الاثنين، نوفمبر ١٩، ٢٠١٢

نحو قطاع صناعي فاعل في دول مجلس التعاون: دور التعليم


تحدثنا في المقال السابق من هذه السلسلة عن أهمية حماية الصناعات الوطنية في دول مجلس التعاون من الممارسات التجارية الضارة التي يمكن أن يمارسها المصدرون أو الوكلاء المحليين للصناعات المنافسة. اليوم نتناول قضية في غاية الأهمية ليس فقط للنمو الصناعي، وإنما لعملية لتنمية بكافة صورها بشكل عام، وهي دور التعليم في التنمية الصناعية، حيث يلعب التعليم الدور الفاصل بين الدول المتخلفة صناعيا، والدول الرائدة في هذا المجال. إذ تشير تجارب الدول المتقدمة صناعيا إلى أن أهم الأسس التي استند إليها قطاع الصناعة هي قوة عمل ذات تعليم جيد ومدربة بصورة مناسبة، ونظام تعليمي قادر على مد قطاع الصناعة بالمهارات والحرف المناسبة، وكذلك يتجاوب بصورة مناسبة مع متطلبات هذا القطاع من حيث المؤهلات المناسبة لقوة العمل وكذلك بالمؤسسات التعليمية اللازمة لتخريج قوة عمل مناسبة لمتطلبات واحتياجات هذا القطاع.
فعندما نستعرض التجارب الدولية في مجل التنمية الصناعية سوف نجد أنه بدءا من الثورة الصناعية في أوروبا في القرن الثامن عشر حتى اليوم، وفي أي نقطة زمنية في المستقبل، لم يتقدم أي نظام صناعي في العالم دون أن يصاحبه في ذات الوقت نظام تعليمي مساند، يضمن تأهيل قوة العمل للاضطلاع بمسئوليات ومهام هذا القطاع، سواء في جانب التشغيل والإنتاج أو الابتكار أو التنظيم أو التسويق إلى آخر هذه القائمة الطويلة من العمليات التي يحتاج إليها قطاع صناعي فاعل.
من الناحية العلمية يعد التعليم أهم السلع العامة التي يتم تقديمها في المجتمع قاطبة، حيث يمثل الأساس الذي تقوم عليه نهضة الأمم، واستنادا إلى جودته تتحدد القدرة التنافسية للدولة، فمن خلال النظام التعليمي يتم اكتشاف المواهب والقدرات الإبداعية للأفراد، وخلال النظام التعليمي يتم تنمية هذه المواهب وصقلها على النحو المناسب، وهو ما يمهد لمساعدتهم على استثمارها بالشكل السليم لمنفعة الاقتصاد. باختصار شديد تكمن الفوارق بين دول العالم اليوم في طبيعة النظام التعليمي السائد في كل دولة. هذه الحقيقة اكتشفتها الدول الأسرع نموا في العالم في الوقت الحالي، ولذلك لم تدخر جهدا لتدبير الميزانيات المناسبة لمثل هذا القطاع مهما كلفها ذلك الأمر من موارد.
خذ على سبيل المثال سنغافورة أو كوريا الجنوبية أو الصين، لقد اكتشفت هذه الدول أن السبيل الوحيد للمنافسة في هذا العالم هو إعداد قوة عمل ضاربة من خلال نظام تعليمي حديث، وفي عالم اليوم حيث تقوم الاقتصادات بشكل أساسي على المعرفة، لا يمكن النهوض بالقطاع الصناعي قبل النهوض بقطاع التعليم، ذلك أن المؤسسات التعليمية تمثل مصنع القوة البشرية التي ستعمل في هذا القطاع، فإذا كانت تلك القوى البشرية معدة جيدا بتعليم مناسب ومتوازن، فإن استفادة القطاع الصناعي من مخرجات التعليم تتعاظم، بينما تعد قوة العمل غير المناسبة وذات الخصائص التعليمية الفقيرة أحد أهم القيود الأساسية على تنمية القطاع الصناعي.
يتميز التعليم بأنه صناعة متعددة الآثار، وتؤثر مخرجاتها على كافة مناحي الحياة، ليس فقط في مجال الصناعة، غير أن إنشاء قطاع صناعي فاعل يحتاج إلى نظام تعليمي كفء. أكثر من ذلك فإن قطاعي التعليم والصناعة قطاعان لا بد وأن يسيرا جنبا إلى جنب، حيث تسهم مخرجات الأول في تنمية وتطوير ورفع كفاءة وإنتاجية الثاني، بينما يضمن تطور ونمو الثاني أن تكون مخرجات الأول متوافقة مع الاحتياجات الحقيقية لسوق العمل.
العلاقة بين قطاعي التعليم والصناعية هي إذن علاقة متبادلة، فقطاع التعليم يمد قطاع الصناعة بالقوة البشرية اللازمة والمناسبة كما ذكرنا، من ناحية أخرى فإن الصناعة تحتاج إلى أن تكون على علاقة وثيقة مع مؤسسات التعليم ومراكز التعليم الصناعي لمساعدة الهيئات التدريسية والتدريبية بها على إعداد المهارات الواعدة في هذا المجال، وللتأكد من حصول الطلبة على المعلومات والخبرة لسد الحاجات المناسبة للقطاع، ومثل هذه التغذية العكسية بين الصناعة والتعليم تعد أمرا هاما للتأكد من صياغة مناهج تعليمية مناسبة.
فالصناعة لا تحتاج فقط إلى خريجين أكفاء من الحقل التعليمي، وإنما تحتاج بشكل أساسي إلى خريجين تم إعدادهم بشكل مناسب لتحمل المسئوليات التي يمكن أن تلقى على عاتقهم في هذا المجال. خريجين ذوي رؤية تم صقلها، وبتدريب مناسب بحيث يكونوا قادرين على التفكير باستقلالية والمشاركة بصورة فعالة في صناعة القرارات المناسبة، والأهم من ذلك كله هو أن تتوافر في هؤلاء الخريجين القدرة على التعلم بصورة مستمرة طوال حياتهم، فالصناعة هي أكثر القطاعات ديناميكية في الاقتصاد، وتتصف بتطور المعلومات فيها على نحو مستمر نظرا لسرعة عمليات الابتكار والتطور التكنولوجي في عالم اليوم.
إن أي دولة ترغب في تنمية قطاعها الصناعي لا بد وأن تقوم بالاهتمام بصورة أساسية بالتعليم، ليس فقط من حيث حجم الإنفاق والميزانيات المخصصة للنظام التعليمي، وإنما لا بد أيضا من مراعاة التوازن المناسب في هذا القطاع. فالمنظومة التعليمية منظومة معقدة ومتشعبة الجوانب، ذلك أن إنتاج مخرجات تعليمية مناسبة تستطيع النهوض باقتصادات الدول بشكل عام يتطلب معلم مدرب بصورة كفئة ومعد جيدا للمهمة الخطيرة التي سيتولاها، وبنظام مناسب للتعويضات يضمن حصول هذا المعلم على احتياجاته المادية المناسبة، ومناهج تعليمية مصاغة على نحو يتماشى مع أرقى النظم التعليمية في العالم، وطرق تدريس حديثة تقوم أساسا على تنمية مهارات الإبداع لدى الطلبة بشكل عام وليس لحشو رؤوسهم بالمعلومات دون أن يدركوا قيمتها أو كيف يستفيدون منها، وأن يرتكز نظام التعليم على العلوم والرياضيات التي تمثل نظرياتها أسس الابتكار في المجال الصناعي، ومناخ تعليمي محفز للتلميذ، ومصمم بصورة تجعل رحلته في المدرسة رحلة ممتعة تخرج من ذاته أقوى ما فيها، وتكشف عن المواهب الحقيقية التي يتمتع بها، وتكشف عن السياق الذي يجب أن يكمل فيه مساره التعليمي، حتى لا يخرج لنا النظام التعليمي خريجين اضطروا إلى دراسة تخصصات لا تتوافق مع ميولهم أو مواهبهم، وكتب ومصادر تعليمية مصممة بحيث تخدم الهدف الأساسي من مثل هذا النظام التعليمي الكفء بكل أبعاده، وغير ذلك من المتطلبات الأساسية لنظام تعليمي حديث.
لقد أصبح من الواجب على دول مجلس التعاون أن تساعد النشء فيها بنظام تعليمي كفء يمد هذه الأجيال بأفضل تسهيلات تعليمية ممكنة، وهذا هو المجال الأفضل على الإطلاق لاستثمار الفوائض النفطية التي تتمتع بها حاليا، ذلك أن مثل هذا الاستثمار هو الاستثمار الوحيد المضمون العوائد على المدى الطويل، فبناء نظام تعليمي حديث كفيل بتحويل دول المجلس نحو وجهة مختلفة عما تتجه إليه اليوم،  وبدلا من تحويل الفوائض للاستثمار في الخارج، حيث تتعرض للعديد من المخاطر، فإن توجيه الجانب الأكبر منها نحو بناء نظام تعليمي كفء لا شك يعد افضل الخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها دول مجلس التعاون في الوقت الحالي.
إن تطوير نظم التعليم في دول مجلس التعاون يحتاج إلى ثورة في هذا المجال في كافة المراحل التعليمية بدءا من الحضانة حتى الجامعة، وذلك لضمان بناء نظام تعليمي حديث تتكامل مراحله المختلفة، بحيث تضمن جودة مخرجاته الأساسية، ومن المؤكد أن إعداد مثل هذا النظام سوف يكون مكلفا من الناحية المادية، لذلك ينبغي على دول المجلس رصد الميزانيات الكافية للاستثمار في هذا المجال، فمن وجهة نظري أن الاستثمار الأساسي لدول مجلس التعاون ينبغي أن يكون في التعليم، قبل أي مجال آخر، فمظاهر المدنية الحديثة التي نراها حاليا في دول المجلس لا تعني شيئا على المدى الطويل، طالما أن هذه الدول ما زالت تعتمد على مورد واحد للدخل. حيث تظل هذه الدول عرضة للعديد من المخاطر التي تناولناها مسبقا، بصفة خاصة أنه إذا نضب أو توقف هذا المورد، سوف يتوقف كل شيء، هذه حقيقة لا بد وأن نعيها بشكل كامل وأن نستعد لها، والاستعداد الحقيقي لمثل هذا اليوم لا يكون بتكديس الأموال في الخارج، وإنما بقدرات إنتاجية في الداخل، تضمن اقتصادا متوازنا وقادرا على خلق فرص للتوظف والدخل والرفاه على المدى الطويل.
إذا ما حدث وتبنت دول مجلس التعاون بناء نظام تعليمي يحمل هذه الخصائص، بغض النظر عن التكلفة المادية التي سوف يتكلفها، سواء على مستوى الدولة أو الأسرة، فإن مخرجات مثل هذا النظام التعليمي الفعال كفيلة بوضع اقتصادات دول مجلس التعاون بكافة أبعادها على الطريق السليم لكي تتنافس صناعيا مع باقي الدول، وذلك في عالم ينطلق أساسا من المعرفة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق