إن المتتبع لما يدور في
الصحافة الاقتصادية في العالم، يلاحظ الاهتمام الكثيف بما يطرحه الأمير محمد بن
سلمان هذه الإيام عن نية المملكة طرح جانب من أسهم شركة أرامكو للاكتتاب العالم، قدر
في المرحلة الأولى بنحو 5%، والذي من المتوقع أن يدر أكثر من مئة مليار دولار،
وفقا لتقديرات بلومبرج، توضع في صندوق الاستثمارات العام، ومن ثم تحويل ملكية الشركة
ضمن صندوق الاستثمارات العامة، بحيث يتمكن الصندوق من إدارة أصول تقدر بحوالي
تريليوني دولار، ليصبح أيضا صندوق الاستثمارات العامة السعودي هو أكبر صندوق سيادي
للثروة في العالم.
الهدف الأساسي من إنشاء الصندوق وفقا لتصريحات الأمير محمد بن سلمان
هو انهاء اعتماد السعودية على مصدر شبه وحيد للدخل والإيرادات العامة، والتحول نحو
مصادر أكثر استقرارا وأكبر أهمية للدخل، وذلك من خلال ملكيات استراتيجية تتوزع بين
استثمارات جوهرية داخل المملكة، واستثمارات خارجية تنتشر عبر دول العالم، وعلى
النحو الذي ينوع من هذه الاستثمارات وكذلك مستويات المخاطرة التي تتعرض لها، وذلك
مقارنة بالوضع الحالي حيث تأتي دخول الحكومة من مصدر واحد.
ولكن ما هي أهمية هذا المقترح بإنشاء صندوق استثماري ضخم يحقق عوائد
استثمارية ذات ثقل جوهري في هيكل إيرادات الميزانية السعودية؟ الواقع أنه بتحليل
مزايا هذا المقترح نجد أنها تتعدد بشكل لافت للنظر، والتي يمكن حصرها في الآتي:
·
أولا: أن أهمية هذا
المقترح تنبع من طبيعة الظروف الحالية التي تمر بها السعودية، والدول النفطية بشكل
عام، في الوقت الحالي، حيث تتراجع أسعار النفط عند مستويات منخفضة جدا وتقل بصورة
جوهرية عن المستويات اللازمة لتعادل ميزانياتها، وقد شهدنا خلال العامين الماضيين
كيف تحولت الميزانية السعودية من ميزانية تحقق فوائض ضخمة إلى ميزانية تحقق عجوزات
ضخمة في غضون هذا الزمن القياسي، مما يعني أن مخاطر اعتماد الميزانية على الإيرادات
النفطية تعتبر مرتفعة جدا، حيث يمكن أن يتحول وضع الميزانية بصورة جوهرية في غضون
فترة زمنية قصيرة جدا. أكثر من ذلك فنحن نشهد حاليا اتجاها جديدا في المملكة وهو
عودة الدين العام السعودي الى التصاعد مرة أخرى مع تزايد العجز المحقق في
الميزانية. بالطبع إذا ما استمرت أسعار النفط منخفضة عن السعر اللازم لتوازن
الميزانية السعودية، وهو الأمر المرجح على الأكثر في الوقت الحاضر، فإن الإنفاق
العام السعودي سوف يشمل بندا جديدا يضاف إلى الإنفاق العام وهو خدمة الدين، بعد أن
كانت المملكة قد تخلصت تقريبا من ديونها العامة.
·
ثانيا: أن المقترح
يمكن المملكة من تنويع مصادر دخلها بعيدا عما يسمى بسياسات معالجة عجز الميزانية
العامة من خلال اللجوء إلى جيب المواطن، أي من خلال رفع أسعار السلع والخدمات
العامة، مثلما قامت به المملكة مؤخرا من خلال رفع أسعار الكهرباء والوقود والماء،
والتي بالطبع تحمل المواطن بتكاليف إضافية، ولا شك أن استمرار العجز دون السعي نحو
وجود مصادر إيراد إضافية سوف يعني أن أسعار السلع والخدمات العامة سوف ترتفع مجددا
في المستقبل لتخفيض مستويات الدعم التي تدفعها الحكومة لتقديم هذه السلع والخدمات،
بل وربما التفكير في تحويل أدوات تقديم هذه السلع والخدمات إلى أدوات اقتصادية
تحقق أرباح، من خلال رفع الأسعار بصورة أكبر. من جانب آخر فإن برامج الإصلاح
المالي لا تقتصر فقط على تعديل أسعار السلع والخدمات، وإنما تشمل أيضا إدخال ضرائب
جديدة، مثل الضريبة على الدخول أو الاستهلاك أو القيمة المضافة أو المبيعات، أو
رفع معدلات الضرائب القائمة بكافة أشكالها، وهي ضرائب توفر دخولا إضافية للحكومة،
لكن ذلك بالطبع يكون على حساب الدخل المتاح للمستهلك.
·
ثالثا: أن استراتيجيات
تنويع مصادر الدخل من خلال التعديل الهيكلي أو القطاعي في الاقتصاد المحلي عملية
تأخذ وقتا، وتتطلب استثمارات ضخمة على مدى زمني طويل نسبيا، ومن ثم فإنه من خلال
انفتاح شهية المملكة على الاستثمارات العالمية، تتمكن المملكة من الحصول على عوائد
مستمرة من أصول استثمارية قائمة وناجحة وتنافسية في الخارج عن طريق تملك جانب من
رؤوس أموال هذه المشروعات. بالطبع الاستثمار في تنويع الهيكل الاقتصادي المحلي
عوائده أعلى على المدى الطويل، لكن هذه مسألة تأخذ وقتا ونجاحها يعتمد على كفاءة
عمليات تحديد المزايا النسبية القائمة أو التي يمكن أن تكتسبها المشروعات الجديدة
بمرور الوقت. لذلك فإن التوجه نحو الاستثمارات الأجنبية قد يكون خيارا مناسبا في
الوقت الحالي، على الأقل مرحليا حتى تتمكن المملكة من وضع خارطة استثمار محلية
كفئة.
·
رابعا: إن امتلاك
نسبا جوهرية في رؤوس أموال شركات عالمية ضخمة يمكن أن يساعد المملكة في تحقيق بعض
العوائد الخارجية الموجبةPositive Externalities ، فمن الممكن أن يساعد ذلك المملكة في رفع كفاءة
استثماراتها المحلية وذلك من خلال ربط المشروعات المحلية باستثماراتها الدولية، والتي
يمكن أن تقدم المشورة أو المساعدة الفنية، أو ربما من خلال بعض أشكال الشراكة أو
غيرها من أشكال الاعتماد المتبادل الذي يمكن الاستثمارات المحلية الجديدة من
الاستفادة من هذه الشراكة الاستراتيجية مع الشركات العالمية القائمة والتي تملك
فيها المملكة حصصا مؤثرة.
·
خامسا: أن العوائد
المتوقعة من تطوير صندوق الاستثمارات العامة يمكن أن تتحقق في مدى زمني أقصر نسبيا
مقارنة بالعوائد المتوقعة من البدائل الأخرى لمعالجة عجز الميزانية، كما أنها أقل
عبئا على المواطن.
باختصار لا شك أن مقترح تطوير صندوق الاستثمارات العامة يمثل تحولا
هيكليا في طريقة التفكير حول كيفية إدارة الثروة العامة في السعودية وطريقة توليد
الإيرادات العامة في المملكة، عبر تنويع مصادر هذه الإيرادات محليا وعالميا، وعلى
النحو الذي يضمن استقرارا أكبر لهذه الإيرادات فضلا عن تعرضها لمستويات أقل من
المخاطر. لكن لا بد من التنبيه إلى ضرورة دراسة ما يمكن أن يطرأ من انعكاسات سلبية
لهذا المقترح وتدنية تأثيراتها إلى أدنى حد.