نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 29/4/2011.
الانتحار هو إقدام الشخص على الإضرار بنفسه بوسائل عدة تهدف في النهاية إلى إنهاء حياته، وكل حالة انتحار ناجحة هي تلك التي تنتهي بوفاة المقدم على ذلك، بينما لا تشمل الإحصاءات المنشورة عن الانتحار تلك الحالة التي يفكر فيها الملايين من سكان العالم في الإقدام على الانتحار، أو الإقدام بالفعل على الانتحار الذي لا ينتهي بالوفاة، ويقدم الإنسان على الانتحار عندما يؤمن بأن الحياة لم يعد لها قيمة، أو أنه من الأفضل له ألا يعيشها بعد ذلك.
الانتحار هو إقدام الشخص على الإضرار بنفسه بوسائل عدة تهدف في النهاية إلى إنهاء حياته، وكل حالة انتحار ناجحة هي تلك التي تنتهي بوفاة المقدم على ذلك، بينما لا تشمل الإحصاءات المنشورة عن الانتحار تلك الحالة التي يفكر فيها الملايين من سكان العالم في الإقدام على الانتحار، أو الإقدام بالفعل على الانتحار الذي لا ينتهي بالوفاة، ويقدم الإنسان على الانتحار عندما يؤمن بأن الحياة لم يعد لها قيمة، أو أنه من الأفضل له ألا يعيشها بعد ذلك.
الإحصاءات عن حالات الانتحار في العالم تعد نادرة بشكل واضح، حيث يصعب أن تتوافر سلاسل زمنية محدثة عن حالات الانتحار في دول العالم المختلفة، ربما للصورة التي ترسمها مثل هذه الإحصاءات عن الدول التي تنشرها، ولذلك غالبا ما يصعب الحصول على بيانات حديثة عن حالات الانتحار في العالم، ووفقا للتقرير العالمي عن العنف والصحة الذي أصدرته منظمة الصحة العالمية الصادر في 2002، الذي لم يتم تحديثه بعد ذلك، فإن عدد حالات الانتحار في العالم في عام 2000 بلغ نحو 815 ألف حالة، أي بمعدل 13 حالة تقريبا لكل 100 ألف شخص في العالم في ذلك التاريخ، أو ما يعادل حالة انتحار في العالم كل 40 ثانية سنويا في ذلك العام، ووفقا للتقرير فإن الانتحار يعدد السبب الـ 13 من مسببات الوفاة في العالم في ذلك العام.
ووفقا للتقرير، فإن أكثر سكان العالم إقداما على الانتحار في عام 1999 لكل 100 ألف من السكان هم ليتوانيا (51.6 حالة)، وروسيا البيضاء (41.5 حالة)، واستونيا (37.5 حالة)، وكازاخستان (37.4 حالة)، ولاتفيا (36.5 حالة)، والمجر (36.1 حالة)، أما اقل معدلات الانتحار المسجلة في العالم فكانت في كولومبيا (4.5 حالة)، واليونان (4.2 حالة)، وباراجواي (4.2 حالة)، والفلبين (2.1 حالة)، والكويت (حالتان)، وأزربيجان (1.1 حالة)، وتقع مؤشرات الانتحار في الدول الغنية في الوسط بين هذه الحدود، على سبيل المثال يبلغ معدل الانتحار لكل 100 ألف من السكان في فنلندا 28.4 حالة، وفي بلجيكا 24 حالة، وفي سويسرا 22.5 حالة، وفي فرنسا 20 حالة، وفي اليابان 19.5 حالة، وفي أستراليا 17.9 حالة، وفي كندا 15 حالة، وفي ألمانيا 14.3 حالة، وفي الولايات المتحدة 13.9 حالة، وتجدر الإشارة أيضا إلى أن حالات الانتحار، حتى في أوج معدلاتها تمثل نسبة منخفضة من حالات الوفيات على المستوى القومي في أي دولة في العالم.
ما يلفت النظر في هذه الإحصاءات هي أن أكثر سكان العالم إقداما على الانتحار هم سكان الدول الشيوعية سابقا، وهو ما يشير إلى قوة العلاقة بين الدين والإقدام على الانتحار، ويشير تقرير منظمة الصحة العالمية إلى أن أعلى معدلات الانتحار توجد بين الدول التي كانت فيها الممارسات الدينية ممنوعة، أي الدول الشيوعية السابقة، تليها الدول التي تنتشر فيها البوذية والهندوسية وغيرهما من الديانات الآسيوية، ثم الدول التي تنتشر فيها العقيدة البروتستانتية، يليها الدول التي ينتشر فيها الرومان الكاثوليك، وأخيرا الدول الإسلامية.
أما بالنسبة للتوزيع العمري لحالات الانتحار في العالم، فإن حالات الانتحار تتركز في الفئات العمرية بين 15 - 45 عاما، ثم يميل الاتجاه نحو الانتحار إلى التراجع بتقدم العمر بصورة واضحة، من ناحية أخرى فإن التوزيع النوعي لحالات الانتحار يشير إلى أن حالات الانتحار تتركز بشكل أساسي بين الذكور، وتتراوح تلك المعدلات بين 10.4 ذكر إلى كل أنثى منتحرة في بورتريكو، إلى 1.5 ذكر إلى كل أنثى منتحرة في سنغافورة.
هذه الإحصاءات بالطبع تعد قديمة الآن، ولسوء الحظ ليس لدينا إحصاءات محدثة عن حالات الانتحار في العالم حتى يمكن تتبع الاتجاه العام لهذه الجريمة التي يرتكبها عدد كبير من سكان العالم في حق نفسه، من كافة الدول ومن جميع الأديان، غير أن الإحصاءات المنشورة في الدول التي تحتفظ بسجل جيد لعمليات الانتحار فيها مثل فنلندا والنرويج وهولندا وإسبانيا والسويد تشير إلى أن الاتجاه العام لحالات الانتحار يميل نحو التزايد بمرور الوقت.
تجدر الإشارة إلى أنه يصعب من الناحية العملية الجزم بأن حالات الانتحار في العالم تقتصر على هذه الأعداد المنشورة؛ نظرا لأن بعض حالات الوفاة التي تحدث دون أن يترك المتوفى إشارة تدل على انتحاره، قد لا تسجل على أنها حالة انتحار، كما أن بعض جرائم القتل التي ترتكب قد يتم ارتكابها على نحو يظهر بأن المتوفى قد أقدم على الانتحار، ولم أتمكن من الإطلاع على دراسات تتناول حجم هاتين الظاهرتين وأثرهما على دقة الإحصاءات المنشورة عن عمليات الانتحار في العالم.
للأسف الشديد، فإن جريمة الانتحار لا تنسحب فقط على من يرتكبها، وإنما أيضا يكون لها انعكاسات متعددة ومعقدة على الغير، بدءا من الحاجة في بعض الأحيان إلى التدخل الطبي لمحاولة إنقاذ الحياة، والآثار التي يتركها الانتحار على أسرة المنتحر وأصدقائه وأقاربه، الذين من الممكن أن تتأثر حياتهم بصورة كبيرة سواء من الناحية العاطفية أو الاجتماعية أو الاقتصادية نتيجة انتحاره. وتشير التقديرات إلى أن التكلفة الاقتصادية لعمليات الانتحار تعد أيضا كبيرة، ووفقا لوزارة الصحة الأمريكية فإن الأسباب الأساسية للانتحار في الولايات المتحدة تتمثل في الاكتئاب والمرض العقلي، تعاطي المشروبات الكحولية والخمور، وجود تاريخ عائلي في الإقدام على الانتحار أو انتشار العنف في الأسرة، أو المرض الجسدي، أو الشعور بالوحدة.
منذ انطلاق الأزمة المالية العالمية والاهتمام يتزايد بتحليل العلاقة بين الدورات الاقتصادية والإقدام على الانتحار، فقد لوحظ خلال الكساد العالمي الكبير أن حالات الانتحار قد ارتفعت بصورة ملحوظة في الولايات المتحدة، كما لوحظ أيضا أن هناك علاقة بين الإقدام على الانتحار وانتشار حالة البطالة، فمع ارتفاع معدلات البطالة ترتفع حالات الإقدام على الانتحار، وعندما ضربت دول آسيا الأزمة الاقتصادية في التسعينيات من القرن الماضي، أشارت الإحصاءات إلى حدوث ارتفاع في أعداد حالات الانتحار بصفة خاصة بين الرجال في منتصف العمر؛ لأن هذه الفئات العمرية كانت أكثر الفئات التي تأثرت بالتراجع الاقتصادي في تلك الفترة.
في مسح قام به وول ستريت جورنال عن حالات الانتحار في أكبر 33 ولاية أمريكية أشار إلى أنه في عام 2008 ارتفع عدد حالات الانتحار بنسبة 2.3 في المائة عن العام السابق، وهو ما يعزى إلى نشوب الكساد في 2008، من ناحية أخرى في مسح على 19 ولاية في الولايات المتحدة أظهرت النتائج حدوث ارتفاع واضح في حالات الانتحار بعد نشوب الأزمة، وعلى الرغم من أن الأسباب المفصلة لحالات الانتحار لم تنشر بصورة رسمية بعد، غير أن الصحيفة عزت هذه الزيادة الملحوظة إلى حالة الكساد.
من ناحية أخرى قامت وزارة الصحة الأمريكية بإجراء دراسة عن العلاقة بين حالات الكساد والإقدام على الانتحار في الولايات المتحدة خلال الفترة من 1928 - 2007 نشرت نتائجها أخيرا، والتي تعد أول دراسة تقوم بتحليل العلاقة بين حالات الكساد وحالات الانتحار حسب التوزيع العمري للمنتحرين، وتعد هذه الدراسة أقوى الدراسات التي تمت حول العلاقة بين حالات الدورات الاقتصادية وحالات الانتحار، كما أنها غطت أطول فترة زمنية تناولتها دراسة في هذا المجال، حيث غطت 80 عاما، وأوسع مجموعات عمرية للمنتحرين، وقد توصلت الدراسة إلى أن هناك علاقة ارتباط قوية بين الدورات الاقتصادية والإقدام على الكساد. فقد وجد أن علاقة الارتباط الأقوى توجد بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم ما بين 25 و65 عاما. كذلك أوضحت نتائج الدراسة أن معدلات الانتحار ارتفعت بشكل عام خلال الكساد الكبير (1929-1933)، ويعد معدل النمو خلال السنوات الأربع التي مر بها الاقتصاد الأمريكي في الكساد الكبير والذي بلغ 22.8 في المائة هو أكبر معدلات النمو في حالات الانتحار في التاريخ الأمريكي. كذلك ارتفعت معدلات الانتحار خلال الفترة (1937-1938)، وخلال أزمة ارتفاع أسعار النفط (1973-1975)، وخلال الكساد المزدوج في الفترة (1980-1982).
من ناحية أخرى، انخفضت حالات الانتحار خلال فترة التوسع الاقتصادي بين 1939-1945، وكذلك خلال أطول فترات التوسع التي مرت على الولايات المتحدة 1991-2001 في القرن العشرين، حيث تمتع الاقتصاد الأمريكي بمعدلات نمو مرتفعة ومعدلات بطالة منخفضة، وتشير نتائج الدراسة إلى أن أكبر زيادة في حالات الانتحار في الولايات المتحدة حدثت خلال الكساد العالمي الكبير (1929-1933)، حيث ارتفعت معدلات الانتحار من 18 حالة لكل 100 ألف نسمة في 1928 إلى 22.1 لكل 100 ألف نسمة في 1933، بينما انخفضت معدلات الانتحار إلى أقل مستوياتها التاريخية في عام 2000، وبشكل عام أشارت الدراسة إلى أن حالات الانتحار انخفضت خلال الفترات التي كان أداء الاقتصاد الأمريكي فيها جيدا، فبانتهاء الكساد العالمي الكبير مالت معدلات الانتحار نحو الانخفاض، بينما حدث ارتفاع في تلك المعدلات مرة أخرى خلال فترات الضغط الاقتصادي، أي أن المشكلات الاقتصادية التي يتعرض لها الاقتصاد تؤثر في شعور الأفراد نحو أنفسهم وحول مستقبلهم وعلاقاتهم داخل الأسرة ومع الأصدقاء، ففي عام 2007، قبل الأزمة المالية مباشرة انخفض معدل الانتحار في الولايات المتحدة إلى 11.2 لكل 100 ألف نسمة، حيث أقدم 34598 شخصا على الانتحار.
على العكس من الولايات المتحدة فإن إحصاءات الانتحار عن 2009 تم الإعلان عنها في اليابان، حيث ينظر إلى الإقدام على الانتحار بأنه مشكلة اجتماعية خطيرة؛ إذ يشير علماء الاجتماع إلى أن السرعة الكبيرة التي تتزايد بها حالات الانتحار جعلت علماء الاجتماع يطلقون على ظاهرة الانتحار جريمة القتل الاجتماعي.
ووفقا للإحصاءات، فإن أعداد المنتحرين في عام 2009 بلغت 24.1 لكل 100 ألف نسمة، وهو معدل مرتفع جدا بالمقاييس اليابانية، وذلك مقارنة بـ 11.6 لكل 100 ألف في 2007. أما عن التوزيع العمري لمعدل الانتحار فقد بلغ معدل الانتحار في الفئات العمرية 40 - 60 عاما 30 حالة لكل 100 ألف نسمة، مقارنة بـ 26.2 حالة لكل 100 ألف نسمة للمنتحرين في الثلاثينيات من عمرهم.
بالنسبة للعدد المطلق لأعداد المنتحرين فقد بلغ 32845، وذلك مقارنة بمتوسط 30 ألف حالة خلال الـ 12 عاما الماضية. لوحظ أيضا أن متوسط أعداد المنتحرين قبل الأزمة الآسيوية كان يتراوح بين 15000 و25000 منتحر. ومما لا شك فيه أن التفسير الوحيد لميل حالات الانتحار في اليابان إلى الارتفاع هو الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يمر بها الاقتصاد الياباني حاليا. ففي عام 2009 انخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 5.2 في المائة، ومثلما ارتفعت حالات الانتحار في 1998 في أعقاب الأزمة الآسيوية نتيجة لازدياد حالات الإفلاس وتزايد معدلات البطالة فإن التقرير الياباني عن حالات الانتحار في 2009 أشار إلى الارتفاع الحاد في أعداد المنتحرين في اليابان في تشرين الأول (أكتوبر) 2008 في أعقاب انهيار بنك ليمان براذرز.
من ناحية أخرى، فإن الإحصاءات عن حالات الانتحار الناجمة عن فقدان الوظائف تزايدت بنسبة 65.3 في المائة، مقارنة بعام 2008. ويشير أحد علماء الاجتماع إلى أنه في حالة انتشار البطالة فإن الانتحار قد يعد قرارا رشيدا للمنتحر، حيث إنه وفقا للقوانين اليابانية يمكن أن يحصل المستفيدون من بعده على أي تعويضات عن التأمين ضد الحياة، كما تقوم شركات التأمين بدفع أي أقساط للمسكن كان قد اشتراه، بينما إذا استمر المنتحر على قيد الحياة في حالة بطالة فإنه ربما قد يفقد المسكن.
وتشير الدراسات إلى أن الارتفاع في أعداد المنتحرين يرجع إلى عوامل عدة من الناحية الاقتصادية، وهي حالات الإفلاس الواسعة النطاق التي عانى منها الاقتصاد الياباني، وزيادة معدلات البطالة، وركود مناخ الاستثمار، وتراكم الديون، وانخفاض مستويات الدخول، وعدم مناسبة قوانين الإفلاس في اليابان، واستمرار حالة الركود طويل الأجل في اليابان.. إلخ، وتشير بعض التقارير إلى أن بعض العوامل الثقافية قد أسهمت في تفاقم المشكلة، بصفة خاصة أن التعاليم الدينية لا تحرم الإقدام على الانتحار، والنظرة إلى الانتحار على انه فعل من أفعال الشرف وسبيل لتحمل المسئولية عن الفشل.
خلاصة ما تقدم، أنه أثناء فترات الانحسار الاقتصادي، فإن الضغوط الاقتصادية تضاف إلى العوامل التي تدفع بالناس نحو الانتحار. كذلك فإنه بناءً على هذه النتائج من المتوقع أن نشهد حالات انتحار استثنائية في كافة أنحاء العالم في خلال سنوات الأزمة الحالية، لكننا لن نتمكن للأسف الشديد من التعرف على الموقف الحقيقي لحالات الانتحار في العالم سوى بعد مضي فترة طويلة نسبيا من الزمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق