الخميس، ديسمبر ٢٤، ٢٠١٥

هل تنطلق الأزمة المالية القادمة من الدول الناشئة؟

كانت الدول الناشئة أكبر المستفيدين من تبعات الأزمة المالية العالمية، حيث نظر المستثمرون إليها على أنها الملاذ الآمن لرؤوس الأموال في ظل تزايد المخاطر المالية في الدول الصناعية، وتغيرت بالتالي أذواق المستثمرين وتراجعت شهيتهم نحو الاستثمار في الأسواق التقليدية، وقد شكل الاستثمار في هذه الدول أحد سبل تنويع المحافظ الاستثمارية للمستثمرين من خارج هذه الدول، ونتيجة لذلك تمكنت الدول الناشئة من استقطاب قدر هائل من الأموال بالنقد الأجنبي سواء لقطاعيها الحكومي أو الخاص، واستفادت منها في دفع معدلات النمو وزيادة احتياطياتها ودعم عملاتها، غير أنه في المقابل كان الأثر السلبي لتدفقات رؤوس الأموال الداخلة هو تزايد المديونية الخارجية لهذه الدول.
في تقريره عن الاستقرار المالي في العالم حذر صندوق النقد الدولي من مخاطر بالون ديون الدول الناشئة، مشيرا إلى أنه بين عامي 2004 و 2014 تزايدت ديون الشركات في الدول الناشئة من نحو أربعة تريليونات دولار إلى الصندوق إلى نحو 18 تريليون دولار، أي بأكثر من أربعة أضعاف مستوياتها منذ عقد مضى.
مع تراجع مخاطر الأزمة الاقتصادية وعودة النمو إلى الولايات المتحدة، ارتفعت قيمة الدولار بالنسبة لمعظم عملات العالم، وأخذ الاحتياطي الفيدرالي يفكر جديا في عكس اتجاه سياسته النقدية التوسعية برفع معدلات الفائدة. عندما يحدث ذلك من المنتظر أن تسوء هذه الأوضاع بصورة أكبر، حيث ستشتد عمليات خروج رؤوس الأموال الأمر الذي يهدد عملات هذه الدول، مثلما حدث أثناء الأزمة الآسيوية في 1998/1997.
اليوم هذه الدول تشهد بالفعل تحولا في شهية المستثمرين مرة أخرى نحو دول الأصل، الأمر الذي أثر سلبا في تدفقات رؤوس الأموال لهذه الدول، إلى الحد الذي يقدر فيه معهد الاقتصاد الدولي أن صافي تدفقات رؤوس الأموال لهذه الدول هذا العام تحول إلى النطاق السالب لأول مرة منذ فترة طويلة، حيث قدر المعهد هذه الفجوة بنحو نصف تريليون دولار.
من الطبيعي أن تترتب على هذه التطورات آثار معاكسة على الدول التي تنزح منها هذه الأموال بصفة خاصة في صورة تراجع قيمة عملاتها وانخفاض احتياطياتها، وتراجع أسواق المال فيها، وارتفاع حالات الإفلاس بين الشركات العاملة لها ومع كل ذلك تتزايد المخاوف من انطلاق أزمة مديونية للدول الناشئة. ذلك أن ارتفاع معدلات الفائدة سيتسبب في نقل المشكلات إلى الدول الناشئة، التي اعتمدت ولفترة طويلة على الديون منخفضة التكاليف، ومع ارتفاع قيمة الدولار سوف ترتفع تكلفة الديون بالنسبة لهذه الشركات بعملتها المحلية.
مع تزايد الضغوط على الدول الناشئة تزايد الحديث عن مخاطر نشوب أزمة ديون تنطلق من هذه الدول، وهي إن حدثت فستكون كفيلة بعودة الاقتصاد العالمي إلى الكساد مرة أخرى، نظرا للدور الحيوي الذي أصبحت تلعبه هذه الدول في النمو الاقتصادي العالمي، ولا شك أن أثر ذلك سوف ينتشر إلى الولايات المتحدة وأوروبا حيث يعتمد النمو في هذه الدول أيضا على النمو الذي يحدث خارج الولايات المتحدة، خصوصا في الدول الناشئة.
ديون الدول الناشئة تنقسم إلى قسمين؛ الديون السيادية على الحكومات، وديون شركات القطاع الخاص، وقد اعتمد كثير من الشركات في الدول الناشئة على إصدار سنداتها بالنقد الأجنبي لتمويل توسعاتها وعملياتها الأساسية. بالطبع عندما تتراجع مواقف النقد الأجنبي لهذه الشركات فإن مخاطر المديونية ترتفع، وهذا ما يحدث حاليا في هذه الدول، ويتداول المراقبون الأزمة القادمة لديون الشركات في الدول الناشئة على أنها تمثل الموجة الثالثة للأزمة المالية الحالية، والتي تتمثل أولاها في أزمة سوق المساكن في الولايات المتحدة، وثانيها في أزمة الديون السيادية لبعض دول أوروبا.
حاليا تدور التوقعات حول المخاطر المالية المحيطة بكل من ماليزيا وجنوب إفريقيا وتركيا وتايلاند وشيلي وإندونيسيا وبدرجة أقل كوريا والصين، بسبب اعتماد شركاتها الكثيف على رؤوس الأموال قصيرة الأجل، وعلى ما يبدو أن صندوق النقد الدولي يقدر حاليا احتياجات هذه الدول من النقد الأجنبي في حال تعرضت لعمليات خروج جماعي لرؤوس الأموال على النحو الذي حدث أثناء الأزمة الآسيوية في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وما إذا كان في مقدوره مساعدة هذه الدول. غير أنه بالنظر إلى حجم مديونية الدول الناشئة فإن قدرة الصندوق على تدبير الاحتياجات اللازمة من النقد الأجنبي لهذه الدول للتعامل مع تداعيات عمليات الخروج الجماعي تعد محدودة للغاية، بالنظر إلى إمكانات المساندة المتاحة لصندوق النقد الدولي.
إذ تشير التقديرات إلى أنه منذ 2009 تزايدت قيمة سندات الديون على شركات الدول الناشئة إلى نحو 1.5 تريليون دولار، وقد بلغت نسبة ديون الشركات نحو 26 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول. اليوم يتزايد القلق من قدرة الشركات في هذه الدول على خدمة ديونها وخصوصا أن بعض الشركات بدأت بالفعل في التوقف عن خدمة هذه الديون في بعض هذه الدول، وتسارعت بالتالي عمليات تخفيض تصنيفها الائتماني ما جعل معدلات العائد على سندات هذه الشركات يرتفع، بل واقترب بعضها من مرتبة الديون غير المرغوب فيهاJunk Bonds. أكثر من ذلك فإن بعض هذه الدول تم تخفيض تصنيف ديونها السيادية إلى مرتبة الديون غير المرغوبة، مثل البرازيل بواسطة مؤسسة ستاندارد آند بورز للتصنيف الائتماني.
الواقع أن الخطر الأساسي لهذه الأزمة، في حال حدوثها، ليس من إفلاس بعض الشركات المدينة، وإنما من الأثر الانتشاري الذي ينتج عن ذلك أو العدوى المالية، ولعل درس الأزمة الآسيوية ليس بعيدا عنا، فقد انتشرت شرارة الأزمة من تايلاند ومن هبوط عملتها البات، أي من اقتصاد محدود الأهمية بين الاقتصادات الآسيوية، ومن عملة استخدامها الدولي شبه معدوم تقريبا.
اليوم تتزايد مخاطر قيام المستثمرين في سندات هذه الشركات بسحب أموالهم بصورة جماعية ما قد يترتب عليه انهيار عملات هذه الدول، وتزايد الضغوط على الشركات المدينة، فهل سيتكرر سيناريو الأزمة الآسيوية مرة أخرى، وينتشر أثر خروج رؤوس الأموال عبر الدول الناشئة؟ شخصيا لا أعتقد حدوث ذلك، فربما نشهد بعض حالات توقف عن خدمة الديون بصورة فردية، أما أن نشهد حالات توقف جماعي لشركات الدول الناشئة فهو أمر مستبعد، ولن تسمح به حكومات هذه الدول أو المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، أو حتى الاقتصادات المؤثرة مثل الولايات المتحدة، للحد من آثاره الارتدادية عليها.
من جانب آخر، فإن ما قد يطمئن بعض المستثمرين هو أنه من المتوقع مع ارتفاع قيمة الدولار أن تنخفض قيمة عملات هذه الدول، الأمر الذي يرفع من تنافسية شركاتها ومن ثم تحسين قدرتها على تدبير النقد الأجنبي اللازم، وخصوصا أن الكثير من هذه الشركات هي من الشركات المصدرة والتي يمكن أن تستفيد بالفعل من ارتفاع قيمة الدولار. أما الشركات التي ستكون أكثر تضررا فهي الشركات التي تبيع منتجاتها في الأسواق المحلية لهذه الدول، أي بعملتها المحلية، هذه الشركات ستواجه مشكلة عدم توافق بين العملة التي تشكل التزاماتها والعملة التي تشكل إيراداتها، مثل شركات الاتصالات، والمطورين العقاريين، وشركات الخدمات المحلية. لحسن الحظ أن نسبة هذه الشركات لا تتجاوز 20 في المائة من إجمالي الشركات المدينة وفقا لبلومبرج.
غير أن من المؤكد أنه أصبح من المحتم على هذه الدول أن تستعد لصدمة ارتفاع معدلات الفائدة، حيث سترتفع تكلفة خدمة هذه الديون، وهي مسألة حرجة في حال تراجع معدلات النمو في هذه الدول إلى مستويات أقل من معدلات الفائدة الحقيقية على هذه الديون، وهو ما يهدد استدامة أوضاع الدين للدول المدينة.
باختصار فإن انطلاق موجة ثالثة للأزمة أمر مستبعد، ويبقى على الدول الناشئة الاستعداد لمواجهة حالات إفلاس بعض الشركات فيها، خصوصا تلك الشركات المؤثرة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق