نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية يوم الجمعة 17/6/2011.
يوما بعد يوم تتعقد أوضاع الاقتصاد الأمريكي ويحقق مزيدا من الخسائر على الأرض في ريادته للاقتصاد العالمي، ولعل أخطر القضايا المرتبطة بتدهور أداء الاقتصاد الأمريكي هي تصاعد حجم الدين العام الأمريكي إلى مستويات فلكية، بلغت هذا الشهر 14.3 تريليون دولارا، وهو ما يمثل حوالي 97% من الناتج المحلي الإجمالي. العامل الرئيس المسئول عن نمو هذا الدين هو العجز الكبير الذي تحققه الولايات المتحدة حاليا في الميزانية، والذي يتوقع ان يدور حول أكثر من تريليون دولارا سنويا في المتوسط خلال العشر سنوات القادمة، مما يعني أن الدين العام الأمريكي سوف يبلغ أكثر من 25 تريليون دولارا بنهاية العقد الحالي، الأمر الذي يفرض تحديا كبيرا على الاقتصاد الأمريكي لكي يخدم هذا الدين. يقدر بعض المراقبين أن الولايات المتحدة لكي تتمكن من خدمة هذه القدر الهائل من الديون تحتاج إلى أن تحقق معدل نمو لا يقل عن 5% سنويا، وهو معدل مرتفع جدا بالنسبة لاقتصاد ناضج مثل الولايات المتحدة، حيث لا يتجاوز معدل النمو الطبيعي في الولايات المتحدة نسبة 3% في المتوسط تقريبا، وعلى الرغم من ذلك قد يدهش القارئ عندما يعلم أن الدين الأمريكي يعد حتى هذه اللحظة واحدا من أكثر الديون أمانا في العالم، وتجد فيه الكثير من الدول التي لديها فوائض دولاريه الفرصة لاستثمار هذه الفوائض بأمان.
في عام 1980 كان الدين العام الأمريكي اقل من تريليون دولارا (908 مليار دولارا) أو ما يعادل 33.6% فقط من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، وبنهاية عقد الثمانينيات قفز الدين العام الأمريكي لأكثر من 3 أضعاف مستوياته في عام 1980 (3.2 تريلون دولارا). خلال التسعينيات تباطأت معدلات النمو في الدين العام الأمريكي، حيث شهدت تلك الفترة تحسنا واضحا في المالية العامة للولايات المتحدة، حتى أنه بنهاية حكم بيل كلينتون كانت الميزانية الأمريكية تحقق فائضا، وقد كانت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي عند مستويات معقولة بصورة كبيرة (57.5%)، وبحلول عام 2000 بلغ حجم الدين العام 5.7 تريليون دولارا.
عندما وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان الدين العام الأمريكي حوالي 5.8 تريليون دولارا، غير أن التحركات الطائشة للولايات المتحدة لاستعادة الهيبة الأمريكية عالميا والقضاء على ما يسمى بقواعد الإرهاب كان لهذا آثار مدمرا على مالية الولايات المتحدة ومستويات دينها العام. حيث أخذ الدين العام الأمريكي يتصاعد حتى بلغ حوالي 9 تريليون دولارا في عام 2007 قبل انطلاق الأزمة المالية العالمية أي ما يعادل حوالي 65% من الناتج المحلي الإجمالي، وقد تسبب نشوب الأزمة المالية العالمية وانهيار قطاع المساكن في الولايات المتحدة إلى حدوث اكبر زيادة تحققها الولايات المتحدة في دينها العام بسبب برامج الإنقاذ الضخمة التي تبنتها الحكومة لاستعادة مستويات النشاط الاقتصادي والخروج من الأزمة، حتى بلغ 14.3 تريليون دولارا هذا الشهر كما سبقت الإشارة، ونتيجة لذلك اضطرت الولايات المتحدة إلى رفع سقف دينها العام عدة مرات لكي تتمكن من اقتراض المزيد من الدولارات اللازمة لاستيفاء احتياجات الإنفاق لاقتصاد ضخم مثل الولايات المتحدة، بما في ذلك خدمة الدين نفسه.
يتسم الدين العام الأمريكي أيضا اليوم بارتفاع نسبة مساهمة المستثمرين الأجانب فيه بصورة واضحة. ففي عام 2000 كان المكون الخارجي من الدين العام الأمريكي في حدود تريليون دولارا فقط تمتلك معظمه اليابان. أما اليوم فقد ارتفع هذا الرقم إلى حوالي 4.5 تريليون دولارا، الجانب الأكبر منه يعود إلى الصين، التي تعتبر اكبر حامل للسندات الأمريكية في العالم. وتشير الإحصاءات المتاحة إلى أن الصين تمتلك 1.2 تريليون دولارا من السندات الأمريكية تليها اليابان والتي تحمل حوالي 900 مليار دولارا من السندات الأمريكية، أما بالنسبة لما تمتلكه الدول النفطية فتنبغي الإشارة إلى أن إجمالي ما تحمله الدول المصدرة للنفط وهي 15 دولة، منها المملكة العربية السعودية بالطبع، لا يزيد عن 212 مليار دولارا فقط.
باختصار فإنه ومنذ بداية الألفية الثالثة والولايات المتحدة تعاني من اضطراب واضح في ماليتها العامة، حيث تواجه عجزا خطيرا، في الوقت الذي تتضاءل فيه الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع هذه المشكلة، والنتيجة الطبيعية لذلك هي فقدانها القدرة على السيطرة على معدلات نمو الدين العام. مؤسسات التصنيف الائتماني أصبحت أكثر قلقا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، حول احتمالات تعمق أزمة الدين الأمريكي، ربما لضعف قيادة الديمقراطيين للكونجرس وغياب الحديث اليوم عن حلول مناسبة لتصاعد حجم الدين، الأمر الذي دفع مؤسسة ستاندرد أند بور في ابريل الماضي إلى تخفيض تصنيفها الائتماني للدين الأمريكي من مستقر إلى سالب، وقد أشارت ستاندرد أند بور إلى أن السبب الأساسي في ذلك يعود إلى عدم وضوح الرؤية حول كيفية التعامل مع الاختلالات المالية في الميزانية الأمريكية.
من ناحية أخرى هددت مؤسسة موديز بأنها ربما تقوم بتخفيض تصنيفها للدين الأمريكي إذا لم يتم رفع سقف الدين بحلول منتصف يوليو القادم، أو إذا توقفت الولايات المتحدة عن خدمة ديونها ولم تقم باحتساب فوائد إضافية عن المبالغ التي لم يتم خدمتها. أكثر من ذلك فقد صدر الشهر الماضي تقرير مؤسسة CMA حول تصنيف الديون السيادية في العالم عن الربع الأول من هذا العام، والذي تراجع فيه تصنيف الدين الأمريكي من المركز الخامس بين أفضل الديون السيادية في العالم إلى المركز الثامن، غير أن الدين السيادي الأمريكي ظل بين قائمة أفضل عشر ديون سيادية في العالم وفقا لتقرير المؤسسة.
لا شك أن التصنيف الائتماني للدولة يعطي دلالة هامة حول احتمالات توقف الدولة عن خدمة ديونها أو احتمالات إعلانها الإفلاس، غير أن أداء مؤسسات التصنيف الائتماني في مرحلة ما قبل الأزمة المالية العالمية أصبح يلقى بشكوك كبيرة حول درجة مصداقية وقدرة هذه المؤسسات على تقديم تصنيف ائتماني سليم يمكن الركون إليه باطمئنان، وذلك لأن هذه المؤسسات ترتكز على متغيرات قد تكون خاطئة في إعداد تصنيفاتها، ووفقا للمراقبين، فإن ما تعلن عنه هذه المؤسسات حاليا قد لا يكون له قيمة أو مصداقية، بسبب فقدان هذه المؤسسات لمصداقيتها أصلا، وبشكل عام كان أداء مؤسسات التصنيف سيئا في التنبؤ بحالات التوقف عن السداد للديون السيادية.
رد الفعل الأمريكي لمثل هذه الاتجاهات في تصنيفات الدين العام الأمريكي جاءت أيضا بشكل لحظي، حيث حاول وزير الخزانة الأمريكي تيموثي جايثنر أكثر من مرة ان يطمئن المستثمرين الأجانب على سلامة دين الولايات المتحدة مشيرا إلى ان المستوى المنخفض لمعدل الفائدة الذي على أساسه تقوم الولايات المتحدة بالاقتراض ينبغي ان يبعث الاطمئنان في نفوس المستثمرين، ويمكن ان يقدم دليلا قاطعا على انخفاض احتمالات التوقف عن خدمة الدين الأمريكي. غير أن مؤسسات التصنيف الائتماني لا تهضم هذه الكلام بسهولة، وتريد أن ترى على ارض الواقع ما يؤيد مثل هذه الحجج التي ساقها وزير الخزانة الأمريكي، ولكن ما هو سقف الدين الذي تتحدث عنه مؤسسات التصنيف الائتماني ولماذا هو مهم إلى هذه الدرجة؟
ينص القانون الأمريكي على وضع سقف أعلى للدين الأمريكي، والذي بمقتضاه تستطيع الخزانة الأمريكية ان تصدر سندات دين في أي وقت والتي تتم في صورة مزادات لقبول عطاءات لقيم السندات ومعدل الفائدة التي يرغب المستثمرون في إقراض الحكومة الأمريكية على أساسه، ومتى ما تم تحديد سقف محدد للدين العام أصبح لزاما على الخزانة الأمريكية ألا تتجاوز هذا السقف بإصدار أي سندات إضافية إلا بعد أن تقدم الحكومة طلبا لتحريك هذا السقف إلى أعلى وإصدار الكونجرس تشريعا بذلك، ومنذ عام 1946 تم تعديل سقف الدين الأمريكي 100 مرة، وهو ما يعني من الناحية الفعلية أنه يمكن تحريك سقف الدين أكثر من مرة خلال السنة، وتتمثل الفكرة الأساسية من السقف في عدم ترك الدين الأمريكي هكذا بلا حدود وفقا لما يقرره الحزب الحاكم، ذلك أن الدستور الأمريكي ينص على أن متانة الدين الأمريكي لا يجب ان تكون موضع شك في أي وقت من الأوقات.
آخر مرة تم فيها تحريك سقف الدين إلى أعلى كانت في 12 فبراير 2010 حيث تم تحديد سقف الدين الأمريكي بـ 14.29 تريليون دولارا. في منتصف الشهر الماضي بلغ الدين الأمريكي هذا السقف، وبالتالي لم يعد من صلاحية الخزانة الأمريكية إصدار أي سندات دين إضافية، ولكي تتجاوز الخزانة هذا السقف أصبح لزاما على الإدارة الحالية أن تتقدم بطلب إلى الكونجرس لإصدار تشريع برفع هذا السقف. تقدمت الإدارة الأمريكية الحالية أكثر من مرة بطلب لرفع سقف الدين بدءا من يناير الماضي بحوالي 2.4 تريليون دولارا، وهو ما يعني أنه في حالة الموافقة على الرفع سوف يصبح السقف الجديد للدين الأمريكي 16.7 تريليون دولارا.
المشكلة هي أن الحزب الحاكم حاليا لا يسيطر على الكونجرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون، وعلى الرغم من أن الجمهوريين قد قاموا في عهد الرئيس بوش برفع سقف الدين العام سبع مرات، يرفض الجمهوريون حاليا رفع سقف الدين الأمريكي ما لم يكن ذلك مصحوبا ببرنامج محدد لخفض الإنفاق الحكومي للإدارة الحالية والسيطرة على النمو في الدين العام، ولكن ماذا يعني رفض الكونجرس رفع سقف الدين؟
الإجابة هي انه يعني ان الخزانة الأمريكية لن تكون قادرة من الآن فصاعدا على إصدار سندات خزانة جديدة لتتجاوز السقف الحالي، وبالتالي، على الأقل لن تتمكن الإدارة الأمريكية من الاستدانة لكي تخدم ديونها الحالية، أو ببساطة شديدة لقد تم وقف الأداة التي تمكن الحكومة الأمريكية من ان تقترض من الصين لكي تسدد مستحقات اليابان.
الوضع الحالي يضع الإدارة الأمريكية في حرج كبير بالنسبة لوضعها المالي، حيث قد تضطر إلى التوقف عن خدمة دينها العام، وهو إجراء خطير جدا. بالطبع يمكن للإدارة الأمريكية ان تلجأ إلى إجراءات محددة لإعادة ترتيب أولويات إنفاقها العام بحيث تتمكن من الوفاء بالتزاماتها نحو خدمة الدين، على سبيل المثال يمكن إلا تدفع أجور موظفيها أو تؤخر إصدار مدفوعات الضمان الاجتماعي أو مدفوعات الرفاهية الاجتماعية مثل مدفوعات المعاقين .. الخ، ولكن إلى متى يمكن أن تفعل الحكومة الأمريكية ذلك؟ وهل يمكن أن تجرؤ الحكومة على القيام بذلك أصلا؟ لقد أعلن جايثنر انه سوف يتخذ إجراءات إضافية للاستمرار في سداد الالتزامات حتى 2 أغسطس القادم، فإذا لم يقم الكونجرس برفع سقف الدين الأمريكي حتى ذلك التاريخ فإن الإدارة الأمريكية سوف تكون مضطرة إلى أن تتوقف عن خدمة دينها العام.
لم يحدث ان كان التوقف عن خدمة الدين الأمريكي احد خيارات الحكومة الأمريكية، على الرغم انه قد حدث في بعض المرات أن توقفت الحكومة عن خدمة الدين ولكن ذلك لم يكن بشكل متعمد، على سبيل المثال في عام 1979 توقفت الحكومة الأمريكية عن خدمة بعض سندات الخزانة، حيث لم يتم تسديد مستحقات المستثمرين في السندات التي تستحق في 26 ابريل 1979 وذلك بالنسبة للمستثمرين من الأفراد (وليس كافة المستثمرين)، وأعلنت الخزانة أنها لن تتمكن من سداد مستحقات المستثمرين في السندات التي تستحق في هذا التاريخ بصورة مؤقتة، واضطرت إلى دفع فوائد تأخير عن فترة توقفها عن السداد، ولكن الولايات المتحدة سددت التزاماتها بعد ذلك، ونتيجة لذلك ارتفعت معدلات الفائدة التي تقترض الولايات المتحدة على أساسها بمقدار ستين نقطة أساس (0.6%) واستمرت في الارتفاع بعد ذلك، وهو ما عني ارتفاعا في تكاليف الاقتراض للحكومة الأمريكية.
صحيح أن توقف الولايات المتحدة عن خدمة ديونها اليوم لن يؤدي إلى تلك التكاليف التي تحملتها في 1979، حيث كان معدل الفائدة 9-10%، مقارنة بالمعدلات المنخفضة جدا اليوم، ولكن من المؤكد أن مثل هذا القرار سوف تكون له آثارا كارثية، ويمكن القول بأنه إذا لم يتحرك سقف الدين فربما يكون العالم على أبواب أزمة مالية جديدة. فما هي احتمالات أن تلجأ الحكومة الأمريكية إلى التوقف عن خدمة ديونها، وما هي الآثار التي يمكن أن تنشأ عن ذلك؟ هذا هو موضوع المقال القادم بإذن الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق