نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 10/12/2010.
شهد العقد الماضي تطورات هيكلية في صناعة لعبة كرة القدم، حيث ارتفعت أجور البث التليفزيوني المباشر، وأسعار تذاكر المباريات، وأسعار اللاعبين، ومبيعات الإعلانات التجارية، وغيرها من الإيرادات بصورة غير مسبوقة، وبمعدلات تفوق معدلات التضخم العالمي بمرات عدة. ذلك أن مسابقات كرة القدم التي كانت تبث فيما سبق بصورة مجانية، بما في ذلك كأس العالم، لم تعد اليوم كذلك، وهي متاحة في معظم الأحوال لمن يدفع.
فقد اقتحمت القنوات التجارية والقنوات الرياضية المتخصصة مجال الصناعة، وأصبحت مجال البث الأساسي للعبة إلى المستهلك النهائي في جميع أنحاء العالم، مستفيدة من التطور التقني في مجال الإرسال التليفزيوني عبر الأقمار الصناعية، ولكن هل دخول القنوات التجارية والقنوات الرياضية المتخصصة مجال الصناعة، بما يحمله ذلك من رفع تكلفة المشاهدة للمستهلكين قد أدى إلى تخفيض أعداد المشاهدين؟ واقع الحال يشير إلى أن أعداد المشاهدين وأذواقهم، قد شهدت تطورا حاسما نتيجة لهذه التحولات في الصناعة، وازدادت أعداد المشتركين في القنوات التجارية والمتخصصة، نظرا للتطور الكبير الذي شهدته عملية البث التي أصبحت تقدم خدمة أفضل، ومشاهدة حية بصورة أوسع نطاقا للمشاهد بين الدوريات المختلفة للعبة، وطوال اليوم.
البث العالمي المباشر للعبة أدى إلى إشعال المنافسة بين الدوريات المختلفة، وأصبحت الدوريات المتميزة مثل الدوري الإسباني تلاقي مشاهدين أكثر بمرور الوقت، وذلك مع حدوث تحول واضح في اهتمام عشاق اللعبة من النطاق المحلي إلى النطاق العالمي، وأصبحنا نسمع اليوم مشجعي كرة القدم يتحدثون عن أداء نواد مثل برشلونة وريال مدريد ومانشستر يونايتد أكثر مما يتحدثون عن النوادي المحلية في دولهم. ومع ارتفاع حدة المنافسة بين القنوات التجارية والقنوات الرياضية باتت الخدمة تقدم اليوم على نحو أفضل وعلى نطاق أوسع، وتحولت اللعبة نتيجة لذلك إلى صناعة عالمية، على سبيل المثال يقدر مانشستر يونايتد أعداد مشجعيه في أنحاء العالم كافة بنحو 500 مليون مشجع. هذا التطور في الصناعة ساعد القنوات التجارية على تخفيض تكلفة الاشتراك مستفيدة من اقتصاديات الحجم.
لقد صاحب تحول صناعة كرة القدم نحو القنوات التجارية والمتخصصة موجة انتقادات واسعة، نتيجة الحرمان المحتمل لقطاع عريض من الجمهور من حق المشاهدة المجانية للبث الرياضي، نتيجة لتحول الرياضة إلى خدمة خاصة بالقادرين على الدفع فقط. غير أن البث المجاني للمباريات يقوم في الواقع على أساس فرضية أن لعبة كرة القدم لا تحتاج إلى المال، وهي فرضية خاطئة، فالواقع يثبت أن المزيد من المال المتاح للنوادي الرياضية يمكنها من أن تضم أفضل العناصر في اللعبة، خصوصا بعد أن أصبح لاعبو كرة القدم اليوم عنصر إنتاج عالميا، ينتقل بشكل مستمر بين الدوريات المختلفة في أنحاء العالم كافة بحثا عن العائد الأعلى، بينما يتنقل رجال الصناعة بشكل مستمر بين الدوريات المختلفة في العالم بحثا عن العناصر الموهوبة.
من ناحية أخرى، فإن منتقدي هذه التطورات في الصناعة لا يدركون حقيقة أن قصر تقديم الخدمة على من يدفع فقط يساعد على تحسين جودة الخدمة بصورة جوهرية، وهو ما يساعد على جعل مستقبل النوادي الرياضية أكثر أمانا من الناحية المالية، حيث تحصل النوادي الآن على عروض مريحة جدا من الناحية المالية، كل حسب أهميته، ومع كبر حجم المشاهدين للبث العالمي المباشر، تتمكن النوادي الرياضية من التفاوض للحصول على مقابل أفضل لحقوق البث، يعتمد ذلك على أهمية الفريق، الأمر الذي يمكن النوادي من توفير ميزانية مناسبة لضم العناصر اللازمة من اللاعبين. على سبيل المثال، تقدر إيرادات بث مباريات ريال مدريد خلال سبع سنوات تنتهي في 2013/2014 مع محطة Mediapro الإسبانية 1.5 مليار دولار.
أغنى خمسة فرق في العالم هي مانشستر يونايتد الإنجليزي، وتبلغ ثروته 1.84 مليار دولار، وريال مدريد الإسباني وتبلغ ثروته 1.32 مليار دولار، وآرسنال الإنجليزي وتبلغ ثروته 1.18 مليار دولار، وبرشلونة الإسباني وتبلغ ثروته مليار دولار، وبايرن ميونخ الألماني وتبلغ ثروته 990 مليون دولار. النوادي الأغنى في العالم لديها ميزة نسبية، لكونها تمتلك علامة دولية، مقارنة بباقي الفرق، وتتمثل هذه الميزة في قدرتها على توليد الدخول داخل وخارج دولها، وذلك من خلال الكفالات المختلفة ومبيعاتها السلعية، فضلا عن جاذبيتها للبث. أكثر من ذلك، يتنافس اليوم مليارديرات العالم على أن تكون لهم حصة مؤثرة في ملكية النوادي المشهورة، بسبب العائد الاجتماعي الضخم والشهرة الكبيرة التي يحصل عليها هؤلاء من مثل هذه الملكية، وهو ما يؤمن للنوادي سندا ماليا إضافيا يمكن أن يساعدها في حال تراجعت أوضاعها المالية على نحو سيئ. ومن الواضح أنه أصبح ينظر لنوادي كرة القدم الآن على أنها شركات أعمال، أي لها أهداف شركات الأعمال نفسها، وهي توسيع قاعدة المستهلكين وتعظيم الأرباح، وتتم حاليا نمذجة هذه النوادي من خلال استخدام دوال المنفعة التقليدية التي تستخدم لشركات الأعمال التي تتأثر بمتغيرات مثل معدل الأرباح، ودرجة الأمان المالي، وعدد الحضور من المشاهدين للمباريات، ودرجة نجاح اللاعبين، ودرجة جودة الدوري الذي تلعب فيه.
بالطبع مع تطور اللعبة تطورت تشكيلة الإيرادات التي تحصل عليها النوادي، التي لم تعد مقصورة اليوم على ما يدفعه كفلاء النوادي وإيرادات حقوق البث والتذاكر. وإنما أصبح كل إنش في الساحة المنقولة مكانا كامنا لوضع إعلان تجاري فيه، وباتت ملابس اللاعبين مصدرا مهما جدا لدخول النادي، فضلا عن مبيعات مجموعة كبيرة من السلع الأخرى المكملة التي تحمل شعار النادي أو اسمه أو صور لاعبيه، وهلم جرا. الإيرادات تشمل أيضا اسم الشركة الذي سيوضع على ملابس اللاعبين والعلامات التجارية الأخرى، وهي بالنسبة للنوادي الكبيرة صفقة مهمة يتم التفاوض عليها لوقت طويل. كذلك، فإن علامة الشركة التي تصنع الملابس الرياضية تمثل مصدرا مهما للدخل، على سبيل المثال تحمل ملابس مانشستر يونايتد علامة Nike، التي تدفع للنادي 470 مليون دولار (على عقد مدته 13 عاما ينتهي في 2015)، فضلا عن 50 في المائة من أرباحها في مبيعات بعض السلع، وذلك في مقابل تصنيع ملابس النادي.
في مقابل هذه الزيادة في الإيرادات، أصبحت النوادي المشهورة تدفع للاعبي كرة القدم أجورا كبيرة ومبالغ خيالية نظير انتقالهم إليها، وفي بعض الأحيان تؤدي هذه المدفوعات إلى وقوع هذه النوادي في مصيدة الديون التي يمكن أن تقضي على مستقبل النادي، على سبيل المثال تبلغ ديون مانشستر يونايتد 839 مليون دولار، أي بنسبة 45 في المائة تقريبا من ثروة النادي، ويأمل النادي أن يحقق إيرادات كافية في السنوات القليلة المقبلة تمكنه من خدمة هذه الديون الضخمة.
من ناحية أخرى، تقوم استراتيجية نادي ريال مدريد الشهير على اقتناء أفضل اللاعبين في العالم بغض النظر عن التكلفة التي سيتحملها النادي في سبيل ذلك. ففي العام الماضي قام ريال مدريد بإنفاق 510 ملايين دولار على اللاعبين في صورة تعويضات لانتقال اللاعبين إليه والمرتبات، بما في ذلك دفع 222 مليون دولار لضم كريستيانو رونالدو وكاكا، وهي مدفوعات ضخمة، إلا أنها تعود على النادي بعوائد ضخمة أيضا. ففي العام الماضي حقق النادي أعلى دخل بين نوادي العالم بلغ 563 مليون دولار، والاستراتيجية على ما يبدو تسير على نحو جيد، حيث بلغ صافي أرباح النادي في العام الماضي 226 مليون دولار، وهو أعلى ربح حققه نادي كروي في العالم. في المقابل، نجد أن برشلونة يحقق نموا صاروخيا في صناعة كرة القدم سواء من حيث الترتيب العالمي، أو من حيث النمو في الإيرادات والثروة، حيث ارتفعت إيرادات البث لديه من 59 مليون دولار فقط، إلى 222 مليون دولار في العام الماضي.
ومما لا شك فيه أن معظم النوادي تواجه مشكلة تحقيق التوازن المناسب بين تكلفة اللاعبين والدخول التي تحققها تلك النوادي، وإن كانت معظم النوادي تنظر إلى لاعبيها على أنهم ثروة، على الرغم من التكلفة المرتفعة التي يتحملونها في سبيل الحصول عليهم، واستبقاء هذه الأصول الكروية، لأنه في وقت ما ستحين الفرصة المناسبة للتخلص من كل لاعب بالسعر المناسب.
المنافسة غير المتكافئة حاليا بين نوادي كرة القدم على المستوى العالمي، تؤدي في النهاية إلى خلق سوق من المنافسة الاحتكارية في اللعبة على المستوى الدولي، حيث تتمكن النوادي العملاقة من أن تضم أفضل العناصر، ومن ثم تحجز لنفسها مكانا بين أفضل عروض للبث، وبالطبع الإيرادات الأخرى على مستوى العالم. هذه المنافسة تؤدي بالطبع إلى نتيجة واحدة هي الارتفاع الصاروخي لأسعار اللاعبين على المستوى الدولي، الذي أربك الكثير من النوادي المحلية غير القادرة على استبقاء لاعبيها في مواجهة ماكينة العروض السخية التي تأتيهم على المستوى العالمي، وأصبح بقاء أي لاعب متميز في ناديه مسألة شبه مستحيلة، خصوصا إذا كانت مهاراته الكروية نادرة.
كثير من الناس ينظرون إلى هذه الأجور الخيالية التي تدفع للاعبي كرة القدم على أنها أمر غير عادل، ويتساءلون: ما الخدمة التي يقدمها هؤلاء لكي يحصلون على هذه الأجور الخيالية؟ بينما هم يكدون ويتعبون وبالكاد يحصلون على ما يكفي قوت عيشهم. هؤلاء لا يدركون مفهوم الندرة ودوره في حياتنا الإنسانية. فعلى الرغم من أن العالم يعيش فيه نحو سبعة مليارات شخص، فإن الموهوبين منهم في مجال اللعبة لا يتجاوزون مئات عدة، أي أن الأمر بهذا الشكل ينطوي على ندرة كبيرة جدا، ومن المعروف أن أي عنصر نادر يحصل على دخل ريعي كبير يعتمد على أهمية هذا العنصر للمستهلكين. مع تطور أهمية اللعبة في حياتنا على النحو الذي نشهده حاليا، فإن الندرة الكبيرة التي يتمتع بها الموهوبون في كرة القدم تبرر هذه الدخول الريعية الكبيرة التي يحصلون عليها، وذلك قياسا أيضا إلى الدخول التي يتسببون فيها لنواديهم، والمنفعة التي يحققونها للمشاهدين عبر مختلف دول العالم عندما يمارسون اللعب.
ربما تشكل حالة كريستيانو رونالدو مثالا واضحا في هذا المجال. فقد تم نقل رونالدو إلى نادي ريال مدريد بثمن تاريخي ومرتب ضخم، فهل السعر الذي دفع في رونالدو، وهل الدخل الشهري الضخم الذي يحصل عليه غير عادل؟ لكي نجيب عن هذا السؤال لا بد وأن نأخذ في الحسبان مستوى الندرة الذي تمثله موهبته التي يتمتع بها والعوائد الكامنة التي يمكن أن يتسبب فيها لناديه بموهبته النادرة، التي تتمثل في زيادة احتمالات الفوز، وزيادة شعبية النادي، ورفع مرتبة النادي عالميا.. إلخ.
عندما انتقل كريستيانو رونالدو إلى نادي ريال مدريد كتبت مقالا عن الموضوع، وسألت فيه هذا السؤال “ما الذي يدفع ناديا مثل ريال مدريد إلى دفع 131 مليون دولار ثمنا لضم لاعب واحد؟”، وما الميزانية التي يحتاج إليها أي ناد لكرة القدم من أجل الاستثمار في شراء اللاعبين، بصفة خاصة المشهورون منهم، وذلك إذا رغب في تكوين فريق تنافسي لكرة القدم. عندما قارنت بين السعر الذي دفعه مانشستر يونايتد لضم رونالدو وسعر البيع، توصلت إلى أن رونالدو كان الدجاجة التي تبيض ذهبا لمانشستر يونايتد. فقد حقق مانشستر يونايتد أرباحا مباشرة تعادل نحو 550 في المائة في عملية شراء وبيع رونالدو، وبمعنى آخر فإن سعر رونالدو كان يتزايد بنسبة 100 في المائة في المتوسط سنويا خلال الفترة التي قضاها مع مانشستر يونايتد، لا يوجد في عالم اليوم أصل يحقق هذا القدر الهائل من العوائد، ويبدو أنه الدافع نفسه الذي دفع ريال مدريد لضم اللاعب بهذا المقابل الأسطوري.
من المؤكد أن القيمة الحالية لتدفقات العوائد المستقبلية المباشرة وغير المباشرة لشراء لاعب ذي مهارات كروية نادرة مثل رونالدو، تفوق بشكل كبير القيمة الاسمية لمبلغ الـ131 مليون دولار الذي دفع فيه، وإلا لما أقدم ريال مدريد على عرض هذا الرقم الضخم لضم اللاعب. مباشرة بعد انتقال اللاعب جاءتنا الأخبار من مانشستر يونايتد بأن إدارة النادي تعتقد أن الثمن الذي دفع في رونالدو يعد زهيدا جدا، وأن ريال مدريد نال صفقة رابحة جدا نتيجة شراء رونالدو.
منذ أسبوعين أرسلت إلى شركةPearson Education لنشر كتاب Case/Fair/Oster في الاقتصاد لمراجعته، وقد لفتت نظري إحدى الحالات العملية في الكتاب بعنوان “هل دفع ريال مدريد سعرا مبالغا فيه في كريستيانو رونالدو؟”، وفي الحالة يجيب الكتاب عن السؤال إجابة قاطعة بأنه بالفعل، على الرغم من دفع ريال مدريد مبلغ 131 مليون دولار ثمنا لضم رونالدو، فضلا عن المرتب الهائل الذي يتقاضاه، الذي يمثل نحو 3.2 في المائة من دخل النادي سنويا، فإنه في صيف 2010 فقط، تم بيع 1.2 مليون تي شيرت بالرقم 9 الذي يحمل اسم رونالدو، وبسعر 85 يورو للتي شيرت الواحد، وهو ما يعني أنه في موسم واحد فقط أدخل تي شيرت رونالدو للنادي 102 مليون يورو، وهو ما يفوق التكلفة التي دفعها النادي في اللاعب، أي أنه في صيف 2010 تم استرداد أكثر من الثمن الذي دفع في رونالدو من إيرادات بيع تي شيرته، الأمر الذي يؤكد الخلاصة التي توصل إليها مسؤولو مانشستر يونايتد بأن ريال مدريد قد دفع ثمنا زهيدا جدا في رونالدو، وأن القيمة الحقيقية له أعلى من ذلك بكثير.
لسوء الحظ، فإن نوادي العالم لا تتمتع بالمركز المالي المريح الذي تتمتع به النوادي الغنية في العالم، حيث تنقسم نوادي كرة القدم إلى قسمين؛ نواد ذات وضع مالي مريح وتحقق أرباحا ضخمة، ونواد تواجه مشكلات مالية نظرا لعدم قدرتها على التنافس على اللاعبين المتميزين، وبما أن لعبة كرة القدم هي لعبة تنافسية فإن الفرق غير القادرة على المنافسة غالبا ما تهبط من الدوري الممتاز إلى الدوريات ذات الترتيب الأقل. هبوط أي ناد معناه حاليا تراجع إيرادات هذا النادي على نحو خطير، وأنه إذا لم يتمكن من العودة إلى الأضواء بسرعة كافية، فإنه لن يستطيع أن يستمر في تحمل أعباء التشكيلة الحالية لفريقه بعد أن ارتفعت أجور اللاعبين بصورة كبيرة على المستوى العالمي، للندرة الشديدة التي يتمتع بها هؤلاء مقارنة بالطلب عليهم، كما ذكرنا. ابتعاد النادي عن الأضواء لفترة كبيرة ستعني شيئين مؤكدين، أنه سيخسر العناصر الممتازة لديه لعدم قدرته على الحفاظ عليها في ظل تردي الإيرادات، والثاني هو احتمال إفلاس النادي وإغلاق أبوابه.
وبما أن لعبة كرة القدم تحتاج إلى عدد كبير من النوادي والفرق المشاركة، فإن السماح بانهيار أو إفلاس ناد بسبب المصاعب المالية التي يحققها لا يمثل فقط خسارة لهذا النادي، وإنما خسارة للدوري الذي يلعب فيه هذا النادي، فضلا عن أنه يهدد أيضا الفرق التي تعيش وضعا ماليا مريحا، لأن هذه النوادي في حاجة إلى فرق أخرى لتتنافس معها. إنه وضع شبيه بوضع الاقتصاد العالمي والتجارة العالمية، فدول العالم تنقسم أيضا إلى قسمين، دول تعيش في وضع مالي مريح، وتحقق فوائض كبيرة في موازين مدفوعاتها، ودول تحقق عجزا مستمرا في ميزان مدفوعاتها، ومن ثم ترى نفسها في النهاية مثقلة بالمديونية الخارجية. الدول التي تحقق فوائض لا يمكنها أن تستمر في هذا الوضع وتترك الدول الأخرى مثقلة بالمديونية، حيث إن ذلك سيؤدي في النهاية إلى تقييد قدرة الأخيرة على الاستيراد، أو امتصاص فوائض الإنتاج للدول المصدرة، ولذلك لابد أن تقوم دول الفائض من وقت إلى آخر بتقديم مساعدات مالية للدول الفقيرة، التي غالبا ما تكون مشروطة باستخدام تلك المساعدات للاستيراد منها. ما أقصده هو أن المستقبل قد يشهد أيضا نوعا من الاعتماد المتبادل بين نوادي كرة القدم في الدوريات المختلفة، وذلك بالشكل الذي يسمح بوجود عدد كاف من النوادي القادرة على مواجهة نفقاتها من أجل التأكد من إقامة مسابقات الدوري على نحو مناسب للنوادي والمستهلكين للخدمة في الوقت ذاته.
اليوم تأتينا آخر الأخبار السارة، بأن قطر قد فازت بحق تنظيم كأس العالم في 2022، وهو بلا شك إنجاز ضخم أهنئ قطر الشقيقة عليه، ولكن بالقدر الذي يمثله هذا الاختيار كإنجاز، فإنه يفرض تحديات ضخمة على قطر، ذلك أن التطورات السريعة التي تشهدها الصناعة في عالم اليوم تشير إلى أنه عام 2022 ستكون صناعة كرة القدم مختلفة تماما عن تلك التي نشهدها اليوم، وذلك في ظل الصعود الصاروخي للعبة على المستوى العالمي، مستفيدة من التقدم التقني في مجال الصناعة والصناعات الأخرى التي تساندها، وهو ما يعني أن طبيعة وحجم التحديات التي تواجه قطر، ليست كما يظن البعض، أمرا سهلا، فمما لا شك فيه أن التأكد من جودة عملية تنظيم وإخراج مثل هذه المسابقة على المستوى الذي ستحتله الصناعة في هذا الوقت عالميا ستكون مهمة صعبة للغاية.
بغض النظر عن الشعور بالحسد الذي قد يختلج بعض النفوس من النجاح القطري، بما في ذلك الرئيس أوباما نفسه، الذي وصف اختيار قطر التي هزمت المشروع الأمريكي بأنه قرار سيئ، ولا أدري ما هو السيئ في ذلك، فقد تمت العملية بالاقتراع المباشر أمام أنظار العالم أجمع، وأمام عيون مئات الملايين من البشر، أليست هذه هي الشفافية التي تنادي بها أمريكا. أعندما تأتي النتائج عكس ما تشتهيه الولايات المتحدة يصبح النظام سيئا! قطر الحديثة قد اتخذت خطوات عدة، جعلت من تلك الإمارة الصغيرة كيانا ضخما يتجاوز في حجمه كيانات كبيرة وتقليدية في المنطقة، وأصبح لقطر أفضل جهاز إعلامي، وأفضل قنوات رياضية، وأفضل مفاوض سياسي، حيث تقود قطر بعض المصالحات، وتتدخل في بعض الشؤون التي عجزت عنها كيانات كبيرة في المنطقة، وأفضل اقتصاد تنافسي في المنطقة، وأفضل دولة في مجال الشفافية وانخفاض مستوى الفساد.. أشياء كثيرة أصبحت الآن تحمل فيها قطر لقب الأفضل، وعندما تكون الأفضل لا شك أن عدد حاسديك سيزداد.
لا أستطيع أن أخفي إعجابي بالإمارة الصغيرة في الحجم، الكبيرة في الشأن، فلماذا يستصغر البعض الإمارة؟ دعونا ننتقل بأنظارنا عبر القارة إلى دولة أخرى ميكرو، بهرت العالم وهي سنغافورة، عندما تطالع التقارير الدولية ستجد سنغافورة، تلك الدولة الميكرو، تحتل الترتيب العالمي الأول في أشياء كثيرة جدا. في رحلتي الأخيرة إلى الولايات المتحدة دار نقاش بيني وبين أستاذ أمريكي من جامعة Delaware، الذي أدهشني عندما أخبرني أن الجامعة أرسلت 12 أستاذا إلى سنغافورة لتعلم كيفية تدريس الرياضيات في سنغافورة. أي أن الآية انقلبت، فبعد أن كانت سنغافورة ترسل طلبتها إلى الولايات المتحدة طلبا للعلم، اليوم الولايات المتحدة ترسل أساتذتها إلى سنغافورة للتعلم. الحجم إذن لم يكن يوما من الأيام عائقا أو حدا، وإلا فإن عالمنا العربي مليء بدول متسعة الأطراف، ولكنها لسوء الحظ بلا أي وزن سواء إقليميا أو عالميا.
البعض الآخر يعتقد أن استضافة قطر لتنظيم مسابقة كأس العالم هو إضاعة للمال الذي تملكه ولا تعرف كيف تنفقه، وهو حكم غير صحيح تماما، إذا كان الوضع كذلك لما تتنافس على تنظيم المسابقة كبار دول العالم، ولماذا يأسف رئيس أكبر دولة في العالم على خسارة بلده لتنظيم المسابقة أمام قطر. أتوقع أن يترتب على تنظيم المسابقة ضخ كمية هائلة من الأموال في البنى التحتية القطرية، ولحسن الحظ فإن الإمكانيات المالية لقطر مريحة جدا حاليا، وهو ما سينقل الإمارة نقلة أخرى في مجال التنمية، وليس في مجال الرياضة، لأن مثل هذه المشروعات الضخمة ستحمل الكثير من الروابط لمختلف قطاعات الاقتصاد القطري، وليس فقط مجرد استادات عدة لكرة القدم سيتم إنشاؤها.. إن الأمر سيستدعي تسهيلات لوجستية على أعلى مستوى في مجال النقل والفندقة والسياحة والرعاية الصحية.. إلخ، ومثل هذه المشروعات لن تنشأ لتنفض، بعد انتهاء المونديال.. إنها مشروعات تنشأ لتدوم، التي يمكن أن تبني عليها قطر لخلق ميزة تنافسية أخرى.
عندما عهد إلى كوريا الجنوبية واليابان بتنظيم المسابقة، كان العالم يتشكك في قدرة دولة مثل كوريا الجنوبية على الخروج بتنظيم جيد للمسابقة، فما الذي حدث بعد ذلك؟ لم يشهد العالم عرضا أسطوريا مثل ذلك الذي حدث في مسابقة كأس العالم التي نظمتها هاتان الدولتان. أنا متأكد أيضا أن الشقيقة قطر ـــــ بإذن الله ـــــ لن تعدم الوسائل لتوفير افتتاح أسطوري للمسابقة، وتوفير تسهيلات لوجستية على أعلى مستوى لضمان استمرار المنافسة ومناخها على نحو مبهر، كما أنني متأكد من أنها ستبهرنا بمنشآتها الرياضية الحديثة، وقدراتها اللوجستية والتنظيمية الفائقة، كل التوفيق للشقيقة قطر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق