الجمعة، مايو ٠٦، ٢٠١١

هل هو تهديد حقيقي للدولار الأمريكي؟

نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 6/5/2011
عقدت دول البريكس BRICS والتي ترمز إلى الأحرف الأولى من أسماء دول البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا على التوالي، والتي تمثل أكثر دول العالم نموا، اجتماعا في الصين الأسبوع الماضي، وقد قررت هذه الدول ان تدعم مستويات التجارة الدولية فيما بينها. بنهاية هذه الفقرة لا يبدو أن هناك شيئا مثيرا للاهتمام في الموضوع، فهذه الدول دائما ما تؤكد على هذه النقطة في كافة الاجتماعات التي تعقدها. غير ان هذه الدول أكدت هذه المرة على ضرورة السعي نحو استخدام عملاتها الوطنية في تسوية المعاملات التجارية فيما بينها. الاتفاق شمل أيضا أن تقوم بنوك التنمية في الدول الخمس، بما فيها بنك الصين للتنمية، باستخدام عملاتها المحلية في إصدار الائتمان أو المنح فيما بين هذه الدول، كما سيتم تجنب استخدام الدولار في عمليات التسوية العامة والإقراض بين هذه الدول الخمس، ولكن ماذا يعني ذلك؟
إن ذلك يعني أن الهند عندما تستورد أي سلع من دول المجموعة، على سبيل المثال، من جنوب أفريقيا سوف تدفع لجنوب إفريقيا قيمة وارداتها منها بالروبية الهندية،، وجنوب إفريقيا سوف تدفع للصين قيمة وارداتها منها بالراند الجنوب إفريقي، وهكذا وليس بالدولار الأمريكي عملة التسوية الدولية الأساسية للمعاملات التجارية. إن هذه الخطوة تستهدف تحقيق هدفين في ذات الوقت، الأول هو تدويل استخدام عملات هذه الدول على نحو أوسع مما هو سائد حاليا، بصفة خاصة الرينمينبي، وثانيا وهو الأهم، التخلص من استخدام الدولار الأمريكي في تسوية المعاملات التجارية البينية بين هذه الدول.
هذه الخطوة قد تمثل التطبيق العملي للدعوة التي تطلقها الصين وروسيا منذ فترة بضرورة إصلاح نظام تسوية المدفوعات الدولية الحالي والقائم على استخدام الدولار الأمريكي، والبحث عن عملة تسوية بديلة، فضلا عن ضرورة أن يبحث العالم عن عملة احتياط عالمية بديلة أيضا للدولار الأمريكي.
بعض المحللين على المستوى الدولي نظر إلى الخطوة التي قامت بها مجموعة الـ BRICS على أنها ضربة قاضية للدولار الأمريكي، لأنها سوف تعني تنحية الدولار جانبا عن المعاملات التجارية الدولية وبداية اختفاء الدولار كعملة تسوية للمعاملات التجارية الدولية، ولاحقا في تسوية المعاملات المالية الدولية، ولكن هل هذه الخلاصات التي توصل إليها هؤلاء المراقبون صحيحة؟ وهل بالفعل بدأ عهد الدولار الأمريكي في الأفول؟ لكي نجيب على هذا السؤال بصورة موضوعية وبعيدا عن العاطفة لا بد وأن نقيم حجم الخفض في استخدام الدولار الأمريكي عالميا نتيجة لتطبيق هذا القرار. فأولا لا بد وان ننظر إلى حجم التجارة البينية بين هذه الدول والتي سيتم تسويتها بالعملات المحلية لهذه الدول ونقارنها بحجم التجارة العالمية التي يتم تسويتها بالدولار، والأهم من ذلك لا بد وان ندرك ان الاتفاق هو حول تسوية المعاملات التجارية بشكل أساسي وليس المالية، ومن المعلوم المعاملات التجارية التي تتم بالدولار تمثل نسبة بسيطة جدا من الاستخدام الدولي للدولار في تسوية المعاملات المالية.
لتكوين صورة واضحة عن أثر هذا القرار قمت بجمع بيانات عن التجارة البينية بين دول الـ BRICS، وذلك من خلال الدورية المتخصصة في هذا المجال التي يصدرها صندوق النقد الدولي والتي تحمل عنوان إحصاءات اتجاه التجارة Direction of Trade Statistics، والتي تنشر التوزيع الجغرافي لصادرات وواردات كل دولة مع باقي الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي، والمعروضة في الجدول التالي، ومن الجدول يتضح أن إجمالي صادرات مجموعة الـ BRICS لبعضها البعض يتراوح خلال الفترة من 2008-2010 بين حوالي 140 إلى 215 مليار دولارا، أي أن متوسط صادرات دول المجموعة لبعضها البعض هو 173.9 مليار دولارا. من ناحية أخرى فإن إجمالي واردات دول الـ BRICS من بعضها البعض يتراوح بين 178.8 مليار دولارا إلى 244 مليار دولارا، أي أن متوسط واردات المجموعة من بعضها البعض هو 211.2 مليار دولارا.

لاحظ أن هناك فروقا في القيمة بين الصادرات البينية والواردات البينية، مع أن صادرات دولة ما هي واردات الدول الأخرى والعكس، ومن ثم من المفترض ان تتساوى قيم الصادرات مع قيم الواردات. هذا الاختلاف في القيمة يرجع غالبا لسببين، الأول هو اختلاف أساس تسعير الصادرات عن أساس تسعير الواردات، فالصادرات دائما ما تسعر على أساس السعر Free on Board FOB، أي السعر على ظهر السفينة، بينما تسعر الواردات على أساس السعر Cost, insurance and freight CIF، أي السعر شاملا تكاليف التأمين والشحن البحري. ولتوحيد أساس التسعير فإننا غالبا ما نستخدم معامل CIF/FOB للتعديل، والذي غالبا ما يكون في المتوسط حوالي 1.1. السبب الثاني هو ان هناك احتمال حدوث تزييف في فواتير التجارة بهدف إبراز قيمة الصادرات بأقل من قيمتها والواردات بأقل أو أكبر من قيمتها، وغالبا ما يكون الهدف من تزييف فواتير التجارة الخارجية هو التهرب من الرسوم الجمركية أو الدوران على قوانين النقد الأجنبي، وهو موضوع ربما ألمسه في المستقبل، إذا أحيانا الله.
والآن ماذا تمثل هذه الأرقام على الرغم من ضخامتها من إجمالي التجارة العالمية التي يمول معظمها بالدولار الأمريكي. للتعرف على ذلك قمت بجمع بيانات إجمالي صادرات العالم، وإجمالي واردات العالم من قاعدة بيانات صندوق النقد الدولي والتي تحمل اسم "إحصاءات مالية دولية International Financial Statistics IFS" عن نفس السنوات. والموضحة في الجدول رقم (2). ومن الجدول يتضح أن إجمالي صادرات العالم خلال الفترة 2008-2010 تراوح بين 12.4 تريليون دولارا إلى 16 تريليون دولارا، أي بمتوسط 14.5 تريليون دولارا، بينما يتراوح إجمالي واردات العالم خلال نفس الفترة بين 12.5 تريليون دولارا إلى 16.3 تريليون دولارا، أي بمتوسط 14.7 تريليون دولارا، ووفقا للجدول فإن نسبة إجمالي الصادرات البينية لدول مجموعة الـ BRICS إلى إجمالي صادرات العالم تتراوح بين 1.1%-1.3%، أي بمتوسط 1.2%، بينما تتراوح نسبة الواردات البينية لدول المجموعة إلى إجمالي واردات العالم بين 1.4%-1.5%، أي بمتوسط 1.4%.
والآن ماذا تعني الحسابات السابقة؟ إن تلك الحسابات تعني أن هناك مغالاة في الحكم على أثر القرار الذي اتخذته مجموعة الـ BRICS على مستقبل الدولار الأمريكي كعملة دولية، وأن المحللين الذين يرون أن ذلك القرار يمثل بداية النهاية للدولار لا يقيمون تحليلاتهم على أساس سليم، بالنظر إلى ضآلة نسبة التجارة البينية بين دول الـ BRICS، والتي لا تزيد عن 1.4% من إجمالي تجارة العالم.
وللتدليل بصورة أكبر على هذه الخلاصات قمت بمراجعة بيانات المعاملات اليومية التي تتم في سوق النقد الأجنبي، والتي ينشرها بنك التسويات الدولية في تقريره الذي يصدره كل 3 سنوات والذي يحمل عنوان "Triennial Central Bank Survey Foreign exchange and derivatives market activity" ووفقا لآخر البيانات فإن حجم التعاملات اليومي في سوق النقد الأجنبي العالمي يبلغ حوالي 4 تريليون دولارا، أو ما يعادل 1453 تريليون دولارا سنويا، ووفقا للجدول فإنه في عام 2010 بلغت نسبة استخدام الدولار الامريكي في تسوية هذه العمليات 84.9% من هذه العمليات تمت بالدولار الأمريكي، وهو ما يعني أن التعامل بالدولار الأمريكي في سوق النقد الأجنبي العالمي يبلغ حوالي 1233.6 تريليون دولارا سنويا.


معنى ذلك أن نسبة إجمالي حجم التجارة البينية لدول الـ BRICS وفقا لأقصى تقديراته في عام 2011  والذي يصل إلى 244 مليار دولارا، إلى إجمالي المعاملات السنوية في سوق النقد الأجنبي بالدولار الأمريكي لا يزيد عن صفر% تقريبا. ماذا يعني ذلك مرة أخرى؟ ان ذلك يعني ان التطبيق العملي لهذا الاتفاق بين دول الـ BRICS لن يخفض الطلب على الدولار على المستوى الدولي في سوق النقد الأجنبي، وأنه على الرغم من التضخيم للآثار المتوقعة لمثل هذا القرار إلا ان الدولار الأمريكي سوف يظل عملة العالم اليوم وفي المستقبل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق