتصاد المصري على خلق فرص خلق عمل جديدة لتوظيف الداخلين الجدد الى سوق العمل نتيجة ضعف معدلات الاستثمار الخاص والعام.
- سوء عملية توجيه الزيادات في قوة العمل في ظل سوق العمل غير الكفء مما يمثل اهدارا للقوة البشرية في مصر
- تزايد المخاطر السياسية لاضطراب الأوضاع السكانية

مدونة اقتصاديات الكويت ودول مجلس التعاون تحتل المركز 52 عالميا

هذه المدونة تحتل المرتبة 52 عالميا بين المدونات الاقتصادية التي ليس لها سجل مرور

 Sites that qualify but don't have public traffic logs


http://www.gongol.com/lists/bizeconsites

أسرار بناء الأهرامات



كيف بنى المصريون القدماء الأهرامات بهذه الهندسة الدقيقة جدا وبدون أية أخطاء؟
كيف صنعوا هذه التماثيل الضخمة وبهذا القدر من الروعة؟
ما هي الأدوات التي استخدموها؟
كيف نقلوا ملايين الأطنان من الأحجار من مقاليعها؟ 
وما هي الآلات التي نقلوا بها هذه الأثقال؟
كيف صنعوا هذه الأدوات بنفس القدر من الدقة التي تصنعها بها الآلات الحديثة وبهذه الحرفية؟

الإجابة هي...
لا أحد يعلم !!!!!!!!!!
شاهد هذا الوثائقي الذي اخترته لكم...

http://www.youtube.com/watch?v=rcKahraBiBY&list=FLhQG9MzhWrgt_9DKQqcOA7g&index=14

Quantitative Easing - Crash Course

:

Be careful conclusions at the end are not 100% right. 

http://www.peakprosperity.com/blog/86790/quantitative-easing-crash-course-chapter-10

كارتون


استبدال الدولار بماذا؟

ناقشنا في الأسبوع الماضي الدعوة الفرنسية لدول الاتحاد الأوروبي والعالم بالنظر في ضرورة إعادة التوازن لسلة عملات العالم بتخفيض الاعتماد على الدولار الأمريكي والدعوة لاستخدام عملات أخرى بديلة، بصفة خاصة اليورو، وكما ذكرنا هذه ليست الدعوة الأولى، ولن تكون الأخيرة، في هذا المجال.
إرهاصات البحث عن بديل للدولار بدأت بإنشاء الاتحاد النقدي الأوروبي وإصدار العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) وقد كانت هناك آمال بأن يحل اليورو محل الدولار كعملة احتياط للعالم، ولكن الأزمات المتلاحقة للعملة بعد الأزمة، في ظل تصاعد الديون السيادية للدول الأعضاء قضت على هذه الآمال في الوقت الحالي.
عندما أدار العالم ظهره لليورو اتجهت الأنظار إلى الصين مع تصاعد الأهمية التي يلعبها الاقتصاد الصيني في العالم، وقد طورت الصين نظاما لاستخدام اليوان كعملة تسوية دولية، حيث أعلنت أنها بدأت بالسماح لبعض المصارف الأخرى في العالم بالاحتفاظ باليوان وتوفيره لمن يرغب في تمويل المدفوعات مع الصين، كذلك أعلنت روسيا عن تمويل معاملاتها الثنائية مع الصين باليوان، وحاليا تسعى فرنسا إلى تطوير نظام لتبادل اليوان في العالم مركزه في باريس، وذلك لكي تحقق السبق في هذا المجال تطلعا إلى اليوم الذي ينمو فيه الطلب على اليوان وتصبح باريس هي مركزه الأساسي، مثلما هو الحال بالنسبة للندن اليوم.
البنك المركزي الفرنسي هو أكثر المصارف المركزية الأوروبية التي تؤيد فكرة إنشاء نظام للترتيبات النقدية المتبادلة في اليوان بين البنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي الصينيECB-PBOC swap ، وقد تم الانتهاء من مذكرة لإنشاء نظام للمقاصة في اليوان يتم إنشاؤه في باريس، وأن باريس تتعاون بشكل لصيق مع الصين في هذا الجانب، كما أن هناك عددا من المصارف في العالم أخذت بالفعل بالتعامل في اليوان.
على الرغم من أن الصين لديها خطط لاستخدام اليوان كعملة تسوية دولية فإن تحقيق هذا الهدف سيتطلب عنصرين مهمين الأول هو الوقت، والثاني هو أن تبدي الصين استعدادها لكي تحقق عجزا ضخما في معاملاتها التجارية مع الدول الأخرى في العالم على النحو الذي يمكن العالم من الحصول على احتياجاته اللازمة من اليوان لكي يستخدم كعملة احتياط أو تسويات، ولا يخفى أن الصين ليست مستعدة لهذا الخيار حاليا على أي نحو، على العكس من ذلك فإن الصين تحرص على أن تكون صاحبة أكبر فائض تجاري في العالم، وتستخدم هذه الفوائض لزيادة احتياطياتها الدولارية التي بلغت نحو أربعة تريليونات دولار حاليا لكي تتأكد من استمرار الطلب مرتفعا على الدولار والحفاظ على قيمة اليوان منخفضة، وبمعنى آخر فإن السياسات التجارية للصين تعاكس المستهدفات الخاصة بتحول اليوان إلى عملة دولية.
كذلك فقد كانت هناك دعوات من الصين وروسيا لاستخدام عملات أخرى غير الدولار في تسوية المعاملات التجارية، على رأسها حقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي، ولكن حتى بافتراض حدوث ذلك فإن الدولار الأمريكي سيستخدم في هذه التسويات على نحو ما في نقطة زمنية ما بين هذه المعاملات. إن استخدام العملات في العالم لا يأتي بقرار رسمي من البنوك المركزية وإنما تفرضه الأسواق وتفضيلات المتعاملين فيها حول طبيعة العملة التي يقبلونها في ذلك.
إن تجربة العالم مع العملات الاحتياطية تشير إلى أنه عندما انفصلت العلاقة بين الجنيه الاسترليني والذهب في نهاية العشرينيات من القرن الماضي، أخذ الاسترليني يفقد مركزه كعملة العالم، واحتاج العالم لعقدين تقريبا حتى يصبح الدولار مركز النظام النقدي الدولي، ولكن الاسترليني كان يستخدم لغرضين بشكل أساسي في ذلك الوقت وهما تمويل التجارة وكأصل احتياطي لدى البنوك المركزية. في ذلك الوقت كانت أسواق المال في العالم شبه منعزلة تماما عن بعضها البعض، حيث لم تكن هناك مشتقات مالية ولا مراكز للأوف شور... إلخ. المشكلة في عالم اليوم هي أن جانبا ضخما جدا من المعاملات التي تتم بعملة العالم لا تتم لأغراض تمويل التجارة، وهو الدور الذي يحاول الصينيون أن يرسموه حاليا لليوان، فالطلب على الدولار لتمويل المعاملات التجارية في العالم يعد صغيرا جدا مقارنة بالطلب على الدولار للأغراض الأخرى، بصفة خاصة المالية، ومن ثم فإنه حتى وعلى فرض زعزعة مركز الدولار في تمويل المعاملات التجارية في العالم مثلما تحاول الصين من خلال تطوير نظام لتمويل الصفقات المتبادلة مثلما تأمل روسيا وإيران أن يتم تمويل صفقات النفط والغاز بعملات أخرى غير الدولار، يظل هذا الجزء من المعاملات يمثل قدرا محدودا جدا بالنسبة لتريليونات الدولارات التي يتم تبادلها يوميا عبر الحدود في العالم اليوم. وفقا لأحدث تقارير بنك التسويات الدولية فإن متوسط حجم المعاملات اليومية في أسواق النقد الأجنبي في العالم يتجاوز خمسة تريليونات دولار، وقد وجد أن الدولار يستخدم بنسبة 87 في المائة كأحد أطراف هذه المعاملات، وأن المعاملات التي لا تتضمن استخدام الدولار كعملة مقابلة لا تزيد على 13 في المائة. كذلك فإن أحدث تقارير صندوق النقد الدولي عن مكونات احتياطيات البنوك المركزية من النقد الأجنبي تكشف عن أن إجمالي احتياطيات البنوك المركزية من النقد الأجنبي بلغ في الربع الأول من هذا العام 11.86 تريليون دولار، نحو 61 في المائة منها بالدولار، وهو ما يعكس حقيقة أن المصارف المركزية في العالم لا تفضل تنويع احتياطياتها في الوقت الحالي بعيدا عن الدولار وأنها لا ترى بديلا أكثر أمانا أو سيولة من السندات الأمريكية.
إن ما يعتبره البعض أهم نقاط ضعف الاقتصاد الأمريكي يعتبر في الوقت ذاته أهم مراكز القوة للدولار، فالولايات المتحدة تواجه عجزا ضخما في ميزان مدفوعاتها، ولكن هذا العجز هو الذي يؤدي إلى تراكم الاحتياطيات الدولارية، وينشر استخدام الدولار لدى الكثير من دول العالم. كذلك تعتبر الولايات المتحدة أكبر دولة مدينة في العالم ولكي تستدين تصدر مئات المليارات من الدولارات سنويا في صورة سندات، والذي قد ينظر إليه على أنه إحدى نقاط الضعف للاقتصاد الأمريكي، ولكنه مرة أخرى يعد أحد أهم المزايا التي يتمتع بها الدولار، وبمعنى آخر فإن ما قد ينظر إليه حاليا على أنه نقاط ضعف الوضع الاقتصادي الأمريكي يعد أحد أهم العوامل المساعدة على انتشار استخدام الدولار في العالم، حيث يساعد على استيفاء احتياجات الطلب في العالم على هذه العملة للأغراض المختلفة، وبسبب الوضع العالمي للدولار توجد الكثير من المراكز المالية في العالم التي تساعد على تبادل هذه السندات على المستوى الدولي، على العكس من ذلك فإن سوق السندات الأوروبية المقومة باليورو يعد صغيرا من حيث الحجم، كما أنه يتركز في سندات الديون السيادية للدول الأعضاء في منطقة اليورو، والتي هي في أغلب الأحوال غير سائلة، وتعتمد سيولتها على مدى استعداد البنك المركزي الأوروبي لشرائها. فما هي الدولة المستعدة لأن تلعب هذا الدور بتحمل عجوزات ضخمة في موازين مدفوعاتها لترفع معدلات البطالة بين عمالها ولكي تغلق مصانعها وتهجر شركاتها أسواقها إلى الدول الأخرى في مقابل استخدام عملتها كعملة احتياط بديلة للدولار، سوى أمريكا؟
الدعوة الفرنسية لتنويع عملات التسوية والاحتياط في العالم هي بل شك أمر حيوي للعالم، لكن السؤال الأهم هو كيف السبيل إلى ذلك؟ وما العملة التي يمكن أن تحل محل الدولار أو تسانده في سلة عملات التسويات الدولية للمعاملات الخارجية بالنقد؟ وأين هو سوق النقد الذي يمكن أن يدبر هذا القدر الضخم من السيولة يوميا بعملة أخرى غير الدولار؟ أين هي سوق النقد المدعمة بالأدوات النقدية السائلة التي تمكن المتعاملين في العالم على اختلاف أشكالهم من القيام بذلك؟ وأين هو البنك المركزي الذي يستطيع التدخل بضخ عشرات أو مئات المليارات لتدبير السيولة اللازمة للعالم؟ وما هو البنك المركزي الجاهز لإجراء الترتيبات النقدية المتبادلة SWAPS مع البنوك المركزية الأخرى لمدها بخطوط السيولة التي تحتاج إليها عند الحاجة؟
من الواضح أن الإجابة عن هذه الأسئلة تقودنا إلى سؤال أساسي وهو إذا كانت بعض الدول تسعى إلى استبدال الدولار نستبدل الدولار بماذا؟ إن عدم وجود بديل جاهز في الوقت الحالي أو حتى في المستقبل القريب لكي يحل محل الدولار كعملة تسويات أو عملة احتياط يعني أن هيمنة الدولار على سلة العملات العالمية ستستمر لوقت طويل في المستقبل شئنا أم أبينا.

هل تنجح فرنسا في إزاحة الدولار؟

اتهم بنك بي إن بي باريبا أكبر البنوك الفرنسية بتسهيل حرية الوصول إلى السوق العالمي للدولار من خلال مركز التسويات الدولارية في نيويورك لدول تحظر عليها الولايات المتحدة إجراء أي معاملات بالدولار الأمريكي، مثل السودان وكوبا وإيران، خصوصا تلك المعاملات المرتبطة بصادرات النفط والغاز، وذلك عن طريق عمليات تمت هندستها في فرع البنك بسويسرا، وذلك من خلال إخفاء أسماء بعض العملاء عن عمد على النحو الذي لا يمكن الولايات المتحدة من اكتشاف هوية العملاء الأصليين لهذه المعاملات، وقد قدرت هذه العمليات بنحو 190 مليار دولار خلال الفترة من 2002 ـــ 2012، وكانت الولايات المتحدة قد فرضت مقاطعة على السودان وذلك بسبب اتهامه بدعم الإرهاب واشتباه وجود صلات مع القاعدة، فضلا عن الاتهامات المستمرة بمخالفة حقوق الإنسان في دارفور، ووفقا لهذه المقاطعة لا يجوز للسودان إجراء أي معاملات تتم بالدولار الأمريكي، وكذلك فعلت مع كوبا وإيران. مثلت هذه العمليات التي قام بها بي إن بي باريبا مخالفة للقوانين الأمريكية التي تحظر تسوية أي معاملات مالية لهذه الدول بالدولار الأمريكي.
لمعاقبة البنك أصدرت المحكمة الفيدرالية الأمريكية حكما يقضي بإلزامه بدفع غرامة مالية بقيمة 8.97 مليار دولار، ومنع البنك من إجراء بعض أشكال المقاصة على معاملاته الدولارية من خلال فرع البنك في نيويورك لمدة عام يبدأ في منتصف كانون الثاني (يناير) القادم، وذلك عوضا عن إلغاء رخصة البنك في نيويورك، والتي كان من الممكن أن تخرج البنك تماما من الولايات المتحدة، ويشمل المنع أيضا وحدات البنك بما فيها مركز البنك في باريس، ومكاتبه الأخرى المخالفة لقانون العقوبات في جنيف وبعض المراكز حول العالم، ويعد هذا الحظر نوعا جديدا من العقوبات التي تطبقها الولايات المتحدة على المؤسسات المالية المخالفة، وكذلك ألزمت البنك بالتخلص من 13 من كبار موظفيه بمن فيهم كبير رؤساء العمليات شودرون دي كورسيل، فضلا عن حرمان البنك من قدرته على أن يكون مراسلا لبنوك أخرى في نيويورك لأغراض مقاصة النقد الأجنبي لمدة سنتين.
أحدثت الغرامة صدمة في سوق الخدمات المصرفية العالمي، وفي تبرير لحجم الغرامة، أشارت المحكمة إلى أنها تعكس مستوى المخالفة التي ارتكبها البنك، حيث إن البنك اتخذ إجراءات تحول دون تطبيق قوانين المقاطعة الأمريكية، وأكد المراقبون أن الغرامة الضخمة وكذلك باقي العقوبات تعكس حقيقة أن البنك لم يلتزم بقوانين المقاطعة الأمريكية، واضعا أرباحه في المقام الأول، قبل أي اعتبار آخر، غير أنه من الواضح بعد هذه العقوبات أنها تعكس حقيقة أن الإمبراطورية الأمريكية المستندة إلى قوة الدولار كعملة للعالم هي التي ترسم قواعد اللعبة على النحو الذي تراه في هذا العالم الذي نعيش فيه، وكيف تتم اللعبة أيضا بالصورة التي تبتغي أن تراها أمريكا. غير أن الحكم قد نظر إليه من جانب الأوروبيين على أنه يمثل حالة استعراض عضلات واضحة للقوة المالية الأمريكية، للتأكيد على سيطرتها على المعاملات المالية التي تتم بالدولار عبر العالم، وفي الوقت ذاته إرسال رسالة واضحة وحاسمة ف لأي مؤسسات مالية حول العالم يمكن أن تفكر في تحدي إرادة الولايات المتحدة الخاصة بقرارات المقاطعة.
في أول رد فعل على العقوبات الضخمة التي فرضتها الولايات المتحدة على بي إن بي باريبا، طالبت فرنسا العالم بوضع نهاية لسيادة الدولار الأمريكي، حيث دعا رئيس الوزراء الفرنسي إلى ضرورة إعادة التوازن لسوق العملات العالمية ووضع نهاية لسيطرة الدولار الأمريكي على تلك المعاملات.
دعوة فرنسا لإعادة التوازن في سوق العملات الدولية ليست نقية، فهي تعكس في الدرجة الأولى الرغبة في الانتقام من الولايات المتحدة بسبب الإجراءات التي اتخذتها في حق أكبر البنوك الفرنسية، والتي تراها فرنسا غير عادلة، حيث تعتقد أن ما قام به البنك من معاملات غير قانونية، من وجهة النظر الأمريكية، ليس على هذا النحو من وجهة النظر الأوروبية، هذا بالطبع فضلا عن العداء التقليدي الفرنسي للهيمنة النقدية الأمريكية، منذ اتفاقية "بريتون وودز".
في حديث له مع الـ "فاينانشيال تايمز" ذكر رئيس الوزراء الفرنسي أن انكشاف أوروبا على الدولار الأمريكي يعرض الدول الأوروبية لمخاطر غير ضرورية في النقد الأجنبي، وأن منطقة اليورو لا بد أن تسعى نحو استخدام عملتها اليورو في تمويل التجارة العالمية، وقد ذكر بالحرف "أنه مقتنع بأن منطقة اليورو لا بد أن تسأل نفسها مرة أخرى عن الدور الذي يجب أن تعطيه لعملتها المشتركة"، وهي دعوة لمطالبة الدول الأوروبية بالتخلي عن الدولار الذي يسيطر على تجارتها، مشيرا إلى أن سيطرة الدولار الأمريكي لها العديد من النتائج السلبية، بما فيها تدخل النظام القضائي الأمريكي خارج حدود الولايات المتحدة، وأن ما حدث مع بنك بي إن بي باريبا يؤكد حاجة الاتحاد الأوروبي إلى استخدام عملات أخرى غير الدولار، وقد تساءل رئيس الوزراء الفرنسي قائلا، "نحن في أوروبا نتاجر مع الآخرين باستخدام الدولار، فهل نحن بالفعل في حاجة إلى أن نقوم بذلك؟" مجيبا على تساؤله بأنه لا يعتقد بذلك تماما، وبالعكس إنه يعتقد أن أوروبا لا بد أن تغير هذا التوازن في العملات، ليس فقط نحو اليورو، وإنما أيضا نحو العملات الأخرى التي يتزايد ثقلها يوما بعد يوم في سوق العملات العالمية، وذلك من أجل إحداث التوازن اللازم في المعاملات النقدية العالمية بعيدا عن الدولار.
والواقع أن حديث رئيس الوزراء الفرنسي فيه قدر كبير من الصحة، من حيث لا معقولية تدخل المحاكم الأمريكية في الكثير من الحالات خارج نطاق اختصاصها القانوني، بما في ذلك حالة الأرجنتين التي تعرضت لإفلاس قهري بسبب قرار قاض في محكمة أمريكية، فمن وجهة نظر الفرنسيين، فإن ما قام به البنك لا يخالف القواعد الأوروبية، وأن البنك سقط ضحية للنظام القضائي الأمريكي.
اليوم ليست فقط فرنسا هي التي تريد اختفاء النظام الذي يقوم على سيطرة الدولار، فالكثير من الدول والشركات تريد الابتعاد عن الدولار بسبب قدرة أمريكا على تجميد الأرصدة الدولارية في البنوك الأمريكية، بل والأكثر خطورة هو القدرة على شل إمكانية الوصول إلى سوق التسويات الدولارية الدولي الذي مركزه في نيويورك، والذي يعني من الناحية الواقية تعطيل أعمال المؤسسات المالية بشكل جوهري ويؤدي إلى شل قدراتها التنافسية، وهناك اتجاه متزايد بين بعض البنوك المركزية اليوم إلى تنويع احتياطياتها بعيدا عن الدولار. مثل هذه التحركات بنى عليها الكثير من المحللين الفروض المرتبطة باختفاء الدولار من التعامل في العالم وأفول نجم الدولار كعملة احتياط في العالم وبزوغ الفرصة للكثير من عملات العالم التي تصلح لأن تكون بديلا للدولار، وبصفة خاصة اليورو واليوان الصيني.
كذلك يرى بعض المحللين أنه بتحول الصين إلى أكبر اقتصاد في العالم واحتلالها مكانة الولايات المتحدة في هذا المجال، فإن ذلك سيساعد على التحول نحو النظام النقدي اللا دولاري في العالم، والذي لا تحميه أصول حقيقية بالمعني التقليدي للعملة الاحتياطية العالمية، وإنما تحميه القوة العسكرية الضاربة في أمريكا، وأن مراكز الثقل الاقتصادي تتحول اليوم من الولايات المتحدة إلى مناطق أخرى في العالم، والدولار الأمريكي يخسر المزيد من الأرض يوما بعد يوم، والحكومة الأمريكية لا تستطيع أن تفعل شيئا حيال ذلك، ولكن هل هذا التحليل واقعي؟ وهل هناك ما يؤيد ذلك على الأرض؟ وهل تجد دعوة فرنسا صدى لدى دول أوروبا أو المناطق الأخرى في العالم؟ هذا ما سنحاول أن نحلله في الأسبوع القادم - إن شاء الله.

الأربعاء، أغسطس ١٣، ٢٠١٤

إنقاذ النظام المصرفي في البرتغال من الانهيار


ما إن تشيع حالة من الاستقرار النسبي في أوروبا، حتى تنطلق الأخبار السيئة مرة أخرى لتعصف بالأسواق وبالأوراق المالية مهددة النظام المالي الأوروبي بأكمله، الذي ما زال يعاني هشاشة واضحة مع استمرار مشكلة الديون السيادية الساخنة في بعض الدول الأوروبية، على الرغم من الإشارات المطمئنة التي تأتي من وقت لآخر لتوحي أن السيئ أصبح وراء ظهورنا، مثل قيام مؤسسة فيتش للتصنيف الائتماني برفع درجة التصنيف الائتماني للسندات اليونانية أخيرا، الأمر الذي نظر إليه على أنه يمثل تحسنا جوهريا في هيكل المخاطر المحيطة بالدين السيادي اليوناني أكثر الديون السيادية الأوروبية سخونة.
بنك اسبريتو سانتو هو أكبر المصارف البرتغالية من حيث حجم الأصول، كما أنه ثاني أكبر بنك مقرض في البرتغال، فضلا عن أنه أحد أهم المصارف في المنطقة الأوروبية، ويسيطر على المصرف أسرة اسبريتو سانتو، وهو من المصارف، التي استطاعت تجنب المتاعب التي واجهتها المصارف الأخرى أثناء أزمة البرتغال الاقتصادية دون أن يطلب أية مساعدة من الدولة، بل إن ملاءمته المالية كانت جيدة حتى واجه المصرف خسائر ضخمة بسبب سوء إدارة المصرف.
تنبع المشكلة الأساسية للمصرف من السلوك السيئ للمالكين الرئيسيين للمصرف وهي مجموعة اسبريتو سانتو المالية، التي تملك 25 في المائة من أسهم المصرف، وكذلك ضعف الشفافية حول البيانات المالية للمالكين والمقترضين في ذات الوقت، فقد أظهرت المراجعات المحاسبية للمصرف أنه تم إخفاء خسائر ضخمة للمجموعة تقدر بنحو 5.7 مليار يورو في استثماراتها في أنجولا، وكذلك حققت شركة اسبريتو سانتو الدولية خسائر تقدر بنحو 1.3 مليار يورو، وقد فشلت شركة اسبريتو سانتو الدولية في سداد بعض المدفوعات عن قروضها للمصرف في موعدها، وهو ما دعا مؤسسة موديز إلى تصنيف سندات المجموعة إلى درجة السندات غير المرغوب فيها Junk Bonds.
بدأت العلامات الأولية لأزمة المصرف في الظهور عندما حاول زيادة رأسماله بنحو مليار يورو في أيار (مايو) الماضي، وذلك بهدف استيفاء متطلبات المصرف المركزي الأوروبي حول نسب رأس المال للأصول والتي تراجعت بصورة واضحة، الأمر الذي أدى إلى تصاعد القلق على نحو كبير حول مدى سلامة النظام المصرفي الأوروبي بأكمله، أكثر من ذلك فإن سوق الأسهم البرتغالي واجه تراجعا كبيرا في مؤشراته امتد أيضا إلى الأسواق الأوروبية الأخرى.
حاول بنك البرتغال المركزي تهدئة الأسواق وطمأنتها، وكذلك أكد البنك المركزي الأوروبي على متانة أوضاع المصرف، إلا أن ذلك لم يفلح في طمأنة المستثمرين والأسواق، واستمرت أسهم المصرف في التراجع حتى فقدت الجانب الأكبر من قيمتها، ففي نهاية الأسبوع الماضي انخفضت أسهم المصرف بنسبة 42 في المائة يوم الخميس، وبـ 40 في المائة أخرى يوم الجمعة، وهو ما أدى إلى إيقاف التعامل في أسهم المصرف، ولحق ذلك انخفاض في سندات الدين البرتغالي والأسهم في أنحاء أوروبا كافة، خصوصا أسهم المصارف، وقد ترتب على انهيار أسهم المصرف انخفاض مؤشر رأس المال/ الأصول إلى نحو 5 في المائة، وهو أقل من الحد الأدنى الآمن، وكنا في انتظار انطلاق أزمة جديدة في إحدى أكثر الدول الأوروبية خطورة من حيث دينها السيادي.
لقد أثبتت الأزمة المالية العالمية الأهمية الحرجة للتحرك السريع في مواجهة أية مخاطر كامنة وعدم الانتظار لانطلاق هذه المخاطر خشية أن يترتب على انطلاقها آثار مدمرة، مثلما حدث طوال الأزمة، فقد ثبت أن تكلفة إطفاء المخاطر في مهدها أقل بكثير من تكلفتها عندما تشتعل مهددة النظام المالي، بل واقتصادات الدول محل الأزمة، وقد كان من الواضح لحكومة البرتغال والاتحاد الأوروبي أن هناك حاجة ملحة للوصول إلى حل سريع لمشكلة المصرف حتى لا يترتب على تدهور أوضاع المصرف مخاطر نظامية تؤثر على الأسواق الأوروبية بالكامل، ولذلك كان على المصرف المركزي الأوروبي التحرك بسرعة لتجنب انطلاق أزمة أخرى تكلف دافعي الضرائب في أوروبا أموالا ضخمة لأغراض إنقاذ البرتغال من تبعات انهيار المصرف.
كان من الواضح أن عملية إنقاذ هذا المصرف لا بد أن تتضمن ضخ أموال لرفع رأسماله وتغطية الخسائر الرأسمالية، التي نجمت عن تراجع أسعار أسهمه، وبالفعل وبشكل سريع تم إعداد خطة إنقاذ للمصرف، التي تتضمن سحب 6.2 مليار يورو من الأموال التي تم إقراضها للبرتغال في إطار خطة الإنقاذ التي نفذها الاتحاد الأوروبي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي، من صندوق خاص لمساعدة المصارف تم إنشاؤه في 2012، ووفقا للخطة سيتم تبني الحل السويدي المسمى بالمصرف السيئ، حيث سيتم تقسيم المصرف إلى مصرفين على النحو التالي:
1- المصرف السيئ Bad Bank، وينشأ هذا المصرف خصيصا لمهمة أساسية وهي تصفية الأصول المسمومة للبنك، حيث سيتم تحويل هذا النوع من الأصول، وهي في معظمها الديون التي حصلت عليها مجموعة اسبريتو سانتو، وكذلك فرع المصرف في أنجولا إلى القوائم المالية لهذا المصرف، بينما ستستمر حملة الأسهم والدائنون الثانويون في المصرف السيئ حتى يتم تصفيته، وذلك بهدف تخليص ميزانية المصرف الأصلي من الأصول المشكوك فيها والسماح للقسم الآخر من المصرف بالاستمرار في العمل بقائمة أصول نظيفة.
2- المصرف الجيد Healthy Bank، الذي سيطلق عليه تسمية Novo Banco أي المصرف الجديد، وسيضم كل مودعات عملاء المصرف والديون الممتازة، ومعظم الأصول الجيدة للمصرف، وذلك لمساعدة هذا الجزء من المصرف على الاستمرار في العمل بشكل طبيعي. بهذا الشكل سيستمر المصرف الجديد في العمل بعيدا عن التأثير السلبي للأصول المشكوك فيها على نتائج أعماله، بعد أن تدهورت أسعار أسهم المصرف في البورصة بصورة خطيرة، ووفقا للخطة سيتولى صندوق مساعدة المصارف إدارة هذا المصرف الجيد ثم عرضه للبيع لاحقا، على أن يتم استخدام عائدات البيع لإعادة سداد القرض المسحوب من قرض الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي الخاص بإنقاذ البرتغال.
اليوم بعد رسم هذه الخطة، فإن مخاطر حالة عدم التأكد المحيطة بالمصرف تلاشت، حيث أصبح المصرف اليوم أكثر قوة عما سبق، ويمكن القول بأن أسلوب الإدارة الجديد للمصرف سيضمن وصوله إلى شاطئ الأمان، وأن النظام المصرفي البرتغالي بأكمله تم إنقاذه من الانهيار، غير أن هناك نقطتين جديرتين بالاهتمام وتثيران الكثير من القلق من وجهة نظري؛ الأولى وهي استمرار خرق قواعد الشفافية والالتزام والمساءلة في المؤسسات المالية على الرغم من كل ما حدث أثناء الأزمة المالية العالمية، الأمر الذي يؤكد حقيقة أن القطاع المالي ما زال في حاجة إلى جهود ضخمة لتنظيم أعماله للتأكد من التزام مؤسساته بقواعد الشفافية على الرغم من معارضة الكثير من قادة القطاع المالي لأي محاولات لتنظيم أعمال هذا القطاع.
أما الثانية فتتمثل في عدم مناسبة العقوبات، التي يتم تطبيقها على قادة القطاع المالي في أعقاب كل أزمة يتسببون فيها، حيث يتم الاكتفاء حاليا بطرد المسؤولين في تلك المؤسسات، وهو تماما ما فعله المصرف المركزي البرتغالي، ولكن الاكتفاء بطرد المسؤولين عن مثل هذه الأعمال ليس كافيا لمنع تكرارها، ولا بد أن تفعل الحكومات العقوبات القانونية وتجريم مثل هذه الأعمال حتى يعلم قادة القطاع المالي أن ما يقومون به من أعمال تزوير للبيانات أو حجبها سينتهي بهم إلى السجن، وليس فقدان الوظيفة، ليبدأوا في البحث عن وظيفة أخرى، ربما في مكان أفضل وبراتب أعلى.
إن نتائج ممارسات هذه الإدارات لا تؤثر عليهم، بصفة خاصة قد لا تسبب لهم أية خسائر مالية كونهم غير ملاك للمصارف، بينما يمتد الأثر إلى ملاك الأسهم والمودعين، غير أن الأثر الأضخم هو في تبعات العدوى المالية، التي تنتشر في المؤسسات المالية الأخرى وفي الأسواق مع كل حالة مشابهة، التي تكلف المليارات، وهو ما يقتضي ضرورة أن تدفع الإدارات المسؤولة الثمن من حريتها ومستقبلها عن كل إجراء غير مسؤول تقوم به.

الجمعة، أغسطس ٠٨، ٢٠١٤

الأبعاد الاقتصادية لمشروع قناة السويس الثانية

الأبعاد الاقتصادية لمشروع قناة السويس الثانية

صورة لحفل افتتاح مشروع تطوير قناة السويس قبل ثلاثة أيام.الفرنسية
صورة لحفل افتتاح مشروع تطوير قناة السويس قبل ثلاثة أيام.الفرنسية
أ.د. محمد السقا
على الرغم من الأهمية الحيوية لمرفق قناة السويس باعتباره أهم شريان مائي في العالم يربط شمال الكرة الأرضية بجنوبها، ويختصر المسافة التي تسلكها السفن بأنواعها المختلفة العابرة من البحر المتوسط إلى البحر الأحمر ثم إلى المحيط بصورة جوهرية؛ فإن المتتبع لحركة النقل في القناة والإيرادات التي تتولد عنها يلاحظ أن المرفق بشكله الحالي قد بلغ طاقته القصوى، وأصبح يواجه قيودا بالفعل حول عدد وحجم السفن التي يمكن أن تعبر فيه بشكل يومي.
أكثر من ذلك، فإن قدرات منطقة القناة على تقديم كل الخدمات اللوجستية للسفن التجارية في العالم بشكلها الحالي تعد محدودة للغاية، كذلك فإن الدور الذي يمكن أن تلعبه القناة في تهيئة المنطقة؛ لأن تصبح مركزا تجاريا وكوحدة لإعادة التصدير في العالم شبه معدوم تقريبا.
يوما بعد يوم يتزايد حجم التجارة العالمية، وتتزايد بالتبعية أنشطة النقل البحري للأغراض المختلفة، خصوصا التجارية، وتزداد أعداد السفن، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الطلب على خدمات قناة السويس.
وقد واجهت مصر هذا النمو من خلال المشاريع المختلفة لتوسيع القناة وتعميق المجرى الملاحي لكي يكون قادرا على استيعاب سفن أضخم وأكثر سعة، لكن يظل القيد الأساسي على القناة في شكلها الحالي يتمثل في الحد الأقصى لعدد السفن التي يمكن أن تمر في القناة يوميا ذهابا وإيابا، في الوقت الذي تتزايد فيه أعداد السفن على النطاق العالمي كنتيجة للنمو في حجم التجارة العالمية بين الشمال والجنوب.
من هنا بدت الحاجة إلى التفكير "خارج الصندوق" من خلال مشروع لشق قناة أخرى موازية للقناة الحالية، على النحو الذي يضاعف من طاقة منطقة القناة على استيعاب المزيد من السفن العابرة وبحمولات أضخم، فضلا عن التفكير في إنشاء عدد من التسهيلات التي تعمل على خدمة حركة النقل من خلال القناة.
منذ عدة أيام، أطلقت مصر شارة البدء في المشروع العملاق مستهدفة تخفيض مدة إنشاء المشروع إلى أقل مدى زمني ممكن، والعمل على تطوير منطقة القناة وشبه جزيرة سيناء على النحو الذي يعظم من العوائد التي تتحقق لمصر من وجود وصلتين للنقل البحري في المنطقة.
ومن المتوقع أن يترتب على المشروع تحقيق مكاسب ضخمة للاقتصاد المصري تسهم في زيادة حصيلة الدولة من النقد الأجنبي، وتساعد على تنويع مصادر الدخل، وتوفير المزيد من الوظائف، فضلا عن استيعاب المزيد من السكان في المنطقة، وتخفيف الضغوط السكانية على مناطق التجمع التقليدية في مصر.
الأثر المباشر لشق القناة سيتمثل في مضاعفة إيرادات قناة السويس من النقد الأجنبي، التي تعد من أهم مصادر النقد الأجنبي في الدولة بعد تحويلات المصريين العاملين في الخارج وإيرادات السياحة، وهو ما يعمل على زيادة مستويات الدخل القومي، ورفع متوسط نصيب الفرد من الدخل.
لكن الإسهام الحقيقي للقناة الثانية يتمثل في الآثار الانتشارية التي سيخلقها مثل هذا المشروع من الناحية الاقتصادية، بصورة مباشرة وغير مباشرة وهي عديدة، حيث ستتحول طبيعة القناة من مجرد مصدر لتحصيل الرسوم على السفن العابرة، إلى لعب دور أعمق في تنمية الاقتصاد المصري.
وستتحول بالتبعية منطقة القناة إلى أهم المناطق الجغرافية في مصر، وأحد أهم مراكز توليد الدخل في الاقتصاد المصري، إذا تم استغلال الفرص الكامنة التي يمكن أن يطرحها المشروع على مصر على نحو كفء.
عبر قرون طويلة ظلت منطقة سيناء من المناطق شبه المهجورة، رغم الفرص الكبيرة التي يمكن أن تطرحها المنطقة في المجالات المختلفة للإنتاج والخدمات والسكن.
لهذا السبب ظلت سيناء فترة طويلة فقيرة في البنى التحتية المتاحة فيها، وهو ما أثر سلبا في طاقتها الاستيعابية للسكان؛ نظرا لضعف جاذبيتها وضعف عمليات الاستثمار المنتج فيها، وذلك رغم الفرص الكامنة التي يمكن أن تتيحها المنطقة لاستيعاب أعداد كبيرة من سكان مصر. وفي ظل معدلات النمو السكاني الكبير التي تواجهها مصر في الوقت الحالي، ستظل الأعداد الكبيرة من السكان أهم التحديات التي تواجه عملية التنمية في الدولة على الإطلاق، لما تفرضه من ضغوط شديدة حول تسهيلات السكن وفرص العمل والضغط على الخدمات والبنى التحتية في مراكز التجمع السكاني التقليدية.
لذلك فإن تنمية منطقة سيناء تقدم فرصة استثنائية لاستيعاب الملايين من سكان مصر، والعمل على خلخلة التركز السكاني في مناطق تجمع السكان، فقط تحتاج المنطقة إلى توفير خدمات البنية التحتية اللازمة للسكان، والبدء في إعداد خطة شاملة لتنمية المنطقة اعتمادا على الشريان الجديد.
ومما لا شك فيه أن استمرار أوضاع الاقتصاد المصري بصورتها الحالية، وفي ظل النمو السكاني الكبير، ستشكل السكان كارثة مستقبلية ناجمة عن التحديات المرتبطة بالنمو السكاني التي أهمها هي كيفية استيعاب هذه الأعداد المتزايدة من السكان وتوفير الخدمات المختلفة لهم من سكن وكهرباء وماء ونقل وخدمات تعليمية وصحية وترفيهية.. إلخ.
وفي الوقت الحالي، أصبحت كل المدن في مصر مكتظة بالسكان، وأخذت الأبعاد السلبية للنمو السكاني في الظهور على السطح بصورة واضحة في صورة ضغوط ضخمة على التسهيلات الخدمية من كهرباء ومياه ومواصلات واتصالات.
ناهيك عن الضغوط على التسهيلات المرتبطة بالخدمات الأساسية للسكان، فضلا عن تدهور طبيعة البيئة المحيطة بهم، أكثر من ذلك فقد بدا واضحا للعيان، خصوصا بعد ثورة يناير، طبيعة التحديات الأمنية والبيئية واللوجستية للتركز السكاني الكبير للمصريين في المناطق السكنية التقليدية.
إن خلخلة التركز السكاني في مصر أصبحت من أهم الأولويات التي يجب أن يأخذها صانع السياسة في الاعتبار، حتى يخفف من آثار النمو السكاني السلبية على النمو الاقتصادي، وهذا لن يتم سوى بأمرين أساسيين، الأول هو إنشاء تجمعات سكنية جديدة في مناطق أخرى في مصر ومدها بالخدمات الأساسية والتسهيلات اللازمة لحياة الناس.
والثاني فتح فرص عمل منتجة في هذه المناطق الجديدة لضمان توافر الوظائف أمام المهاجرين من السكان إلى هذه المناطق، حتى تتحول بالفعل هذه التجمعات السكنية الجديدة إلى مراكز فاعلة لجذب السكان، وخصوصا من الشباب، حيث ترتفع أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل سنويا على نحو مقلق، وفي ظل ضيق فرص فتح عدد مناسب من فرص العمل أمام هؤلاء يظل شبح البطالة أخطر التحديات أمام هؤلاء.
ومن الواضح من تفاصيل المشروع الجديد أن خطة مصر تستهدف ليس فقط إنشاء مجرى ملاحي جديد، وإنما أيضا تحويل طبيعة المجرى الملاحي إلى مركز متكامل للخدمات البحرية واللوجستية، حيث يفترض أن تقام في منطقة القناة مشاريع تستهدف تحويل القناة من مجرد وصلة مائية إلى مركز لخدمات النقل والشحن البحري ومراكز لتسهيلات التخزين وإعادة الشحن للبضائع، على النحو الذي يساعد على تحويل المنطقة إلى محطة عالمية لإعادة التصدير مستفيدة من وقوعها على القناة.
هذا فضلا عن الاستثمار في المشاريع المتخصصة في تقديم التسهيلات اللوجستية للسفن مثل التموين والصيانة والإصلاح وتوفير الإمدادات الغذائية وإمدادات الوقود وغير ذلك مما تحتاج إليه السفن أثناء رحلاتها الطويلة بين مراكز الإنتاج ومراكز الاستهلاك.
كذلك فإنه من الممكن أن يقام على ضفتي القناة عدد من المناطق التجارية الحرة التي تسهم في زيادة الحركة التجارية بين مصر والعالم، وتساعد على تنويع مصادر الإنتاج والدخل. أكثر من ذلك فإن إنشاء القناة الجديدة سيقدم فرصا ضخمة للنمو، ففيما بين القناتين يمكن أيضا أن تنشأ إحدى كبريات المناطق الصناعية في مصر التي توجه أساسا نحو التصدير إلى الخارج، من خلال التخطيط المناسب لهذه المناطق بإنشاء سلسلة من الصناعات العنقودية المتكاملة، والمعتمدة أساسا على عنصر العمل، للاستفادة من الميزة النسبية التي تتمتع بها مصر حاليا والمتمثلة في رخص عنصر العمل، نظرا لانخفاض مستويات الأجور بشكل عام، وعلى النحو الذي يسهم في جذب الاستثمارات المباشرة، سواء الوطنية أو الأجنبية للاستفادة من هذه الميزة، وبما يساعد على استيعاب الأعداد الجديدة من الداخلين الجدد إلى سوق العمل من الشباب، للحد من اتجاهات البطالة بينهم.
ففي أعقاب ثورة يناير، دخل الاقتصاد المصري في مرحلة كساد وتوقف الإنفاق الاستثماري في الأنشطة الإنتاجية، متأثرا بطبيعة الفترة الانتقالية التي مرت بها مصر في أعقاب الثورة، وتدهورت بالتالي قدرة الاقتصاد المصري على فتح فرص العمل المنتج، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات البطالة على نحو واضح.
وتشير الدراسات حول الاقتصاد المصري إلى أنه في ظل استمرار الأوضاع الحالية من المتوقع أن ترتفع معدلات البطالة لتصبح أحد أخطر التحديات التي تواجه مصر في ظل النمو السكاني المتزايد، التي تتطلب حزمة من السياسات الهادفة إلى تشجيع الاستثمار في المجالات المختلفة لفتح عدد كاف من الوظائف سنويا يتوافق مع الأعداد الكبيرة التي تدخل سوق العمل في كل سنة في الوقت الحالي، ومن هنا تأتي الأهمية الحيوية لمثل هذه المشاريع باعتبارها طوق النجاة لمواجهة تحديات البطالة في الاقتصاد المصري.
أما عن البعد الأمني للمشروع، فمما لا شك فيه أن القناة الجديدة تمثل عائقا طبيعيا جديدا بين مصر وإسرائيل التي بهذا الشكل ستمثل أحد خطوط الدفاع الطبيعية الجديدة لمصر في أي حروب مستقبلية أخرى يمكن أن تنشأ مع إسرائيل، حيث تجعل من مهمة إعادة احتلال سيناء مرة أخرى مهمة أصعب وأخطر وأكثر تكلفة، وهو ما يضيف إلى القناة الجديدة العديد من المزايا الاستراتيجية للعمق الدفاعي المصري.
لقد آن الأوان لتنمية منطقة سيناء، تلك المنطقة التي ظلت عقودا طويلة خارج اهتمام صانع السياسة في مصر ومحرومة من الخدمات الأساسية والبنى التحتية على النحو الذي أفقد مصر الفرص الكامنة التي يمكن الاستفادة منها من خلال تنمية المنطقة وجعلها أحد مراكز الإنتاج الأساسية في مصر، وهذا هو أحد الأهداف الأساسية للمشروع الجديد لمصر.

الاثنين، أغسطس ٠٤، ٢٠١٤

بنك بي إن بي باريبا بين فكي القضاء الأمريكي

بنك بي إن بي باريبا BNP Paribas هو أكبر البنوك العاملة في فرنسا، حيث يعمل به حوالي 190000 موظف، وله أكثر من 34 مليون عميل حول العالم، ويعد خامس أكبر بنك في العالم من حيث حجم الأصول، كما أنه يعد أحد أكبر البنوك العاملة في مجال تمويل ومقاصة المعاملات المالية في مجال التجارة الدولية.

في 30 يونيو الماضي أقر بنك بي إن بي باريبا، بمخالفته للتعليمات الأمريكية بحظر التعامل مع دول تمول الإرهاب أو تخالف حقوق الإنسان، وهو ما يمثل مخالفة للقانون الأمريكي International Emergency Economic Powers Act and Trading with the Enemy Act بالتعامل مع عدو، الأمر الذي انتهى إلى قرار المحكمة الفدرالية بتغريم البنك غرامة تاريخية، والتي تعد بكل المقاييس أكبر غرامة فرضت على بنك نظير تعامله مع دول تمت مقاطعتها في التاريخ.

تبدأ القصة بقيام إدارة الخدمات المالية في نيويورك بإعداد ملف للمعاملات غير القانونية (من وجهة النظر الأمريكية) للبنك مع الدول التي تقاطعها الولايات المتحدة، وهي السودان وايران وكوبا، والتي قدرت بحوالي 190 مليار دولار في الفترة من 2002 – 2012، وقد قام المدعي العام الأمريكي برفع قضية على البنك أمام المحكمة الفدرالية، وأثناء المحاكمة طلبت القاضية من الحكومة الأمريكية معلومات عما إذا كان لديها صورة كاملة عن حجم المعاملات التي أبرمها البنك مع تلك الدول، وإلى أي درجة يعد البنك مذنبا في المخالفة التي ارتكبها في ابرام تلك المعاملات، وقد رد مساعد المدعي العام الأمريكي بأن البنك كان في مركز المؤامرة، وأنه منح أطرافا أخرى حرية الوصول الى سوق الدولار الأمريكي، مخالفا بذلك القوانين الأمريكية التي تحظر تسوية معاملات مالية لهذه الدول بالدولار الأمريكي عن طريق سوق الصرف العالمي للدولار، وبمعنى أبسط فإن الجريمة التي ارتكبها البنك هي تسهيل التحويلات المالية الدولارية للسودان وإيران وكوبا خصوصا في مجال النفط والغاز، من خلال عمليات تمت هندستها في فرعه في جينيف.

ما فعله بنك بي ان بي باريبا، هو اخفاء اسماء عملاء سودانيين وايرانيين وكوبيين قاموا بمعاملات مالية تمت تسويتها من خلال عمليات نيويورك للصرف الأجنبي وكذلك النظام المالي الأمريكي بمفهومه الواسع، ووفقا للمراقبين فقد كانت المخالفات التي تمت لقانون المقاطعة أكثر انتشارا في حالة بنك بي إن بي باريبا مقارنة بأي بنك آخر في العالم، والتي امتدت خلال الفترة من 2002 – 2012، وأن معظم معاملات البنك كانت مع السودان، والذي فرضت عليه الولايات المتحدة حظرا منذ 1997، في معرض اتهاماتها له بدعم الإرهاب والاشتباه بصلاته مع القاعدة، ومخالفة حقوق الإنسان، بصفة خاصة في دارفور.

صدر قرار المحكمة الفدرالية الأمريكية على البنك بالآتي:
1.      الزام البنك بدفع غرامة مالية بقيمة 8.97 مليار دولار.
2.      منع البنك من إجراء بعض أشكال المقاصة على معاملاته الدولارية من خلال فرع البنك في نيويورك لمدة عام يبدا في منتصف يناير القادم، وذلك عوضا عن الغاء رخصة البنك في نيويورك، والتي كان من الممكن أن تخرج البنك تماما من الولايات المتحدة، ويشمل المنع وحدات البنك بما فيها مركز البنك في باريس، ومكاتبه الأخرى المخالفة لقانون العقوبات في جينيف وبعض المراكز حول العالم، ويعد هذا الحظر نوعا جديدا من العقوبات التي تطبقها الولايات المتحدة على المؤسسات المالية المخالفة.
3.      مطالبة البنك أيضا بالتخلص  من 13 من كبار موظفيه بما فيهم كبير رؤساء العمليات شودرون دي كورسيل.
4.      حرمان البنك من قدرته على أن يكون مراسلا لبنوك أخرى في نيويورك لأغراض مقاصة النقد الأجنبي لمدة سنتان.
في تبرير لحجم الغرامة، تشير السلطات الأمريكية، أنها تعكس مستوى المخالفة التي ارتكبها البنك، حيث أن البنك اتخذ اجراءات تحول دون تطبيق قوانين المقاطعة الأمريكية، وقد أشارت القاضية الأمريكية إلى أن القضية مكتملة الأركان، وأنها مقتنعة بأن حجم الغرامة يعكس فداحة السلوك المخالف الذي ارتكبه البنك، وأنها متأكدة بأن هذه الغرامة سوف تحول دون قيام المؤسسات المصرفية الأخرى بنفس السلوك، وقد حددت القاضية الأمريكية يوم 3 أكتوبر القادم موعدا للنطق الرسمي بالحكم، وهو ما يعطي البنك فترة كافية للحصول على رد من الحكومة الأمريكية حول الطلب الذي قدمه لوزارة العمل الأمريكية بالسماح له بالاستمرار في ممارسة أعماله في مجالات صناديق المعاشات وغيرها من أنشطة إدارة الأصول لعملائه في الولايات المتحدة، حيث أن الحكم ربما يمنع البنك من ممارسة مثل هذه الأنشطة في الولايات المتحدة أيضا.
بعض المراقبين أكد أن الغرامة الضخمة والعقوبات المصاحبة لها تعكس حقيقة أن البنك وضع أرباحه في المقام الأول قبل أي اعتبار آخر، على الرغم من تحذير الحكومة الأمريكية للبنك بضرورة الالتزام بحظر الأنشطة غير القانونية، وأن ما قام به البنك الفرنسي يشبه اضطلاعه بدور البنك المركزي للحكومة السودانية، كما قد تجاوز البنك المقاطعة ضد بعض المؤسسات في إيران وكوبا، من خلال تمرير معاملات مالية لهذه الدول ومؤسساتها من خلال النظام المالي الأمريكي بدون أن ينبه الحكومة الأمريكية حول طبيعة هذه المعاملات والتي تقع تحت طائلة الحظر الأمريكي.

ومن الواضح ان القاضية تعمدت تضخيم الغرامة على نحو واضح، حيث تتجاوز كل أرباح البنك مجتمعة والتي حققها في عام 3013، ويصف بعض المراقبين الحكم على أنه حالة استعراض عضلات واضحة للقوة المالية الامريكية والتي تتماشى بالطبع مع قوتها السياسية على المستوى العالمي، كما أنه من الواضح أن الحالة تؤكد سيطرة الحكومة الأمريكية على المعاملات المالية التي تتم بالدولار عبر العالم، حيث ينبغي أن تلتزم البنوك غير الأمريكية بالسياسة الأمريكية حول العقوبات المالية على الدول الأخرى، وإلا فإن على هذه البنوك أن تدفع ثمنا باهظا لتحدي قرارات المقاطعة للحكومة الأمريكية، كما أن الولايات المتحدة أرادت من خلال هذه القضية إرسال رسالة واضحة وحاسمة في ذات الوقت للمؤسسات المالية حول العالم والتي يمكن أن تفكر في تحدي إرادة الولايات المتحدة حول عمليات المقاطعة.

ولقد أثار الحكم حالة عدم رضاء من الطرفين الأمريكي والأوروبي، ففي أمريكا هناك حالة سخط من أنه لم يقدم أحد من مسئولي البنك للمحاكمة الجنائية على ما اقترفوه من مخالفات للقانون الأمريكي، وأن ما تم تطبيقه من عقوبات، في صورة تخفيض المكافآت أو في اجبار مجموعة من أعضاء إدارة البنك على تركه لم يكن كافيا. من ناحية أخرى فإن الأوروبيين ينظرون إلى الحالة على أنها مثال لاستخدام أمريكا لثقلها المالي بحظر وصول البنك الى سوق الدولار، لكي تفرض الالتزام على البنوك وفقا لرؤيتها الخاصة، ومن وجهة النظر الفرنسية، بصفة خاصة، فإن الغرامة غير معقولة على الإطلاق مثلما صرح وزير الخارجية الفرنسي فابيوس، في الوقت الذي أوضح فيه البنك المركزي الفرنسي أنه أيا كان ما فعله البنك من مخالفات سيئة، من وجهة النظر الأمريكية، فإن محاصرة بنك أوروبي على هذا الحجم يمكن أن يضر بالنظام المالي العالمي وكذلك المنطقة الأوروبية التي تواجه مشكلات اقتصادية اصلا. بل إن هناك اعتقاد بأن البنوك الأوربية الكبرى الأخرى مثل سوسيتيه جنرال، وكريدي أجريكول، والدويتش بنك ليست بعيدة عن السلطات الأمريكية التي ربما تتعرض أيضا للعقوبات لنفس المخالفات، وأنه إذا كان هناك مخالفة فإن العقوبة ينبغي أن تتناسب مع المخالفة.

لقد حاول البنك في البداية التخفيف من حدة الحكم من خلال اللجوء الى المسئولين على أعلى المستويات في الحكومة الفرنسية، حيث قام الرئيس الفرنسي هولاند بمناشدة الرئيس الأمريكي التدخل في القضية، لكن الرئيس أوباما رفض التدخل في القضية باعتبار أن ذلك سيعد  تدخلا في العملية القضائية في الولايات المتحدة، وهو ما يمثل مخالفة صريحة لاستقلال القضاء الأمريكي. من ناحة أخرى طالب الاتحاد الأوروبي الولايات المتحدة باتخاذ اجراء أكثر عدالة مع بنك بي إن بي باريبا، في إشارة إلى قسوة الحكم  الذي تم في حق البنك.

في أول رد فعل على الحالة، أعلن البنك أنه قام بتصميم قواعد صارمة للالتزام داخل البنك لمنع تكرار مثل هذه المخالفة، ولكن ما هي الآثار المحتملة لمثل هذا الحكم القضائي على بنك بي إن بي باريبا؟

من الناحية المالية، يفترض ألا تؤدي الغرامة إلى التسبب في أزمة مالية للبنك، فالبنك مرسمل بشكل جيد، حيث أن نسبة رأس المال للأصول TIER1 تصل الى 10.6%، كما أنه يتمتع بنسب عالية من السيولة، ومعدل الرفع المالي له بين 3%-3.7%، وهي نسبة منخفضة في هذا النوع من النشاط، وقد أعلن البنك أنه سوف يتوقف عن توزيع أرباح لهذا العام. صحيح أن البنك صدم البنك بحجم الغرامة، لكن أغلب المراقبين يرون بأن البنك سوف يتجاوز الأزمة بسهولة دون أن يؤثر ذلك على صحة البنك من الناحية المالية وقدرته على النمو على المدى الطويل. 

غير أن صدمة البنك كانت أكثر بقرار دائرة الخدمات المالية الأمريكية بمنع البنك من إجراء بعض أشكال المقاصة على معاملاته الدولارية، ولا شك أن هذا الوضع سوف يشكل تحديا كبيرا للبنك في كيفية تسوية المعاملات الدولارية التي ستتم من خلال هذه الوحدات، إذ لا يمكن لأي بنك في العالم، أيا كان مركزه، أن يقدم خدمات للعملاء بدون أن تتوافر له القدرة على الاتصال بالسوق العالمي للدولار، والذي بالطبع لا يمكن الوصول اليه بدون أن يكون البنك ملتزما تماما بالنظم الأمريكية الخاصة بالتعامل بالدولار على المستوى العالمي. فمن وجهة نظر الحكومة الأمريكية تؤدي مخالفة هذه النظم إلى تسهيل عمليات تمويل الإرهاب أو العمليات الأخرى التي ترى الحكومة الأمريكية أنها تمثل خطرا على العالم، لأن الدخول في تسهيل معاملات مالية لدول ترى الولايات المتحدة انها ترعى الإرهاب، تشكل خطرا على السلام العالمي.

إن حظر تعامل البنك في سوق المعاملات الدولارية يعد أمرا مدمرا لبنك دولي مثل البي ان بي باريبا، فالدولار هو العملة الرئيسة للعالم، صحيح أن البنك يمكنه أن يلجأ إلى بنوك أخرى لتسوية المعاملات الدولارية لعملائه خلال فترة الحظر، على النحو الذي يساعد البنك في التعايش مع الحظر، إلا أن الخوف الأساسي يتمثل في احتمال لجوء عملاءه الى البنوك الأخرى، وهو ما قد يؤدي الى فقدانهم للأبد.

قد يتساءل البعض هنا، ولماذا يجب على بنك فرنسي مثل بي إن بي باريبا بحجمه الضخم على المستوى العالمي أن ينصاع لمثل هذه الأحكام للحكومة الأمريكية؟ الإجابة هي، لسوء حظ البنك، أنه ليس لديه في الواقع أي خيار آخر سوى الانصياع، حيث ينبع هذا الانصياع من القوة التي يتمتع بها الدولار كعملة عالمية، باعتباره أداة التسوية الأساسية للمعاملات المالية التي تتم بالنقد الأجنبي حول العالم.

فوفقا لتقرير بنك التسويات الدولية الأخير عن حجم عمليات سوق النقد الأجنبي، ذكر البنك أن حجم المعاملات اليومية في العالم يقدر بحوالي 5.3 تريليون دولار يوميا، وأن 87% من هذه المعاملات اليومية تتم من خلال الدولار الأمريكي، معنى ذلك أنه لا يمكن لأي بنك في العالم يدخل في معاملات تتم بالنقد الأجنبي أن يتجنب التعامل بالدولار، فعمليات تمويل التجارة الخارجية، وعمليات تحويل الثروات والعمليات المالية الأخرى التي تتم عبر الحدود تتم أساسا بالدولار، ولا يوجد خيار فعلي أمام البنوك على مستوى العالم سوى بالتعامل بهذه العملة وعدم القدرة على تجنبها، إن كانت بالفعل تسعى لأن يكون لها حصة في المعاملات المالية التي تتم سنويا على مستوى العالم، ولعل هذا هو السر الذي يكشف حقيقة أن أي مقاطعة اقتصادية لأي دولة في العالم لن تكون ناجحة ما لم تشمل الولايات المتحدة، والتي تملك مفاتيح الوصول الى مركز المقاصة العالمي للدولار، حيث تمثل الباب شبه الوحيد للوصول الى هذا النظام، فكل الطرق في النظام المالي العالمي لا تؤدي سوى إلى وجهة واحدة وهي نيويورك، والنظام المالي العالمي قائم على الدولار، وهو وضع استثنائي بلا شك لا تفضله الكثير من دول العالم، وعلى رأسها الصين ومجموعة دول البريكس، ولكنها من الناحية العملية لا تستطيع فعل أي شيء حياله.

وأخيرا من المفترض من الناحية النظرية أن فرنسا يمكنها الرد على الحكم الأمريكي بالبحث عن الوسائل التي يمكن أن تؤلم بها الولايات المتحدة في نظير هذه المعاملة لأكبر بنوكها، ولكن السؤال الجوهري هو، هل فعلا تملك فرنسا هذه الأوراق، الإجابة هي لا، ليس إلى الحد الذي يمكنها من توجيه ضربات موجعة للولايات المتحدة لتجبرها على مراجعة موقفها بالنسبة للبنك، ربما أقصى ما تملكه الحكومة الفرنسية هو إعلانها عدم التعاون مع الولايات المتحدة في القضايا الخاصة بسياساتها الخارجية، أو التضييق على المؤسسات المالية الأمريكية العاملة في فرنسا، وهو أمر ربما لن يضر الولايات المتحدة كثيرا، بل ويمكن أن تدفع فرنسا ثمنا باهظا إذا ما حاولت اللجوء اليه، إلا إذا استطاعت فرنسا بالفعل أن تجيش الاتحاد الأوروبي خلف الحالة، ولكني أعتقد أن الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يقدم على مثل هذه الخطوة لبنك أعلن بالفعل أنه خالف النظم الأمريكية في المقاطعة وسمح لدول تقاطعها أمريكا، وأيضا يقاطعها الاتحاد الأوروبي، بأن تصل الى السوق العالمي للدولار.

لكل هذه الأسباب لم يجد بي ان بي باريبا من بد سوى الخضوع للحكم ومحاولة تخفيف وقع الغرامة على المركز المالي للبنك، وتنفيذ أية تعليمات تصدرها المحكمة في هذا المجال مثل التسريح الإجباري لعدد من كبار العاملين فيه.

تجدر الإشارة إلى أن بنك بي إن بي باريبا لن يكون الأخير في قائمة البنوك التي سيتم معاقبتها، فحاليا ينظر المدعي العام الأمريكي في قائمة البنوك الكبرى المشكوك في أنها ارتكبت مخالفات مماثلة لتقديمها للمحاكمة أمام المحاكم الأمريكية، ولعل الحكم الذي أصدر في حق البنك كان بمثابة رسالة تحذير للبنوك الأخرى فحواها أنه لا يوجد بنك يمكن أن يفلت من العقاب، مهما بلغ حجم هذا البنك، وقد طالت يد العدالة الأمريكية العديد من البنوك مثل رويال بنك أوف سكوتلاند، الذي دفع 100 مليون دولارا، وفي العام الماضي دفع بنك ستاندارد تشارترد 667 مليون دولارا على معاملات غير قانونية في الدولار، وفي 2012 تم دفع 1.9 مليار دولار في 2012 من جانب بنك أتش إس بي سي، ووفقا للتقديرات المتاحة فإن اجمالي الغرامات التي فرضت خلال الأعوام 2012-2014 على 5 بنوك أمريكية وأجنبية هي جي بي مورجان تشيز، وبنك أوف أمريكا، وبي إن بي باريبا، وويلز فارجو، وكريدي سويس بلغت  75.8 مليار دولار،  وهكذا من الواضح أن الولايات المتحدة تستخدم قوتها المالية في أن تفرض غرامات على البنوك التي تخالف نظم المقاطعة التي تفرضها هي، حتى وإن كان ذلك من وجهة نظر القوانين الأخرى لا يعد مخالفة قانونية.

ولا شك ان مثل هذه الأحكام التي اصدرها القضاء الأمريكي خلال السنوات القليلة الماضية، هدفت الى خلق مناخ مختلف لطريقة عمل البنوك، حيث أصبحت البنوك اليوم مجبرة على اجراء المعاملات بصورة محددة، تتوافق أساسا مع رؤية الولايات المتحدة لما هو عدو وما هو صديق، ومن يجب أن يتم التعامل معه مصرفيا، ومن لا يجب، وحتى ولو كانت القوانين المحلية لتلك البنوك تسمح بتلك المعاملات، فإنها تعد محظورة على البنوك أيا كانت جنسيتها، بصفة خاصة أصبحت رؤية البنوك لمخاطر التعامل في السوق العالمي للدولار مختلفة اليوم بصورة جوهرية، عندما يتعاملون في عمليات المقاصة في الدولار.

فهل أساءت الولايات المتحدة استخدام قوتها المالية في معاقبة البنوك الأجنبية نظير الاستهانة بالعقوبات الأمريكية؟ وهل بالفعل ينبغي على مؤسسة مالية أجنبية أن تلتزم بما تراه حكومة دولة أجنبية على أنه تحد لحقوق الإنسان وتمويلا للإرهاب من وجهة نظرها هي؟ وهل مثل هذه الملاحقات القضائية الأمريكية هي تدخل للقضاء الأمريكي في مجال المعاملات المصرفية الدولية؟ وهل أصبحت الغرامات على البنوك التي تعتبرها الولايات المتحدة مخالفة لقواعد الالتزام الخاصة بها أحد مصادر دخل الخزانة الأمريكية اليوم؟ كل هذه الأسئلة لم يتناولها أحد بالتحليل المناسب.


وأخيرا حسنا فعلت الحكومة الكويتية مؤخرا بإقرار قانون الالتزام المالي على المؤسسات المالية والمعروف باسم الفاتكا، كي تجنب البنوك في الكويت احتمالات التعرض لمثل هذه الأحكام القاسية.