نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 5/11/2010.
ستار بكس، كوستا، كوفي ريبابلك، كاريبو كوفي، كولومبوس، وغيرها من العلامات، أصبحت علامات تجارية تنتشر بسرعة هائلة في كل بقاع العالم، حيث أصبح الاستثمار في مجال محلات تقديم مشروب القهوة الـ "كوفي شوبس" أحد الصناعات العالمية الكبرى التي تقوم بها شركات جديدة عابرة للجنسيات، على شكل سلسلة محلات تنتشر في العالم من شرقه إلى غربة، ومن شماله إلى جنوبه، لدرجة أننا أصبحنا نرى هذه المحلات كل 500 متر تقريبا، وحيث تبدلت استراتيجيات تحديد الموقع من جانب الشركات العاملة في هذه الصناعة بصورة ثورية، وأصبح من الطبيعي الآن ان نجد فروعا للسلاسل المشهورة مثل ستار بكس في كافة المجمعات التجارية والمحلات الكبرى والفنادق والمستشفيات وفي الكليات الجامعية، بل وفي كافة الأماكن المغلقة أو المفتوحة على السواء.
منذ عشرين عاما تقريبا لم نكن نسمع عن، أو ربما نرى، محل اسمه كوفي شوب، وقد كان عشاق مشروب القهوة يقتصرون في تناول المشروب على الأشكال الكلاسيكية له، لم نكن نسمع عن، أو نرى مشروبا للقهوة يحمل علامة تجارية، أو مسجلا، باسم شركة متخصصة في هذه الصناعة. اليوم تطورت صناعة مشروب القهوة بصورة جذرية، وأصبح لها تكنولوجيا خاصة، ومراكز بحوث وتطوير، ومختصين في تطوير هذا المشروب، واستراتيجيات تسويقية خاصة، بحيث يتم تقديم المزيج المناسب من المنتج في المكان المناسب والظروف المناسبة، لضمان اكبر قدر من المتعة للمستهلك، وبالطبع اكبر إيراد للشركات المنتجة.
بفضل الابتكار السريع في مجال صناعة مشروب القهوة أصبحنا نشرب مشروب القهوة بثوب جديد لمشروبات مثل اللاتيه، والموكا، والاسبرسو، والقهوة المثلجة، والقهوة بالكريمة، والقهوة مع رشة من شراب البرتقال المركز أو أي شراب آخر.. الخ، وكل منها تحت علامة مسجلة. ومع الانتشار السريع لعادة شرب القهوة في ثوبها الجديد، أصبح مشروب القهوة احد لوازم الحياة اليومية لمئات الملايين من المستهلكين في العالم حاليا، على سبيل المثال تشير دراسة عن نمو مبيعات مشروب القهوة في الولايات المتحدة إلى انه خلال هذا العقد ارتفعت مبيعات مشروب القهوة بخمسة أضعاف ما بين عامي 2000 – 2010، أو بمعدل نمو متوسط 50% سنويا، كما يقدر إنفاق المستهلكين الحالي على المشروب بحوالي 20 مليار دولار سنويا داخل الولايات المتحدة فقط.
أرباب الصناعة يدركون هذا النمو الهائل في الاستهلاك والإقبال المتزايد يوما بعد الآخر على المنتج، ولذلك يحرصون على البناء على هذه الأرضية القوية للانطلاق بالصناعة بصورة أكبر نحو آفاق أوسع. على سبيل المثال تخطط كوستا كوفي أن يكون هناك فرع كوستا في كل ركن، وعندما كانت ستار بكس تفكر في التحول إلى صناعة عالمية أشار هاوارد شولتز المدير التنفيذي للشركة إلى أنه سوف يجعل من علامة ستار بكس علامة عالمية مثل الكوكا كولا، في إشارة إلى النية نحو نشر استهلاك المنتج على نطاق واسع، وفي عام 2001 حققت العلامة المركز الأول بين أسرع العلامات نموا في العالم، واليوم نرى أن هذا الحلم قد تحقق بالفعل. ولكن ما هي العوامل الاقتصادية التي تقف وراء هذا الانتشار الواسع للصناعة العالمية لمشروب القهوة؟ هناك أسباب عديدة تقف وراء نمو صناعة مشروب القهوة في العالم بالشكل الحالي يمكن تلخيصها في الآتي:
السبب الأول: هو التحول الجوهري في تفضيلات وأذواق المستهلكين، حيث استطاعت إمبراطورية صناعة مشروب القهوة العصري أن تخلق لدى السكان في جميع أنحاء العالم الحاجة إلى تناول القهوة بصورة مختلفة، وفي مناخ مختلف، وبمزيج مختلف، وهو ما أدى إلى انتشار الصناعة على النحو الذي نراه حاليا. بالطبع كان نمو انتشار "الكوفي شوبس" على حساب نمو المقاهي الكلاسيكية في الشرق، أو حانات تناول مشروب البيرة في الغرب، وبدلا من الذهاب إلى تلك المقاهي، أصبح الذهاب إلى الكوفي شوب هو السلوك المفضل للمستهلكين في معظم أنحاء العالم، انه نمط جديد للسلوك. بالطبع لم يكن هذا التحول في السلوك أمرا تلقائيا، وإنما كان نتيجة خطط وحملات إعلانية وترويجية تكلفت مليارات الدولارات بحيث تربطنا بالمشروب وبالعلامة وبشكل أساسي بخلق الحاجة إلى تناول القهوة كمشروب. وأصبح مستهلكي القهوة يصطفون بصورة أساسية أمام سلاسل تلك المحلات بعينها وليس غيرها، نظرا للاحتراف في ابتكار مشروب القهوة الذي حققته تلك الشركات على نحو غير تقليدي بالمذاق والكيفية العصرية التي تجعل المشروب لا يقاوم وبالشكل الذي يبرر للمستهلك التكلفة المرتفعة التي يدفعها حاليا للحصول على المشروب.
السبب الثاني: هو نمو متوسط الدخول للأفراد في معظم دول العالم على نحو واضح أدى إلى زيادة الطلب على المنتج الجديد، ومن الناحية الاقتصادية، تنقسم السلع من حيث علاقتها بالدخل بشكل عام إلى مجموعتين، المجموعة الأولى يطلق عليها السلع العادية Normal good، أي السلع التي يزيد الطلب عليها مع تزايد الدخل، والمجموعة الثانية ويطلق عليها السلع الرديئة Inferior good، أي السلع التي يقل الطلب عليها مع تزايد الدخل. بظهور شركات صنع مشروب القهوة العابرة للقارات تحول المنتج الجديد لمشروب القهوة إلى قائمة السلع العادية، ومع نمو متوسط الدخول على مستوى العالم أصبح في مقدور مئات الملايين من سكانه دفع ثمن المشروب ذو العلامة التجارية المشهورة، في الوقت الذي هجر السكان فيه مشروب القهوة التقليدي مثل "فنجان القهوة التركي" نظرا لتحوله إلى سلعة رديئة.
السبب الثالث: أن مشروب القهوة ليس من قائمة السلع التي تتأثر بالظروف والأحوال الاقتصادية السيئة باعتباره سلعة استهلاكية ضرورية، وبمعنى آخر لا يدخل ضمن طائفة السلع التي تتأثر بالتقلبات الاقتصادية، ومن ثم فإن الكساد الحالي، على سبيل المثال، لم يؤثر على نمو الصناعة، مثلما هو الحال بالنسبة للصناعات الأخرى الحساسة للتقلبات الاقتصادية، هذه الخاصية للمنتج تضمن لمثل هذه الصناعة الاستمرار في النمو حتى في ظل ظروف الكساد، فبينما يقوم المستهلكون في كافة أنحاء العالم بتخفيض استهلاكهم من مجموعات السلع الحساسة للتقلبات الاقتصادية مثل السلع المعمرة كالسيارات مثلا، يظل المستهلكون يشربون القهوة في كافة أنحاء العالم، لتتدفق الإيرادات ومن ثم الأرباح إلى الشركات.
السبب الرابع: هو تطور تكنولوجيا صناعة مشروب القهوة، حيث أصبح الابتكار ظاهرة مصاحبة لنمو المشروب نتيجة تخصيص الشركات العالمية لصناعة المشروب أقساما خاصة للبحوث والتطوير بها، مهمتها الأساسية ابتكار أشكال جديدة لمشروب القهوة، وتحسين خصائص القائم منها، وتطوير مجموعة من السلعة المكملة التي يمكن استهلاكها مع المشروب. شمل أيضا التطور التكنولوجي ماكينات صناعة القهوة سواء على المستوى التجاري أو على مستوى المستهلك، على سبيل المثال فقد أنتشر مشروب "الاسبرسو" في الشرق، ليحل محل المشروب التقليدي "القهوة التركي"، وانتشرت ماكينات صناعة المشروب في كثير من المنازل حاليا، على الرغم من انه يعد مكلف نسبيا مقارنة بالمشروب التقليدي، ولكن مشروب القهوة التركي كما ذكرنا تحول إلى سلعة رديئة، ولم يعد مفضلا بصورة كبيرة، خصوصا بين السكان صغار السن في عالم اليوم، ولن أستغرب أن يختفي هذا المشروب من حياتنا في غضون سنوات قليلة قادمة.
السبب الخامس: هو انتشار الحاسوب النقال "اللاب توب" بين عموم السكان في كافة أنحاء العالم، وبالطبع لم تغفل سلسلة الشركات الشهيرة عن هذه الظاهرة، فعملت على تزويد فروعها المنتشرة في كافة أنحاء العالم بخدمة الانترنت المجاني، حتى يكتمل المزيج المثالي للمنتج، لتعظيم متعة المستهلك "جلسة، وقهوة، وحاسوب، وإنترنت". إنه المزيج السحري الذي هيئته شركات مشروب القهوة العالمية لضمان رفع درجة المنفعة المصاحبة لتناول مشروب القهوة لدى المستهلكين في كافة أنحاء العالم لديها، وبحيث أصبح الجلوس في الكوفي شوب أمتع من الجلوس في المنزل لقطاع عريض من المستهلكين، خصوصا في الغرب، حيث تمثل حانات تناول مشروب البيرة مكانا غير مريح بالنسبة للكثير من السكان الذين يرغبون في قضاء بعض الوقت خارج المنزل.
استراتيجيات التسعير التي تتبعها الشركات العالمية لمشروب القهوة ترتكز على عدة عوامل تجعل من السعر المحدد للمشروب مرتفعا للغاية، ذلك أنه من اللافت للنظر أن سعر بيع مشروب القهوة يختلف بصورة كبيرة عن تكلفته الحقيقية، على سبيل المثال فإن مشروب القهوة الذي يكلف المستهلك في المتوسط 5 دولارات لا تتكلف المواد المستخدمة في صنعه أكثر من 20 سنتا، فكيف يمكن تبرير هذا الفرق الكبير بين تكلفة الصنع وسعر البيع؟ هذا الهامش الكبير تبرره الشركات الدولية لصناعة مشروب القهوة بأن المستهلك عندما يذهب إلى الكوفي شوب فإنه لا يدفع ثمنا لمشروب القهوة، وإنما يدفع ثمنا لمزيج المنتج الذي تقدمه الشركة، أي بالإضافة إلى شرب القهوة، يدفع المستهلك مقابل الجلوس في مناخ ممتع لمدة زمنية تصل في المتوسط إلى ساعة ونصف، يمكنه خلالها تبادل الحديث مع الأصدقاء، أو البحث في الانترنت أو قراءة مجلة أو كتاب، ومن ثم فإن الخمس دولارات هي أساسا في مقابل البيئة المهيأة للمستهلك، وليس المشروب، معنى ذلك ان المستهلك الذي يطلب المنتج "تيك أواي" يدفع بالفعل ثمنا مبالغا فيه لمشروب للقهوة.
كذلك تغالي شركات صناعة مشروب القهوة في ثمنه نظرا لأن الطلب على المشروب من جانب المستهلك في المتوسط هو طلب منخفض جدا، وذلك مقارنة بالمشروبات الأخرى، فبينما يمكن للمستهلك أن يتناول أكثر كوب للعصير أو الشاي .. الخ، فإن المستهلك العادي لا يمكنه تناول أكثر من مشروب واحد أو اثنين على الأكثر من القهوة في الجلسة الواحدة، هذا الانخفاض الواضح في حجم الطلب لا بد وان يصاحبه هامش ربح مرتفع في المشروب الواحد، لكي تتمكن الشركات المقدمة للمشروب من الحفاظ على مستويات ربحيتها مرتفعة في ظل هذه الخصائص للطلب.
أكثر من ذلك فإن شركات صناعة المشروب تستغل خاصية انخفاض مرونة الطلب السعرية لمنتج القهوة، حيث لا يمانع المستهلك بأن يدفع تكاليف إضافية في مقابل الإضافات التي يمكن إضافتها للمشروب، مثل قطعة من الكيك، أو مزيد من الكريمة، أو حليب الصويا، أو العصير المركز، الخ وتحمل المستهلك سعرا مرتفعا جدا لهذه الإضافات مقارنة بتكلفتها الحقيقية. كذلك تميز هذه الشركات في تسعير حجم المشروب على نحو واضح، على سبيل المثال فإن الفرق في السعر بين الحجم الصغير والحجم المتوسط لمشروب القهوة ربما يكون في حدود 1.5 دولارا، وكذلك الفرق بين الحجم المتوسط والحجم الكبير نفس الفرق تقريبا، بينما نجد أن الفرق في تكلفة المواد المستخدمة في صناعة الحجم الأعلى ربما لا يتجاوز 5 سنتات.
في ظل هذه التطورات والاستراتيجيات للشركات العالمية لصناعة مشروب القهوة أصبحت صناعة المشروب صناعة عالمية يستثمر فيها مليارات الدولارات عبر أنحاء العالم، وأصبحت بالتبعية حبوب القهوة أهم الصادرات الزراعية للدول النامية على الإطلاق، بل ربما يندهش القارئ إذا علم أن تجارة حبوب القهوة هي التجارة الثانية في العالم من حيث القيمة بعد تجارة النفط، حيث تقدر الصادرات العالمية من حبوب القهوة بحوالي 60 مليار دولارا سنويا.
بقي أن نشير إلى أن حبوب القهوة التي تنتج في العالم حاليا تأتي من 53 دولة جميعها تقع حول خط الاستواء، في مداري السرطان والجدي، وتعد البرازيل أهم الدول المنتجة لحبوب القهوة في العالم، حيث تنتج حوالي 30% من الإنتاج العالمي يليها كولومبيا. أما إجمالي إنتاج العالم من حبوب القهوة فيصل سنويا إلى أكثر من 7 مليون طنا، حيث ينتج العالم حاليا حالي 120 مليون كيس، وذلك مقارنة بحوالي 90 مليون كيس في عام 1990، وفي ظل التزايد المستمر في الطلب على المشروب، تتزايد الضغوط نحو التوسع في الرقعة الزراعية للمحصول. باختصار شديد أصبح مشروب القهوة هو المشروب الأكثر شعبية في العالم بعد الماء.
وي وع وع وع
ردحذفعلى ماذا
ردحذف