اليوم يطل علينا ضيف عزيز جدا، لا نراه إلا مرة في كل عام، ولذلك عندما يأتينا نستقبله بفرح عظيم، لأنه يحمل إلينا هدايا عظيمة لا يأتينا بها أي ضيف آخر، وهي ببساطة شديدة هدايا ليس لها ثمن، إنها هدايا الرحمن سبحانه وتعالى، التي أرسلها لنا مع قدوم هذا الضيف الكريم، شهر رمضان المبارك. إنها الرحمة والمغفرة والعتق من النار، وأي كنوز في الأرض تساوي هذه الهدايا ثمنا، بل أي كنوز في هذا الكون تعدل هذه الهدايا الإلهية.
نعم جاءنا رمضان، لكي نشد عن سواعد الجد والعمل، بالمزيد من العبادة والطاعة لله سبحانه وتعالي، والقليل من الطعام والشراب واللغو والبعد عن الشهوات، سواء أكانت مادية أو معنوية، تقربا إلى الله سبحانه وتعالى وطمعا في عفوه ومغفرته، وأملا في أن يشملنا بعطفه ورضاه عنا، بعد ان غرقنا وأغرقتنا الدنيا في لهوها وملاهيها، ونحن نتابع مادياتها ومغرياتها، فهذا السهم ارتفع، وهذا المؤشر انخفض، وهذا خسر وهذا ربح، وكل هذا ومآله إلى التراب، وسوف نتركه يوما ما مهما قل أو كثر، لنلقى الله سبحانه وتعالى لا نحمل معنا شيئا من هذا المتاع، لا نحمل ذهبا كنا نضارب عليه، أو أسهما كنا نحتفظ بها، أو أموال كنا نختزنها، فجميع هذا تركناه في الدنيا وراء ظهورنا، ولم يعد لنا أو بنا أي وصول إليه، وكيف لنا ذلك وقد هلك جميع ما في الكون، إلا وجه الله سبحانه وتعالى. شيء واحد، وواحد فقط نلقى الله به، ألا وهو عملنا إن كان خيرا أو شرا، وكلنا أمل في رحمته الواسعة أن تشملنا.
يحضرني في هذا الموقف قصة الملياردير اليوناني أوناسيس، الذي كان عملاق النقل البحري في العالم في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حيث كان مصنفا على أنه أغنى رجل في العالم. فقد كان محط اهتمام الجميع وإعجابه، وأخباره تأتينا من كل حدب وصوب، ماذا أكل، ماذا شرب، من قابل....الخ، باب يومي لوسائل الإعلام التي تعرف مدى اهتمام العالم بالرجل. ولأن المال هو إما سبيل إلى الجنة أو باب إلى الطغيان، فقد شذ اوناسيس وشذت أفكاره. مال أوناسيس إلى رفض قوانين الكون في أنه خلق من تراب، ولا بد وأن يعود إلى التراب، وفي عام 1973 وقع مع زوجته جاكلين "أرملة الرئيس الأمريكي الراحل جون إف كيندي" عقدا مع شركة obyazavsheysya لتجميد جثتهما بعد الموت. لقد سمع أوناسيس بأن العلماء قد توصلوا إلى طرق لحفظ جثة الإنسان سليمة من خلال التجميد العميق في كبسولة على درجة 196 درجة تحت الصفر. فكر أوناسيس في أن يجمد نفسه، فربما يتوصل العلماء في المستقبل إلى طريقة يعيدون بها الإنسان الميت إلى الحياة مرة أخرى، وإذا ما حدث ذلك فإنه سيكون أولى الناس بأن يعيده العلماء إلى الحياة مرة أخرى، ولما لا فهو العملاق الفذ الثري الذي لا يجب أن يأكله دود الأرض، متناسيا أن كل هذا لم يكن من صنعه، وإنما من نعمة الله عليه لينظر هل كفر أم شكر.
كان أوناسيس يظن أنه عندما سيعيده العلماء إلى الحياة مرة أخرى سيجد ملياراته في انتظاره ليتمتع بها ويستثمرها وينميها ويعود مرة أخرى، كما كان، نجم المال في العالم أينما حل وارتحل. فماذا حدث؟ كان لأوناسيس ولد وحيد هو "الكسندر" وبنت وحيده هي "كريستينا". وكان اوناسيس يعد ابنه لكي يكون وريث إمبراطوريته المالية، ولكن الله لم يمهله، ففي عام 1973 وفي عمر لا يتجاوز الرابعة والعشرين توفي الكسندر الإبن في حادث طائرة، لتتحطم آمال أوناسيس في أن يرث أبنه ثروته، وعندما مات الكسندر اتصل اوناسيس بشركة لتجميد الجثث في الولايات المتحدة لتجميد جثة ابنه، حتى يتمكن العلماء في المستقبل من إعادة الحياة لابنه مرة أخرى، ولكنه أخبر بأنه لم يعد من حقه ان يحدد مصير إلى ما ستؤول إليه جثة أبنه. أرأيتم كيف يمكن أن يلعب المال بعقل بني آدم؟ أوناسيس أوتي كل شيء، ولكنه لم يؤت نعمة الايمان بقضاء الله وقدره، إنها نفس طريقة قارون في التفكير، فهو الذي صنع الثروة والمال والغنى من غير فضل من الله ولا منه.
لكن الأقدار بيد الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يقدرها، مات اوناسيس بعد ابنه بعامين فقط، عن عمر يناهز التاسعة والستين بعد حياة حافلة كملياردير، بقي من أسرة اوناسيس ابنته كريستينا التي ورثت 55% من ثروته (باقي الثروة كان قد كتبها اوناسيس باسم مؤسسة تحمل اسم ابنه)، ولكن قدر الله لم يمهلها هي الأخرى، فقد توفت متأثرة بمرض في الرئة عن عمر يناهز 37 عاما فقط، واختفى بالتالي اسم اوناسيس من الوجود، لتنتقل ثروتها إلى ابنتها أثينا التي ولدتها من أب أرجنتيني. والآن لو فرضنا أن الملياردير اوناسيس قد عاد إلى الحياة مرة أخرى اليوم، فإنه لن يجد دولارا واحدا من ملياراته التي تركها باسمه في أي مكان في الدنيا، وسيعود مرة أخرى مثلما بدأ، عصاميا لا يملك شيئا تقريبا. ذلك أن الأرض وما بها وما عليها ملك لله وحده يصرف أمورها كيف يشاء.
ما قصدته من رواية هذه القصة هي أن هناك شيء واحد نتركه بعد أن نموت، هذا الشيء ليس الثروة أو المال أو الأصول على اختلاف أنواعها، فكل هذا زائل، مثلما زالت ثروة اوناسيس عنه، الشيء الوحيد الذي نتركه هو العمل، ففي حديث متفق عليه "إذا مات ابن آدم تبعه ثلاث: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله"، ورمضان شهر العمل، ولكل عمل أجر، وأعظم الأجور هي الجنة، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله هي الجنة، فهيا إلى العمل.
مدونة اقتصاديات الكويت ودول مجلس التعاون.
السلام
ردحذفمقال جميل
اليوم عمل بلا حساب
وغدا حساب بلا عمل
فأغتنم يوم عملك ليوم حسابك
و السلام
شكرا دكتور كويتي
ردحذفنعم جزاك الله خيرا
جميلة القصة ,
ردحذفقبل أيام نشر خبر قيام وارن بوفيت بدعوة أثرياء أمريكا ليأخذ منهم وعد بالتبرع بثرواتهم في حياتهم أو بعد موتهم و لو كان وعد شرف غير ملزم.
شكرا مساعد، نعم قرأت الخبر
ردحذفلكن المثير هو إن بوفيت رهن ثروته بالكامل لأعمال الخير، وعندم سئل عن اولاده، قال سأترك لكل واحد عدة مئاتت من آلاف الدولارات، بينما يتبرع بأكثر من 45 مليار دولار. هذا نموذج مضيء في الحقيقة.
تحياتي