نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 24/9/2010. http://www.aleqt.com/2010/09/24/article_445987.html
في شهادته الأخيرة عن الصين أمام لجنة مجلس الشيوخ حول سياسات تحديد معدل صرف الرينمينبي، حرص تيموثي جايثنر، وزير الخزانة الأمريكي، على استخدام عبارات منتقاة بعناية، وبصفة خاصة تجنب وصف الصين بأنها دولة تتلاعب بعملتها Currency manipulator، على النحو الذي يبرر قيام الولايات المتحدة باتخاذ إجراءات انتقامية ضدها، وذلك استنادا إلى القانون الأمريكي، وبدلا من ذلك أخذ الوزير الأمريكي يعدد مناقب التعاون الصيني الأمريكي، والفرص التي يتيحها النمو الصيني المرتفع للشركات الأمريكية والعمال الأمريكيين، وكيف أن هذا النمو يساعد الولايات المتحدة على استعادة نشاطها الاقتصادي، ويسرع من فرص خروجها من الأزمة الحالية.
وبعد ان بلغت نبرة التهديدات الأمريكية للصين حدها الأقصى في العام الماضي، حيث تقدم عدد من أعضاء الكونجرس بمشروع قانون لمعاقبة الصين تجاريا، بسبب السياسات التي تتبناها الصين لضمان استمرار انخفاض قيمة اليوان، بصفة خاصة بالنسبة للدولار، تغيرت لغة الخطاب اليوم لتتحول إلى حث الولايات المتحدة الصين على ضرورة ان يرتكز النمو الصيني بشكل أساسي على نمو الطلب الكلي المحلي، وليس على النمو في الصادرات.
ولكن كيف يتحول النمو الصيني من نمو يرتكز على قطاع الصادرات، إلى نمو يرتكز على الطلب المحلي؟ إن المفتاح الأساسي إلى ذلك هو سياسة تحديد معدل الصرف، أي من خلال تحويل نظام تحديد معدل صرف الرينمينبي من نظام يقوم على الربط بالدولار، إلى نظام يرتكز بصورة أساسية على قوى العرض والطلب في تحديد معدلات صرف العملة الصينية بالنسبة للعملات الأخرى، وبصفة خاصة بالنسبة للدولار الأمريكي. فعندما يرتفع الرينمينبي في القيمة تزاد القوة الشرائية لدخول الأفراد في الصين (باليوان الصيني) وترتفع بالتالي مستويات إنفاقهم، بصفة خاصة إنفاقهم الاستهلاكي، ويتمتعوا بمستويات أعلى من المعيشة، وهو ما يساعد على رفع معدلات النمو في الطلب الكلي المحلي، بحيث يصبح مصدر النمو الأساسي في الصين.
الصين اتخذت أيضا مجموعة من الخطوات للتعامل مع الأزمة، والتي ربما تساهم في تقليل اعتمادها الكبير على الصادرات كمصدر للنمو، والتي تمثلت في زيادة الإنفاق العام على الخدمات الصحية ونظم التقاعد لتقليل الحوافز على الادخار، وفي الوقت الذي ترحب فيه الولايات المتحدة بهذه الخطوات، إلا أنها ترى أن الصين في حاجة إلى تحرير معدلات الفائدة، وتقليل الدعم الممنوح لأسعار الطاقة، وتقليل القيود على الاستثمار في قطاع الخدمات لتقليل اعتماد الاقتصاد الصيني على الصناعات الثقيلة والصادرات، ومما لا شك فيه ان هذه التطورات سوف تفتح الباب بصورة أكبر أمام السلع والخدمات الأمريكية لكي تنافس بصورة أكبر في الصين.
الأوضاع الاقتصادية في الولايات المتحدة اليوم تبرز حقيقة هامة وهي أنها في حاجة اليوم إلى الصين أكثر من أي وقت مضى في تاريخ العلاقات التجارية بين الدولتين، ولذلك، وبدلا من استخدام لغة التهديد، حرص جايثنر على استخدام عبارات الحث والتشجيع لضمان استمرار استفادة الولايات المتحدة من الفرص الضخمة التي يتيحها النمو الصيني على نحو أمثل، وبما يخدم عملية استعادة النشاط الاقتصادي في الولايات المتحدة.
لم أعهد مثل هذه اللغة من قبل من جانب الولايات المتحدة في مخاطبة الصين، خاصة عندما يتعلق الأمر بسياسات معدل الصرف التي تتبناها الصين لعملتها الرينمينبي، والتي طالما وصفتها الولايات المتحدة بأنها سياسات غير عادلة، وتتطلب ضرورة الوقوف بقوة وحسم في وجه الصين للحيلولة دون استمرار الفوائض التجارية الصينية الضخمة، على النحو الذي يهدد النمو المتوازن في الولايات المتحدة بصفة خاصة والعالم بصفة عامة.
ولكن ما هي أسباب هذا التحول الجوهري في الخطاب الأمريكي نحو الصين؟ في رأيي هناك عدة أسباب تقف وراء ذلك التحول، السبب الأول يتمثل في طبيعة التطورات على صعيد العلاقات الاقتصادية بين الدولتين، نتيجة للوضع الاقتصادي الذي أصبحت تحتله الصين عالميا اليوم، فقد أصبح الاقتصاد الصيني يمثل اقتصادا ذو أهمية قصوى للولايات المتحدة، ففي الصين يعيش 1.3 مليار مستهلك، وذلك في اقتصاد ينمو بمعدلات استثنائية تصل في المتوسط، إذا ما استثنينا فترة الأزمة، إلى رقمين سنويا، ويساعد هذا النمو الاقتصادي الكبير على زيادة الطلب على السلع والخدمات الأمريكية، ومن ثم تحفيز مستويات الطلب الكلي في الولايات المتحدة، وتوسيع مستويات التجارة البينية مع الصين، الأمر الذي يصب في إستراتيجية الولايات المتحدة الحالية لمعالجة الأزمة وأهم وأخطر تداعياتها، وهو ارتفاع معدلات البطالة.
لقد أصبحت الصين في هذا العام ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ومثل هذا الاقتصاد الضخم يحمل فرصا تجارية استثنائية للولايات المتحدة، ومن الناحية الفعلية أصبحت الصين حاليا ثالث أكبر الأسواق الأجنبية بالنسبة للصادرات الأمريكية، بل وأكثرها نموا على الإطلاق، مقارنة بالصادرات إلى باقي دول العالم، وفي الوقت الذي نمت فيه الصادرات الأمريكية للصين هذا العام بمعدلات مرتفعة جدا، تراجعت نسبة صادرات الولايات المتحدة إلى باقي دول العالم، وأصبح السوق الصيني بالتالي، سوقا حيويا لعدد كبير جدا من السلع الأمريكية، بدءا من السلع الزراعية إلى السلع الصناعية ثم إلى الخدمات، وبالشكل الذي يرشح الصين لأن تصبح الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة في المستقبل القريب، ونظرا لهذه التطورات، انخفضت حدة التهديد الأمريكي للصين، وتراجعت نبرة الحديث عن ضرورة تعديل سياسات معدل صرف اليوان الصيني.
باختصار النمو الصيني أصبح مهما جدا اليوم للاقتصاد الأمريكي، خصوصا وأن الأزمة المالية العالمية كان لها تأثير ضعيف على الوضع المالي في الصين، مقارنة بدول العالم الأخرى، ولقد كانت استجابة الصين للأزمة من العوامل التي ساعدت على استمرار نمو الطلب العالمي، فقد قامت الصين بوضع خطة تحفيز ضخمة لتجنيب اقتصادها المحلي الآثار السلبية للأزمة، وهو ما أدى إلى استمرار معدلات النمو الصيني عند مستويات مرتفعة، بلغت 8% تقريبا في عام 2009، وكذلك ساعد على استمرار الواردات الصينية عند مستويات مرتفعة مما أسهم في تشجيع الطلب الكلي على المستوى العالمي، على الرغم من أن الفائض التجاري الصيني قد تراجع بصورة كبيرة خلال الأزمة.
السبب الثاني هو أن الصين قد بدأت بالفعل في تغيير سياسات معدل صرف عملتها، وسمحت بالفعل للرينمينبي بأن يرتفع في القيمة مقابل الدولار، وذلك بعد ان قامت بربط اليوان بالدولار في يوليو 2008، مما جعل اليوان ثابتا تقريبا بالنسبة للدولار لمدة تتجاوز السنتين. الخطوة الصينية المهمة التي اتخذتها في 19 يونيو الماضي، عندما أعلنت أنها سوف تعيد النظر في سياسات معدل صرف اليوان، وسوف تسمح لمعدل الصرف بأن يرتفع وفقا لقوى السوق، تعد فاتحة التحول في سياسة تحديد معدل صرف اليوان الصيني. غير أنه عبر الثلاثة اشهر الماضية لم يرتفع اليوان الصيني في مقابل الدولار الأمريكي بأكثر من 1%، وبالنسبة للولايات المتحدة فإن مثل هذا الارتفاع في قيمة العملة الصينية، لا يتوافق مع معدل النمو في مستويات الإنتاجية ومستويات الدخول في الصين، مقارنة بشركائها التجاريين خصوصا الولايات المتحدة، أو الفائض الضخم الذي تحققه الصين في ميزانها التجاري، الأمر الذي يعني أن اليوان الصيني ما زال مقوما بأقل من قيمته الحقيقية بصورة جوهرية.
من الواضح أن تخفيض قيمة اليوان قد تزامن مع تدخل الصين بقوة في سوق النقد الأجنبي، وذلك لمنع قوى السوق من الضغط على معدل صرف اليوان بالارتفاع أكثر مما يجب، ومن وجهة النظر الأمريكية يؤدي استمرار الصين في التدخل في سوق الصرف الأجنبي على هذا النحو إلى تقييد نمو الاستهلاك الصيني (بسبب استمرار انخفاض القوة الشرائية لدخول الصينيين نظرا لانخفاض قيمة عملتهم)، وهو ما يجعل الطلب العالمي اقل مما يجب ان يكون الوضع عليه فيما لو سمح لليوان بأن يعكس قيمته الحقيقية وفقا لقوى العرض والطلب، والولايات المتحدة قلقة حاليا، إلى حد ما، من بطء معدل النمو في قيمة اليوان، بعد تحريره جزئيا، ومحدوديته، مثلها مثل شركاء الصين الآخرين في التجارة.
تعمد الصين الحرص على خفض قيمة اليوان الصيني له آثار عديدة على اقتصادها، حيث يساعد على استمرار نمو القطاع التصديري بمعدلات مرتفعة، أهم مصادر النمو في الصين، ويجعل الواردات الصينية أكثر تكلفة (نظرا لارتفاع أسعارها عند تقييمها باليوان)، مما يقلل من الطلب على الواردات من الخارج، بما في ذلك من الولايات المتحدة، كما أنه يقلل من القوة الشرائية للدخول القطاع العائلي في الصين، فضلا عن أنه يشجع الشركات الأمريكية على تكثيف عملياتها الإنتاجية في الصين (نظرا لانخفاض تكاليف عمليات الإنتاج للسلع عندما تقيم باليوان)، وهو ما يساعد الصين على سرقة وظائف الأمريكيين (من وجهة النظر الأمريكية)، حيث يصبح من الصعب على السلع والخدمات التي يتم إنتاجها في الولايات المتحدة ان تتنافس مع تلك التي تنتج في الصين (نظرا لارتفاع تكاليف إنتاج الأولى بصورة جوهرية عن الثانية). لكل هذه الأسباب ترى الولايات المتحدة أن الصين تحتاج إلى أن تسمح برفع جوهري ومستمر في قيمة اليوان، لتصحيح هذا الخفض المتعمد في قيمة اليوان، وأن تسمح لمعدل صرف اليوان بأن يعكس قوى السوق بصورة أكبر.
الإدارة الأمريكية تدرك أيضا أن عملية رفع قيمة اليوان لن تؤدي إلى القضاء على العجز لتجاري الأمريكي الكلي، أو ذلك العجز مع الصين، فالعجز التجاري بين الدولتين مرشح حاليا للاستمرار في المستقبل، غير أن تعديل الرينمينبي كفيل بالتخفيف من حدة الاختلال التجاري الدولي، وضمان نمو عالمي متوازن وعلى نحو مستدام.
لقد تحركت وزارة التجارة الأمريكية بصورة أكثر فعالية مؤخرا، بما في ذلك اللجوء إلى استخدام قواعد منظمة التجارة العالمية، لحماية الشركات والعمال الأمريكيين من التجارة غير العادلة مع الصين، ومن خلال اللجوء إلى القنوات متعددة الأطراف Multilateral، بما في ذلك رفع قضايا ضد الصين للتمييز التجاري ضد الولايات المتحدة، وقد استطاعت الولايات المتحدة أن تكسب في العام الماضي قضيتين تجاريتين ضد الصين، فيما يخص حقوق الملكية الفكرية واستيراد وتوزيع المنتجات المرئية والمسموعة، وكذلك الاتفاق على قضية أخرى تخص دعم الصادرات، كذلك قامت الصين بإلغاء إجراءات كانت قد اتخذتها سابقا، والتي تميز ضد قطع غيار السيارات الأمريكية، وذلك ضمن التزامها بقواعد منظمة التجارة العالمية، ولا شك أن مثل هذه الإجراءات تخفف من استمرار الآثار السلبية لتخفيض قيمة اليوان، وتضع الصين تحت مزيد من الضغط لإصلاح سياسات معدل الصرف.
السبب الرابع هو أن الولايات المتحدة ترغب في أن ترى الشركات الأمريكية تنافس الشركات الصينية في أسواق الصين، مثلما تنافس الشركات الصينية الشركات الأمريكية في عقر دارها. فقد استفادت الصين سابقا من حرية الوصول إلى الأسواق الأمريكية، ومن القواعد ونظم الحماية التي تلتزم بها الولايات المتحدة، والتي تمثل أساس النظام التجاري متعدد الأطراف، واليوم جاء الدور على الصين، فالولايات المتحدة مهتمة بشكل أساسي بالحصول حصة أكبر من السوق الصيني وحماية الشركات والعمال الأمريكيين من الممارسات غير العادلة التي تتبعها الصين، وقد دعا جايثنر إلى ضرورة أن تتلقى الشركات الأمريكية نفس المعاملة التي تتلقاها الشركات الصينية في الولايات المتحدة، وأشار بأن الولايات المتحدة سوف تسعى لدى الصين لضمان رفع فرص توسع الشركات الأمريكية في الأسواق الصينية، وأن الإدارة الأمريكية تستخدم كل الأدوات المتاحة لتأمين الشركات الأمريكية وحماية وظائف العمال الأمريكيين، والتأكد من أن الشركات الأمريكية قادرة على القيام بالتجارة والمنافسة بعدالة مع الصين، وبما يسمح بخلق المزيد من الوظائف في الولايات المتحدة، وأنها لن تترك تحقيق مثل هذه النتائج لمحض الصدفة.
الدلائل تشير أيضا إلى حدوث بعض التطورات الايجابية في مجال معاملة الصين للشركات الأمريكية، وترغب الحكومة الأمريكية في أن ترى تلك المعاملة الايجابية تمتد إلى الصادرات الأمريكية، باعتبار أن ذلك يمثل أساس النظام التجاري متعدد الأطراف الذي وقع عليه الطرفان، والذي يستفيد منه الطرفان بصورة واضحة.
ملامح الإستراتيجية المستقبلية للولايات المتحدة للتعامل مع الشريك التجاري الكبير تتمثل إذن في استمرار الإدارة الأمريكية في تشجيع الصين على الاعتماد بشكل أكبر على النمو في الطلب المحلي وليس الصادرات، وتشجيع الصين على رفع قيمة عملتها لكي تعكس بدقة تطورات قوى السوق وتصحيح الخفض المتعمد في قيمة العملة الصينية، فضلا عن أن الولايات المتحدة ستحث الصين على إنهاء الممارسات التمييزية في التجارة والاستثمار واحترام قوانين الملكية الفكرية، وضرورة الالتزام بأفضل الممارسات العالمية في عمليات تشجيع الابتكار، وترى الولايات المتحدة ان النمو الحالي للصين والوضع الجيد الذي يتمتع به الاقتصاد الصيني يمكن الصين من أن تستوفي هذه المطالب بسهولة، دون ان ينعكس ذلك سلبا على معدلات نموها الاقتصادي بصورة ملموسة.
من الوسائل الأخرى التي تلجأ إليها الولايات المتحدة هي الإقناع السياسي، وذلك من خلال استمرار قيام الرئيس أوباما بالتأكيد للحكومة الصينية على أولويات الحكومة الأمريكية الاقتصادية المطلوبة من الصين، وعلى رأسها ذلك تحقيق الصين لتقدم حقيقي في مجال تحديد قيمة العملة.
في الوقت ذاته يرى جايثنر بأن قدرة الولايات المتحدة على الاستفادة من العلاقات الصينية الأمريكية سوف تعتمد بصورة أكبر من أي شيء آخر على الإجراءات التي تتخذها الولايات المتحدة لتقوية القدرة التنافسية للاقتصاد الأمريكي، وذلك للاستفادة من الفرص التي يتيحها النمو الصيني الكبير، من خلال استمرار الجهود لرفع مستويات التعليم، وبصفة خاصة في مجال العلوم الأساسية، ورفع مستويات الاستثمار في البحوث والتطوير، واستمرار العمل على دعم الابتكار في مجالات تكنولوجيا الطاقة الجديدة، واستمرار جهود الولايات المتحدة في إعداد الصناعات والعمال الأمريكيين للاستمرار كرواد على المستوى العالمي، وهي المتغيرات التي تعد مفاتيح التنافسية الدولية لأي اقتصاد في العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق