أذكر أنني في عام 1974 عندما كنت طالبا في الجامعة كنت اقضي بعض الحاجيات من ميدان العتبة، أحد أزحم الميادين في القاهرة في ذلك الوقت، ولما انتهيت ركبت اتوبيس النقل العام متجها الى الجيزة. في هذه الفترة كان الازدحام في القاهرة لا يطاق، فلم يكن هناك كباري علوية أو أنفاق تحتية أو مترو للأنفاق، وكانت وسائل المواصلات العامة في القاهرة على اختلاف انواعها، عبارة عن علبة سردين كما كان يقول المصريون، من الازدحام الشديد. في هذا الوقت كانت مصر خارجة من حالة الحرب مع العدو الاسرائيلي، وكل البنى التحتية فيها، بما في ذلك وسائل النقل العام، منهارة تماما.
في هذا اليوم جلست في المقعد الخلفي في اتوبيس النقل العام، وجلس بجانبي شخص تبدو عليه ملامح أجنبية، وبادرني بالتحية ثم سألني بالانكليزية عن ثمن التذكرة، فقلت له لا عليك سوف أدفع لك، فشكرني وأخذنا نتجاذب اطراف الحديث، حيث فاجئني بقوله ”لماذا لا تنتحرون؟ لماذا لا تقتلون أنفسكم" كيف تستطيعون العيش على هذه الصورة؟ إننا في بلدي تتوافر لنا كل سبل الرفاهية، ومع ذلك فإن معدلات الانتحار لدينا من أعلى المعدلات في العالم، كيف تتحملون قسوة الحياة على هذا النحو، هذه ليست حياة"، سألته عن بلده فعلمت انه سائح قادم من السويد.
اخذت أشرح له لماذا لا ينتحر الشعب المصري على الرغم من هذه الحياة الخانقة التي يعيش فيها، إنها ببساطة شديدة النكتة، نعم نحن نواجه ضغوطا معيشية لا يواجه مثلها شعب في العالم تقريبا، كما أن كم الصعوبات اليومية التي نواجهها يترتب عليها تراكم ضغوط نفسية جبارة لو تعرض لها شعب آخر لانفجر، ولكننا نحارب هذه الضغوط من خلال علاقاتنا الاجتماعية الوثيقة، حيث نلتقي في نهاية كل يوم على المقهى، أو تحت المنزل، أو في ساحة الحارة، أو على شاطئ النيل نأكل ترمس وذرة مشوية، ونشرب حمص الشام، نتبادل النكات ونتجاذب أطراف الحديث، حتى يحل موعد النوم، فيذهب كل من إلى منزله، استعدادا لبدأ يوم جديد في حياتنا، وهكذا، علاقاتنا الاجتماعية القوية هي السبيل الذي نواجه به ضغوط الحياة ونفرغ من خلالها طاقاتنا المكبوتة.
أعجبتني هذه الصورة التي التقطت من وسط المعمعة التي تعيشها مصر حاليا، الصورة لشاب مصري خفيف الدم يرفع لافتة تدعو مبارك الى الرحيل قائلا "ارحل بقه إيدي وجعتني" (أي من طول الفترة التي حمل فيها الاعلان بين يديه). الشعب المصري مشهور في العالم بخفة دمه وبأنه ابن نكته، وانه يستعين بها على مواجهة ظروفه القاهرة، وهي وسيلته الوحيدة لمحاربة حكامه، ففي كل أزمة تواجهه دائما ما يستخدم الشعب المصري النكتة كسلاح ينفس بها عن كبته، أو يخلق بها أمل جديد لغده.
آخر نكتة هي أنه بعد أن هرب الرئيس التونسي بن علي خرج الشعب المصري بنكتة عن مبارك، تقول النكتة، قيل لمبارك استعد لكي تلقي خطاب الوداع على الشعب، فأجابهم "ليه! هو الشعب المصري رايح فين؟"، في إشارة إلى أن الرئيس لن يترك الكرسي حتى ولو ترك الشعب البلد، النكتة بالنسبة لنا في مصر هي أحد الاسلحة التي نوجهها لنظامنا السياسي، لنقول له من خلالها مالا نستطيع ان نواجهه به. بمثل هذه النكات يمتص الشعب المصري ضغوط يومه ويخفف عن آلامه النفسية ويستعد ليوم جديد، على أمل أن يحمل الغد أخبارا أفضل، وقد أصبح من المؤكد الآن أن الغد أصبح يحمل أخبارا أفضل للشعب المصري لأنه بالفعل يستحق الأفضل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق