الاثنين، نوفمبر ٢٦، ٢٠١٢

الهند أكبر دول العالم نموا هذا العقد

تتفق جميع السيناريوهات المتاحة حاليا على أن الهند سوف تكون أكثر دول العالم نموا هذا العقد، أخذا في الاعتبار التحديات التي أصبحت الصين تواجهها في الوقت الحالي واحتمالات عدم قدرة الصين على استعادة معدلات النمو التي حققتها في العقد الأول من هذا القرن قبل انطلاق الأزمة المالية العالمية.
هذه السيناريوهات يتم تداولها على الرغم من المخاطر التي تواجه النمو الهندي، بصفة
 خاصة ارتفاع حجم الدين العام الذي يصل حاليا إلى حوالي 70% من الناتج المحلي الإجمالي في الهند، بسبب السياسات الكريمة التي تتبعها الهند في الدعم والإعانات، والتي أدت إلى رفع نسبة عجز الميزانية العامة إلى الناتج من 6% إلى 9% حاليا، وهو مستوى مرتفع جدا.
الخطر الثاني الذي يواجه النمو الهندي هو انتشار الفساد، فعلى الرغم من أن الهند تعتبر دولة ديمقراطية، حيث تمثل أكبر ديمقراطيات العالم، إلا أن هذا لم يحل دون انتشار الفساد على نطاق واسع في الهند، ولسوء الحظ فإن أداء الهند في مكافحة الفساد مازال دول المستوى المطلوب لدولة ناشئة تستعد للانطلاق.
الخطر الثالث الذي يواجه الهند هو العوامل الديموغرافية، بصفة خاصة النمو السكان السريع الذي ينظر اليه على أنه الخطر الذي يمكن ان يلتهم ثمار النمو، غير أن بعض المراقبين اصبحوا ينظرون إلى النمو السكاني اليوم على أنه نعمة وليس نقمة، وانه من الممكن أن يمثل أقوى أساس يمكن أن يرتكز عليه النمو الاقتصادي السريع في عالم اليوم، ويستشهدون في ذلك بالتجربة الصينية. غير أنه لكي تنجح الهند في الاستفادة من البعد السكاني لا بد وأن يصاحب ذلك جهود حثيثة لنقل السكان من المزارع حيث تنخفض مستويات الإنتاجية على نحو واضح، إلى تولي وظائف ذات إنتاجية مرتفعة عن تلك التي يؤدونها في الريف الهندي، وهو اتجاه إن حدث سوف ينقل الهند نقلة كبرى في صف الدول الناشئة في عالم اليوم.
شخصيا أميل إلى الاتفاق مع هذه السيناريوهات، وأنه ربما يكون هذا العقد هو العقد الهندي شريطة ان يصاحب ذلك استراتيجيات مشجعة لهذا الاتجاه من جانب الحكومة الهندية، والتي من الواضح أن لديها مثل هذا الاتجاه.
لا أدرى متى ستبدأ مصر في الاستفادة من البعد السكاني الذي تتمتع به حاليا لتنتقل من مصاف الدول الفقيرة إلى مصاف الدول الناشئة.
من خلاصة قراءتي في كتاب Breakout Nations
 

القنبلة السكانية: الهند والصين


 

عندما نقارن الصين بالهند نجد أن الصين في القرن الماضي حاولت بشتى الطرق إيقاف القنبلة السكانية من خلال سياسة الطفل الواحد للأسرة الواحدة، والتي ترتب عليها تراجع معدلات النمو السكاني بشكل واضح في الصين. لاحقا استطاعت الصين تحقيق اقصى استفادة ممكنة من النمو السكاني السريع خلال القرن الماضي وذلك باستغلال فئة الشباب فيها في مصانعها ووسائل إنتاجها المختلفة بأجور متدنية للغاية بالمعايير الدولية، وبالمزايا النسبية التي تحققها الصين في تكلفة الأجور استطاعت أن تدك أسواق العالم بمنتجاتها الرخيصة الثمن. اليوم التركيبة السكانية الصينية تتغير بصورة هيكلية وتميل نسب السكان صغار السن نحو التراجع، وهو ما ينذر بنفاذ رصيد الشباب ذوي الأجور المنخفضة، والذين اعتمد عليهم النمو الصيني في بداية مراحله.

النتيجة الطبيعية لمثل هذه التطورات هو ميل مستويات الأجور نحو الارتفاع مهددا بذلك القدرة التنافسية للصين، من ناحية أخرى فإن نسب السكان في سن الشيخوخة تميل حاليا نحو التزايد، وهو ما ينذر ببدء تأثر المالية العامة الصينية بهذه الظاهرة الخطيرة التي تجتاح العالم اليوم، وأبرز آثارها في اليابان. على العكس من ذلك نجد الهند تتمتع اليوم بهيكل سكاني فتي، حيث ترتفع نسبة صغار السن في هذا الهيكل بصورة واضحة، وهو ما يمثل رصيد العمالة الفتية الذي يمكن توجيهه نحو تدعيم النمو الهندي مثلما فعلت الصين. غير أن الهند لا تقدم الحوافز التي تعمل على تشجيع الحراك السكاني الداخلي لنقل السكان من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية حيث المصانع ومشروعات الأعمال، على العكس فإن قوانين التأمين تشجع السكان على البقاء في المناطق الريفية.

لقد أدت الهجرة الداخلية من المزارع نحو المدن في الصين إلى ارتفاع نسبة المقيمين في المناطق الحضرية إلى 46% من إجمالي السكان حاليا، في الوقت الذي لا تزيد فيه هذه النسبة عن 30% حاليا في الهند، وفي الوقت الذي أدت الهجرة الداخلية إلى ارتفاع عدد المدن التي ازداد سكانها من 100 ألف إلى أكثر من مليونا تقريبا إلى 23 مدينة، نجد أن مثل هذا التطور اقتصر على 6 مدن فقط في الهند.

لاستغلال القنبلة السكانية من الناحية الاقتصادية تحتاج الهند إذن إلى تشجيع عملية انتقال السكان من الريف إلى المراكز الحضرية حيث يسهل توجيههم إلى مراكز الإنتاج والأعمال، وكانت الهند قد تأثرت بالصين في القرن الماضي عندما بدأت الثانية محاولات حثيثة للحد من النمو السكاني من خلال سياسة الطفل الواحد، وقد حرصت الهند أيضا على اتباع نفس الطريق، ففي منتصف السبعينيات قامت عائلة غاندي، على يد ابن الرئيسة الراحلة أنديرا غاندي وهو سانجاي غاندي بفرض قانون التعقيم في أثناء حقبة الطوارئ التي فرضتها والدته نتيجة الاضطرابات السياسية في أواخر عهدها. فقد فرض القانون على العاملين في الحكومة الذي لديهم طفلين أو أكثر أن يخضعوا لعمليات للتعقيم ترتب عليها أن تم تعقيم حوالي 8 مليون هندي، قبل أن تتوقف هذه العملية في أعقاب هزيمة حزب المؤتمر الهندي في1977، فتم إيقاف العمل بقوانين التعقيم، واستمرت  القنبلة السكانية الهندية في العمل على النحو الذي ينبئ بأن تتحول الهند إلى أكبر دول العالم سكانا في المستقبل.

بالطبع النمو السكاني يمكن ن يتحول إلى مصدر للقوة، وهذا ما تثبته التجربة الصينية، ولكن ذلك لكي يحدث لا بد من نقل هؤلاء السكان من أماكن تجمعهم في القرى إلى الأماكن الحضرية حيث يمكن توجيههم نحو فرص الإنتاج الأفضل، ناهيك عن التكلفة الهائلة التي يجب أن تدفع لتعليم هؤلاء، وهو تحد ليس بالهين، نظرا للآثار الجانبية التي تنشأ عن نمو المدن على نحو سريع.

من خلاصة قراءتي في كتاب Breakout NATIONS.

السبت، نوفمبر ٢٤، ٢٠١٢

تساؤلات حول الرسوم على العمالة الوافدة: هل تتمكن المنشآت من نقل عبء الرسوم؟


في الحلقة السابقة من هذا المقال تناولنا مضمون قرار فرض الرسوم على العمالة الوافدة والأهداف الرئيسة التي يسعى صانع القرار إلى تحقيقها من وراءه، وتناولنا بالتحليل بعض التساؤلات الأساسية حول هذه الرسوم بصفة خاصة مدى مناسبة توقيت فرض مثل هذه الرسوم؟ وهل يجب أن تفرض الرسوم بنفس القيمة على كافة القطاعات وجميع المهن؟ في هذه الحلقة نتناول بالتحليل تساؤلا مهما حول قدرة منشآت القطاع الخاص السعودي على نقل عبء هذه الرسوم إلى العمالة الوافدة، ومن ثم تفويت الفرصة على الدولة من فرض الرسوم؟ وهل هذه الرسوم المقترحة كافية لتحقيق الهدف الأساسي منها في دفع القطاع الخاص للتخلص من العمالة الوافدة وتشغيل العمالة الوطنية، أي هل الرسوم المقترحة بموجب القرار هي الرسوم المناسبة لتحقيق الأهداف المبتغاة من وراءها برفع نسبة السعودة في القطاع الخاص من حيث المبدأ؟

في هذا الصدد لا بد وان نفرق بين نوعين من العمالة الوافدة؛ العمالة غير الماهرة والنصف ماهرة، والعمالة الماهرة، فما يمكن أن ينطبق على العمالة الماهرة يختلف تماما عما يمكن أن ينطبق على العمالة غير الماهرة أو نصف الماهرة. بالطبع الوضع الأمثل عند فرض الرسوم هو أنها يجب أن تعمل في الاتجاهين، الإيجابي والسلبي، فهي من جهة ينبغي أن تعمل على الحد من تدفق العمالة الوافدة من نوعيات محددة من المهن، والتي يواجه فيها سوق العمل فائضا من العمالة الوطنية التي تضاف إلى رصيد البطالة سنويا حاليا، وأن تعمل في ذات الوقت على تشجيع تدفق مهارات أخرى يحتاجها سوق العمل السعودي ولا يتوافر في ذات الوقت عرض كاف من العمالة الوطنية لسد النقص في هذه المهارات، المشكلة الأساسية في القرار المطروح حاليا أنه يطبق على جميع الفئات الوظيفية، من تحتاجه المملكة بصورة ملحة، ومن ترغب في استبعاده، على النحو الذي فصلناه في الحلقة السابقة.

والآن، هل تتمكن منشآت القطاع الخاص من نقل عبء هذه الرسوم إلى العمالة الوافدة، ومن ثم تفويت الفرصة على الدولة من فرض هذه الرسوم؟ إن الهدف الأساسي لمثل هذا القرار كما ذكرنا مسبقا هو إجبار القطاع الخاص على التخلص من العمالة الوافدة، وتشغيل العمالة الوطنية تحت وطأة ارتفاع تكاليف استخدام العمالة الوافدة، ولكن ماذا لو تمكنت منشآت القطاع الخاص من نقل عبء هذه الرسوم على عاتق العمالة الوافدة، او إجبار العمالة الوافدة على المشاركة في تحمل جانب من أعباء هذه الرسوم؟ إذا نجحت مؤسسات القطاع الخاص في ذلك، فإن القرار سوف يكون بلا جدوى ولن يستجيب القطاع الخاص أساسا للقرار، وبالتالي سوف يستمر القطاع الخاص في إحباط جهود سعودة سوق العمل في المملكة.

إن قدرة رب العمل على نقل عبء الرسوم على عاتق العامل تعتمد بشكل أساسي على مرونات الطلب على العمالة وكذلك مرونات العرض من العمالة، ويقصد بالمرونة درجة حساسية أو استجابة رب العمل أو العامل للتغيرات في أجر العامل، وبالنسبة للعمالة الوافدة غير الماهرة والنصف ماهرة تلعب عوامل العرض دورا أكبر من عوامل الطلب في تحديد قدرة أرباب الأعمال على نقل عبء الضريبة. حيث أن فرص الحصول على هذا النوع من العمالة الوافدة أمام القطاع الخاص السعودي متعددة ومنتشرة في أماكن عدة من الدول النامية والفقيرة، ونظرا للأوضاع الاقتصادية في دول الأصل لهذه العمالة والتي تجعل الفوارق في الأجور لهذا النوع من العمالة بين دول الأصل والمملكة كبيرة، فضلا عن ضيق الفرص المتاحة أمام هذا النوع من العمال للهجرة خارج بلاد الأصل، فإن العرض من النوع من العمالة الوافدة أمام القطاع الخاص السعودي يأخذ شكل لا نهائي المرونة، بمعنى آخر فإن القطاع الخاص السعودي يستطيع أن يجد كميات هائلة من العرض من هذه العمالة عند المستوى السائد للأجور لتلك العمالة في المملكة، دونما حاجة إلى رفع مستويات الأجور المعروضة لاستقطاب كميات أكبر من هذه العمالة. 

إذا اتخذ العرض من العمالة الغير ماهرة والنصف ماهرة هذا الشكل، فإنه في هذه الحالة من الممكن أن يقوم رجال الأعمال بتحميل العمال بكامل هذه الرسوم، أو بالجانب الأكبر منها إذا أرادوا، وعند تحميل العامل الوافد بالرسوم فإنه لا بد وأن يقارن بين صافي الأجر الذي يحصل عليه من العمل في المملكة بصافي ما يمكن أن يحصل عليه خارج المملكة بما في ذلك بلد الأصل، وبما أن فرص انتقال هذا النوع من العمالة بين أسواق العمل في المنطقة تعد محدودة جدا، فضلا عن أن الفارق الكبير بين مستويات الأجور في دولهم والأجور في المملكة حتى بعد تحميلهم بكامل العبء من الرسوم، فإن العامل سوف يجد نفسه مرغما على القبول بتحميله كامل الرسوم أو الجانب الأكبر منها، خصوصا وأن الرسم المقترح يعتبر صغيرا بكافة المقاييس. في ظل هذه الظروف يسهل على القطاع الخاص السعودي تحميل هذا النوع من العمالة الرسوم المقترحة، أو الجانب الأكبر منها، وهو ما يفوت الفرصة على الدولة من تحقيق الهدف الأساسي لفرض هذه الرسوم، وهو تحفيز القطاع الخاص على توظيف العمالة الوطنية.

أما بالنسبة للعمالة الماهرة، فمن المتوقع أن يكون العرض من هذا النوع من العمالة غير مرن، أي أن ارتفاع الأجور لا يؤدي إلى تحسين العرض من هذا النوع من العمالة بصورة كبيرة، مما يعني أنه سوف يكون من الصعب على أرباب العمل تحميل العمال بالرسوم، خصوصا اذا ما كانت مستويات الرسوم مرتفعة وتجعل صافي الدخل الذي يحصل عليه العامل بعد الضريبة منخفضا، حيث يدفع ذلك مثل هذا النوع من العمالة إلى هجر المملكة والبحث عن عمل آخر في سوق عمل آخر، نظرا لارتفاع قدرة هذا النوع من العمالة على التحرك بين أسواق العمل المختلفة في المنطقة، أو خارجها، ومثل هذه النوعية من المهارات لا يوجد فيها فائض في سوق العمل من المواطنين.

نخلص مما سبق أن أرباب العمل في القطاع الخاص السعودي سوف يتمكنون من تحويل عبء الرسوم، أو الجانب الأكبر منها على عاتق العمالة الوافدة، وهو ما يترتب عليه انخفاض النتيجة المتوقعة لمثل هذه الرسوم على الطلب على العمالة غير الماهرة ونصف الماهرة من المواطنين، وهي الفئات المتوقع أن تكون معدلات البطالة بينها مرتفعة.

العامل الثاني الذي سيؤثر في قدرة القطاع الخاص السعودي على تحميل العمالة الوافدة بالرسوم أو بالجانب الأكبر منها هو مستوى الرسوم المقترح، فانخفاض مستويات هذه الرسوم يجعل من السهل تحويل عبئها على العمال، وارتفاع مستويات هذه الرسوم يجعل من الصعب تحميل العمال بها أو بالجانب الأكبر منها، وإذا ما نظرنا إلى الرسم المفروض شهريا على كل عامل وهو 200 ريال، فإنه يمثل رسما منخفضا من حيث القيمة لدرجة أنه حتى وإن تحمله رب العمل أو تحمله العامل لن يمثل عبئا كبيرا على أي منهما.

إن الحد من قدرة رب العمل على تحميل العمالة بالرسوم أو الجانب الأكبر منها يقتضي ضرورة أن تكون مستويات هذه الرسوم مرتفعة إلى الحد الذي يصعب معه نقلها على العامل الوافد، مما يدفع رب العمل إلى محاولة تحملها، أو تحمل الجانب الأكبر منها إذا رغب في الاستمرار في توظيف عمالة وافدة بمعدلات أكبر من المعدلات التي يسمح بها نظام سعودة سوق العمل، ولكي يجبر القطاع الخاص على أن يرفع نسبة توظيف العمالة السعودية لا بد وأن يكون مستوى هذه الرسوم مرتفعا إلى الحد الذي يجبره على التخلص مما لديه من عمالة وافدة حتى يتخلص من عبء الرسوم، وهذه ما يطلق عليها بالرسوم المانعة، أي الرسوم المرتفعة إلى الحد الذي لا يصلح معه أي خيار أمام رب العمل في القطاع الخاص سوى إيقاف توظيف العمالة الوافدة واستخدام العمالة الوطنية لاعتبارات التكلفة، مرة أخرى من الواضح من مستوى الرسوم الحالية أنها لا تندرج تحت هذه النوعية من الرسوم، وهو ما يرفع قدرة أرباب أعمال على تحمل الرسوم الحالية أو تحويلها على عاتق العامل.

الخلاصة هي أن مرونة العرض المتوقعتان للعمالة الوافدة من الفئات غير الماهرة او النصف ماهرة تتسم إما بارتفاعها أو بكونها لا نهائية، وهو ما يجعل من السهولة بمكان تحميل العمالة الوافدة بالرسوم أو الجانب الأكبر منها، من ناحية أخرى فإن المستوى المقترح للرسم صغير إلى الحد الذي يسهل معه نقل عبئه على العامل الوافد بسهولة، وأنه إذا ما أريد بالفعل تحقيق الهدف من القرار فلا بد وان يكون الرسم مرتفعا إلى الحد الذي لا تفلح معه أية محاولات لتحميل العامل الوافد بعبء الضريبة أو بجزء منها.

 

تساؤلات حول الرسوم على العمالة الوافدة في المملكة


قامت المملكة مؤخرا بفرض رسوم على العمالة الوافدة بواقع 2400 ريال سنويا، أي بمعدل 200 ريال شهريا لكل عامل، تدفعها منشآت القطاع الخاص عن كل عامل وافد في حالة زيادة أعداد العمالة الوافدة عن العمالة الوطنية في المنشأة. يهدف القرار إلى إجبار منشآت القطاع الخاص المخالفة لخطط سعودة سوق العمل على التخلص من العمالة الوافدة، أو خفض نسب استخدامها من هذه العمالة لتكون في الحدود التي تتوافق مع خطة الدولة في مجال إحلال العمالة الوطنية محل العمال الوافدة، وذلك تحت ضغط الرغبة في التخلص من أعباء هذه الرسوم على المنشآت. القرار سوف يترتب عليه أيضا تحقيق بعض الإيرادات المالية للدولة من حصيلة هذه الرسوم، قيل أنها ستذهب لصندوق الموارد البشرية، وربما تستخدم في تغطية نفقات الدعم المالي المقدم للعاطلين عن العمل من العمالة الوطنية، وقد قدرت الإيرادات المتوقعة نتيجة تطبيق القرار بحوالي 12 مليار ريال.

أثار القرار الكثير من الجدل بين مؤيد للقرار ومعارض له. جاءت أقوى الاعتراضات من جانب القطاع الخاص السعودي ممثلا في مجلس الغرف التجارية، استنادا إلى التأثيرات السلبية المتوقعة من القرار على ناتج القطاع الخاص ومعدلات نموه، باعتبار أن القرار سوف يترتب عليه ارتفاع غير مبرر لتكلفة المنشآت في القطاع الخاص لأن القرار لن يؤدي إلى تحسين نسبة السعودة، خصوصا في بعض القطاعات التي يصعب أن تتم فيها عمليات السعودة على نطاق واسع حاليا في ظل القيم السائدة لدى العمالة الوطنية حول مفهوم الوظيفة ونوعيتها ومتطلباتها، وأن الأثر الأساسي لهذا القرار سوف ينصب على الأسعار، حيث من المتوقع أن يرتفع معدل التضخم نتيجة لارتفاع تكلفة إنتاج السلع وتقديم الخدمات نتيجة للقرار.

من الطبيعي أن تلقى مثل هذه الإجراءات مقاومة من القطاع الخاص السعودي باعتباره أحد المسئولين عن ارتفاع مشكلة البطالة في المملكة، نظرا لطبيعة القواعد التي يستخدمها في عمليات توظيف العمالة، والتي تنحاز للعمالة الوافدة لعدة اعتبارات أهمها انخفاض التكلفة وارتفاع مستوى الإنتاجية، وسهولة التخلص من هذا النوع من العمالة إذا ما دعت الحالة ذلك.

الحقيقة أن مثل هذا الجدل الذي يسود حول قرار فرض الرسوم يثير العديد من التساؤلات الحيوية التي تتطلب إجابة علمية وعملية واضحة حتى يمكن تقييم جدوى فرض القرار. فهل هذا هو التوقيت المناسب لفرض مثل هذه الرسوم؟ وهل يجب أن تفرض الرسوم بنفس القيمة على كافة القطاعات وجميع المهن؟ وهل تتمكن منشآت القطاع الخاص من نقل عبء هذه الرسوم إلى العمالة الوافدة ومن ثم تفويت الفرصة على الدولة من فرض الرسوم؟ وهل ما تم فرضه من رسوم كاف، أي هل الرسوم المقترحة بموجب القرار هي الرسوم المناسبة لتحقيق الأهداف المبتغاة من وراءها برفع نسبة السعودة في القطاع الخاص من حيث المبدأ؟ وهل سيؤدي القرار إلى القضاء على ظاهرة التجارة في إقامات العمالة الوافدة التي تؤدي إلى انتشار العمالة السائبة؟ وهل بالفعل سوف يترتب على فرض الرسوم رفع نسبة التضخم في المملكة؟ وعلى أي شكل من أشكال العمالة ينبغي فرض الرسوم؟ وأخيرا هل من آثار جانبية لمثل هذه الرسوم؟ هذه التساؤلات هي في واقع الأمر تساؤلات فنية، ولسوء الحظ تمت الإجابة على بعضها ولكن بصورة غير علمية.

منذ فترة والحديث يتزايد عن مشكلة البطالة بين المواطنين، خصوصا من الإناث، والذين تتزايد أعدادهم بصورة مضطردة على الرغم من النمو الذي يحققه الاقتصاد السعودي، فمن الواضح أن نمط النمو الحالي للاقتصاد السعودي لا يؤدي إلى فتح فرص التوظيف المناسبة للعمالة الوطنية، في ظل الفروق الجوهرية في تكلفة الاستخدام بين العمالة الوطنية والوافدة، وفي ضوء تصاعد معدلات البطالة بين الداخلين الجدد لسوق العمل فإن رفع تكلفة العمالة الوافدة على القطاع الخاص يعتبر أحد الوسائل التي يمكن أن تلجأ إليها الحكومة لإجبار القطاع الخاص على توظيف العمالة السعودية. السياسة إذن من حيث المبدأ تعد سياسة مناسبة لمواجهة ظاهرة، ولكن فرض رسوم محددة على كافة فئات العمالة الوافدة والعاملة في كافة القطاعات يعتبر إجراء خاطئ للأسباب التالية:

1.       لا يجب فرض نفس الرسوم على كافة القطاعات الإنتاجية ولا على كافة المهن في القطاع الخاص، فهناك قطاعات ومهن سوف تظل العمالة الوافدة مسيطرة عليها لفترة طويلة من الزمن شئنا أم أبينا، حتى تتكيف آليات سوق العمل الوطني وتتغير ثقافة المواطن نحو طبيعة المهنة المناسبة له كعامل. هذه النظرة نحو طبيعة العمل المناسب للمواطن لا تتفرد بها قوة العمل في المملكة، وإنما تعد احد القواسم المشتركة بين المواطنين في كافة دول مجلس التعاون، حيث لا يتصور المواطن نفسه سوى على كرسي خلف مكتب في مؤسسة حكومية، ولا يتخيل نفسه إطلاقا سباكا أو نجارا أو جامعا للقمامة أو غير ذلك من المهن التي لا تقبل عليها العمالة الوطنية، على الرغم أنه لا عيب يعيب أي مهنة ولا يوجد ما يحط من كرامة شاغلها طالما أنه يؤدي عملا شريفا، مثل هذه المهن نراها مسيطر عليها بالكامل من جانب العمالة الوافدة ولا يوجد عمالة وطنية تعمل في هذه المهن، وسوف يظل الوضع كذلك لعقود قادمة حتى تجبر ضغوط سوف العمل الجميع على القبول بأي مهنة.

2.       أن بعض المهن قد لا يتوافر عرض مناسب من العمالة الوطنية المؤهلة لشغلها في القطاع الخاص، خصوصا تلك التي تتطلب مستويات مرتفعة من المهارة والتدريب، وهذه سوف تحتاج إلى بعض الوقت حتى يتم تدبير العرض المناسب من العمالة  الوطنية لملأ هذه  المهن من الكوادر الوطنية المؤهلة التأهيل المناسب، وحتى يتم ذلك، فإن فرض الرسوم على العمالة الوافدة، أيا كان مستواها، لن يترتب عليه تحسين فرص توظيف العمالة الوطنية بالقطاع الخاص.

3.       أن تحديد المهن أو القطاعات التي يجب أن تفرض الرسوم على العمالة الوافدة بها لا بد وان يرتبط بدراسات دقيقة لاختلالات سوق العمل وأين تتركز هذه الاختلالات في صورة الفوائض في عرض العمالة الوطنية حسب القطاع والمهن، بحيث تفرض الرسوم على القطاعات والمهن التي تواجه فائضا في عرض العمالة الوطنية، وأن تتدرج هذه الرسوم حسب مستويات الفوائض من العمالة الوطنية، فكلما ارتفع فائض العمالة الوطنية في القطاع كلما ازداد الرسم المفروض على العمالة الوافدة والعكس، وأن يوقف فرض الرسوم على المهن التي لا يوجد عليها طلب حاليا في صفوف العمالة الوطنية التي تعاني من فائض في العرض.

4.       عندما تفرض هذه الرسوم ينبغي أن تفرض عند مستويات تجعل تكلفة استخدام العامل الوافد مرتفعة إلى الحد الذي يجبر القطاع الخاص على الاستغناء عن هذه العمالة وتفضيل العمالة الوطنية بدلا من ذلك، وهو ما يتطلب أن تكون هذه الرسوم مرتفعة إلى الحد الذي يلغي أية فروق بين مستويات أجور العامل الوافد والعامل المواطن، وبالنظر إلى فرض رسم يساوي 200 ريالا شهريا على كافة العاملين في القطاع الخاص، بغض النظر عن القطاع الذي يعملون به أو المهنة التي يشغلونها، قد لا يمثل الرسم المناسب لتحقيق الهدف من هذه الرسوم، فالكثير من المنشآت، خاصة المنشآت الكبيرة، يمكنها أن تتحمل هذا المستوى من الرسوم شهريا عن كل عامل دون أن يترتب على ذلك تأثير واضح على مستويات تكاليفها أو ربحيتها، كما أن هناك الكثير من المنشآت الصغيرة التي يمكنها الاستمرار في الاحتفاظ بالعامل الوافد من خلال الاتفاق بصورة غير رسمية مع هذا العامل على أن يتحمل هذا الرسم أو اكبر نسبة منه في سبيل استمراره في العمل بالمؤسسة وعدم استبداله بموظف مواطن، ومن المؤكد أن العامل الوافد سوف يرحب بمثل هذا الاتفاق.

5.       أن هذه الرسوم لا بد وان تتسم بالمرونة، بحيث يمكن رفعها أو تخفيضها وفقا للظروف التي يمر بها سوق العمل في المملكة، بحيث ترتفع قيمة هذه الرسوم المفروضة مع تصاعد الضغوط في سوق العمل وزيادة نسبة البطالة بين المواطنين في المهن المختلفة، وتخفض أو يوقف تحصيلها في الأحوال التي تواجه نقصا واضحا من العرض من العمالة الوطنية اللازمة لشغل هذه المهن.

باختصار يجب ألا تفرض هذه الرسوم بقيمة ثابتة على كافة أشكال العمالة الوافدة، حيث ينبغي أن تختلف هذه الرسوم وفقا لدرجة المهارة، وطبيعة المهن التي يعاني المواطنين فيها من البطالة، وطبيعة الضغوط الحالية والمستقبلية في سوق العمل، وأن تستند الرسوم إلى دراسات دقيقة لسوق العمل لتحديد الفئات التي سوف يتطلب الأمر فرض رسوم عليها من تلك التي لا يجب أن يفرض عليها رسوم. في الحلقة القادمة من هذا المقال نواصل مناقشة التساؤلات حول رسوم العمالة الوافدة في المملكة إن شاء الله.

 

بالونات الأسعار


مشكلة التوقعات طويلة الأجل أنها تستند على سيناريوهات متعددة للتنبؤ ثم نشر المناسب منها، ولأن هذه التنبؤات لن تتحقق سوى في المدى الطويل، فإن معد هذه السيناريوهات لن يحاسب عليها (لأنه ربما يكون قد مات عندما نصل الى النقطة الزمنية التي يتوقعها السيناريو).
بعض التوقعات تشير الى أن الصين والهند سوف يصبحان الاقتصادان العملاقان في العالم بحلول عام 2030 أو 2050. كذلك فإن بعض التوقعات تش
ير إلى أن نيجيريا ربما تصبح واحدا من اكبر اقتصادات العالم في 2050، ولكن بالطبع أي شيء يمكن أن يحدث في 2050. مشكلة هذه التنبؤات انها تؤثر بشكل واضح على سلوك المستثمرين والأسواق.
المأساة الحقيقية تنشأ عندما نتوقع أن نقول للمستثمر تعال وتابع عوائد استثماراتك بعد 4 عقود من الآن. إن استناد القرارات الاستثمارية على هذه النظرة طويلة الأجل أمر غير صحيح، لأن أي تنبؤ يتجاوز الخمس سنوات، أو ربما العشر سنوات قد لا يعني أي شيء لأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال توقع ماذا سوف يحدث في هذا الأجل الطويل جدا خصوصا في عالم يتسم بالتغير السريع، مثلما هو العالم الذي نعيش فيه حاليا
.
التوقعات الأكثر معقولية هي تلك التي تستند الى خمس سنوات أو ربما عشر على الأكثر، خارج نطاق هذه الاطار الزمني تعتبر التنبؤات غير صالحة، ربما بسبب تغير الأوضاع بصورة جوهرية، أو ظهور منافسين جدد. التنبؤ القائم على النظرة طويلة الأجل استند أساسا الى كتابات المتخصصين في التاريخ الاقتصادي، غير أنه من الناحية الواقعية فإن المديرين التنفيذيين غالبا ما يحصرون توقعاتهم على مدى زمني لا يتجاوز 3 – 5 سنوات. وكذلك تتم عمليات المقارنة لمعدلات العائد على الاستثمار مثلا في اطار مدى زمني لا يتجاوز سنة أو ثلاث أو ربما خمس سنوات. لماذا؟ الاجابة هي أنه لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما سيحدث في المدى الطويل، على سبيل المثال لا يمكن أن يتوقع أحد ماذا سيكون عليه حال العالم بعد قرن من الزمان من الآن بأي قدر من المصداقية، والأكثر أهمية هو أن نحاسبه على مدى صحة توقعاته (ببساطة لأنه سوف يكون قد غادر عالمنا).
خلال الخمس عقود السابقة، وفي بداية كل عقد شهد اقتصاد العالم وأسواقه نقطة تحول رئيسة، سبقها شغف عالمي نحو تحقيق الارباح استنادا الى بعض التوقعات التي على أساسها تم ضخ مئات المليارات في أصل من الأصول، ففي السبعينيات كان شغف العالم منصبا نحو الشركات الغربية مثل ديزني. في الثمانينيات كان الاهتمام منصبا على الموارد الطبيعية مثل الذهب والنفط. في التسعينيات كان الاهتمام منصبا على اليابان لدرجة أن قطعة أرض في طوكيو أصبحت أغلى في الثمن من ولاية كاليفورنيا بأكملها، وفي العقد الأول من الألفية الثانية كان الشغف منصبا حول وادي السيليكون. واليوم شغف العالم منصبا نحو الذهب مرة أخرى. بالطبع مع كل تحول تتحول مئات المليارات من الدولارات نحو الاستثمار في القطاعات الجديدة بحثا عن العوائد الأعلى.
مشكلة القائمين على التنبؤ أنهم يقدمون التنبؤات التي يسعى لها المتعاملين في الأصل، والتي تجمل لهم الاقدام على الاستثمار في هذه الأشكال من الاستثمار، حتى تبلغ المضاربات أقصاها وتتكون بالونات للأصول المختلفة ثم ينفجر البالون. تجربة بالونات أسعار الأصول في القرن العشرين توضح أن بالون الأسعار لا ينفجر في السنوات الأولى لمرحلة مرحلة الشغف بالأصل
.
هذه الأسس هي التي تقف وراء ايماني بأن الذهب يعيش مرحلة بالون أسعار كبيرة منتفخة حاليا، والتي يهاجمني فيها الكثيرون، ويتهمونني بقصر النظر، والفشل في رؤية جوهر الأمور على حقيقتها. هؤلاء للأسف يؤمنون بأن فقاعة أسعار الذهب سوف تستمر في الانتفاخ الى مالا نهاية، لكن هؤلاء لا يدركون للأسف الشديد، أن بالون الأسعار له حدود، وأن عزم الضغط داخل البالون يصل في مرحلة زمنية محددة الى اقصاه مسببا انفجار البالون وانهيار اسعار الأصل
.
من خلاصة قراءتي في كتاب
Breakout Nations
 

الجمعة، نوفمبر ٢٣، ٢٠١٢

آثار سيناريوهات المنحدر المالي الأمريكي

في الحلقة السابقة قدمنا خلفية عامة عن مفهوم المنحدر المالي الأمريكي ومكونات هذه الحزمة من الإصلاح المالي، أشرنا أيضا إلى أن أهم التحديات، التي تواجه إقرار هذه الحزمة هي اختلاف وجهات النظر بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول أولويات الإصلاح المالي المقترحة لمعالجة عجز الميزانية الأمريكية والسيطرة على نمو الدين. ذلك أن أحد أهم القضايا التي ستكون محور نزاع بين الحزبين في تمرير المنحدر المالي هي الإصلاحات التي أدخلها أوباما على برنامج الرعاية الصحية والتي تتكلف قدرا هائلا من الأموال بصورة سنوية، بينما يرى المعارضون لها أن البرنامج، بالرغم من تكلفته، لم يتمكن من تقديم حلول ناجعة للأمريكيين، الذين لا يتمتعون بغطاء تأميني صحي. وفي الوقت الذي يصر فيه الرئيس أوباما على ضرورة رفع معدلات الضريبة على الأمريكيين ذوي الدخل المرتفع، أي على الأسر التي يزيد دخلها السنوي عن 250 ألف دولار، مع استمرار الإعفاءات الضريبية للآخرين، نجد أن بونر زعيم الأغلبية في الكونجرس يصر على ضرورة الاستمرار في الإعفاء الضريبي لكل الأمريكيين، بغض النظر عن مستوى دخولهم.
هذا التباين في وجهات النظر يوحي بأنه ربما يضطر أوباما إلى استخدام حق الفيتو في وقف أي محاولة لمد العمل بالإعفاءات الضريبية المنصوص عليها في برنامج المنحدر المالي، في الوقت الذي قد يتمسك أعضاء الكونجرس من الجمهوريين فيه بعدم رفع الضريبة على المواطنين ذوي الفئات الدخلية المرتفعة، وعلى أسوأ الفروض يمكن أن يصل النقاش إلى طريق مسدود، وبشكل عام قد تتمخض المداولات بين الحزبين إلى ثلاثة خيارات أساسية للتعامل مع المنحدر المالي، جميعها للأسف غير جذابة.
الخيار الأول هو البدء في تنفيذ حزمة الإصلاح المالي المقترحة في إطار المنحدر المالي، التي يجب أن تبدأ في أوائل 2013، والتي تتمثل في إقرار زيادات ضريبية ووقف العمل بالإعفاءات، وخفض الإنفاق على النحو الذي تم تفصيله في الجزء الأول من هذا المقال. غير أن تطبيق المنحدر المالي في هذا التوقيت بالذات قد يكون غير مناسب، حيث إن وضع الاقتصاد المحلي لا يسمح بمثل هذه السياسات.
المشكلة الأساسية في تطبيق المقترح هي أن تكلفة مثل هذا الخيار ستكون مرتفعة للغاية، وفقا للتقديرات المختلفة، بصفة خاصة، فإن دراسة مكتب الميزانية في الكونجرس التي تم نشرها منذ عدة أيام تشير إلى أن المنحدر المالي سيترتب عليه خفض العجز في الميزانية بنحو 560 مليارا، وهو أهم المزايا الموجبة لهذا المقترح، إلا أنه في المقابل سيؤدي المقترح إلى خفض معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.5 في المائة في 2013 وهو ما يمكن أن يعود بالاقتصاد الأمريكي إلى مربع الكساد مرة أخرى مع قيام القطاع العائلي وقطاع الأعمال الخاص بخفض مستويات الإنفاق، ولذلك يرى الكثير من المراقبين أن الأقدام على هذه الخطوة في الوقت الحالي، حيث التعافي الاقتصادي ما زال هشا من الممكن أن يعقد أوضاع الاقتصاد الأمريكي وقد يجره إلى تراجع مزدوج.
فمنذ أن تم الإعلان عن المنحدر المالي أصبحت التوقعات للمستهلكين ولقطاع الأعمال تشاؤمية على نحو كبير. ذلك أن مخاوف رجال الأعمال حول الوضع المستقبلي للإنفاق العالم يجعلهم يترددون في الارتباط بأية نفقات رأسمالية ومشروعات جديدة، والتي يمكن أن تضيف إلى رصيد الوظائف المفتوحة في سوق العمل الأمريكي، وفي الوقت الحالي يفترض أن يتم فتح 125 ألف وظيفة جديدة شهريا لكي يتم الحفاظ على المعدلات الحالية للبطالة، غير أن أداء سوق العمل في المتوسط أقل من هذه المستويات، ويعتقد بشكل عام أن التراجع في سوق العمل الأمريكي في هذا العام سببه الأساسي المخاوف من المنحدر المالي لدى الشركات الأمريكية التي لديها احتياطيات مالية كبيرة حاليا، ولكنها تؤجل خطط التوسع الاستثماري بسبب عدم وضوح الرؤية حول اتجاهات الإنفاق المالي الأمريكي. بالطبع فإن عدم رغبة الشركات في الإنفاق تؤثر بصورة واضحة في اتجاهات النمو. هذا الاتجاه لا يتوقف فقط عند الولايات المتحدة، وإنما أيضا هناك مخاوف عالمية من المنحدر المالي الأمريكي من حيث تأثيراته على دفع الاقتصاد نحو الكساد ومن ثم التأثير على النمو العالمي، الذي يلعب فيه الاقتصاد الأمريكي دور المفتاح.
نتيجة لذلك يتوقع مكتب الميزانية في الكونجرس أن يرتفع معدل البطالة بنسبة 1 في المائة، ليصل إلى 9.1 في المائة بحلول الربع الرابع من 2013، وذلك نتيجة لفقدان سوق العمل الأمريكي نحو مليوني وظيفة. بعض المراقبين يرون أن أداء سوق العمل يمكن أن يتحسن على نحو جوهري لو زالت المخاوف المرتبطة بالمنحدر المالي، حيث إن قطاع الأعمال الخاص ما زال مترقبا لما ستسفر عنه المحادثات الخاصة بالاتفاق بسبب المخاوف من تضييق الميزانية الحكومية، التي يمكن أن تحدث آثارا انكماشية. مثل هذه الآثار تثير حالة من الهلع على مستوى العالم بصفة خاصة في أوروبا وآسيا، وذلك بسبب الآثار الارتدادية التي يمكن أن تنعكس على النمو في هذه الدول نتيجة تراجع النمو في الاقتصاد المفتاح في العالم. كذلك فإن المستثمرين وصناديق الاستثمار المختلفة تخشى من الآثار السلبية التي يمكن أن يحملها البرنامج على عوائد استثماراتهم المالية، وهناك دعوات حالية للحكومة الأمريكية داخليا وخارجيا من التدخل من أجل منع الاقتصاد من التدهور على الأقل بصورة مؤقتة نتيجة تطبيق البرنامج.
لقد أشار صندوق النقد الدولي إلى أن المنحدر المالي الأمريكي يحمل خطرا كبيرا للاستقرار الاقتصادي العالمي، حيث من المتوقع أن يترتب على ذلك انتقال الآثار بصورة كبيرة إلى العالم.
من ناحية أخرى، فإن الولايات المتحدة قد اقتربت كثيرا من الحد الأقصى الحالي للدين الأمريكي، وهو ما يقتضي ضرورة لجوء الديمقراطيين مرة أخرى إلى الكونجرس طالبين رفع سقف الدين مرة أخرى.
في مقابل هذه الآثار السلبية من المتوقع أن ينخفض عجز الميزانية كنسبة من الناتج المحلي إلى النصف. غير أن الدراسة تتوقع أن يستعيد النمو مستوياته وتتحسن نتيجة لذلك أوضاع سوق العمل الأمريكي، وهو ما سيؤدي على المدى المتوسط إلى استعادة الناتج إلى مستوياته الكامنة، حيث تعود معدلات البطالة إلى مستوياتها الطبيعية في عام 2018 عند معدل 5.5 في المائة.
الخيار الثاني هو إلغاء سياسات المنحدر المالي، فمن الممكن أن يتفق الحزبان على وقف العمل بالبرنامج أو الاتفاق على إجراءات أخرى، وتلك معركة لن تكون سهلة للديمقراطيين، بعد هزيمة رومني، المشكلة الأساسية التي تواجه الاتفاق هي احتمال تكرار نفس الجدل البيزنطي، الذي ثار عندما كان الكونجرس يناقش رفع سقف الدين، فالجمهوريون يؤيدون خفض العجز في الميزانية، ولكن من ناحية الإنفاق من خلال خفض برامج الرعاية الاجتماعية مثل الرعاية الصحية، وتتمثل وجهة نظر الديمقراطيين في خفض العجز ولكن من خلال رفع الضرائب أساسا.
من ناحية أخرى، إذا تم وقف العمل بالمنحدر المالي، فسيستمر النمو في الدين العام الأمريكي حتى نهاية هذا العقد، وما بعده، وهو ما ينذر بحدوث أزمة مالية، ستجعل المعدلات المنخفضة للفائدة على السندات الأمريكية جزءا من الماضي، ولن تتمكن الولايات المتحدة من الاقتراض بمعدلات فائدة معقولة مرة أخرى، وهو ما سينعكس بالتبعية على معدلات نمو الناتج وسينخفض الناتج المحلي الإجمالي والدخل إلى مستويات أقل من تلك التي يتوقع أن تحدث لو تم الالتزام ببرنامج المنحدر المالي.
الخيار الثالث هو أن تتخذ الولايات المتحدة خطوة بين الاثنين، فالعديد من المراقبين يرون أن الرئيس وقائد الأغلبية يمكن أن يتوصلا إلى حل توافقي يتجنب الآثار الاقتصادية الممكنة للمنحدر المالي. فزعيم الأغلبية يصر على أن الرئيس لا بد أن يخفض مستويات الإنفاق التي كانت مسؤولا عن زيادة الدين، وأن تتم مواجهة عجز الميزانية، لكن عند مستوى محدد، وذلك من خلال العمل على التوصل إلى حزمة إصلاح توافقية للمالية العامة، حيث تحقق مطالب الطرفين ولو بصورة جزئية على الأقل، بصفة خاصة يمكن للرئيس أن يحقق مواءمة بمقتضاها يعيد التخفيضات في الإنفاق العسكري في مقابل خفض أقل في مقدار الإنفاق العام، وكذلك حول مقدار التعديلات المقترحة في خفض الضرائب وحجم العجز، ولكن تأثير ذلك على كل من النمو والعجز سيكون محدودا. وبشكل عام هناك احتمال أن يتم تأجيل الموضوع حتى فتح الكونجرس في الثالث من كانون الثاني (يناير).

المنحدر المالي الأمريكي

ما إن توقفت أجراس الانتخابات الأمريكية وأطفئت أضواء قاعات الاقتراع وخفت حدة الصراع السياسي بين المرشحين الرئيسين في الانتخابات حتى انفجر الحديث عن المنحدر المالي Fiscal cliff الذي يعتبر حاليا أكثر المصطلحات الاقتصادية تداولا في وسائل الإعلام الأمريكية اليوم. مصطلح المنحدر المالي ليس جديدا، وإنما كانت تتناوله وسائل الإعلام الاقتصادية من وقت إلى آخر قبل انتخابات إعادة الرئاسة على استحياء باعتبار أنه ما زال هناك بعض الوقت المتبقي لتطبيق البرنامج، ولكن لماذا أطلقت عليه هذه التسمية الغريبة بعض الشيء ''المنحدر (أو الهاوية) المالي''؟. للإجابة على هذا السؤال علينا أن نعلم أن الصراع الذي جرى بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري على رفع سقف الدين الأمريكي، والذي بلغ أشده في منتصف 2011 أدى إلى تهديد قدرة الولايات المتحدة على الوفاء بالتزاماتها المالية، وهو ما ترتب عليه خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة.
من حسن حظ الولايات المتحدة أن مخاطر الديون السيادية في معظم أنحاء العالم مرتفعة، وهي العمود الأساسي الذي يسند الاتجاه الدولي الحالي نحو الاستثمار في السندات الأمريكية، الأمر الذي يساعد على خفض معدلات الفائدة على السندات الأمريكية وبالتالي خفض تكاليف خدمة الدين الأمريكي عند حدود دنيا. غير أن الحجم الهائل لرصيد الدين القائم اليوم يشير إلى أن أي ارتفاع مستقبلي في معدلات الفائدة على الدين الأمريكي سيؤدي إلى انفجار تكلفة خدمة الدين مع أي تصاعد في معدلات الفائدة على السندات الأمريكية في المستقبل، ومن ثم تراجع في تصنيف الدين. العامل الأساسي الذي يعمل على وقف الارتفاع المحتمل في معدلات الفائدة على السندات الأمريكية هو استمرار مشكلة الدين السيادي الأوروبي على نحو سيئ، وهو ما يؤدي إلى استعداد الكثير من المستثمرين الدوليين لسد العجز في الميزانية الأمريكية في ظل ظروف ارتفاع مستويات المخاطر المالية البديلة في العالم في الوقت الحالي. مما لا شك فيه أن أي تراجع في هذه الشروط من الممكن أن يصرف المستثمرين الدوليين عن الاستثمار في عجز الميزانية الأمريكي، وبالتالي يؤدي إلى تدهور سريع في وضع الدين الأمريكي وثقة العالم فيه.
يبلغ سقف الدين الأمريكي حاليا 16.394 تريليون دولار، ومن المتوقع أن يصل الدين القائم إلى هذا السقف في بداية 2013، حيث ستبدأ معه جولة جديدة من المفاوضات المرهقة بين الحزبين. لقد كانت مفاوضات الجولة السابقة ضارة بسمعة الاقتصاد الأمريكي وترتب عليها العديد من الأضرار، منها تخفيض التصنيف الائتماني للدين الأمريكي لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة من جانب مؤسسة ستاندارد آند بورز، هذا الخفض كان مكلفا للولايات المتحدة بصورة كبيرة، ففي دراسة أجراها مكتب المحاسبة الحكومية أثبتت أن النزاع حول رفع سقف الدين قد أدى إلى رفع تكلفة الاقتراض للولايات المتحدة بنحو 1.3 تريليون دولارا للسنة المالية 2011.
الولايات المتحدة تفتقد اليوم إلى خطة مكثفة طويلة الأجل حول خفض العجز المالي، والتي تتناول الحاجة إلى الإصلاح الضريبي وأشكال الاستحقاق الأخرى وهو ما أدى بالحكومة الأمريكية إلى اللجوء إلى الوسائل قصيرة الأجل في الوقت الذي اتسع فيه الدين الأمريكي إلى مستويات غير مستدامة، وفقا لكل السيناريوهات المتاحة حاليا. لذلك جاء المنحدر المالي لمحاولة ضبط المالية العامة الأمريكية.
المنحدر المالي هو مصطلح يستخدم حاليا في النقاش حول وضع المالية العامة الأمريكية ويعبر عن حزمة من الإجراءات المالية التي تفكر حاليا الولايات المتحدة في استخدامها للتخفيف من حدة التطورات الحالية على الميزانية الأمريكية والدين العام الأمريكي، وتتكون هذه الحزمة من مجموعة من الإجراءات الهادفة إلى خفض الإنفاق العام الأمريكي وزيادة الضرائب، ومن المفترض أن يتم تطبيق هذه الحزمة بنهاية عام 2012، أو أوائل عام 2013. المنحدر المالي إذن هو برنامج يستهدف تخفيض الإنفاق العام على نحو واضح، وزيادة الإيرادات العامة في المقابل لخفض عجز الميزانية، وبالتالي فهو يمثل منحدرا أو هاوية مالية ينحدر عليها الإنفاق العام، حيث سيتم خفض الإنفاق على ألف برنامج حكومي وكذلك خفض نفقات الدفاع وبعض البرامج الاجتماعية مثل برنامج Medicare حتى عام 2022، وينخفض نتيجة لذلك العجز المالي.
والآن ما مكونات برنامج المنحدر المالي؟ إن المنحدر المالي هو في جوهرة حزمة إصلاح مالي مكثفة تهدف إلى خفض عجز الميزانية سنويا بنحو 600 مليار دولارا وتتمثل المكونات الأساسية للمنحدر المالي والتكلفة التي ستتحملها الحكومة الأمريكية لتجنب المنحدر من خلال الاستمرار في الإبقاء على الإعفاءات الضريبية وبرامج الإنفاق الحالي كما هي، وفقا للجنة المسؤولة عن الميزانية الفيدرالية في الآتي:
1- انتهاء الإعفاءات الضريبية التي أقرت في عهد الرئيس السابق جورج بوش، حيث تم إقرار هذه الإعفاءات في 2001 و2003، والتي يفترض أن تنتهي في 31 كانون الأول (ديسمبر) القادم، وإذا لم يتم مد العمل بهذه الإعفاءات فإن معدل الضريبة الحدي الأقصى سيرتفع من 35 إلى 39.6 في المائة، وكذلك ترتفع باقي المعدلات الأخرى معه. كما سيتم خفض الإعفاء الضريبي للأطفال إلى النصف، وإعادة الضرائب على عوائد العقارات إلى مستويات 2001، كذلك سيتم رفع الضرائب على الأرباح الرأسمالية وتوزيعات الأرباح، وتبلغ تكلفة هذا الإجراء لعام 2013 نحو 110 مليارات دولار، والتكلفة في عشر سنوات 2.8 تريليون دولارا.
2- توسيع نطاق الحد الأدنى للضريبة البديلة، وهذه يدفعها نحو 4.4 مليون دافع ضريبة فقط في الوقت الحالي، هذا التعديل سيطول نحو 33 مليون دافع للضريبة في 2012، وتكلفتها في 2013 تصل إلى 125 مليار دولار، وإجمالي التكلفة في السنوات العشر 1.7 تريليون دولار.
3- وقف الإعفاءات الضريبية على الأجور وبدل البطالة الممتد، حيث يمثل الارتفاع في الضريبة على الأجور 2 في المائة، بينما سيتم إلغاء دفع بدل البطالة لمدة أكثر من ستة أشهر، وتقدر تكلفة ذلك في عام 2013 بنحو 115 مليار دولار، وفي السنوات العشر بنحو 150 مليار دولار.
4- خفض مدفوعات الرعاية الصحية للأطباء، حيث سيتم خفض مدفوعات الرعاية الصحية للأطباء بنحو 27.4 في المائة وتبلع تكلفة هذا الإجراء في 2013 نحو عشرة مليارات دولار، بينما يبلغ إجمالي التكلفة في عشر سنوات 270 مليار دولار.
5- بدء الخفض الأتوماتيكي في الإنفاق العام، ويتم ذلك بدءا من الأول من كانون الثاني (يناير) 2013، حيث سيتم خفض الإنفاق على الدفاع بنسبة 10 في المائة، والإنفاق الطارئ بنسبة 8 في المائة ومدفوعات الرعاية الصحية بنسبة 2 في المائة، وتبلغ تكلفة ذلك في 2013 نحو 65 مليار دولار وفي عشر سنوات نحو 980 مليار دولار.
6- انتهاء الإعفاءات الضريبية الأخرى، حيث سيتم إلغاء جميع الإعفاءات الضريبية الأخرى مثل المنح الضريبية للبحوث والتطوير، والخفض في ضريبة المبيعات، والتي من المفترض أن تنتهي بنهاية 2011، وتبلغ تكلفتها 30 مليار في 2013، وفي عشر سنوات نحو 455 مليار دولار.
7- ضرائب الرعاية الصحية لأوباما، يتضمن قانون حماية المريض وتقديم الرعاية الصحية بأسعار معقولة بعض الزيادات في الضرائب بما في ذلك زيادة 0.9 في المائة على أجور أصحاب الدخول المرتفعة، وزيادة الضريبة على دخول الاستثمار. وتبلغ تكلفتها 25 مليار في 2013 و 420 مليارا في السنوات العشر المقبلة.
ووفقا لهذه التقديرات تقدر تكلفة المنحدر المالي في حال استمرار الأوضاع المالية كما هي عليه نحو 8.1 تريليون دولار في السنوات العشر المقبلة.
تجدر الإشارة إلى أن برنامج المنحدر المالي ليس مؤكدا حتى الوقت الحالي، ذلك أن القانون الخاص به نص على أن تطبيق المنحدر المالي سيتطلب توافقا بين الحزبين، وهي مسألة أراها قد تكون صعبة في الوقت الحالي بعد هزيمة الجمهوريين وضمان الديمقراطيين مقعد الرئاسة لفترة ثانية. ذلك أن هناك اختلافا واضحا بين الحزبين حول دور الحكومة والسبل المناسبة للتعامل مع الوضع المالي الحالي فيما يتعلق بضرورة الخفض الضريبي كوسيلة لزيادة الإيرادات العامة والسيطرة على العجز المالي في الميزانية، بصفة خاصة الحزبان مختلفان حول كيفية مد العمل بالإعفاءات الضريبية للرئيس السابق بوش، وهي أكبر مكونات المنحدر المالي. فالجمهوريون يميلون إلى الدفع نحو مد العمل بالتخفيضات الضريبية، بينما يميل الديمقراطيون إلى مد العمل بالإعفاء الضريبي باستثناء الضريبة على الأغنياء الذين يمثلون نحو 2 في المائة من دافعي الضرائب. وفي الوقت الذي يرى فيه الديمقراطيون أن زيادة الضرائب يجب أن تكون جزءا من أية حزمة للاتفاق على خفض الإنفاق على المدى الطويل. كذلك يؤيدون بشكل عام خفض الإنفاق على الدفاع.
ولكن كيف ستتعامل الإدارة الأمريكية مع المنحدر المالي، وما الآثار المرتقبة من تطبيقه، هذا موضوع المقال التالي ــــ إن شاء الله.

اليانصيب الوهمي

أثناء قراءتي في كتاب ''لماذا تسقط الأمم''، Why Nations Fail لفتت نظري هذه القصة الطريفة التي حدثت في كانون الثاني (يناير) 2000، حيث تم عمل سحب على يانصيب قومي في زيمبابوي بواسطة بنك حكومي هو بنك شركة زيمبابوي للصيرفةZimbabwe Banking Corporation، وكانت قيمة جائزة اليانصيب 100 ألف دولار زيمبابوي. كانت الحسابات المؤهلة لدخول السحب هي كل الحسابات التي رصيدها خمسة آلاف دولار زيمبابوي أو يزيد في كانون الأول (ديسمبر) 1999. أثناء إجراء السحب أعلن القائم على السحب عندما تسلم الورقة صاحبة اسم الحساب الفائز بأنه لا يكاد يصدق عينيه، لأن من فاز باليانصيب هو صاحب الفخامة السيد روبرت موجابي رئيس الدولة.
تلك الفقرة ذكرتني بالعسكري رجب، الذي كان يلعب دوره إسماعيل ياسين في الفيلم المصري ''إسماعيل ياسين في الأسطول''، الذي كان يحتاج إلى 100 جنيه مصري كي يفك رهنية منزل حبيبته حتى يتزوج بها، ورغبة منهم في مساعدته اتفق من على ظهر السفينة على عمل سحب يانصيب وهمي يشترك فيه الجميع كل واحد بمبلغ جنيه واحد، على أن يتم السحب لمصلحة العسكري رجب. كانت فكرة ترسية السحب على العسكري رجب بسيطة، وهي أن تكون كل الأوراق التي سيتم سحب الفائز منها باسم العسكري رجب. لم يصدق العسكري رجب عينيه عندما فاز، وأخذ يقلب في الأوراق فاكتشف الحيلة التي قام بها أصدقاؤه لمساعدته في محنته.
يبدو أن المسؤولين في بنك شركة زيمبابوي للصيرفة شاهدوا الفيلم المصري أو قرروا أن يفعلوا الشيء نفسه لمصلحة الزعيم الملهم روبرت موجابي، حيث ادعى القائم على سحب اليانصيب أن اسم موجابي تم سحبه من بين آلاف الأسماء المؤهلة لدخول السحب، بالطبع لو كنا في دولة تتبع مبادئ النزاهة والشفافية والحكم الرشيد وتراعي تأثير تضارب المصالح، فإن اسم فخامة الرئيس لم يكن من بين المؤهلين للجائزة. كانت الجائزة في ذلك الوقت تساوي تقريبا خمسة أضعاف الدخل السنوي للفرد في زيمبابوي. بالطبع لاحقا في عام 2009، لم يكن لهذه الجائزة أية قيمة على الإطلاق حيث لم تكن تكفي لشراء بيضة واحدة في التضخم الجامح الرهيب الذي عاشته زيمبابوي على يد موجابي، حيث بلغ سعر البيضة ثلاثة ملايين دولار زيمبابوي.
لم يكن الرئيس بالطبع في حاجة إلى هذه الجائزة، فديكتاتور مثل موجابي لن يعدم الوسائل التي يؤمن بها الوضع المادي له ولأسرته لأجيال عدة قادمة. لكن القصة تكشف عن مدى السيطرة التي كان يمارسها الديكتاتور، وعن الجذور المترسخة للفساد في مؤسسات الدولة التي يحكمها. حينما يتولى شؤون الدولة رؤساء مثل موجابي الذي يحرص على أن يسير كل شؤون الدولة نحو كرسيه ونحو الصفوة ممن حوله، ليس من المتوقع لمثل هذه الدولة سوى أن تنهار إن آجلا أو عاجلا.
لقد تولى روبرت موجابي ديكتاتور زيمبابوي الحكم في عام 1980، وفي عهده وعلى مدى ثلاثة عقود ركع اقتصاد زيمبابوي على ركبتيه، وتحول الشعب الزيمبابوي إلى واحد من أفقر شعوب العالم، وبعد أن كانت زيمبابوي دولة مصدرة للغذاء قبل ثورته المجيدة، تحولت على يديه إلى دولة يعتمد انتشار مرض سوء التغذية فيها على ما تتلقاه البلاد من معونات غذائية من الخارج، واضطر نحو نصف الشعب الزيمبابوي إلى الهجرة خارج البلاد هربا من الجحيم الذي وضعهم فيه موجابي.
في عام 2008 سقطت الدولة تقريبا ولم تعد حتى قادرة على تقديم الخدمات العامة لسكانها، وبين 2008- 2009 أدى انهيار النظام الصحي في زيمبابوي إلى انتشار مرض الكوليرا (مرض الدول الفقيرة)، حيث أصيب بالمرض نحو 100 ألف شخص توفي منهم نحو خمسة آلاف شخص كان من الممكن إنقاذهم بسهولة لو أن النظام الصحي يعمل كما يجب، ما جعلها واحدة من أشد حالات الإصابة بالمرض في إفريقيا في السنوات الأخيرة.
عندما سقطت الدولة، ونظم الإنتاج فيها لم يجد موجابي لاستمرار حصوله على الدعم الذي يريده لتأمين كرسيه من مخرج سوى طبع النقود وبكميات رهيبة، ما تسبب في حدوث ثاني أكبر تضخم جامح في العالم في عامي 2008 و2009، وبدءا من عام 2005، أخذ الدولار الزيمبابوي في الانهيار أمام الدولار الأمريكي. عندما تولى موجابي الحكم كان معدل الصرف بين عملة زيمبابوي والدولار الأمريكي 1 دولار زيمبابوي إلى 1.47 دولار أمريكي، بحلول تموز (يوليو) 2005 بلغ معدل صرف الدولار الأمريكي 17500 دولار زيمبابوي، وبعدها بعام 550 ألف دولار زيمبابوي وفي أتون التضخم الجامح في كانون الثاني (يناير) 2009 بلغ معدل صرف الدولار الأمريكي واحد تريليون (تريليون هو 1 أمامه 12 صفرا) دولار زيمبابوي.
في ظل هذا التراجع الرهيب في قيمة العملة فإن الجمهور لا بد أن يبحث عن استخدام بديل للعملة الوطنية يكون أكثر استقرارا في الحفاظ على القوة الشرائية للدخول، حيث يصبح استخدام العملات الأجنبية أمرا حتميا، مثلما حدث في زيمبابوي، ففي كانون الثاني (يناير) 2009 أصبح استخدام العملات الأجنبية مثل الراند الجنوب إفريقي أو الدولار الأمريكي قانونيا، وهو ما يطلق عليه مصطلح الدولرة Dollarization الذي يعني بشكل عام إحلال العملات الأجنبية محل العملة الوطنية. مكنت الدولرة زيمبابوي من السيطرة على التضخم الجامح، الذي قدر معدله في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 بـ 79600000 في المائة شهريا، أو ما يعادل معدل 89 سكستيليون (سكستيليون هو واحد أمامه 21 صفرا) سنويا. من الطبيعي في ظل هذه الظروف أن تحتاج البلاد إلى عملات ورقية تحمل أرقاما فلكية، وهو ما حدث بالفعل، فقد كان آخر عملة ورقية أصدرتها زيمبابوي قبل إلغاء عملتها الوطنية تحمل الرقم 100 تريليون دولار.
نتيجة للتضخم الجامح ووفقا لأفضل الإحصاءات المتاحة، بلغ دخل الفرد في زيمبابوي في 2008 نصف مستوى دخله تقريبا عندما قامت الثورة على يد الزعيم الملهم في 1980، وكان هناك نحو 80 في المائة من السكان تحت خط الفقر، الذي بلغ في عام 2008 نحو 13 تريليون دولار شهريا.
في عام 1990 قام موجابي بفرض عمليات الإصلاح الزراعي من خلال إعادة توزيع الأراضي من ملاكها البيض على المزارعين السود، في محاولة لتحقيق نوع من العدالة في توزيع الثروة الوطنية، غاية قد تبدو نبيلة لكن التطبيق العملي غالبا ما يؤدي إلى آثار كارثية، فقد تم تسليم الأراضي لملاك ليس لهم خبرة بالزراعة، فكانت النتيجة أن انهارت الزراعة في زيمبابوي. أدى تقسيم المزارع التجارية في زيمبابوي، إلى التأثير بصورة جوهرية في الإنتاج الزراعي، فقبل عام 2000 كان الإنتاج الزراعي في زيمبابوي يتم بصورة حديثة، على سبيل المثال كانت زيمبابوي سادس أكبر منتج للدخان في العالم، وأحد المنتجين الأساسيين للطعام في المنطقة. بعد ما يسمى بالإصلاح الزراعي في زيمبابوي تراجع الإنتاج الزراعي بصورة كبيرة، وهو ما ترتب عليه انتشار المجاعة وسوء التغذية، بعد أن كان يطلق على زيمبابوي سلة الخبز في جنوب إفريقيا، وأصبح أكثر من نصف السكان يعانون سوء التغذية.
من ناحية أخرى فإنه في عام 2009، ووفقا لإحصاءات الأمم المتحدة، بلغ معدل البطالة في زيمبابوي 94 في المائة، أي أنه من بين كل 100 من قوة العمل هناك ستة عمال فقط يعملون، والباقي يبحثون عن عمل ولا يجدونه، لم تقع عيني على مصدر يتحدث أنه في التاريخ تم تسجيل مثل هذه المعدلات الرهيبة للبطالة. إنها القصة نفسها التي تتكرر مع كل ديكتاتور يدفع به القدر إلى كرسي الحكم في الدول المنكوبة بأمثال روبرت موجابي، حيث يحرص النظام على منع أي محاولة للتقدم يمكن أن تهدد كرسي الحاكم أو الصفوة التي تلتف حوله، ويعمل على تشجيع أي أعمال تلفت انتباه الناس عنه أو عن الصفوة التي تلتف حوله، حتى إن تطلب ذلك إشعال حرب داخلية أو مع الآخرين.
قصة موجابي تتكرر في كل الدول النامية ذات الحكم الديكتاتوري، بصورة أو بأخرى، حيث يسخر الديكتاتور موارد الدولة من أجل استمرار البقاء على كرسيه ولمصلحة الصفوة من حوله، والتجربة التاريخية تثبت أن أمثال موجابي يمكن أن يتسببوا في سقوط أمة بأكملها، وإن اختلفت التفاصيل من حالة إلى أخرى، فأخيرا بشكل أو آخر سقطت تونس ومصر وليبيا، وسورية في الطريق للسبب نفسه.

الاثنين، نوفمبر ١٩، ٢٠١٢

تهيئة بيئة الأعمال في الدول النامية


تشير التقارير الدولية عن بيئة الأعمال في الدول النامية إلى وعورة هذه البيئة في الجانب الأكبر من هذه الدول سواء أمام المستثمر المحلي أو المستثمر الدولي، وبشكل عام تحتل الدول النامية مراكز متأخرة جدا عالميا وفقا للتقرير الدولي لأداء الأعمال الذي يصدره البنك الدولي بصورة سنوية حول بيئة الأعمال في دول العالم المختلفة والقواعد التي تحكم هذا القطاع، ويلاحظ من متابعة نتائج تلك التقارير أن بيئة الأعمال في تلك الدول تتصف بطول الإجراءات وتعقدها وطول الوقت اللازم للانتهاء منها واستيفاء المتطلبات البيروقراطية اللازمة للتعامل معها. من ناحية أخرى فإن هناك شكوى مشتركة بين المستثمرين المحليين والدوليين من أن قواعد قطاع الأعمال وتطبيقها يفتقر إلى الشفافية والاتساق، حيث تكون عملية اتخاذ القرارات مشوهة في أغلب الأحوال بتضارب المصالح، وهو ما يؤدي بدوره إلى انتشار الفساد والممارسات غير العادلة التي تؤثر بصورة سلبية على تنافسية اقتصادات هذه الدول وثقة المستثمرين في تلك الاقتصادات.
مما لا شك فيه أن الدول النامية في حاجة ماسة إلى تحسين بيئة الأعمال بالشكل الذي يساعد على رفع كفاءة قطاعات الأعمال سواء العامة أو الخاصة فيها وتعظيم مساهمتها في النمو، بصفة خاصة تحتاج بيئة الأعمال في تلك الدول إلى تهيئتها بصورة أفضل من خلال إعادة صياغة القوانين والإجراءات الروتينية التي تهدف إلى تحرير الاقتصاد وزيادة مشاركة القطاع الخاص، سواء المحلي أو الأجنبي في الأنشطة الاقتصادية المختلفة في تلك الدول لرفع درجة كفاءة استغلال الموارد فيها وزيادة قدرة تلك الدول على الوصول إلى الأسواق الخارجية. ذلك أن مواجهة تراجع مستويات الكفاءة الاقتصادية الناشئة عن ارتفاع حجم الحكومة، أو ارتفاع درجة التدخل الحكومي المكثف في الاقتصاد الوطني يقتضي في الجانب المقابل زيادة الدور الذي يلعبه القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي المحلي وذلك لأغراض تعزيز الكفاءة الاقتصادية ورفع مستويات التنافسية الكلية للاقتصادات الوطنية، وتتعدد السبل التي يمكن من خلالها رفع درجة مشاركة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي في تلك الدول، وذلك إما من خلال تحويل المنشآت العامة إلى القطاع الخاص، حيث أصبح من الضروري في هذا المجال إقرار القوانين التي تسرع من عمليات الخصخصة وتجعل عمليات تحويل المشروعات العامة نحو القطاع الخاص تتم على أساس مؤسسي، وفي غضون فترات زمنية قياسية لتمكين الحكومات في تلك الدولة من التخلص من أعباء تكلفة المشروعات الإنتاجية العامة على ميزانياتها بتحويل هذه المشروعات نحو القطاع الخاص، أو من خلال رفع درجة مساهمة القطاع الخاص عن طريق فتح السبل أمامه لتأسيس المشروعات الجديدة في مختلف قطاعات النشاط الاقتصادي، أو رفع درجة اعتماد القطاع الحكومي والعام على القطاع الخاص في تأدية الخدمات التي تحتاج إليها أنشطة هذين القطاعين.
كذلك تحتاج الدول النامية إلى توجيه الجهود بصورة أكبر نحو رفع مستويات المسائلة في المؤسسات العامة والخاصة، حيث تفقد تلك الدول موارد كبيرة نتيجة للسياسات أو الممارسات الغير مسئولة من قبل بعض القائمين على المؤسسات العامة والخاصة، ونتيجة لذلك، أصبح الكثير من الأفراد في تلك المجتمعات أقل ثقة في قدرة مؤسسات الدولة على حماية مصالحهم ومواردهم، الأمر الذي يؤدي إلى شيوع الإحباط بين المبادرين وأصحاب الأفكار الجديدة في مواجهة حائط الفساد الذي يصطدمون به في مؤسسات تلك الدول. إن تبني الإجراءات اللازمة فيما يتعلق بتقصي المعلومات حول كافة عمليات الجهات الإدارية الحكومية بهذه الدول يعد أمرا ضروريا لتحسين الكفاءة ورفع مستويات الشفافية في عمليات اتخاذ القرارات والتأكد من شفافية الذمة المالية للمسئولين لحماية مصالح أصحاب الشأن المختلفين في قطاعات الأعمال وصغار المساهمين في أسواق المال.
يتسم مناخ الأعمال أيضا في الجانب الأكبر من الدول النامية بالتدخل المكثف للدولة في آليات عمل السوق إما بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة من خلال القوانين والنظم البيروقراطية  التي تعطل عمل السوق الحر وتحول دون الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة، ومن المعلوم أن النظرية الاقتصادية تشير إلى أن الأسواق الحرة الخالية من التدخل الحكومي تساعد على تحقيق الكفاءة الاقتصادية في استغلال الموارد المتاحة للدولة والتي تنصرف إلى الكفاءة الفنية أو الإنتاجية، أي قدرة الاقتصاد على إنتاج السلع والخدمات بأدنى تكلفة ممكنة من الموارد المتاحة، والكفاءة التخصيصية والتي تنصرف إلى قدرة الاقتصاد على تخصيص الموارد المتاحة لإنتاج توليفة السلع والخدمات التي تحتاجها الأسواق والمستهلكين في تلك الدول. من ناحية أخرى فإن هناك قدر كبير من الكتابات الاقتصادية التي تشير إلى أن التدخل الحكومي في الأسواق يعد ضارا إلى حد كبير باعتبارات الكفاءة في استغلال الموارد وتخفيض تنافسية الدول في مواجهة الدول الأخرى. لذلك يعد تحرير الأسواق من خلال اتخاذ الإجراءات الضرورية لتقليل التدخل الحكومي في عملية تحديد الأسعار أمرا ضروريا لتسهيل انتقال الدولة نحو اقتصاد يعتمد بصفة أساسية على آليات السوق لاستغلال الموارد بصورة أفضل.
تعتبر الممارسات الإدارية العلمية والاستراتيجيات الجيدة للشركات من المدخلات الأساسية لرفع مستويات تنافسية الدول، كما أن رفع درجة ثقة الأفراد في قدرة قطاع الأعمال وتنافسيته، يتطلب اتخاذ الإجراءات الضرورية لتحسين مستويات مسئولية إدارات الشركات ورفع مستويات المسائلة والشفافية في ذات الوقت في تلك الشركات، ولا شك أن تحقيق ذلك يتطلب ضرورة زيادة مستوى الرقابة على الأنشطة الإدارية، وتطبيق قواعد مسئولية إدارة الشركات، وضمان وجود معايير شفافة وموضوعية لشغل المناصب التنفيذية العليا في الشركات، خصوصا المساهمة منها، بحيث تكون مبنية بصفة أساسية على المؤهلات المناسبة والمهارة، وليس على أساس العلاقات أو المصالح أو درجة الإخلاص للنظام، أو الانتماء إلى أسرة معينة، إلى آخر هذه القائمة من المعايير غير الموضوعية التي تنتشر في الدول النامية وتؤثر بصورة كبيرة على كفاءة إدارات الشركات فيها.
إن المتتبع لقوانين حماية الملكية الفكرية يلاحظ أن قوانين الدول النامية هي أقل القوانين حماية لهذه الحقوق، ومن المعلوم أن حماية حقوق الملكية الفكرية تلعب دورا أساسيا في تأسيس صناعات محلية مبنية على الابتكار، ولتحسين مناخ الأعمال تحتاج الدول النامية إلى العمل على تعديل القوانين ذات الصلة، أو إصدار قوانين جديدة لحماية حقوق الملكية الفكرية، وفي ذات الوقت وضع الآليات اللازمة لضمان التأكد من سلامة تطبيق هذه القوانين من الناحية العملية، وهو ما يتطلب ضرورة أن تقوم السلطات المختصة في هذه الدول باتخاذ الخطوات الضرورية لتشديد تطبيق القوانين ذات الصلة بحقوق الملكية الفكرية، وخلق وعي عام حول أهمية حماية الحقوق الفكرية في الاقتصاد الوطني، وتأسيس جهات خاصة تشرف على تطبيق هذه القوانين حفاظا على تلك الحقوق والتأكيد على السمعة الجيدة لهذه الدول في هذا المجال، حيث أنه في الكثير من الأحيان يحتاج التدفق الفعال للاستثمار الأجنبي إلى التأكد من توافر اطار قانوني فعال لحماية الملكية الفكرية. 
وأخيرا غالبا ما يتصف مناخ الأعمال في الدول النامية بارتفاع درجة الاحتكار في الأسواق، سواء من جانب الدولة أو من جانب مؤسسات الأعمال الخاصة. لذلك لا بد من التأكد من أن الاطار القانوني لبيئة الأعمال في تلك الدول يضمن حماية المنافسة الحرة في الأسواق ويشجع عليها، ليس فقط ذلك، وإنما لا بد من التأكد من أن التطبيق العملي للقوانين والقواعد التي تمنع الاحتكار وحماية الأسواق والمستهلك من القوى الاحتكارية التي يمكن أن تضر به يتمتع بالقوة والصرامة المناسبة، للحيلولة دون تركز الأسواق وسيطرة مجموعات محددة للأعمال على الأسواق في الدولة، ومن المعلوم أن تنامي القوى الاحتكارية في الأسواق يتسبب عنه الكثير من الآثار السلبية على السوق والمستهلك وعلى عملية الاستخدام الأكفأ للموارد في المجتمع، ولذلك تحتاج حكومات الدول النامية إلى التطبيق الفعال لقوانين منع الاحتكار لضمان حماية المنافسة في الأسواق وحماية المستهلك من الآثار الضارة التي تترتب على سيطرة القوى الاحتكارية على السوق.
إن تهيئة بيئة الأعمال وضمان مناخ جيد لها في الدول النامية يتطلب جهدا تشريعيا كبيرا وتعاونا واضحا بين الحكومة والمؤسسات المختلفة من أجل سن القوانين المناسبة لخلق بيئة أعمال كفئة وتنافسية وخالية من الفساد، بحيث تضمن حسن استخدام موارد هذه الدول واطلاق قوى المنافسة بها لترتفع قدرتها على الابتكار والإبداع واختراق أسواق الدول الأخرى.

نحو قطاع صناعي فاعل خليجيا.. دور البحث العلمي والتطوير


تناولنا في الحلقة السابقة من هذه السلسلة دور التعليم في التنمية الصناعية بدول مجلس التعاون، اليوم نتناول قضية لصيقة بدور التعليم وهي البحث العلمي والتطوير Research and Development، تعد البحوث والتطوير أحد المدخلات الأساسية لعمليات الابتكار في الدولة، والتي تصب في رفع قدرة الاقتصاد المحلي على المنافسة، ففي التقرير السنوي عن قطاع البحوث والتطوير والابتكار الأمريكي، أشار المجلس الوطني للعلوم إلى أن النمو الاقتصادي الأمريكي يعتمد بصورة أساسية على القدرة على التعليم والابتكار والبناء. هذه المكونات الأساسية الثلاثة هي ما يشكل مصدر القوة الأساسية للاقتصاد الأمريكي والتي تضعه في طليعة اقتصاديات العالم حاليا. لقد كانت الابتكارات القائمة على البحوث والتطوير دائما أحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد الأمريكي، حيث تساهم بصورة أساسية في نمو الثروة القومية ورفع مستويات التوظف ورفع جودة الحياة العام بشكل عام، ولاستمرار تمتع الاقتصاد الأمريكي بهذه المزايا تنفق الولايات المتحدة حوالي 250 مليار دولارا سنويا كاستثمارات في مجال البحوث والتطوير، موزعة ما بين الحكومة الأمريكية وقطاع الأعمال الخاص الذي يستثمر أيضا نسبة جوهرية من قيمة نشاطه على عمليات البحوث والتطوير لدعم الطاقة الابتكارية للولايات المتحدة ولضمان احتلالها المراكز الأولى في النشاط الصناعي العالمي.
الابتكار هو إدخال منتج جديد أو تحسين خصائص المنتجات الحالية بصورة جوهرية، أو إدخال عمليات جديدة أو تحسين خصائص العمليات القائمة بصورة جوهرية، ولا يقتصر الابتكار بالطبع على عمليات التصنيع، وإنما يمتد أيضا إلى مجالات التنظيم والتسويق وممارسات الأعمال وغيرها، ويعد الابتكار أحد المحركات الأساسية للنمو الاقتصادي في العالم، فكافة الدراسات التي أجريت في هذا المجال أثبتت أن الابتكار يؤدي دائما إلى إدخال سلع وخدمات جديدة أو منتجات ذات مواصفات أو خصائص محسنة بصورة جوهرية، كما يرفع من مستويات الإنتاجية ويخفض الأسعار، ولذلك ليس من المستغرب أن نجد أن الدول التي تتسم بارتفاع معدلات الابتكار فيها هي ذاتها الدول التي تتمتع بأعلى مستويات النمو والدخول والرفاه في العالم.
ويتسم البحث العلمي والتطوير بأنه قطاع ترتفع درجة المخاطر المحيطة بالأنشطة التي تمارس فيه على نحو واضح، وذلك نظرا للميزانيات الضخمة التي يجب أن تخصص لمثل هذه الأنشطة، في الوقت الذي لا تكون فيه نتائج هذه الأنشطة مضمونة، لذلك تصبح المشاركة في الإنفاق على أنشطة البحوث والتطوير بين كل من الحكومة والشركات الصناعية المختلفة ضرورة أساسية في هذا المجال. على سبيل المثال تقوم الولايات المتحدة بدعم جهود البحوث والتطوير من خلال عدد من الأدوات أهمها الدعم الفدرالي المباشر لجهود البحوث والتطوير في مجالات الدفاع والمجالات المدنية التي تدعم البحوث الأساسية والتطبيقية التي تؤدي إلى رفع مستويات الابتكار على المستوى الأمريكي، وكذلك تقدم الولايات المختلفة نفس الدعم لصناعاتها المحلية، فضلا عن أن السياسات الأخرى مثل الضرائب مصممة بحيث تعطي هذه الأنشطة مزيدا من التحفيز.
كذلك تخصص إسرائيل صندوقا خاصا لتمويل أنشطة البحوث والتطوير للتأكد من امتلاك الاقتصاد الإسرائيلي لمزاياه التنافسية التي تحفظ له دوره في الاقتصاد العالمي، ويقوم صندوق البحث العلمي والتطوير بمنح المشروعات المجازة التمويل اللازم لها، وتشمل المشروعات المؤهلة للحصول على دعم الصندوق تلك المشروعات التي تؤدي إلى تطوير منتج جديد، أو تحسين جوهري في منتج قائم، كما تشمل أيضا تلك المشروعات البحوث التي يمكن أن تؤدي إلى ابتكار عمليات صناعية جديدة او إجراء تحسين جوهري في العمليات الصناعية القائمة، وتفكر إسرائيل حاليا في إنشاء برنامج مشترك في البحوث والتطوير بين وزارات الدفاع والصناعة والعمل والمالية، يهدف إلى تشجيع الأفكار الجديدة والتقنيات الحديثة التي يمكن أن تقدم تطبيقات في كل من مجالي الدفاع والصناعة في ذات الوقت، وتتعدد برامج البحوث والتطوير في إسرائيل، على سبيل المثال هناك برنامجا لدعم المؤسسات البحثية ذات الصلات الوثيقة بالصناعة لتقوية البنى التحتية التكنولوجية لهذه الصناعات، ويمكن أن يصل الدعم الذي تقدمه الحكومة لمثل هذه البرامج إلى 90% من الميزانيات المطلوبة للبحوث والتطوير، كما أن هناك برنامجا لدعم الشركات الكبرى لتشجيع عمليات البحث والتطوير على المدى الطويل التي ترتفع درجة المخاطر فيها وتتكلف الكثير من المال في ذات الوقت، وتصل ميزانيات الدعم لمثل هذه المشروعات إلى حوالي 50% من الميزانيات المطلوبة لمثل هذه المشروعات.
البحث العلمي والتطوير هو إذن أحد المتطلبات الأساسية لاستدامة التنمية الصناعية ولضمان استمرار قدرة الصناعة المحلية على المنافسة مع الصناعات الأخرى في العالم، ولذلك يعد ضعف أنشطة البحث العلمي والتطوير أحد أهم المعوقات أمام تطوير الصناعة الخليجية، ويمكن أن نعزو ضعف دور البحوث والتطوير في الصناعة الخليجية إلى ثلاثة عوامل أساسية هي؛ ضعف مستويات التعليم الأمر الذي يؤدي إلى تواضع مستوى الهيئات العلمية والبحثية بشكل عام، وتواضع مؤسسات البحوث والتطوير سواء على مستوى الصناعات أو على المستوى القومي لضعف إمكانياتها التقنية والمادية، وضآلة الميزانيات المخصصة للإنفاق على البحوث والتطوير للمنتجات الصناعية المحلية نظرا لعدم اهتمام المنشآت الصناعية وكذلك الحكومات بمثل هذا الجانب الحيوي في تطوير القطاع الصناعي بشكل عام، ومن ثم يقتصر اهتمام المنشآت الصناعية في دول مجلس التعاون على تدبير احتياجات السوق الوطني من المنتجات الصناعية اعتمادا على الآلات والمعدات وتكنولوجيا الإنتاج المستوردة من الخارج.
غير أنه في عالم اليوم حيث تقوم المنافسة أساسا على عاملي الابتكار والتكلفة، لا يمكن للصناعات أن تقوى من قدراتها التنافسية بدون أن تطور قدرتها على الابتكار، فالابتكار هو السلاح الأساسي في عملية المنافسة، ولزيادة القدرة على الابتكار لا بد من ضمان تواجد مراكز للبحوث على مستوى الصناعات وعلى المستوى القومي وعلى المستوى الخليجي وبميزانيات كافية، ولذلك يجب أن تفكر دول مجلس التعاون بشكل جدي في إنشاء هيئة خليجية للبحوث والتطوير الصناعي، تكون مهمتها الأساسية هي تطوير الأفكار ودعم الابتكارات الصناعية المحلية وتعزيز قدرات مؤسسات البحوث والتطوير في المنشآت الصناعية الوطنية في دول المجلس، وبحيث تخصص دول المجلس نسبة أكبر من إنفاقها السنوي لمثل هذه الأنشطة الهامة ليس فقط للصناعة، وإنما للاقتصاد الوطني بشكل عام، كذلك فإن رفع أنشطة البحوث والتطوير سوف يتطلب تقديم الدعم المناسب للجامعات ومراكز البحوث لدعم الأنشطة البحثية الموجهة نحو تطوير الصناعات المحلية أو الابتكار في مجالاتها.
إن هناك فجوة ضخمة جدا بين مستويات التقدم الصناعي في الخليج ومراكز التصنيع الرئيسة في العالم، وهذه الفجوة يحتاج عبورها إلى جهود ضخمة في مجال البحوث والتطوير، ذلك أن المنافسة الصناعية في عالم اليوم ليست قائمة أساسا على التقليد وقدرة الدولة على إعادة تصنيع ما يتم ابتكاره في الخارج، وإنما بصورة رئيسة على قدرة القطاع الصناعي على الابتكار والتطوير لمنتجات جديدة أو عمليات جديدة أو تطوير في منتجات قائمة، بهدف خلق ميزة تنافسية تنطلق منها الصناعات الوطنية في دول مجلس التعاون.  

نحو قطاع صناعي فاعل في دول مجلس التعاون: دور التعليم


تحدثنا في المقال السابق من هذه السلسلة عن أهمية حماية الصناعات الوطنية في دول مجلس التعاون من الممارسات التجارية الضارة التي يمكن أن يمارسها المصدرون أو الوكلاء المحليين للصناعات المنافسة. اليوم نتناول قضية في غاية الأهمية ليس فقط للنمو الصناعي، وإنما لعملية لتنمية بكافة صورها بشكل عام، وهي دور التعليم في التنمية الصناعية، حيث يلعب التعليم الدور الفاصل بين الدول المتخلفة صناعيا، والدول الرائدة في هذا المجال. إذ تشير تجارب الدول المتقدمة صناعيا إلى أن أهم الأسس التي استند إليها قطاع الصناعة هي قوة عمل ذات تعليم جيد ومدربة بصورة مناسبة، ونظام تعليمي قادر على مد قطاع الصناعة بالمهارات والحرف المناسبة، وكذلك يتجاوب بصورة مناسبة مع متطلبات هذا القطاع من حيث المؤهلات المناسبة لقوة العمل وكذلك بالمؤسسات التعليمية اللازمة لتخريج قوة عمل مناسبة لمتطلبات واحتياجات هذا القطاع.
فعندما نستعرض التجارب الدولية في مجل التنمية الصناعية سوف نجد أنه بدءا من الثورة الصناعية في أوروبا في القرن الثامن عشر حتى اليوم، وفي أي نقطة زمنية في المستقبل، لم يتقدم أي نظام صناعي في العالم دون أن يصاحبه في ذات الوقت نظام تعليمي مساند، يضمن تأهيل قوة العمل للاضطلاع بمسئوليات ومهام هذا القطاع، سواء في جانب التشغيل والإنتاج أو الابتكار أو التنظيم أو التسويق إلى آخر هذه القائمة الطويلة من العمليات التي يحتاج إليها قطاع صناعي فاعل.
من الناحية العلمية يعد التعليم أهم السلع العامة التي يتم تقديمها في المجتمع قاطبة، حيث يمثل الأساس الذي تقوم عليه نهضة الأمم، واستنادا إلى جودته تتحدد القدرة التنافسية للدولة، فمن خلال النظام التعليمي يتم اكتشاف المواهب والقدرات الإبداعية للأفراد، وخلال النظام التعليمي يتم تنمية هذه المواهب وصقلها على النحو المناسب، وهو ما يمهد لمساعدتهم على استثمارها بالشكل السليم لمنفعة الاقتصاد. باختصار شديد تكمن الفوارق بين دول العالم اليوم في طبيعة النظام التعليمي السائد في كل دولة. هذه الحقيقة اكتشفتها الدول الأسرع نموا في العالم في الوقت الحالي، ولذلك لم تدخر جهدا لتدبير الميزانيات المناسبة لمثل هذا القطاع مهما كلفها ذلك الأمر من موارد.
خذ على سبيل المثال سنغافورة أو كوريا الجنوبية أو الصين، لقد اكتشفت هذه الدول أن السبيل الوحيد للمنافسة في هذا العالم هو إعداد قوة عمل ضاربة من خلال نظام تعليمي حديث، وفي عالم اليوم حيث تقوم الاقتصادات بشكل أساسي على المعرفة، لا يمكن النهوض بالقطاع الصناعي قبل النهوض بقطاع التعليم، ذلك أن المؤسسات التعليمية تمثل مصنع القوة البشرية التي ستعمل في هذا القطاع، فإذا كانت تلك القوى البشرية معدة جيدا بتعليم مناسب ومتوازن، فإن استفادة القطاع الصناعي من مخرجات التعليم تتعاظم، بينما تعد قوة العمل غير المناسبة وذات الخصائص التعليمية الفقيرة أحد أهم القيود الأساسية على تنمية القطاع الصناعي.
يتميز التعليم بأنه صناعة متعددة الآثار، وتؤثر مخرجاتها على كافة مناحي الحياة، ليس فقط في مجال الصناعة، غير أن إنشاء قطاع صناعي فاعل يحتاج إلى نظام تعليمي كفء. أكثر من ذلك فإن قطاعي التعليم والصناعة قطاعان لا بد وأن يسيرا جنبا إلى جنب، حيث تسهم مخرجات الأول في تنمية وتطوير ورفع كفاءة وإنتاجية الثاني، بينما يضمن تطور ونمو الثاني أن تكون مخرجات الأول متوافقة مع الاحتياجات الحقيقية لسوق العمل.
العلاقة بين قطاعي التعليم والصناعية هي إذن علاقة متبادلة، فقطاع التعليم يمد قطاع الصناعة بالقوة البشرية اللازمة والمناسبة كما ذكرنا، من ناحية أخرى فإن الصناعة تحتاج إلى أن تكون على علاقة وثيقة مع مؤسسات التعليم ومراكز التعليم الصناعي لمساعدة الهيئات التدريسية والتدريبية بها على إعداد المهارات الواعدة في هذا المجال، وللتأكد من حصول الطلبة على المعلومات والخبرة لسد الحاجات المناسبة للقطاع، ومثل هذه التغذية العكسية بين الصناعة والتعليم تعد أمرا هاما للتأكد من صياغة مناهج تعليمية مناسبة.
فالصناعة لا تحتاج فقط إلى خريجين أكفاء من الحقل التعليمي، وإنما تحتاج بشكل أساسي إلى خريجين تم إعدادهم بشكل مناسب لتحمل المسئوليات التي يمكن أن تلقى على عاتقهم في هذا المجال. خريجين ذوي رؤية تم صقلها، وبتدريب مناسب بحيث يكونوا قادرين على التفكير باستقلالية والمشاركة بصورة فعالة في صناعة القرارات المناسبة، والأهم من ذلك كله هو أن تتوافر في هؤلاء الخريجين القدرة على التعلم بصورة مستمرة طوال حياتهم، فالصناعة هي أكثر القطاعات ديناميكية في الاقتصاد، وتتصف بتطور المعلومات فيها على نحو مستمر نظرا لسرعة عمليات الابتكار والتطور التكنولوجي في عالم اليوم.
إن أي دولة ترغب في تنمية قطاعها الصناعي لا بد وأن تقوم بالاهتمام بصورة أساسية بالتعليم، ليس فقط من حيث حجم الإنفاق والميزانيات المخصصة للنظام التعليمي، وإنما لا بد أيضا من مراعاة التوازن المناسب في هذا القطاع. فالمنظومة التعليمية منظومة معقدة ومتشعبة الجوانب، ذلك أن إنتاج مخرجات تعليمية مناسبة تستطيع النهوض باقتصادات الدول بشكل عام يتطلب معلم مدرب بصورة كفئة ومعد جيدا للمهمة الخطيرة التي سيتولاها، وبنظام مناسب للتعويضات يضمن حصول هذا المعلم على احتياجاته المادية المناسبة، ومناهج تعليمية مصاغة على نحو يتماشى مع أرقى النظم التعليمية في العالم، وطرق تدريس حديثة تقوم أساسا على تنمية مهارات الإبداع لدى الطلبة بشكل عام وليس لحشو رؤوسهم بالمعلومات دون أن يدركوا قيمتها أو كيف يستفيدون منها، وأن يرتكز نظام التعليم على العلوم والرياضيات التي تمثل نظرياتها أسس الابتكار في المجال الصناعي، ومناخ تعليمي محفز للتلميذ، ومصمم بصورة تجعل رحلته في المدرسة رحلة ممتعة تخرج من ذاته أقوى ما فيها، وتكشف عن المواهب الحقيقية التي يتمتع بها، وتكشف عن السياق الذي يجب أن يكمل فيه مساره التعليمي، حتى لا يخرج لنا النظام التعليمي خريجين اضطروا إلى دراسة تخصصات لا تتوافق مع ميولهم أو مواهبهم، وكتب ومصادر تعليمية مصممة بحيث تخدم الهدف الأساسي من مثل هذا النظام التعليمي الكفء بكل أبعاده، وغير ذلك من المتطلبات الأساسية لنظام تعليمي حديث.
لقد أصبح من الواجب على دول مجلس التعاون أن تساعد النشء فيها بنظام تعليمي كفء يمد هذه الأجيال بأفضل تسهيلات تعليمية ممكنة، وهذا هو المجال الأفضل على الإطلاق لاستثمار الفوائض النفطية التي تتمتع بها حاليا، ذلك أن مثل هذا الاستثمار هو الاستثمار الوحيد المضمون العوائد على المدى الطويل، فبناء نظام تعليمي حديث كفيل بتحويل دول المجلس نحو وجهة مختلفة عما تتجه إليه اليوم،  وبدلا من تحويل الفوائض للاستثمار في الخارج، حيث تتعرض للعديد من المخاطر، فإن توجيه الجانب الأكبر منها نحو بناء نظام تعليمي كفء لا شك يعد افضل الخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها دول مجلس التعاون في الوقت الحالي.
إن تطوير نظم التعليم في دول مجلس التعاون يحتاج إلى ثورة في هذا المجال في كافة المراحل التعليمية بدءا من الحضانة حتى الجامعة، وذلك لضمان بناء نظام تعليمي حديث تتكامل مراحله المختلفة، بحيث تضمن جودة مخرجاته الأساسية، ومن المؤكد أن إعداد مثل هذا النظام سوف يكون مكلفا من الناحية المادية، لذلك ينبغي على دول المجلس رصد الميزانيات الكافية للاستثمار في هذا المجال، فمن وجهة نظري أن الاستثمار الأساسي لدول مجلس التعاون ينبغي أن يكون في التعليم، قبل أي مجال آخر، فمظاهر المدنية الحديثة التي نراها حاليا في دول المجلس لا تعني شيئا على المدى الطويل، طالما أن هذه الدول ما زالت تعتمد على مورد واحد للدخل. حيث تظل هذه الدول عرضة للعديد من المخاطر التي تناولناها مسبقا، بصفة خاصة أنه إذا نضب أو توقف هذا المورد، سوف يتوقف كل شيء، هذه حقيقة لا بد وأن نعيها بشكل كامل وأن نستعد لها، والاستعداد الحقيقي لمثل هذا اليوم لا يكون بتكديس الأموال في الخارج، وإنما بقدرات إنتاجية في الداخل، تضمن اقتصادا متوازنا وقادرا على خلق فرص للتوظف والدخل والرفاه على المدى الطويل.
إذا ما حدث وتبنت دول مجلس التعاون بناء نظام تعليمي يحمل هذه الخصائص، بغض النظر عن التكلفة المادية التي سوف يتكلفها، سواء على مستوى الدولة أو الأسرة، فإن مخرجات مثل هذا النظام التعليمي الفعال كفيلة بوضع اقتصادات دول مجلس التعاون بكافة أبعادها على الطريق السليم لكي تتنافس صناعيا مع باقي الدول، وذلك في عالم ينطلق أساسا من المعرفة.