نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 15/4/2011.
بعد ان وضعت الأزمة المالية العالمية أوزارها، وأخذ الكثير من اقتصاديات العالم طريقه نحو التعافي، يبدو أننا نستعد الآن للدخول في أزمة جديدة نتيجة تزايد الضغوط التضخمية حول العالم. فقد أخذ سعر النفط في الارتفاع إلى مستويات لا تتناسب مع طبيعة المرحلة الحالية التي يمر بها الاقتصاد العالمي، كذلك عادت أسعار الغذاء العالمية إلى مستويات ما قبل الأزمة المالية العالمية، بعد تراجعها في أعقاب تلك الأزمة، فضلا عن وجود ضغوط تضخمية إضافية ناجمة عن ارتفاع أسعار السلع التجارية الأخرى على نحو ينعكس على مستويات الإنفاق في كافة أنحاء العالم، ولكن ما هو التضخم؟ وما هي العوامل التي تقف وراء الموجات الحالية من التضخم في العالم؟
يعرف الاقتصاديون التضخم بأنه "الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار"، ومن هذا التعريف المقتضب نجد أن هناك شرطان للحكم على وجود التضخم، الأول هو أن يكون الارتفاع في الأسعار مستمرا، فارتفاع الأسعار خلال شهر أو شهرين مثلا لا يعد تضخما، وإنما يطلق عليه لفظ "ارتفاع أسعار"، أما الشرط الثاني فهو أن يكون هذا الارتفاع في "المستوى العام للأسعار"، أي أسعار معظم السلع والخدمات التي يشتريها المستهلكون، وليس شرطا أن ترتفع كافة الأسعار أثناء التضخم، فمن الممكن أن تنخفض بعض الأسعار، ومع ذلك نقول بأن هناك تضخما، وللتضخم آثار كثيرة أهمها آثاره على تراجع القوة الشرائية للمستهلكين، بصفة خاصة ذوي الدخل الثابت كالعاملين في الحكومة أو المتقاعدين، وانخفاض الإنفاق الاستثماري نظرا لمناخ عدم التأكد الذي يصاحب الضغوط التضخمية، وإعادة توزيع الدخل في غير صالح الطبقات ذات الدخل المحدود.
مصادر الضغوط التضخمية التي يتعرض لها العالم حاليا يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مصادر هي؛ الأسعار المرتفعة للنفط والسلع التجارية الأخرى، والأسعار المرتفعة للغذاء على المستويين المحلي والعالمي، والسياسات الاقتصادية التوسعية التي تتبعها معظم دول العالم حاليا نتيجة للأزمة. فمعدلات الفائدة سالبة في معظم دول العالم اليوم، كما أن الكثير من الاقتصاديات الناشئة في العالم تعمل الآن وفق طاقتها الكامنة، ومن ثم تواجه مخاطر السخونة الاقتصادية، وهو ما يوجب عليها ان تتعامل مع ما يترتب على ذلك من نتائج على الضغوط التضخمية. على سبيل المثال فإن ارتفاع درجة سخونة الاقتصاد الصيني يرجع إلى النمو الكبير في الائتمان الذي نجم عن السياسات الحكومية الهادفة إلى الخروج السريع من الأزمة الاقتصادية، ولكن هذا الخروج السريع كان على حساب النمو في الأسعار، وكذلك ارتفاع أسعار العقارات والأسهم.
عادت أسعار السلع الغذائية إلى الارتفاع مؤخرا إلى مستويات أصبحت تهدد الأمن الغذائي في الكثير من دول العالم، بصفة خاصة الدول الفقيرة، حيث ينفق الناس جانبا كبرا من ميزانياتهم على الغذاء، إذ يصل إنفاق الأفراد على الغذاء في الدول النامية إلى أكثر من 50% من إجمالي الإنفاق في الكثير من الحالات، مقارنة بنسبة 15% كحد أقصى في الدول المتقدمة، ولسوء الحظ فإن الإسقاطات المتاحة حاليا تشير إلى أنه نظرا لانخفاض مستويات الاستثمار في القطاع الزراعي، فإن تزايد الإنتاج العالمي خلال العقود القادمة سوف يكون بمعدلات اقل من تلك التي شهدها العالم في العشر سنوات الماضية، الأمر الذي يعكس تراجع معدلات نمو الإنتاج الزراعي عالميا، وهو ما يشكل تهديدا للعرض العالمي من الغذاء، ووفقا لتوقعات منظمة الأغذية والزراعة فإن أسعار الغذاء سوف تشتد في خلال العام الحالي مما يزيد من الضغوط التضخمية على المستوى العالمي.
التضخم الناجم عن ارتفاع أسعار الغذاء لن يؤدي فقط إلى تراجع القوة الشرائية للأفراد في الدول النامية، وإنما سيؤدي إلى أثار متعددة أخرى أهمها تهديد الاستقرار السياسي في عدد كبير من الدول، وعلى النحو الذي يمكن أن يؤدي إلى الإطاحة بحكومات منتخبة ديمقراطيا حتى لو كانت تطبق سياسات صحيحة. على سبيل المثال أجبرت أزمة أسعار الأرز التي تعرض لها العالم قبل الأزمة المالية العالمية رئيس الوزراء في هايتي "جاك ادوراد الكسيس" على التنحي، على الرغم من أن الأزمة كانت أزمة عالمية. كذلك يتوقع ارتفاع مستويات الفقر في العالم بصفة خاصة بالنسبة لأكثر المناطق تأثرا، حيث يتجاوز سعر الطعام القدرات الدخلية للفقراء وحيث يتم إنفاق الجزء الأكبر من الدخل على السلع الضرورية للحياة، وهو ما يشكل تراجعا للجهود التي تبذل للحد من الفقر على المستوى العالمي، وغالبا ما يصاحب ارتفاع أسعار الغذاء انتشار سوء التغذية والأمراض المصاحبة له، حيث أن ارتفاع الأسعار يعنى أيضا تناول عدد أقل من الوجبات الغذائية، أو تناول وجبات غذائية على نحو غير مناسب. على سبيل المثال ترتب على الارتفاع الأخير في أسعار الغذاء قبل الأزمة إلى التسبب إصابة حوالي مليار شخص في العالم بأمراض سوء التغذية. ذلك أن مشكلة الكثير من السلع الأساسية الزراعية أنها غير قابلة للإحلال في سلة استهلاك المستهلك النهائي، على سبيل المثال يصعب إحلال الأرز والقمح والذرة بمنتجات أخرى، الأمر الذي يزيد من الضغوط التضخمية عند حدوث نقص في عرض هذه السلع، وأخيرا فإن استمرار ارتفاع أسعار السلع الغذائية سوف يخلق مشكلة مالية للدول التي تقدم دعما مكثفا للحفاظ على أسعار الغذاء في متناول الفقراء، بصفة خاصة الخبز.
التطورات الحديثة في مجال الضغوط التضخمية التي يعاني منها العالم تشير إلى تعقد العلاقة بين ارتفاع أسعار النفط وارتفاع أسعار الغذاء. فاستمرار الارتفاع في أسعار النفط يؤدي إلى تزايد الضغوط في العالم نحو التحول إلى الوقود الحيوي Bio-fuel، الذي ترتفع جاذبيته مع ارتفاع أسعار النفط والذي يتجاوز سعره حاليا المائة دولار، والوقود الحيوي هو غاز الإيثانول الذي ينتج من أي محصول يحتوي على نشويات أو سكر بشكل أساسي، ويتم إضافته إلى البنزين في السيارات بنسب تتراوح بين 10 إلى 20%، غير أنه يمكن رفع تلك النسبة إلى أكثر من 80% إذا ما تم تعديل طريقة صناعة موتورات السيارات، وتنظر الكثير من الدول المنتجة للغذاء إلى الوقود الحيوي على أنه وقود المستقبل، كما تتزايد الاستثمارات في هذا المجال على نحو واضح، الأمر الذي يعني أن معظم الزيادة في إنتاج الغذاء في المستقبل سوف توجه نحو تسيير السيارات، وليس نحو توفير الغذاء للإنسان.
من ناحية أخرى، فقد كان ينظر إلى ارتفاعات أسعار النفط على أنها هي التي تقود الضغوط التضخمية العالمية، خصوصا بعد الموجات التضخمية التي ضربت العالم في السبعينيات من القرن الماضي. غير أن الدراسات التطبيقية التي أجريت مؤخرا تشير إلى ان أسعار الغذاء ليست اقل أهمية من النفط، بل وأن اتجاهات أسعار الغذاء أصبح لها قوة تأثير في الضغوط التضخمية العالمية أكثر من تأثير أسعار النفط. فمنذ عام 2006 ويتصاعد دور أسعار الغذاء على نحو واضح في الضغوط التضخمية العالمية، بحيث أصبحت أسعار الغذاء مؤشرا أقوى للضغوط التضخمية، خصوصا في الدول النامية حيث يمثل الإنفاق على الغذاء نسبة كبيرة من إجمالي الإنفاق الاستهلاكي.
مع تزايد الضغوط التضخمية في العديد من الاقتصاديات في دول العالم، أخذت البنوك المركزية لهذه الدول تلجأ إلى رفع معدلات الفائدة وتبني سياسات نقدية تقييدية بهدف السيطرة على الارتفاع المستمر في الأسعار، ومع ذلك فإن الشواهد تشير إلى أن هذه الإجراءات لم تفلح في الحد من الضغوط التضخمية. على سبيل المثال فإن الصين تكافح منذ فترة لكبح جماح التضخم، وقد قامت برفع أسعار الفائدة لأربعة مرات متتالية، غير أنها لم تستطع حتى الآن كبح جماح التضخم. ففي فبراير الماضي ارتفعت أسعار المستهلك إلى 4.9%، مدفوعة بزيادة في أسعار الغذاء بنسبة 11%، والتي تمثل أكثر من نصف إنفاق المستهلكين، وهناك خشية من أن يفجر التضخم في أسعار الغذاء مشكلة سياسية في الصين بين الملايين الذين لم يستفيدوا من ثمار النمو الصيني الكبير على مستويات رفاهيتهم، وقد وضعت الحكومة الصينية معدل تضخم مستهدف لهذا العام يصل إلى 4%، غير ان المراقبين يرون ان أسعار المستهلك قد تصعد إلى 6%، مع تأخر الحكومة في كبح جماح الضغوط التضخمية التي نشأت عن عملية تحفيز الاقتصاد الصيني للخروج من الأزمة ونمو الائتمان بصورة اكبر من المستويات المستهدفة.
مازال أمام الصين المزيد من الحاجة إلى رفع معدلات الفائدة قبل أن تنعكس السياسة على المستويات العامة للأسعار، لكن هناك قلق حقيقي لدى صانع السياسة من تأثيرات هذه المعدلات المرتفعة من الفائدة على النمو الاقتصادي للصين، وقد يستبدل صانع السياسة النقدية في الصين سياسة معدل الفائدة بالتحكم في معدل الاحتياطي القانوني في البنوك. غير أن الصين تفكر أيضا حاليا في استخدام معدل صرف اليوان لمكافحة التضخم من خلال السماح للرينمنبي بالارتفاع في القيمة، حتى تخفف من الضغوط التضخمية التي تعاني منها، ولكن من المؤكد ان مثل هذه السياسة سوف يكون لها تأثيرات على التنافسية الخارجية للصين.
باقي دول آسيا تواجه نفس الضغوط، على سبيل المثال تواجه الهند ضغوطا تضخمية مماثلة، وتحاول الحكومة ان تخفض من معدلات الارتفاع في الأسعار، والحال نفسه في روسيا والبرازيل وباقي دول أمريكا الجنوبية، وكذلك في أفريقيا. أما في أوروبا فإن معدل التضخم آخذ في الارتفاع في منطقة اليورو، وتشير البيانات إلى أن معدل التضخم في يناير الماضي بلغ في المتوسط 2.4%، وعلى الرغم من انخفاض معدل التضخم إلا ان هناك شواهد تشير إلى استمرار الأسعار في الارتفاع، كذلك أخذت أسعار المدخلات في الارتفاع هي الأخرى إلى مستويات مقلقة،. أما في المملكة المتحدة فإن التقارير تشير إلى ارتفاع معدل التضخم إلى حوالي 4%، وهو ما يعادل ضعف معدل التضخم المستهدف بواسطة بنك اوف انجلاند (البنك المركزي).
الوضع في الولايات المتحدة مثير للقلق أيضا على الرغم من أن معدل التضخم المعلن ما زال يسير في إطار المعدلات المستهدفة للتضخم بواسطة الاحتياطي الفدرالي. حيث تشير آخر البيانات إلى ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، كما أن الزيادة في أسعار المنتجين كانت الأعلى منذ سنتين، وهناك بعض وجهات النظر التي تشير إلى ان الولايات المتحدة مقدمة أخيرا على التضخم، على الرغم من ان لجنة السوق المفتوح تعتقد بأن التضخم سوف يكون عرضيا. وقد أشارت محاضر لجنة السوق المفتوح الأسبوع الماضي إلى ان بعض المحافظين الأعضاء في اللجنة اقترح وقف الجزء المتبقي من برنامج التيسير الكمي2 استنادا إلى ان استمرار تبني سياسة نقدية توسعية يمكن ان يغذي مشكلة التضخم، وهو ما يعكس أيضا القلق العالمي من الضغوط التضخمية التي يمكن ان تنشأ عن برنامج التيسير الكمي الذي يتبناه الاحتياطي الفدرالي.
المشكلة الأساسية هي ان هذه التحفظات تأتي في وقت حرج جدا حيث يستعيد الاقتصاد الأمريكي نشاطه ويتعافى بصورة مثيرة للاهتمام، وبصفة خاصة بالنسبة لسوق العمل الأمريكي الذي يحقق تطورات هامة على صعيد خلق فرص العمل بواسطة قطاع الأعمال الخاص، وحيث تتراجع معدلات البطالة بشكل واضح، مع عمليات الضخ النقدي الذي يقوم به الاحتياطي الفدرالي، ووفقا لمحاضر اجتماعات لجنة السوق المفتوح في الاحتياطي الفدرالي، فإن اللجنة سوف تستمر في تنفيذ برنامج ضخ 600 مليار دولار تحت برنامج التيسير الكمي2، وفقا الخطة المقترحة حتى يونيو القادم، وذلك على الرغم من التحسن الواضح في سوق العمل الأمريكي، إذ ما زال ينظر إلى سوق العمل الأمريكي بقلق شديد خصوصا في ظل استمرار معدل البطالة عند مستويات مرتفعة جدا ، والتي بلغت في مارس الماضي 8.8%، الأمر الذي يجعل من السابق لأوانه الحديث عن التوقف عن برنامج التيسير الكمي2، على الرغم من أن الكثير من المراقبين يرى أن استمرار البرنامج على هذا النحو وفي ظل هذه الظروف ربما يؤدي إلى توليد ضغوط تضخمية في الولايات المتحدة، وفي العالم.
باختصار شديد الضغوط التضخمية تنتشر في كل مكان في العالم تقريبا اليوم، وهو ما يشير إلى أن العالم مقدم على موجات تضخمية جديدة مشابهة لتلك التي تعرض لها بعد 2006 من العقد الماضي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق