السبت، يناير ٣١، ٢٠١٥

تراجع النفط ينذر بانكماش سعري في العالم

شبح الانكماش السعري Deflation يخيم على العالم مع تراكم الشواهد التي تشير إلى انتشار هذه الظاهرة في عديد من الاقتصادات الرئيسة في العالم، ففي منطقة دول مجلس التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، انخفض التضخم في 34 دولة في تشرين الثاني (نوفمبر)، كذلك تراجع التضخم في مجموعة العشرين التي تمثل نحو 90 في المائة من الاقتصاد العالمي، وفي الولايات المتحدة جاءت بيانات سوق العمل الأمريكي الأخيرة لتشير إلى انخفاض مستويات الأجور الأمر الذي يغذي الضغوط الانكماشية السعرية، ما قد يؤخر قرارات الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة نظرا لآثارها السلبية في استدامة الانتعاش الاقتصادي.
كما بلغ معدل التضخم في الصين في كانون الأول (ديسمبر) 1.5 في المائة على أساس سنوي، وهو معدل منخفض ويعكس ضغوطا انكماشية تتعرض لها الصين. فقد كان أحد العوامل التي ساعدت الصين على النمو في السابق هو معدلات الفائدة السالبة، حيث ظلت معدلات الفائدة الاسمية لفترات طويلة أقل من معدل التضخم، غير أن هذا التطور في الأسعار يعكس المعادلة ليتحول معدل الفائدة الحقيقي إلى رقم موجب، وبالتالي يؤثر سلبا في الاستثمار.
كذلك انخفض معدل التضخم في بريطانيا في كانون الأول (ديسمبر) إلى 0.5 في المائة فقط، وذلك مقارنة بـ 1 في المائة في تشرين الثاني (نوفمبر)، وهو أقل معدلات التضخم في بريطانيا منذ 15 عاما، الأمر الذي أدى إلى تصاعد المخاوف باستمرار الانكماش السعري خصوصا مع تعمق تلك المخاطر في جيرانها من منطقة اليورو، وحاليا هناك توقعات بتحول التضخم إلى النطاق السالب، وهو ما قد يحمل مخاطر للنمو في الاقتصاد البريطاني الذي حقق تقدما جيدا خلال 2014، مقارنة بنظرائه في الاتحاد الأوروبي، وقد أشير إلى أن هذا التراجع في معدل التضخم سيكون أحد نقاط اهتمام صانعي السياسة النقدية في بريطانيا.
غير أن أخطر هذه التطورات هو ما جاء بالتقرير الأخير عن معدلات التضخم في منطقة اليورو، الذي أظهر أن التضخم قد دخل حيز المؤشرات السالبة لأول مرة منذ خمس سنوات تقريبا، حيث بلغ معدل التضخم في شهر ديسمبر في منطقة اليورو -0.2 في المائة، مقارنة بنسبة 0.2 في المائة فقط في تشرين الثاني (نوفمبر).
هذا التراجع في معدلات التضخم يعكس التراجع في الأداء الاقتصادي على المستوى العالمي بالطبع، ولكنه في الوقت ذاته يتعمق بتراجع أسعار السلع وعلى رأسها النفط، فقد حذر الاحتياطي الفيدرالي من أن تراجع أسعار النفط يمكن أن يغذي الضغوط الانكماشية خارج الولايات المتحدة. الأسوأ هو أن أغلب المراقبين يميلون إلى توقع تراجع معدلات التضخم.
قد يبدو من الواضح أن الانكماش السعري له آثار إيجابية على المستهلك، حيث يعزز من قوته الشرائية ويرفع من مستويات دخوله الحقيقية، لكن هذه الفوائد تتحقق في الأجل القصير، غير أن استمرار الانكماش السعري لفترات طويلة سيكون له تأثير مختلف، حيث ستتأثر مبيعات قطاع الأعمال بفعل تراجع الطلب الناتج عن توقعات انخفاض الأسعار، وهو ما يؤثر في أرباح واستثمارات هذه المؤسسات، ففي ظل الانكماش السعري لا يميل المستهلكون إلى الإنفاق، بسبب حالة عدم التأكد حول مستويات الدخول والتوظف في المستقبل. أكثر من ذلك فإن القطاع العائلي المدين سيجد من الصعب عليه تسديد ديونه بسبب ارتفاع قيمتها الحقيقية، خصوصا مع ثبات مستويات الأجور أو تراجعها، حيث لا يميل العمال في فترات الانكماش السعري إلى المطالبة بزيادة أجورهم الاسمية، وسيقبلون نفس المستويات من الأجور على أساس أن تراجع الأسعار يعوضهم عن هذه الزيادات في الأجور الأسمية، وهو ما يساعد على استمرار حالة الانكماش السعري.
على سبيل المثال فقد دخل الاقتصادي الياباني مصيدة الانكماش السعري وفقد عقدا كاملا من النمو بسبب عدم القدرة على الخروج من حالة الكساد، على الرغم من كل الجهود التي تم بذلها في هذا الجانب. فقد تراجعت الأسعار في اليابان بسبب تراجع الطلب الكلي، وحينما يتوقع المستهلكون تراجع الأسعار في المستقبل فإنهم بالتالي يؤجلون قرارات الشراء، وهو ما يسهم في تعميق حالة الكساد،لذلك طالب رئيس الوزراء الياباني ضمن خطته لتحفيز اقتصاد اليابان رجال الأعمال برفع مستويات الأجور للعاملين لديهم حتى يساعد ذلك على رفع معدلات التضخم والخروج من حالة الانكماش السعري. بالطبع داخل قطاع الأعمال هناك من يستفيد من الانكماش السعري، بصفة خاصة الشركات التي تعتمد بكثافة على تراجع أسعار المدخلات مثل النفط، وهناك من يضار من هذا التراجع في أسعار المدخلات، حيث تتراجع أرباحهم مع تراجع مستويات الناتج الاسمي لهم بسبب تراجع الأسعار. غير أنه في ظل الرغبة للحفاظ على الأرباح قد تلجأ الشركات إلى تخفيض تكلفة المدخلات وبالطبع على رأسها تكلفة العمل، والتي بالطبع يصعب أن تتحقق من خلال خفض مستويات الأجور الاسمية، ومن ثم يكون من الأسهل إغلاق بعض الوظائف، ما يؤدي إلى تعميق أثر حالة الكساد.
لقد تبنت البنوك المركزية في دول العالم في السنوات الماضية سياسة استهداف معدل ثابت ومنخفض للتضخم، متوسطه 2 في المائة، ووضعت القواعد النقدية لتدور حول الحفاظ على هذا المعدل، على سبيل المثال من خلال تعديل معدل الفائدة ارتفاعا وانخفاضا حتى تتمكن من الوصول إلى هذا المعدل. غير أنه مع انتشار الكساد السعري يصبح من الصعب على البنك المركزي أن يحقق المعدل المستهدف للتضخم من خلال خفض معدلات الفائدة. فمن الناحية العملية عندما يقوم البنك المركزي بخفض معدلات الفائدة فإن ذلك يؤدي الى خفض معدلات الفائدة من الناحية الحقيقية، وهو من المفترض أن يؤدي إلى تشجيع الاستثمار، غير أنه مع انخفاض معدلات الفائدة إلى الصفر ومع تحول معدلات التضخم إلى مستويات سالبة فإن معدلات الفائدة الحقيقية تأخذ في الارتفاع وهو ما يؤثر سلبا في الاستثمار والنمو.
في عام 1933 كتب الاقتصادي الأمريكي إيرفنج فيشر أحد أهم أعماله بعنوان The debt deflation theory of great depressions، يقول فيشر لو تصورنا أن الانحسار في النشاط الاقتصادي دفع بالمدينين في الاقتصاد إلى محاولة التخلص من ديونهم من خلال بيع أية أصول يملكونها أو تسييل تلك الأصول أو تخفيض مستويات إنفاقهم لكي يدخروا جانبا أكبر من دخولهم لسداد الديون التي عليهم، فإن سلوكهم الكلي لتحسين وضع الديون التي عليهم ستترتب عليه نتيجة عكسية، أي ارتفاع مستويات الديون التي على عاتقهم. على سبيل المثال عندما يقوم المقترضون للقروض العقارية ببيع مساكنهم لسداد الديون التي عليهم، النتيجة الطبيعية لذلك ستكون حدوث انخفاض كبير في أسعار المساكن، وهو ما يؤدي إلى وضع الكثير من مالكي المساكن في وضع أسوأ ودفعهم أيضا إلى بيع المزيد من الأصول التي يملكونها.
كذلك عندما يحاول المستهلكون خفض إنفاقهم الاستهلاكي لسداد ما عليهم من ديون فإن النتيجة هي تراجع مستويات الإنفاق الكلي في الاقتصاد، وهو ما يؤدي إلى زيادة مستويات البطالة والدخول، وتحدث نتيجة غريبة هي بالتالي زيادة عبء الديون على المدينين، وعندما تسوء الأوضاع الاقتصادية فإن الاقتصاد يدخل في حالة كساد وتسوء الأوضاع بصورة أكبر. من هذا التحليل يخلص فيشر إلى نتيجة في غاية الأهمية، وهي أنه في ظل ظروف الانكماش السعري، كلما حاول المدينون سداد جانب من الديون التي عليهم، ارتفعت أعباء الدين على عاتقهم، وقد استخدم فيشر هذه النظرية في تفسير الكساد العظيم الذي لحق بالولايات المتحدة في نهاية العشرينيات.

عودة الدولار

في نيسان (أبريل) 2014 بلغ الرقم القياسي الشهري للدولار الذي يصدره الاحتياطي الفيدرالي 86.5 في كانون الأول (ديسمبر) 2014 ارتفعت قيمة هذا المؤشر إلى 95.3 وهو ما يعني ارتفاع الرقم القياسي الشهري لقيمة الدولار بنسبة 10.2 في المائة، حيث شهد الدولار الأمريكي ارتفاعا شبه مستمر في قيمته في 2014 والدولار اليوم في أعلى قيمة له منذ 2003 ومرة أخرى يقبل المستثمرون بتدافع كبير على الاستثمار في العملة الخضراء في العالم باعتبارها الملاذ الآمن حاليا من بين العملات المختلفة للدول الصناعية الكبرى، ومن بين عوامل كثيرة أدى هذا التدافع إلى الارتفاع المستمر في قيمة الدولار إلى كافة العملات في العالم وعلى رأسها اليورو في الوقت الذي تتقدم فيه أمريكا العالم الصناعي كصاحبة أعلى معدلات للنمو وأفضل أداء من الناحية الاقتصادية بعد الأزمة بفضل السياسات المتسقة التي اتبعتها أمريكا، خصوصا في المجال النقدي، لتعزيز مستويات النشاط الاقتصادي ومعالجة الأوضاع المتردية لسوق العمل.
الرقم القياسي لقيمة الدولار في مقابل العملات الرئيسة في العالم والشركاء الآخرين للولايات المتحدة في التجارة، هو مؤشر يحسب من خلال إعطاء وزن لكل عملة من هذه العملات في الرقم القياسي لقيمة الدولار، حيث يكون مجموع الأوزان 100، وتعتمد هذه الأوزان على وزن التجارة بين الولايات المتحدة والدولة صاحبة العملة في إجمالي التجارة الخارجية للولايات المتحدة، على سبيل المثال وفقا للموقف في كانون الثاني (يناير) 2015 يمثل الرينمنبي الصيني أعلى الأوزان في قيمة الدولار بوزن 21.3، يليه اليورو بوزن 16.4 ثم الدولار بوزن الكندي 12.7. وهكذا، أما أقل الأوزان فهو وزن البوليفار الفنزويلي 0.398 ويعد الريال السعودي العملة العربية الوحيدة التي تدخل في تحديد الرقم القياسي لقيمة الدولار وذلك بوزن 1.029، ولحساب الرقم القياسي للدولار يستخدم الوسط الهندسي لمعدلات الصرف الثنائية بين الدولار وعملات الدول التي تدخل في الرقم القياسي وعددها 26 عملة، مرفوعا إلى الوزن المعطى لكل عملة.
وفقا للبيانات المنشورة عن الاحتياطي الفيدرالي حول الرقم القياسي للدولار "المعدل بالأسعار" خلال عام 2014، حقق الدولار أكبر ارتفاع له في مقابل الكورونا النرويجية بنسبة 18. في المائة والكورونا السويدية بنسبة 16.8 في المائة، بينما ارتفع أمام الين بنسبة 15.3 في المائة، والريَال البرازيلي بنسبة 12.5 في المائة. أما أمام اليورو فقد ارتفع بنسبة 10.1 في المائة، والفرنك السويسري بنسبة 9.2 في المائة، والدولار الكندي بنسبة 5.4 في المائة، والدولار الأسترالي بنسبة 8.1 في المائة، والجنيه الاسترليني بنسبة 4.5 في المائة، أما أقل معدل للارتفاع فقد كان في مقابل دولار هونج كونج 0.01 في المائة تقريبا. باختصار، كل عملات العالم الرئيسة تتراجع أمام الدولار حاليا.
هذا الارتفاع في قيمة الدولار له آثار إيجابية وسلبية على الولايات المتحدة والعالم، فالدولار القوي يعزز من العوائد المتوقعة من الاستثمار في الأصول المالية الأمريكية، حيث يعد الارتفاع في قيمة الدولار أحد جوانب العائد على هذا النوع من الأصول، مقارنة بالأصول المقومة بعملات أخرى مثل اليورو، وهو ما يرفع من جاذبية الاستثمار في الأصول المالية الأمريكية مثل الأسهم والسندات الأمريكية التي تميل أسعارها نحو الارتفاع المستمر في هذه الأيام بفعل تزايد الطلب العالمي على الاستثمار فيها، على سبيل المثال ارتفع الطلب على السندات الأمريكية ذات استحقاق عشر سنوات في الأيام الأخيرة، إلى الحد الذي دفع بمعدلات العائد على هذه السندات إلى الانخفاض لأقل من 2 في المائة لأول مرة منذ فترة طويلة.
من العوامل التي تعزز الطلب على الأصول المالية الأمريكية أيضا الارتفاع المتوقع في معدلات الفائدة في أمريكا وذلك مع تزايد التكهنات ببدء قيام الاحتياطي الفيدرالي بسحب فوائض المعروض النقدي من الدولار، والسماح لمعدلات الفائدة الأساسية بالارتفاع عن مستوياتها شبه الصفرية في الوقت الحالي إلى مستويات أعلى مع استمرار تحسن معدلات النمو وتراجع مستويات البطالة على نحو واضح مقارنة بالوضع منذ بداية الأزمة، في الوقت الذي تعلن فيه البنوك المركزية الكبرى في العالم، مثل البنك المركزي الأوروبي والياباني والصيني، عن الاستمرار في انتهاج سياسات نقدية توسعية تحدث ضغوطا سلبية على معدلات العائد على الأصول المالية فيها، ما يجعل الأصول المالية الأمريكية أكثر جاذبية، وبالتالي يزيد الإقبال على الدولار، ونتيجة لذلك أخذت رؤوس الأموال الأمريكية التي خرجت من الولايات المتحدة بحثا عن عوائد أعلى ومخاطر أقل، خصوصا في عملات الدول الناشئة، في العودة مرة أخرى للولايات المتحدة، وأصبحت أسواق العملات في الدول الناشئة اليوم أضعف.
غير أن الدولار القوي له مخاطره وأضراره بالنسبة للولايات المتحدة أيضا، ذلك أن الارتفاع المستمر للدولار يعكس ضعف الاقتصاديات المنافسة لها، بصفة خاصة أوروبا واليابان والصين، التي تمثل أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، وتراجع مستوى النشاط الاقتصادي في هذه الدول يحمل أخبارا سيئة للاقتصاد الأمريكي. حيث من الممكن أن تنعكس هذه التطورات سلبا على النمو الأمريكي وتعطل من مسيرة انطلاقه للخروج الكامل من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تجتاح العالم منذ سبع سنوات.
تعد الآثار السلبية للدولار القوي على التجارة الخارجية الأمريكية أهم الآثار، فارتفاع قيمة الدولار مع تراجع مستويات النشاط لدى شركاء الولايات المتحدة في التجارة يضع ضغوطا مضاعفة على الشركات الأمريكية التي تعتمد على التصدير إلى الخارج، خصوصا في القطاع الصناعي. فمن ناحية يؤدي ضعف النشاط في الخارج إلى انخفاض الطلب على الصادرات الأمريكية، ومن ناحية أخرى يؤدي ارتفاع قيمة الدولار إلى ارتفاع قيمة الصادرات الأمريكية بالنسبة للمقيمين خارج الولايات المتحدة فيؤدي ذلك إلى انخفاض الطلب على الصادرات أيضا، وحيث إن القطاع الصناعي الأمريكي يعتمد بصورة كبيرة على التصدير للخارج، فإن هذه التطورات تدفع بالصناعيين إلى البحث عن وسائل لخفض التكاليف لتعويض الارتفاع في الأسعار الناجم عن الدولار القوي، ومن بين هذه الأساليب تعزيز البحوث في مجال التكنولوجيا المكثفة لاستخدام رأس المال، الأمر الذي يحدث انعكاسات سلبية على الطلب على العمال وتزايد الضغوط في سوق العمل.
بالطبع لا يتوقف الأمر فقط على السلع الصناعية، وإنما على جميع السلع والخدمات الأمريكية، كالسياحة مثلا، حيث تحقق الولايات المتحدة عوائد سنوية من السياحة تقدر بنحو 200 مليار دولار، ومع الدولار القوي تصبح هذه أغلى بالنسبة للمقيمين خارج الولايات المتحدة، والعكس بالنسبة للسلع والخدمات التي تنتجها الدول المنافسة للولايات المتحدة، وهو ما يؤثر سلبا في تنافسية الولايات المتحدة، حيث يصبح الشركاء التجاريون للولايات المتحدة في موقف تنافسي أقوى، لذلك ينظر المسؤولون بقلق إلى هذا الصعود للعملة الخضراء لما له من مخاطر كامنة على التعافي الاقتصادي الأمريكي، بصفة خاصة من جانب الطلب على الصادرات. خارج الولايات المتحدة تتعقد أوضاع الشركات المدينة في الدول الناشئة نتيجة ارتفاع قيمة الدولار، حيث من المتوقع أن نشهد ارتفاعا في معدلات التوقف عن خدمة الديون بين هذه الشركات مع ارتفاع قيمة الدولار، كذلك من المتوقع أن تواجه بعض الدول الناشئة صعوبات في خدمة ديونها العامة المصدرة بالدولار، حيث سترتفع تكلفة خدمة الديون لهذه الدول، ومما يزيد من حدة الأثر زيادة عمليات الخروج للمستثمرين من أسواق هذه الدول. ذلك أن استمرار ارتفاع الدولار أمام عملات الدول الناشئة يعرض الدول الناشئة لمخاطر هروب رؤوس الأموال، وهو ما يؤثر سلبا في أسعار الأصول فيها.
عاد الدولار بعد أن ظل ضعيفا لفترات طويلة دفعت بالكثير من المراقبين بالمطالبة بالتنويع بعيدا عن الدولار بل والتخلص من الدولار كعملة احتياطي عالمية، والبحث عن عملة أكثر استقرارا للعالم، دون جدوى.

الجمعة، يناير ٢٣، ٢٠١٥

آثار تراجع أسعار النفط

تناولنا في مقالين سابقين، أسباب تراجع أسعار النفط والمسارات المتوقعة لها، اليوم أتناول الآثار التي يمكن أن تترتب على استمرار تراجع أسعار النفط، والحقيقة أننا لن نجد سلعة تتعدد آثارها على النطاقين المحلي والعالمي مثل النفط، الذي يعد بمثابة الدم الذي يسري في شريان الاقتصاد العالمي في الوقت الحالي، لذلك تحمل تقلبات أسعار النفط ارتفاعا أو انخفاضا آثارا متشعبة، فتراجع أسعار النفط يحمل آثارا إيجابية وسلبية في ذات الوقت، مثلما هو الحال عندما ترتفع الأسعار، لكن الصورة تنقلب في هذه الحالة.
تتمثل أهم الآثار الإيجابية لتراجع أسعار النفط في أنه يحمل أخبارا سارة للدول المستوردة للنفط، التي تستفيد من انخفاض الأسعار باستيراد هذه المادة الحيوية بتكلفة أقل، وعندما تتراجع أسعار النفط تنخفض التكاليف بالنسبة لقطاع الأعمال، وتنخفض بالتبعية الأسعار بالنسبة للمستهلكين، وهو ما يؤدي إلى زيادة الطلب الاستهلاكي، أكثر من ذلك فإن انخفاض التكاليف يحفز المستثمرين على مزيد من الاستثمار، الأمر الذي يرفع معدلات النمو، لذلك يعتقد بعض المراقبين أن التراجع الحالي لأسعار النفط سيساعد على تعزيز معدلات النمو في الدول المستوردة.
في المقابل فإن تراجع أسعار النفط يحمل آثارا كارثية على الدول المصدرة للنفط، سواء تلك الأعضاء في "الأوبك" أو خارج "الأوبك"، وبالطبع تختلف حدة آثار هذا التراجع بين مختلف الدول النفطية حسب حالة كل دولة على حدة، على سبيل المثال فإن دولا مثل روسيا وفنزويلا ونيجيريا وإيران تعاني آثارا سلبية حادة، لا يقتصر أثرها على تراجع معدلات النمو الاقتصادي وإنما يطول أيضا عملات هذه الدول التي تتراجع على نحو واضح مع تراجع أسعار النفط، خصوصا بالنسبة للدول التي ليس لديها احتياطيات كافية تمكنها من التدخل على نحو كاف في أسواق النقد الأجنبي للدفاع عن عملاتها في مواجهة الطلب المرتفع على العملات الأجنبية في أسواق النقد الأجنبي فيها.
على الجانب الآخر فإن هناك بعض الدول المصدرة تمكنت من تكوين احتياطيات مالية كافية تؤهلها للتعايش مع تراجع الأسعار لفترة لا بأس بها، وهو الذي ربما يفسر عدم قلق هذه الدول، أو عدم تعجلها في اتخاذ موقف موحد في مواجهة الضغوط في السوق النفطية، إلا أنه إذا ما استمرت أسعار النفط في التراجع على النحو الحالي، فإن الاحتياطيات التي تراكمت في السنوات السمان عرضة لخطر التآكل السريع، فلم تعد الأسعار المنخفضة للنفط تتوافق مع احتياجات الإنفاق العام في الدول النفطية، وعودة العجز إلى الميزانيات سيكون أهم سمات السنوات المقبلة لميزانيات الدول النفطية لو استمر النفط في التراجع.
من ناحية أخرى، فإن تراجع أسعار النفط في الفترة الزمنية الحالية له مخاطر ذات طبيعة خاصة بحكم أن دول العالم الصناعي تعاني اليوم مشكلة تراجع معدلات التضخم إلى مستويات منخفضة جدا، وهو ما يعني أن تراجع أسعار النفط قد يؤدي إلى تعميق حدة الانكماش السعري الذي تعانيه اقتصادات عدة في العالم وعلى رأسها أوروبا واليابان. فمن المعلوم أن البنوك المركزية في العالم تتحول اليوم نحو استهداف معدل منخفض للتضخم، وتتبع البنوك المركزية قواعد نقدية محددة للتدخل لإبقاء معدل التضخم حول مستوياته المستهدفة، وعندما تتراجع أسعار أهم المدخلات في العالم وهو النفط، فإن ذلك الأمر يحمل أخبارا سيئة للغاية للبنوك المركزية في العالم، حيث يؤدي تراجع أسعار النفط إلى الضغط على التضخم نحو التراجع بصورة أكبر، وهو ما يصعب من مهمة البنوك المركزية في سبيل الوصول إلى معدلات التضخم التي تستهدفها.
قد تبدو فرضية تعزيز النمو المصاحبة لتراجع أسعار النفط صحيحة من الناحية النظرية إذا كنا نتحدث عن ظروف اقتصادية عادية، غير أنه في ظل ظروف الانكماش السعري في العالم، فإن تراجع الأسعار الناجم عن انخفاض أسعار النفط قد لا يشجع نمو الطلب، بل على العكس من الممكن أن يثبطه، وذلك استنادا إلى فرضية أن المستهلكين في ظل ظروف تراجع الأسعار غالبا ما يقللون من الإنفاق استنادا إلى توقعاتهم باستمرار تراجع الأسعار بصورة أكبر في المستقبل، كما أن المستثمرين لا يقدمون على الاستثمار في ظل هذه الظروف بسبب حالة عدم التأكد حول مسارات المستوى العام للأسعار في المستقبل التي تصاحب حالة الانكماش السعري، وكذلك عدم التأكد حول المستويات المستقبلية ومن ثم الأرباح ومعدلات العوائد المستقبلية المقدرة للمشاريع الاستثمارية.
كذلك يترتب على الانكماش السعري تزايد أعباء الديون، وهو أحد المخاطر الرئيسة المحيطة بمنطقة اليورو التي تواجه أزمة ديون سيادية في الوقت الحاضر، ما يصعب من مهمة تخفيض معدلات الديون إلى الناتج في هذه الدول.
أكثر من ذلك فإن مثل هذه السياسات تؤدي إلى مخاطر أخرى، فحيث لا تجدي حاليا محاولات ضخ تريليونات الدولارات في الأسواق النقدية في العالم للخروج من حالة الكساد، فإن هذه الكميات المضافة من النقود تتحول إما إلى احتياطيات أو إلى وقود في البورصات يغذي بالونات أسعار الأصول المالية، وهو ما يزيد من مخاطر عدم الاستقرار المالي في العالم ويعزز مخاطر انهيار الأسواق مع تراجع أسعار الأصول.
كذلك ترتب على تراجع أسعار النفط اختلال العلاقة بين العملات المختلفة في العالم، حيث تواجه الولايات المتحدة ارتفاعا في قيمة الدولار، في المقابل تتراجع قيم عملات اقتصادات الأسواق الناشئة في العالم، بصفة خاصة تلك التي يعتمد هيكل صادراتها على النفط مثل عملات روسيا وفنزويلا ونيجيريا وإيران والنرويج. بالطبع تتمتع العملات الخليجية حاليا بالاستقرار بالنسبة للدولار، ما عدا الدينار الكويتي، وذلك لاختلاف آليات تحديد معدل الصرف في دول الخليج، حيث تتبع الكويت نظام سلة العملات، بينما تربط باقي الدول عملاتها بالدولار بصورة جامدة.
من الأمور المثيرة للاهتمام أن تراجع أسعار النفط قد بدأ بالفعل في التأثير في صناعة النفط الصخري، وهو أحد الأهداف المعلنة لـ "أوبك" في الوقت الحالي من سياسات عدم تخفيض العرض، إذ تشير التقارير إلى أن العمالة في هذا القطاع بدأت في التراجع، ما يزيد من ضغوط سوق العمل حول فتح فرص عمل جديدة. كذلك هناك مخاطر أخرى مرتبطة بتراجع الإنتاج من النفط الصخري المتمثلة في احتمالات حدوث مشكلة مالية قد تؤثر بشكل محدود في النظام المالي الأمريكي نتيجة لفشل كثير من الشركات المنتجة للنفط الصخري في خدمة ديونها، حيث يتم تمويل هذه الشركات أو قطاع كبير منها من خلال ما يسمى بالسندات الرديئةJunk Bonds نظرا لارتفاع المخاطر المصاحبة للاستثمار في صناعة النفط الصخري، ومن المتوقع أن تتأثر سوق هذه السندات بهذه التطورات. التأثير في إنتاج النفط خارج الـ "أوبك" لا يقتصر على النفط الصخري، وإنما تواجه بعض آبار النفط في بحر الشمال مخاطر الإغلاق في ظل الأسعار الحالية، حيث ترتفع تكلفة الإنتاج بصورة واضحة في هذه الآبار، التي تزيد على 60 دولارا. كما أن بعض المشاريع الاستثمارية للإنتاج في بحر الشمال تواجه مخاطر الإلغاء في الوقت الحالي.
وأخيرا، هل ستؤدي الأسعار المنخفضة إلى القضاء على إنتاج النفط الصخري؟ إذا سلمنا بصحة فرضية أن "أوبك" تستهدف التأثير في إنتاج النفط الصخري، فإن الأسعار المنخفضة للنفط ستؤدي بالتأكيد إلى وقف مؤقت للاستثمارات في مجال النفط الصخري في أمريكا، إلا أن انخفاض أسعار النفط سيدفع هذه الشركات نحو بذل مزيد من الجهود لخفض تكلفة إنتاج النفط الصخري، أو البحث عن وسائل جديدة للإنتاج.

الخميس، يناير ٢٢، ٢٠١٥

انتهاء عهد التيسير الكمي في الولايات المتحدة

يعد الحفاظ على مستويات التوظف مرتفعة واستمرار استقرار المستوى العام للأسعار أهم أهداف الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ويفترض من الناحية النظرية أنه في سبيل تحقيق هذه الأهداف يعمد إلى خفض معدلات الفائدة إلى مستويات متدنية لتمكين النظام المصرفي والمالي من إقراض قطاع الأعمال الخاص والمستهلكين بمعدلات فائدة منخفضة، وقد لجأ الاحتياطي الفيدرالي بالفعل في بداية الأزمة الحالية إلى تخفيض معدلات الفائدة إلى الصفر تقريبا،ونتيجة لضعف استجابة الاقتصاد لهذه التخفيضات بدأ الاحتياطي الفيدرالي في التفكير في بدائل أخرى غير تقليدية لتعزيز الانتعاش الاقتصادي والخروج من الأزمة، وكان على رأسها التيسير الكميQuantitative Easing، أو ما يطلق عليه أحيانا ببرنامج شراء السندات.تجدر الإشارة إلى أن التيسير الكمي ليس فكرة جديدة، كما برامج التيسير الكمي لم يقتصر استخدامها على الولايات المتحدة، وإنما استخدمها البنك المركزي الأوروبي، والبنك المركزي البريطاني، والبنك المركزي الياباني في آن واحد، غير أنها لم تمارس على هذا النطاق في العالم كما هو الحال في الوقت الحالي.
في الرابع من سبتمبر 2008 بلغ إجمالي أصول النظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي906 مليارات دولار، منها نحو 700 مليار دولار أوراق مالية. في الثامن عشر من كانون الأول (ديسمبر) الماضي بلغ إجمالي أصول الاحتياطي الفيدرالي نحو 4502 مليار دولار، منها 4243مليار دولار أوراق مالية، أي أنه خلال هذه الفترة تضاعفت أصول الاحتياطي الفيدرالي نحو خمسة أضعاف، حيث تسببت برامج التيسير الكمي في إضافة نحو 3.7 تريلون دولار من الأوراق المالية إلى ميزانية الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما يعكس أكبر عملية توسع نقدي تمت في تاريخ الولايات المتحدة حتى الآن، والتي تمت في إطار ما يسمى بعمليات الشراء واسع النطاق للأصولLarge-Scale Asset Purchases.
أما عن آلية شراء هذه السندات فهي أن يقوم الاحتياطي الفيدرالي بشرائها من سوق السندات وليس من الحكومة أو الجهة المصدرة، لأن الهدف الأساسي من عمليات الشراء هو التأثير على الأسعار السوقية هذه السندات، وعندما تتغير أسعار السندات تتغير معدلات العائد عليها في الاتجاه المعاكس، على سبيل المثال قد يستهدف الاحتياطي الفيدرالي رفع سعر السندات المغطاة بالرهونات العقاريةMBS، وهو ما يؤدي إلى خفض معدلات العائد عليها وبالتالي انخفاض معدلات الفائدة على الرهون العقارية فيزداد الطلب على القروض العقارية لشراء المساكن، وينشط بالتالي الطلب في هذا القطاع الحيوي، وهذا هو الهدف النهائي من عمليات الشراء.
يطلق على هذه القناة من قنوات التأثير النقدي “قناة توازن المحافظ المالية” التي تفترض أن الأصول التي تشكل المحافظ الاستثمارية المختلفة ليست بديلة لبعضها البعض بصورة كاملة. فعندما يقوم الاحتياطي الفيدرالي بشراء السندات المغطاة بالرهونات العقارية فإن المستثمرين يقومون بإعادة التوازن في محافظهم من خلال شراء سندات أخرى بدلا من تلك التي باعوها للاحتياطي الفيدرالي، فترتفع أسعارها هي الأخرى وتنخفض العوائد عليها، وهو ما يحسن الأداء الاقتصادي على المستوى الكلي.
بدأت السياسة النقدية التوسعية الأمريكية في كانون الأول (ديسمبر) 2008 لأغراض مالية، أي بهدف إنقاذ المؤسسات المالية من السقوط، بصفة خاصة الكبرى منها وقد أطلق على هذه الموجة التيسير الكمي1،وذلك عندما أعلن الاحتياطي الفيدرالي بعد انهيار ليمان برازرز عن بدء عمليات الشراء واسع النطاق للأصول بقيمة 600 مليار دولار من السندات المغطاة بالرهون العقارية، بهدف مساندة مؤسسات التمويل العقاري الرئيسة في الدولة؛ فاني ماي وفريدي ماك، وفي مارس 2009 أعلن الاحتياطي الفيدرالي عن نيته شراء 1.25 تريليون دولار سندات طويلة الأجل، منها 200 مليار سندات مؤسسات عقارية، و300 مليار من سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل، استمرت هذه الدورة نحو 17 شهرا وبانتهائها تم شراء 1.75 تريليون دولار.
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 أعلن الاحتياطي الفيدرالي بدء الموجة الثانية من التيسير الكمي لمدة سبعة أشهر لشراء 600 مليار دولار إضافية من سندات الخزانة الأمريكية تنتهي في أواسط 2011. وبنهاية الربع الثاني من 2011 تم استخدام عوائد الاستثمار على السندات القائمة لشراء سندات جديدة وهو ما أدى إلى زيادة المشتريات الفعلية إلى 800 مليار، وقد تم التركيز في هذه الدورة على السندات من خمس إلى عشر سنوات استحقاق.
وفي أيلول (سبتمبر) 2011 أعلن الاحتياطي الفيدرالي عن موجة مختلفة من التيسير الكمي أطلق عليها برنامج مد آجال الاستحقاق الأصول Maturity extension program والتي استهدفت أساسا شراء سندات طويلة الأجل بقيمة 400 مليار دولار من خلال بيع سندات ذات آجال استحقاق أقصر بذات القيمة، وفي 2012 وفي ضوء استمرار ضغوط سوق العمل تم إدخال موجة التيسير الكمي 3 بالسماح للاحتياطي الفيدرالي بشراء سندات بقيمة 85 مليار دولار شهريا، والتي اختلفت عن الموجات السابقة في أن البرنامج لم يكن محددا بحد أقصى لعمليات الشراء، وإنما كان الأمر مفتوحا أمام الاحتياطي الفيدرالي لتحديد المدى الذي ستستمر فيه عمليات الشراء.
في اجتماع تشرين الأول (أكتوبر) الماضي اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوح بالاحتياطي الفيدرالي تم الإعلان عن وقف برنامج شراء السندات المعروف بالتيسير الكمي تمهيدا لعكس اتجاه السياسة النقدية التوسعية الأمريكية التي استندت إلى معدلات الفائدة الصفرية واستهداف معدلات محددة للعائد على السندات لتشجيع عمليات الإقراض لأغراض محددة، وقد استند قرار اللجنة بوقف عمليات الشراء إلى أن هناك تحسنا جوهريا في الأداء الاقتصادي الأمريكي، متمثلا في استمرار ارتفاع معدلات النمو وتراجع معدلات البطالة وتحسن أوضاع سوق العمل على نحو جوهري، على الرغم من استمرار معدلات التضخم عند مستوى أقل من المستويات المستهدفة بصورة واضحة. غير أن الإعلان عن وقف التيسير الكمي لم يصاحبه ارتفاع في معدلات الفائدة التي تصل إلى الصفر تقريبا في الوقت الحالي، بل على العكس لقد أكد الاحتياطي الفيدرالي على أن الفائدة الصفرية ستستمر في المستقبل القريب، وأن عمليات رفع معدلات الفائدة ستتم بحذر شديد حتى لا تؤثر في مسار التعافي للنشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة، خصوصا أن بيانات التضخم مازالت مقلقة وأقل من المستهدف بصورة واضحة، وأن هناك عوامل دولية ربما تمارس ضغوطا أكبر نحو تراجعها، بصفة خاصة التراجع الكبير في أسعار النفط. ولكن ما هو تأثير برامج التيسير الكمي الثلاثة؟ لقد حذر الكثير من المراقبين في البداية من الآثار السلبية للتيسير الكمي على التضخم مع إصدار كميات ضخمة من النقود شهريا، غير أنه بعد تطبيق تلك السياسات لم يحدث أن واجه الاقتصاد الأمريكي طوال السنوات الخمس السابقة التي طبق فيها هذه السياسة أية ضغوط تضخمية، بل على العكس اتسمت تلك الفترات بتراجع معدلات التضخم عند مستويات دنيا أقل من تلك المستهدفة وفي بعض الأحيان كان التضخم سالبا، وهو أحد المخاوف الأساسية التي يواجهها الاحتياطي الفيدرالي حاليا.
الدراسات التي تمت لتقييم برامج التيسير الكمي أشارت إلى أنه قد ترتب على تلك البرامج تراجع معدلات العائد على الأصول طويلة الأجل بصورة واضحة، كذلك انخفضت معدلات العائد على سندات الشركات، والسندات المغطاة بالرهون العقارية. الدراسات تشير أيضا إلى أن البرنامج أسهم في رفع معدلات النمو وإضافة المزيد من الوظائف في سوق العمل الأمريكي، ونتيجة لعمليات التيسير الكمي تزايدت عمليات الاقتراض سواء من جانب قطاع الأعمال لأغراض الاستثمار أم من جانب القطاع العائلي لأغراض الاستهلاك نتيجة لتراجع معدلات الفائدة. المتضرر الأكبر من العمليات بالطبع هم المدخرون والمودعون لأموالهم في النظام المصرفي والذين يحصلون على معدلات فائدة متدنية للغاية، ليس فقط في الولايات المتحدة، ولكن في جميع الدول التي تربط عملاتها بالدولار مثل دول الخليج، كما أن أبرز الخاسرين من وقف البرنامج هو بورصات الأوراق المالية، حيث ستنتهي حقبة الأموال السهلة أو الرخيصة، التي تعد المحرك الأساسي لسوق المال في الوقت الحالي، غير أنه ينبغي التأكيد على أن وقف البرنامج لا يعني انتهاء آثاره، حيث سيستمر الاحتياطي الفيدرالي في الاحتفاظ بهذه السندات لفترة طويلة، ومن ثم ستستمر خلالها آثار البرنامج في العمل.