في الحلقة السابقة من هذا المقال تناولنا فكرة تحول اليوان الصيني إلى عملة دولية كطريق ثالث أمام العالم بجانب الدولار واليورو. في حلقة اليوم نحاول أن نتناول الشروط الواجب توافرها لكي يحتل اليوان الصيني هذا المركز العالمي ويتحول إلى عملة دولية جنبا إلى جنب مع الدولار الأمريكي واليورو الأوروبي.
في البداية تجدر الإشارة إلى أن اندماج الاقتصاد الصيني في الاقتصاد العالمي قد أدى إلى إحداث إضافة مهمة للنمو على المستوى الدولي، حيث استفاد من ذلك عدد كبير من الدول من خلال قيامها بالتصدير إلى الصين، أو استيراد رأس المال الصيني منها إلى اقتصادها الوطني. غير أنه في ذات الوقت، أدت سياسات التصدير الصينية التي تستند إلى عملة ثابتة في القيمة إلى إحداث خلل تجاري هائل بين الصين والاقتصاديات الغربية، حيث أصبحت الصين تملك اكبر احتياطي نقدي في العالم، وأدى نجاح الصين في أن تكون قوة دفع في الهيكل الحالي للاقتصاد العالمي إلى إثارة التساؤل حول الدور الكامن الذي يمكن ان يلعبه اليوان الصيني كعملة دولية وكمخزن للقيمة وكوسيط للتبادل على المستوى العالمي.
غير أن اليوان الصيني مربوط حاليا بالدولار الأمريكي، وهو عملة غير قابلة للتحويل إلى أي عملة أخرى في السوق العالمي للنقد الأجنبي، فهل يمكن أن يحل اليوان محل الدولار أو يصبح عملة بديلة له؟ وهل يمانع الغرب في استخدام اليوان كعملة دولية، أو أن يتحول اليوان إلى عملة بديلة للدولار؟
من المؤكد أن الغرب سوف يرحب بتدويل اليوان، لان ذلك سوف يعني ضرورة تحول اليوان إلى عملة حرة تتبع نظام صرف حر، وهو ما يساعد في التخفيف من حجم الاختلالات التجارية الدولية للغرب مع الصين، من ناحية أخرى، من المؤكد أن عملية تدويل اليوان سوف تكون في صالح الصين بشكل عام، حيث سيترتب عليها زيادة جاذبية الأصول الصينية للمستثمرين في كافة أنحاء العالم، وتعمل على تعبئة رؤوس الأموال للاستثمار في الأصول الصينية.
من المعلوم أن سياسات إدارة الاقتصاد الكلي تقوم على فلسفة التدخل المباشر في عمليات الإنتاج والتوزيع وتخصيص الائتمان، والتوجيه المباشرة لعمليات التسعير للسلع والخدمات ومعدلات الفائدة ومعدل الصرف، على سبيل المثال تحصل الشركات في الصين على احتياجاتها التمويلية من خلال البنوك وذلك بمعدلات فائدة محددة من قبل الحكومة، حيث يتم إدارة السياسة النقدية من خلال التدخل المباشر والقيود الكمية المختلفة بما في ذلك القيود على حجم القروض الممنوحة للقطاعات المختلفة. كما يقوم معدل صرف اليوان الصيني حاليا على أساس ربط اليوان بالدولار، وكان البنك المركزي الصيني قد أعلن أنه سوف يقوم بتعديل نظام معدل صرف اليوان، وذلك بجعله أكثر مرونة، بهدف إصلاح نظام معدل الصرف لليوان، بما يوسع من نطاق تقلبات معدل الصرف مع الدولار، غير ان البنك قد أشار إلى أن هذا الإصلاح لسياسة معدل صرف اليوان سوف يتم على مراحل، وأن البنك سوف يضع حدودا قصوى على معدل الارتفاع اليومي لقيمة اليوان بحيث لا يتجاوز نطاق التذبذب نصف في المائة يوميا. غير أن التطبيق الفعلي للسياسة لم يترتب عليه تحرك معدل الصرف في هذه الحدود، وإنما تم تثبيت معدل الصرف في مقابل الدولار عند 6.8 يوان للدولار تقريبا. من وجهة نظر البنك المركزي الصيني، فإن الفترة الحالية لا تتطلب إجراء تعديلات جوهرية في معدل صرف اليوان، وأن البنك المركزي سوف يحتفظ بمعدل الصرف عند مستويات توازنية معقولة لكي تساعد على الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي ودعم جهود إعادة هيكلة الاقتصاد الصيني.
غير أن مثل هذه السياسات ليست هي السياسات المطلوبة لعملة دولية، فما هي الإجراءات التي يجب ان تتخذها الصين لكي يتحول اليوان إلى عملة دولية؟ لكي يتحول اليوان إلى عملة دولية فإن على الصين أن تقوم بالاتي:
أولا: أن أحد المكونات الأساسية لنجاح عملية تدويل اليوان سوف تعتمد بصورة كبيرة على إستراتيجية الصين فيما يتعلق بحساب رأس المال في ميزان المدفوعات الصيني، بحيث تكون تحركات رؤوس الأموال بكافة أشكالها بدون أي قيود تحد من حركتها من والى الصين وباليوان، وذلك لتمكين المستثمرين من كافة أنحاء العالم من تكوين محافظ مالية بأدوات الدين الصينية، وبمعدلات مناسبة للعائد، فضلا عن وجود نظام مصرفي متقدم يسمح لغير المقيمين بالاحتفاظ بالمودعات بكافة أشكالها باليوان كعملة مودعات في البنوك الصينية لغير المقيمين داخل الصين وكذلك خارج الصين.
ثانيا أن عملية تحرير حساب رأس المال تتطلب من الصين ان تتحرر أيضا من نظام معدل الصرف الثابت إلى نظام معدل الصرف الحر لليوان، وذلك من خلال توفير سوق حر للنقد الأجنبي يخضع لقوى العرض والطلب، وخال من أي تدخل حكومي جوهري يهدف إلى تثبيت قيمة اليوان، وإلغاء القيود على تحركات معدل صرف اليوان الصيني بما فيها الهوامش المعلنة حاليا للحد الأقصى للتقلب اليومي في معدل صرف اليوان بالنسبة للدولار، أو أي عملة أخرى. لكي يصبح اليوان عملة احتياط مثل الدولار فإن على الصين أن تتبنى سياسات للصرف الأجنبي تسهل استخدام اليوان الصيني عالميا، سواء لأغراض التبادل التجاري أو لأغراض الاستثمار، ولكن لماذا يجب أن يتم تحرير نظام معدل صرف اليوان في حالة تحرير حساب رأس المال؟
إن هذا الشرط هو أحد مخرجات الأزمة الأسيوية التي تعرضت لها دول جنوب شرق آسيا، فقد أثبتت الأزمة أن تحرير حساب رأس المال والاحتفاظ بنظام معدل صرف مثبت في ذات الوقت، يؤدي إلى سهولة التنبؤ بتغيرات معدل الصرف، وهو ما يعني أن المخاطر بالنسبة للمستثمرين الأجانب سوف تقل، الأمر الذي يشجع تدفقات رؤوس الأموال نحو الداخل، غير أنه مع حدوث أي تحول في الأوضاع الاقتصادية على المستوى الكلي، يصبح معدل الصرف الثابت مصدرا كامنا لزيادة عمليات المضاربة الضارة، وقد تناولنا هذه النقطة بالتحليل في معرض حديثنا عن الأزمة الآسيوية في مقالين سابقين.
من الناحية التجارية فان النظام التجاري الصيني يخضع لإجراءات صارمة فيما يتعلق باستخدام اليوان الصيني في تسوية المعاملات التجارية، ذلك أن الشركات المسموح لها بأن تسوي تعاملاتها باليوان لا بد وأن تحصل أولا على موافقة البنك المركزي الصيني على ذلك، وبمعنى آخر فإن كافة الشركات الصينية ليست مؤهلة لان تحصل على هذا الترخيص، فوفقا للنظام الحالي يسمح فقط للشركات التي تتمتع بوضع ائتماني جيد بالتعامل خارجيا باستخدام اليوان.
ثالثا: أن انتقال الصين إلى نظام معدل الصرف الحر لليوان سوف يساعدها على ان تتبنى سياسات نقدية مستقلة، ولا شك ان تحرير السياسات النقدية سوف يؤدي إلى تحرير معدلات الفائدة، بحيث تعكس ظروف الطلب والعرض على الأموال في سوق النقد والائتمان في الصين. من ناحية أخرى فان عملية تحرير معدل الفائدة سوف يترتب عليها ارتفاع مخاطر معدل الفائدة، وهو ما يقتضى أيضا ضرورة توفير تسهيلات للتحوط ضد مخاطر معدل الفائدة.
رابعا: أن الغاء القيود على تحركات رؤوس الأموال سوف يتطلب من الصين ضرورة التأكد من توفير سوق أدوات دين قصيرة الأجل يتسم بالعمق، وذلك لكي يتمكن البنك المركزي الصيني من القيام بعمليات فعالة للسوق المفتوح Open Market Operations بهدف مواجهة تدفقات رؤوس الأموال، وامتصاص اثر تلك التدفقات على عرض النقود في الصين، ولا يوجد حاليا سوق متسع لأدوات الدين الصينية، وحتى الآن يتم شراء هذه الأدوات فقط من خلال البنوك الصينية والأطراف الخارجية المسموح لها بذلك، مثل البنوك متعددة الأطراف كالبنك الآسيوي للتنمية ومؤسسة التمويل الدولية، كما أن هذه الأدوات تباع فقط في الصين. إن تحرير اليوان يحتاج إلى أسواق سندات أكثر تقدما بحيث تعطي فرص استثمارية أفضل لليوان، ذلك أن المستثمرين والبنوك المركزية لن يحتفظوا باليوان الصيني فقط، وإنما سيقومون باستثمار احتياطياتهم منه بشكل مباشر في الصين.
إن الحاجة إلى تطوير سوق عميق ومتسع لأدوات الدين الصيني قصيرة الأجل، هو أحد الشروط الأساسية لأسواق المال للعملات التي تستخدم كعملات احتياط على المستوى الدولي، فالدول صاحبة عملات الاحتياط لا بد وان تكون دولا مدينة أي ان تحتفظ بعجز في حسابها الجاري وتحقق فائضا في حساب راس المال حتى يمكن ان توفر أدوات استثمار قصيرة الأجل لهذه الاحتياطيات لدى البنوك المركزية في دول العالم الأخرى، ومما لا شك فيه أن مثل هذا الأمر سوف يتطلب تعديلات جوهرية في نموذج النمو الصيني وسياساتها التجارية التي ترتب عليها تحقيق الصين لفوائض تجارية ضخمة.
إن القيود المحتملة حول الأصول المقومة باليوان الصيني قد تكون في صالح استمرار درجة الأمان النسبي لاستمرار استخدام الدولار أو اليورو بدلا من اليوان بصفة خاصة القدرة على تحويل كميات كبيرة من اليوان من والى الصين عند الحاجة وبدون أي قيود تحد من حركة رؤوس الأموال هذه. لا بد وأن تبرز الصين للعالم مزايا استخدام اليوان كعملة دولية، وذلك إذا أرادت للعالم أن يستخدم هذه العملة على نحو متزايد، ولكي يتم استخدام اليوان بصورة حرة عالميا يحتاج المستثمر الأجنبي أن يثق في أسواق المال في الصين وأنها حرة من كافة أشكال التدخل الحكومي في عملية تخصيص الائتمان.
خامسا: أن العملة التي تستخدم على نطاق دولي تتطلب بنكا مركزيا مستقلا يضع مستهدفاته سواء النقدية أو الاقتصادية بصورة مستقلة، ويمارس كافة مهامه لتحقيق تلك المستهدفات بعيدا عن أي تأثيرات للسياسات الحكومية للدولة، وذلك لضمان الاستقرار اللازم لعملته التي يصدرها.
باختصار إذا كانت الصين جادة في جعل عملتها تتنافس مع الدولار الأمريكي واليورو كعملة احتياط وأداة تسوية للمعاملات التجارية الدولية، فان عليها أن تحول اليوان إلى عملة حرة قابلة للتحويل، بحيث يتم تحديد قيمتها من خلال قوى العرض والطلب على استخدام اليوان لأغراض التجارة والاستثمار والاحتياط من قبل المتعاملين من كافة دول العالم، وفتح الحدود أمام حرية تدفقات التجارة من والى الصين وإلغاء كافة القيود التجارية والسماح بحرية الوصول لأسواق الأسهم والسندات الصينية وان يتم تداول العملة بحرية بدون تدخل في سوق الصرف الأجنبي لليوان من قبل البنك المركزي الصيني.
غير أن مثل هذه التحولات تتطلب تغيرا جذريا في الفلسفة التي يتم بها إدارة الاقتصاد المحلي حاليا، وتعديل أسلوب صناعة السياسات الاقتصادية حيث أن السياسات الاقتصادية الكلية المتبعة حاليا لإدارة الاقتصاد سوف تكون غير فعالة أو غير كفئة في ظل هذه التحولات، وان على الصين ان تتبنى فلسفة اقتصادية مختلفة تماما وتحول في أساليب إدارة الاقتصاد على المستوى الكلي بآليات مختلفة تماما عن تلك التي يتم استخدامها حاليا. فما هي الإجراءات التي اتخذتها الصين بالفعل في هذا الجانب؟ هذا هو موضوع المقال القادم بإذن الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق