نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 12/10/2010
سبق ان تناولت موضوع التيسير الكمي Quantitative Easing في مقال سابق، وذكرت أن التيسير الكمي هو عملية خلق النقود من فراغ، حيث سيقوم الاحتياطي الفدرالي بزيادة الأساس النقدي Monetary Base في الولايات المتحدة، واستخدامه لشراء السندات الحكومية من المؤسسات المالية، والتي يفترض أن تستخدم هذه الزيادة في الأساس النقدي في عمليات الإقراض وزيادة حجم الائتمان، وهو ما يؤدي إلى زيادة عملية خلق النقود بصورة مضاعفة، يعتمد ذلك على قيمة المضاعف النقدي Money Multiplier.
يوم الأربعاء الماضي 3 نوفمبر كشفت اللجنة الفدرالية للسوق المفتوح FOMC بالاحتياطي الفدرالي عن خطتها للتيسير الكمي2 التي ستنفذها حتى نهاية منتصف العام القادم، وذلك بتوسيع نطاق الاحتفاظ بالأوراق المالية في حساب النظام الفدرالي للسوق المفتوح SOMA، لتشجيع عملية استعادة النشاط الاقتصادي، من خلال شراء ما قيمته 600 مليار دولار من السندات، أو بالأحرى إصدار 600 مليار دولارا، لتضاف إلى الرصيد الحالي من الأساس النقدي الأمريكي، وهو ما يعني ضخ حوالي 75 مليار دولارا شهريا في المتوسط من النقود الجديدة. بالإضافة ذلك سوف يستمر الاحتياطي الفدرالي في عمليات إعادة استثمار حصيلة إيرادات السندات التي حل تاريخ استحقاقها، حيث يقدر أن تقوم لجنة السوق المفتوح بشراء ما قيمته 35 مليار دولار من السندات في صورة إعادة استثمار، وهو ما يعني شراء 110 مليار دولارا في المتوسط شهريا. بهذا الشكل يتوقع أن تبلغ مشتريات الاحتياطي الفدرالي من السندات في إطار الخطة ما بين 850 إلى 900 مليار دولارا.
من ناحية أخرى فقد قررت لجنة السوق المفتوح أن يتم تخصيص حوالي 85% من هذا المبلغ لشراء سندات تترواح تواريخ استحقاقها بين 2.5 – 10 سنوات، وذلك بهدف التأثير على معدلات الفائدة طويلة الأجل وخفضها إلى مستويات دنيا (وهو ما يعني خلق فقاعة في أسعار السندات طويلة الأجل) وذلك للتأثير على معدلات العائد على السندات طويلة الأجل، ومن ثم دفع المؤسسات المالية إلى تحويل استثماراتها نحو إقراض القطاع الخاص.
خلال هذه المدة سوف يقوم الاحتياطي الفدرالي بالمراجعة الدورية لهذه السياسات لضمان اتساق النتائج مع تحقيق مستهدفاته العامة. الأهداف المعلنة للاحتياطي الفدرالي هي تعظيم مستويات التوظف مع ضمان الحفاظ على استقرار الأسعار، أي توجيه أدوات السياسة النقدية لضمان تعظيم عملية خلق الوظائف والتأكد من استمرار استقرار الأسعار. بصفة خاصة سوف تراقب لجنة السوق المفتوح مدى انحراف المعدلات المحققة من التضخم مع معدلات التضخم المستهدف، لضمان استقرار التوقعات التضخمية في الاقتصاد الأمريكي.
الوضع الحالي للاقتصاد الأمريكي هو أنه ما زال يعاني من انخفاض سرعة استعادة النمو في الناتج، وبطء عملية خلق الوظائف التي تؤدي إلى استمرار معدلات البطالة عند مستويات مرتفعة من الناحية التاريخية، وهو ما يقيد الطلب الاستهلاكي، فعلى الرغم من تزايد الإنفاق الاستهلاكي الخاص إلا انه ما زال ينمو بمعدلات متواضعة نتيجة ارتفاع معدل البطالة وضعف معدلات نمو الدخل، كذلك فإن انخفاض قيمة المساكن، يؤثر سلبا على ثروة المستهلكين، وهو ما يقيد حجم الائتمان الاستهلاكي الذي يمكن ان يقدم لهم. من ناحية أخرى فإنه وعلى الرغم من تزايد الإنفاق الاستثماري الخاص، إلا انه ما زال ينمو بمعدلات اقل مما كان عليه الحال في بداية العام، كذلك فإن الإنفاق الاستثماري في القطاع غير السكني ما زال متواضعا، كما أن عمليات بناء المساكن الجديدة تسير بوتيرة ضعيفة جدا، أكثر من ذلك فإن معظم قياسات التضخم الحالية تدور حول معدلات تقل عن 2% (المستوى المستهدف من التضخم للاحتياطي الفدرالي)، هذه المستويات المتراجعة، من التضخم تعني ان الاقتصاد يعاني من طاقة إنتاجية فائضة، ومع ميل معدلات التضخم نحو الانخفاض ترتفع احتمالات أن يواجه الاقتصاد الأمريكي مخاطر الانكماش السعري، وتعد هذه الأوضاع غير مريحة على الإطلاق لصانع السياسة الاقتصادية، بصفة خاصة صانع السياسة النقدية. على سبيل المثال يشير بن برنانكي إلى ان التضخم المنخفض يمكن ان يوقع الاقتصاد الأمريكي في الخطر، خصوصا في ظل ضعف معدلات النمو، وعلى أسوأ الحالات يمكن ان يتحول التضخم المنخفض إلى انكماش سعري، الأمر الذي يحول الأزمة الحالية إلى ركود طويل الأجل.
كما سبق أن ذكرنا أنه عندما اشتعلت الأزمة قام الاحتياطي الفدرالي باستخدام التيسير الكمي بصورة مكثفة لدفع معدلات الفائدة إلى مستويات صفرية لتحفيز الاقتصاد، ونقل تأثير السياسة النقدية إلى القطاع الحقيقي من الاقتصاد من خلال القنوات التقليدية بصفة خاصة قناة معدل الفائدة، وقد تسببت عمليات شراء السندات من قبل الاحتياطي الفدرالي إلى زيادة ميزانيته بصورة حادة من 800 مليار إلى 2.3 تريليون. غير أن خطة التيسير الكمي1، لم تسفر عن تحقيق الزيادة المرغوبة في عمليات الإقراض من قبل المؤسسات المالية، بصفة خاصة استمرت البنوك إما في شراء السندات، أو الاحتفاظ باحتياطيات زائدة ضخمة، أو إيداع أموالها لدى الاحتياطي الفدرالي، ومن ثم لم يترتب على عمليات التيسير الكمي1 زيادة محسوسة في عرض الائتمان، أما لارتفاع درجة المخاطر المصاحبة لإقراض القطاع الخاص، أو لأن المقترضين الذين ترتفع درجة ملاءتهم المالية لا يقبلون على الاقتراض، في الوقت الذي ظلت فيه مؤسسات قطاع الأعمال صغيرة ومتوسطة الحجم، الغير قادرة على الوصول إلى سوق السندات، محرومة من تقديم الائتمان بالشروط المناسبة لاحتياجاتها. على الرغم من هذه النتائج، فإن الاحتياطي الفدرالي يعود ويطبق نفس السياسات مرة أخرى، على أمل أن تحقق النتائج المرجوة منها هذه المرة، وربما يثور تساؤل مستمر الآن وهو ماذا ينتظر العالم نتيجة تطبيق مثل هذه الخطة؟ هناك الكثير من الآثار المحتملة لتطبيق مثل هذه الخطة، سوف نحاول اختصارها في هذا المقال.
الأثر الأول المحتمل هو أنه ربما لا يترتب على تنفيذ هذه الخطة ارتفاع في معدلات النمو، أو ربما في حال تحقق ارتفاع معدلات النمو، أن هذا النمو ربما يكون مؤقتا. النتائج الأولية للإعلان عن خطة التيسير الكمي تبدو، على الأقل من الناحية النظرية، مشجعة للنمو، خصوصا مع ميل معدلات الفائدة طويلة الأجل نحو التراجع، وارتفاع أسعار الأصول، مثل هذه الأوضاع السهلة في سوق المال تساعد على تهيئة المناخ لارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، على سبيل المثال، فإن انخفاض معدلات الفائدة طويلة الأجل يقلل من معدلات الفائدة على الإقراض العقاري، حيث تصبح المساكن سهلة المنال، وهو ما يشجع الكثير من أصحاب المساكن على إعادة التمويل. من ناحية أخرى فإن انخفاض أسعار الفائدة على السندات سوف يشجع الاستثمار، كما أن ارتفاع أسعار الأسهم سوف يعكس ارتفاعا في مستويات الثروة، وهو ما يؤدي إلى زيادة الإنفاق، ومن ثم رفع مستويات الدخول والأرباح، وهو ما سيؤدي إلى دعم التوسع الاقتصادي.
غير أن هذا التحليل يبقى تحليلا نظريا، وليس شرطا أن يتحقق على أرض الواقع، ولذلك يميل بعض المحللين من المتشائمين إلى التأكيد على أن الولايات المتحدة ما زالت تعاني من ظاهرة مصيدة السيولة Liquidity Trap، ومن ثم ليس من الواضح ما إذا كانت أموال خطة التيسير الكمي سوف تؤدي إلى إحداث أي آثار ايجابية على مستويات الائتمان، أم ستدخل المصيدة دون أن تتحول إلى قروض ائتمانية للقطاع الخاص، ومن وجهة نظر هؤلاء فإنه حتى لو أدت الخطة إلى التأثير على هيكل أسعار الفائدة طويلة الأجل بالانخفاض، فليس هناك ما يدعو إلى التوصل إلى الخلاصة القائلة بأن البنوك سوف تقوم بالإقراض، أو ان الشركات سوف تقبل على الاقتراض، طالما ان التوقعات تشاؤمية وأن درجة الثقة في مستقبل الأوضاع الاقتصادية على المستوى الكلي ما زالت متدنية.
الأثر الثاني المحتمل هو أن يترتب على الخطة ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة، وفي وجهة نظري ربما يكون هناك قدر من المبالغة في التوقعات التضخمية التي يمكن ان تنشأ عن الخطة، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار ظروف الأزمة التي يعيشها الاقتصاد الأمريكي. لقد تم تنفيذ خطة التيسير الكمي1 بحجم يمثل ضعفين ونصف ضعف الخطة الحالية، ومع ذلك لم يرتفع معدل التضخم، بل على العكس، إن التخوف الحالي ليس من تضخم الأسعار، وإنما بصورة اكبر من انكماش الأسعار، وعلى أسوأ الفروض لو حدث التضخم، فإن التعامل مع التضخم ليس بتلك المهمة المستحيلة، كل ما سيحتاجه الاحتياطي الفدرالي هو إتباع سياسات نقدية تقييدية، مع تحمل بعض الآثار المعاكسة على النمو. المهم الآن هو الخروج من الأزمة والعودة بمعدلات النمو إلى مستوياتها الطبيعية، والناتج إلى مستوياته في الأجل الطويل. إذا كان الوضع كذلك فلماذا هذه الحساسية المفرطة للخطة الحالية وردة فعل الأسواق الشديدة لها مقارنة بالخطة السابقة؟.
الواقع ان الخطر الحقيقي لخطة التيسير الكمي الحالية ليس على معدلات التضخم في الولايات المتحدة، بقدر ما هو على معدلات التضخم العالمي. حيث من المتوقع ان تأخذ أسعار السلع التجارية الدولية في الارتفاع، مثلما حدث بالنسبة لأسعار النفط. ارتفاع أسعار السلع التجارية يعرض معظم دول العالم لصدمة تضخم مستورد، الأمر الذي سيرفع من درجة عدم التأكد ومن ثم يؤثر سلبا على الأفاق المستقبلية للنمو في العالم. من ناحية أخرى فإن بعض المحللين ينظر إلى سيناريو التضخم الركودي Stagflationعلى أنه السيناريو الأكثر احتمالا، وذلك استنادا إلى انه إذا كان التيسير الكمي سيفشل في دفع النمو الذاتي للاقتصاد الأمريكي، فإن تزايد الأجور في البلاد الناشئة التي تستورد منها الولايات المتحدة احتياجاتها سوف يرفع من معدلات التضخم المستورد، أي أن الولايات المتحدة ربما لا تستطيع ان تواجه التضخم من خلال الواردات الرخيصة، خصوصا وأنه مع تراجع قيمة الدولار سوف تميل أسعار السلع التجارية في العالم نحو التزايد، كما سبقت الإشارة إلى الارتفاع، لتضيف المزيد من الوقود على نار التضخم المتوقع.
الأثر الثالث هو ان المشكلة الأساسية في الخطة الحالية هي أنه من المتوقع ان يترتب عليها تغير واضح في الأوضاع النسبية للعملات العالمية بالنسبة للدولار، وهو ما ينعكس على القدرات التنافسية لعدد كبير من الدول بما فيهم الصين، حيث ستؤدي خطة التيسير الكمي إلى تزايد الضغوط على اليوان نحو الارتفاع، وهو الأمر التي حاولت الصين جاهدة طوال السنوات السابقة أن تتجنبه، وذلك من خلال التدخل المكثف في سوق الصرف الأجنبي للحفاظ على اليوان اقل من قيمته الحقيقية. من خلال خطة التيسير الكمي تجبر الولايات المتحدة الصين على أن ترفع قيمة اليوان في مواجهة الدولار الضعيف، ومن ثم فإن ما كانت تطالب به الولايات المتحدة عن طريق التفاوض، أصبحت تحصل عليه الآن من خلال وضع الصين أمام الأمر الواقع. مثل هذه الأوضاع يمكن ان تجر دول العالم إلى محاولة الدفاع عن مصالحها من خلال ردود فعل وقائية، أو انتقامية، تشكل الأرضية اللازمة لانطلاق حرب للعملات على نطاق واسع، وهي مسألة أعتقد أنها ستكون احد المحاور الأساسية في الاجتماع القادم لمجموعة العشرين.
الأثر الرابع هو استمرار تراجع قيمة الدولار بصورة حادة في أسواق الصرف الأجنبي، وهو ما يضع الدول التي تربط عملاتها بالدولار مثل دول الخليج، والكثير من الدول النامية في العالم في خطر، حيث تصبح تلك الدول مجبرة الآن على أن تستورد السياسة النقدية للاحتياطي الفدرالي الذي يتبع سياسات فضفاضة، والتي ربما تكون سياسات مناسبة لأوضاع الاقتصاد الأمريكي، ولكنها بالتأكيد تعد غير مناسبة لتلك الاقتصادات، بصفة خاصة بالنسبة للاقتصاديات الناشئة والتي تعد أسرع دول العالم نموا، ومن المؤكد أن مثل هذه السياسات سوف يترتب عليها آثارا معاكسة على النمو، نتيجة ارتفاع أسعار الأصول. لا شك أن معظم هذه الدول ربما تحتاج إلى إعادة النظر في ربط عملاتها بالدولار لتفادى الآثار السلبية للسياسة النقدية الفضفاضة للاحتياطي الفدرالي، ولكن المشكلة الأساسية تتمثل في أن الخيارات أمام هذه الدول تعد محدودة للغاية في ظل نظام نقدي عالمي وحيد العملة تقريبا، وحتي يتغير هذا الوضع سوف تستمر الولايات المتحدة تصدر التضخم لهذه الدول من خلال سياساتها النقدية الفضفاضة.
الأثر الخامس هو على الدول التي تحتفظ باحتياطيات ضخمة من الدولار، والتي تشعر الآن أنها في ورطة كبيرة، مثل الدول الناشئة، بصفة خاصة الصين، والتي تجد نفسها في موقف لا تحسد عليه. من وجهة نظر الصين فإن خطة التيسير الكمي سوف تؤدي إلى تحقيق أضرار أكثر من المنافع المتوقعة لها، والحقيقة عندما نحلل الآثار المحتملة للتيسير الكمي على الصين سوف نجد أن مخاوف الصين مبررة إلى حد كبير، فاحتياطياتها الضخمة من الدولار تتراجع في القيمة، بينما تجد أن الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع هذه الموقف محدودة جدا، حيث لا تستطيع للأسف ان تفعل شيئا في الأجل القصير، لأن أي تحرك على نطاق واسع من جانب الصين للتخلص من احتياطياتها الدولارية يمكن ان يترتب عليه انخفاض كبير في قيمة الدولار تدفع ثمنه الصين وليس الولايات المتحدة.
الموقف الصيني إذن في غاية الدقة، إذا علمنا أنه على الرغم من احتفاظ البنك المركزي الصيني بـ 2.5 تريليون دولارا من الاحتياطيات إلا أنه يفتقر إلى أدوات متطورة لتعقيم آثار مثل هذه الاحتياطيات والحد من الآثار التضخمية التي يمكن ان تنتج عنها. بعض المستشارين ينصح الحكومة الصينية بتحويل هذه الاحتياطيات إلى ذهب أو نفط، أو أصول أخرى وهي نصيحة في منتهى الغباء، إذ أن مجرد الإعلان رسميا عن تقييم مثل هذه المبادرات، سوف يرفع أسعار الذهب إلى عنان السماء، ويجعل القيمة الحقيقية لتلك الاحتياطيات تحت رحمة التطورات في أسعار تلك السلع. خلاصة القول أن الخيارات المتاحة للصين للتعامل مع احتياطياتها الضخمة تعد محدودة جدا للأسف، وليس أمامها من سبيل، على الأقل في الأجلين القصير والمتوسط، سوى الاستمرار في الاحتفاظ بتلك الاحتياطيات في صورة دولاريه، وتحمل أعباء السياسات النقدية الفضفاضة للولايات المتحدة.
الأثر السادس، وهو في وجهة نظري، أسوأ نتائج التيسير الكمي، سوف يكون على الدول الفقيرة، حيث تمثل السلع الأولية مثل الغذاء، عماد الرقم القياسي للأسعار في تلك الدول، وبالتالي من المتوقع أن تواجه تلك الدول فاتورة غذاء ضخمة في موازين مدفوعاتها، فضلا عن تزايد الضغوط التضخمية، مع تراجع قيمة الدولار. الارتفاع المحتمل لأسعار الحبوب الغذائية، سيعيد أزمة الغذاء العالمية إلى الواجهة مرة أخرى، بعد ان كانت قد خبتت جذوتها في أعقاب الأزمة المالية، وما يصاحبها من ارتفاع احتمالات الإصابة بأمراض سوء التغذية وارتفاع معدلات الوفيات.
تتصاعد المطالبات اليوم بإيجاد آلية من خلالها يتوصل العالم إلى تقييد قدرة الولايات المتحدة على التوسع في عمليات الإصدار الجديد من الدولار، وهي في وجهة نظري مهمة شبه مستحيلة في الوقت الحالي، وذلك في ضوء عدم توافر عملة عالمية أخرى بديلة للدولار، أو يمكن ان تستعمل بجانب الدولار على نحو ملموس، في ظل هذا الوضع لن يمكن إجبار الولايات المتحدة على مراعاة اعتبارات الاستقرار النقدي الدولي عن طريق تبني سياسات نقدية تأخذ في الاعتبار، ليس فقط مصلحتها الداخلية، وإنما أيضا اعتبارات الاستقرار المالي عالميا. لا شك أن العالم يعيش بالفعل موقفا حرجا للغاية، ويعيد إلى الأذهان الأوقات العصيبة التي عاشها في أوقات الأزمات التي تعرض لها الدولار مسبقا.
الأثر السابع هو أن هناك مخاوف حقيقية بأن تلجا بعض دول العالم، بصفة خاصة الدول الناشئة، في محاولة منها للدفاع عن أسواق الأصول بها، إلى وضع قيود على تدفقات رؤوس الأموال لتفادي التدفقات الضارة لرؤوس الأموال الساخنة، بصفة خاصة الدولارية، على أسواق المال بها، حيث يمكن أن يتسبب ذلك في فقاعة أصول في هذه الدول، ولا شك ان تقييد تدفقات رؤوس الأموال عبر العالم سوف يؤثر سلبا على معدلات النمو الكامن.
باختصار شديد، العالم كله، غنيه وفقيره، يقع الآن في مرمى النيران التي أطلقها الاحتياطي الفدرالي إطار خطته للتيسير الكمي2 في الأسبوع الماضي.
والآن مع تصاعد كل هذا القلق والهجوم العالمي على الدولار، هل يواجه الدولار آثارا ارتدادية على وضعه العالمي كعملة التداول والاحتياط الأولى في العالم، الإجابة هي للأسف لا!. فليس هناك أي بديل جاهز حاليا لكي يحل محل الدولار، والدعوات التي تطلق من وقت لآخر بأن يتم إنشاء نظام عالمي متعدد العملات، هي مجرد صيحات بلا صدى على ارض الواقع، حيث يؤكد هذا الواقع أنه لا يوجد حاليا أمام العالم من خيار، للأسف الشديد، سوى الدولار الأمريكي، وأنه على العالم أن يتحمل تكلفة مثل هذا الوضع، حتى يتغير، شاء أم أبى.
ولكن إلى متى سيستمر الاحتياطي الفدرالي في إتباع هذه السياسات النقدية الفضفاضة؟ الذي يبدو لي هو أنه من الواضح أن إدارة الرئيس أوباما عازمة على الخروج من الأزمة بأي ثمن، إذ لا بد للإدارة الأمريكية الحالية أن تعيد تهيئة الأرضية بصورة مناسبة قبل انتخابات التجديد للرئيس، والذي أصبحت حظوظه حاليا في إعادة انتخابه محدودة بعد الهزيمة القاسية التي تعرض لها حزبه في انتخابات التجديد النصفي التي جرت منذ أيام، وحيث ستكون مهمة الفريق الاقتصادي للرئيس أصعب في ظل التركيبة الحالية للكونجرس ومجلس الشيوخ، فمن المؤكد أن نواب الحزب الجمهوري، الذين أصبح لديهم أغلبية الآن، سوف يقاومون بشدة أي محاولات من قبل الحزب الديمقراطي لتعديل الأوضاع الاقتصادية الداخلية، وذلك لتعزيز فرص فوز حزبهم بالرئاسة في الانتخابات القادمة. ولذلك لن استغرب ان نقرأ عن خطط تيسير كمي3 و 4 وهكذا، حتى تستعيد قوى النمو عزمها الذاتي، ويبدأ الاقتصاد الحقيقي في النمو بعيدا عن قوى التحفيز، وتنخفض معدلات البطالة ربما إلى 7% أو اقل قليلا، حتى تتكون لدى الرئيس أوباما مجموعة من المؤشرات الايجابية على المستوى الكلي ليتمكن من أن يخوض بها الانتخابات القادمة، وبعدها من المؤكد ان سياسات التحفيز سوف تتراجع، عندها سوف تواجه الأسواق أزمة من نوع آخر، حيث ستنخفض أسعار الأصول، بصفة خاصة الأسهم، وكذلك سيواجه المضاربون في الذهب أخشى ما يخشون.
بقي أن أشير إلى ان خطة التيسير الكمي لا تعني أن الاحتياطي الفدرالي سوف يدير ماكينات طبع الدولار ليل نهار لطباعة المليارات اللازمة من الدولارات لتنفيذ الخطة، هذا الاعتقاد غير صحيح، بالعكس ربما لا يطبع الاحتياطي الفدرالي دولارا واحدا في إطار عملية التيسير الكمي، ذلك أن الدولارات الجديدة التي ستتم إضافتها إلى الأساس النقدي في الولايات المتحدة سوف يتم إضافتها الكترونيا، أي على هيئة قيود في جانب الالتزامات في ميزانية الاحتياطي الفدرالي، ثم تحول هذه الالتزامات إلى حسابات للمؤسسات المالية لدى الاحتياطي الفدرالي في صورة احتياطيات عند قيامه بشراء السندات منها، ليقوم بعد ذلك بتعلية جانب الأصول لديه بقيمة هذه السندات، بمعنى آخر ليس هناك طباعة فعلية للمزيد من الدولارات، ولكن هذا لا يعني أن ذلك لن يحدث نفس الأثر على عرض النقود، بالعكس مع تزايد عمليات الائتمان سوف يتسع عرض النقود ومعها الضغوط التضخمية.
وأخيرا، وبغض النظر عن الصورة التشاؤمية التي وردت في هذا المقال، فإن الأمة الإسلامية تستعد لاستقبال عيد الأضحى المبارك بعد أيام، وبهذه المناسبة أتوجه إلى جميع القراء بأطيب التهاني والأماني بعيد سعيد، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يعيده عليكم بالخير واليمن والبركات، كل عام وانتم بخير.
شكرا دكتور محمد
ردحذفالله، يخليك لينا، ونستفيد من علمك.
سؤال :
في مقال سابق شرحت تأثير العرض والطلب في اسواق صرف العملات . وإذا ما تم ربط ذلك الموضوع مع هذا الموضوع، افهم ما يلي.
إذا زاد المعروض من الدولارات امام اليورو، فأن الدولار سينخفض وسيرتفع اليورو.
وإذا قام الاحتياطي الفيدرالي بإضافة مليارات الدولارات، فأن قيمة الدولار ستنخفض امام باقي العملات.
لكن السئوال: كيف تنخفض أسعار العملات المرتبطة بالدولار (مثل دول الخليج) امام باقي العملات.
صحيح ان الكميات المعروضة من الدولارات تغيرات امام اليورو، لكن كميات عملات الخليج لم تتغير امام اليورو.
فهل يتوجب على دول الخليج طبع نقود بنفس نسبة زيادة طباعة الفيدرالي الاميركي للدولارات، ليكون المعروض من النقود متناسب امام العملات الأخرى؟؟
او ما هي الاجراءات من المفترض ان تتبعها دول الخليج للحفاظ على الارتباط الثابت مع الدولار.
شكرا استاذ عباس
ردحذفعندما يقوم الاحتياطي الفدرالي بطباعة مزيد من الدولارات فإن قيمة لدولار بالنسبة للعملات الأخرى تنخفض، عملات الدول الخليجية تظل كما هي بالنسبة للدولار، ولكنها عندما تحول الى العملات الأخرى غير الدولار فإنها تنخفض نظرا لانخفاض قيمة الدولار بالنسبة لهذه العملات. على سبيل المثال اذا فرضنا ان معدل صرف الريال للدولار هو 3.7 ريالا للدولار، وان معدل صرف الدولار بالنسبة للاسترليني هو 1.6، معنى ذلك ان معدل صرف الريال بالنسبة للاسترليني هو 6 ريالات تقريبا. عندما ينخفض الدولار بنسبة 10% بالنسبة للاسترليني، فإن معدل صرف الريال بالنسبة للدولار يظل كما هو 3.7 ريالا، بينما يرتفع الاسترليني بالنسبة للريال الى 6.6 لكل استرليني.
بالطبع لا يتوجب على الدول الخليجية ان تفعل شيء في عرض النقود لديها، لأن ذلك سوف يؤدي الى رفع مستويات الاسعار (تضخم)، بينما يظل معدل صرف الدولار بالعملة المحلية ثابتا.
الارتباط الثابت مع الدولار سيظل في النهاية قرار اداري يتحدد بمقتضاه المعدل المركزي للدولار بالنسبة للعملة المحلية وحدود التذبذب العليا أو الدنيا للدولار.
تحياتي.