الجمعة، مارس ٣٠، ٢٠١٢

اتجاهات النمو في الاقتصاد السعودي: الدين العام


نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 30/3/2012
تعرفنا في الحلقتين الماضيتين من هذه السلسلة على اتجاهات الإيرادات العامة والإنفاق العام في المملكة، ولاحظنا التقلب الشديد في هيكل الإيرادات العامة للمملكة نتيجة الاعتماد المفرط على إيرادات النفط الخام، وعدم الأخذ بعين الاعتبار تنويع مصادر الإيرادات العامة للدولة لتحقيق قدر أكبر من الاستقرار فيها. كذلك لاحظنا أن تقلب الإيرادات العامة يؤدي أيضا إلى تقلب الإنفاق العام، بصفة خاصة الإنفاق الاستثماري الذي يفترض أن يكون أهم بنود الإنفاق الحكومي العام.

هذه الخصائص الهيكلية في المالية العامة تتضح بصورة أكبر عندما ننظر إلى نتيجة الميزانية العامة من فائض أو عجز. الشكل رقم (1) يوضح نسبة الفائض والعجز في الميزانية العامة إلى الناتج المحلي الإجمالي للمملكة، خلال الفترة من 1970-2011. من الشكل يتضح ارتفاع درجة تقلب العجز والفائض إلى الناتج المحلي الإجمالي بصورة واضحة وفقا لاتجاهات أسعار النفط الخام، ففي الفترات التي كانت فيها أسعار النفط مرتفعة فإن الميزانية العامة تحقق فوائض تعتمد على معدل الارتفاع في سعر النفط، فقد بلغ فائض الميزانية أعلى مستوياته كنسبة من الناتج في عامي 1973 و1974، وكذلك في عام 2008، حيث بلغ سعر النفط الخام مستويات تاريخية قبل انطلاق الأزمة المالية العالمية، من ناحية أخرى عندما تميل أسعار النفط نحو التراجع تتحول الميزانية العامة من حالة الفائض إلى حالة العجز وبصورة سريعة جدا، على سبيل المثال في عام 2008 حققت الميزانية العامة فائضا ضخما بسبب المستويات التاريخية التي بلغها سعر النفط في هذا العام، غير أن تراجع سعر النفط في 2009 بسبب الأزمة المالية العالمية تحول هذا الفائض الكبير إلى عجز، ومما لا شك فيه أنه رغم متانة الوضع المالي للمملكة حاليا فإن هذه التطورات تعكس مدى هشاشة وضع الميزانية العامة، على الرغم من الفوائض الكبيرة التي يمكن ان تتحقق في أوقات ارتفاع أسعار النفط، طالما أن الميزانية العامة في النهاية تعتمد على تلك التطورات.



واقع الحال يشير إلى أنه على الرغم من متانة الوضع المالي للمملكة، فإن ذلك لم يمنع من حدوث ظاهرة في غاية الخطورة في اقتصاد نفطي وهي تراكم الدين العام إلى مستويات تعد بين الأعلى في العالم على الإطلاق. ففي بداية التسعينيات من القرن الماضي لم تتجاوز  نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي نسبة 48%وذلك في عام 1991.  ثم أخذت هذه النسبة في التصاعد على نحو مستمر حتى تجاوزت حاجز الـ 60% في عام 1993، والتي تعد الحد الخطر بالنسبة للدين العام. ثم استمر الدين العام في التزايد حتى بلغ نسبة 109% تقريبا من الناتج في عام 1998، وهو من أعلى المعدلات المسجلة في العالم في هذا العام.

ظلت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي عند مستويات مقلقة حتى عام 2004، حيث تمكنت المملكة من إطفاء كمية هائلة من الدين العام في غضون فترة زمنية قياسية، بالطبع نتيجة عودة أسعار النفط نحو الارتفاع في بداية الألفية الثالثة، مما مكن الحكومة من تحقيق فوائض مالية مكنتها من تخفيض الدين العام القائم، وبدءا من عام 2005 أخذت عمليات إطفاء الدين العام في التسارع لدرجة أنه في عام 2011 لم تزد نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي عن 7% تقريبا، وهي من أقل المستويات عالميا حاليا.



أن تتحول دولة في العالم من صاحبة أعلى معدل للدين العام إلى الناتج إلى صاحبة أقل معدل للدين العام إلى الناتج في غضون فترة زمنية قصيرة لا تزيد عن عقد من الزمن، فهذا أمر نادر الحدوث في عالم اليوم. ذلك أنه في ظل هياكل الإيرادات التقليدية القائمة على إيرادات الضرائب بصفة أساسية، من الممكن أن يتطلب حدوث هذا الأمر عشرات السنوات حتى تتمكن الحكومة من تخفيض نسبة دينها العام إلى الناتج إلى هذه المستويات المتناهية في الصغر. غير أن انتهاء تهديد الدين العام في المملكة حاليا لا يعني أن الدين العام غير قابل للعودة إلى مستوياته السابقة، فمن الواضح انه إذا ما حققت المملكة عجزا في ماليتها لعدة سنوات فإن ذلك سوف يترتب عليه عودة الدين العام مرة أخرى.

لا شك أن مخاطر تصاعد نسبة الدين العام إلى النتاج متعددة، والدليل على ذلك ما تعانيه بعض الدول المدينة حاليا من تهديد بإعلان إفلاسها بسبب ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج وانخفاض قدرة تلك الدول على خدمة هذا الدين. إن هذا الوضع الحساس للميزانية العامة للدولة يقتضي من صانع السياسة المالية في المملكة أن يأخذ في الاعتبار العوامل الآتية:

·     أن تكون عملية إقرار أي زيادة في الإنفاق الجاري للدولة مخططة على نحو جيد، حيث ينبغي ان يدرس أثر هذه الزيادات في الإنفاق على قدرة الميزانية على المدى الطويل على استيفاء متطلبات تلك الزيادات خصوصا وأن الإيرادات المتوقعة لتمويل هذا الإنفاق تتسم بالتقلب، بينما نجد أن الإنفاق الجاري الذي تقوم به الدولة سوف يتسم بالاستدامة متى ما تم إقراره.

·     أن الدولة لا بد وأن تبحث بجدية عن مصادر بديلة للإيرادات النفطية تتسم بقدر أكبر من الاستقرار النسبي، وعلى النحو الذي لا يؤثر سلبا على الخدمات العامة التي تؤديها الدولة للمقيمين يوميا، وبحيث تتسع قاعدة مصادر الإيرادات العامة للدولة بما يساعد على تحقيق قدر أكبر من الاستقرار في المالية العامة للدولة.

·     أن الدولة ينبغي ان تبحث بجدية إعادة رسم الدور الذي تقوم به في النشاط الاقتصادي بحيث تقلص من ذلك الدور بصورة كبيرة وتفسح المجال بشكل اكبر للقطاع القطاع الخاص لأن يلعب دورا اكبر في عملية إنتاج وتقديم السلع والخدمات العامة، حتى تتمكن من السيطرة على إنفاقها العام.

·     أن الحكومة ينبغي ان تقوم بمراجعة شاملة للنفقات المخصصة للدعم بكافة أشكاله، والذي يستهلك جانبا كبيرا من الإنفاق العام حاليا، حيث لا يحقق الهيكل الأساسي للدعم الحالي ولا طريقة توزيعه الأهداف الأساسية التي تسعى الدولة إلى تحقيقها من الدعم كسياسة لرفع مستويات الرفاه للفرد، حيث يقدم الدعم في معظم أشكاله لجميع المستهلكين بغض النظر عن مستويات دخولهم أو درجة استحقاقهم للدعم المقدم من قبل الدولة، وهو ما يخل بمبدأ العدالة في توزيع الإنفاق على الدعم بين مختلف الفئات الدخلية في المجتمع.

·    أن الحكومة لا بد وأن تعمل على رفع كفاءة الدولة في إدارة الإنفاق العام والحرص على رفع كفاءة الإدارة المالية للدولة في ترشيد ذلك الإنفاق ووضع معايير اكثر صرامة في مراقبة أوجه الهدر المختلفة في الإنفاق والعمل على الحد منها.


الأربعاء، مارس ٢٨، ٢٠١٢

التضخم في الشرق الأوسط ـ نظرة في الأرقام الصحيحة-بقلم مسعود أحمد

لا يمكن للبنوك المركزية الإقليمية أن تستبعد التضخم الكلي وتركز على التضخم الأساسي فقط عند تحديد أسعار الفائدة الرسمية والموقف الكلي للسياسة النقدية. إنما ينبغي أن تركز هذه البنوك على المعدلين حتى تستشف تطورات التضخم بدقة، مما يتيح لها الاستعداد لاتخاذ إجراءات في مواجهتها واحتواء ضغوط التضخم حسب الاقتضاء.
إقرأ المزيد

الثلاثاء، مارس ٢٧، ٢٠١٢

تعالوا نشرح أوهام فوائد زيادات الرواتب


نشر في صحيفة القبس بتاريخ الأربعاء 28/3/2012

تكثفت في الفترة الأخيرة مطالبات فئات كثيرة في الدولة بزيادة المرتبات واقتراح إقرار كادر خاص لكل فئة مهنية، بغض النظر عن مدى توافق تلك المطالبات مع مفهوم الكادر من الناحية الفنية وشروطه ومتطلبات تطبيقه على تلك الفئات، وقد استندت كافة الفئات المهنية في مطالباتها إلى الزيادات غير الطبيعية التي حصلت عليها بعض الكوادر في الدولة، وأن العدالة بين الفئات المهنية المختلفة اختلت بهذا الشكل، الأمر الذي يتطلب ضرورة تصحيح الوضع بإقرار كوادر خاصة لتلك الفئات أيضا، تحقيقا للعدالة بين كافة العاملين في الدولة.

هذا المنطق للمطالبات بالكوادر بغض النظر عن مدى انطباقها من عدمه على تلك الفئات، يوضح حقيقة في غاية الأهمية وهي أنه ربما ينظر العاملون في الدولة إلى ما يحصلون عليه من رواتب وتعويضات ليس على أنها أجر في مقابل إنتاج وزيادة إنتاجية، وإنما هي أقرب إلى نصيب العامل في الثروة النفطية للبلد، والذي يجب أن يحصل عليه بغض النظر عن مؤهلاته أو مهاراته أو طبيعة الوظيفة التي يؤديها، ومن هذا المنطلق فإن الزيادات لتسوية الفروقات بين الفئات المختلفة من العاملين في الدولة تصبح مستحقة، ولو من خلال فرض الأمر الواقع على الحكومة من خلال الوقفات الاحتجاجية أو بالتهديد بالإضراب أو حتى بالقيام بالإضراب بالفعل، مثلما حدث في إضراب الجمارك وإضراب العاملين بالخطوط الجوية الكويتية.

لابد من الاعتراف بأن الزيادات التي حصلت عليها بعض فئات العاملين في الدولة كانت كريمة للغاية لدرجة تبعث على الإحساس بقدر من عدم المساواة بين الفئات المختلفة من العاملين في الدولة، ومن المؤكد أنها تمثل الدافع الأساسي الذي يقف وراء ما يتم حاليا من محاولات لإجبار الحكومة على إقرار زيادات خاصة لباقي العاملين في الدولة لإحساس بعض فئات العاملين بأن غبنا ما وقع عليهم. حاولت الحكومة حل المشكلة من خلال إقرار زيادة موحدة لجميع الفئات بمقدار 25% من الراتب، ولكن بعض الفئات رفضت هذه الزيادة واعتبرتها غير مناسبة لتصحيح الخلل بينهم وبين الكوادر الأخرى في الدولة.

المشكلة الأساسية التي تترتب على الاستجابة لمثل هذه الضغوط برفع المرتبات مرة واحدة سوف تحدث أربعة آثار في غاية الخطورة على الأجلين المتوسط والطويل:

الأول: أنها سوف ترفع من مخصصات الإنفاق العام على الأجور والمرتبات في الميزانية العامة للدولة وبصورة دائمة، بحيث يتضخم الباب الأول في الميزانية وكذلك اعتمادات الدولة للرواتب الأخرى، وذلك بسبب عدم قابلية الأجور للخفض تحت أي ظرف من الظروف، خصوصا إذا كنا نتحدث عن العاملين في الدولة. منم المؤكد أن مثل هذه التطورات سوف تؤدي إلى زيادة الضغط على المالية العامة للدولة على المدى الطويل.

الثاني: أنها سوف تؤدي إلى زيادة العجز الاكتواري لمؤسسة التأمينات الاجتماعية، ويتمثل العجز الاكتواري في الفرق بين التزامات مؤسسة التأمينات الاجتماعية من معاشات تقاعدية، والتي سوف تميل بالطبع نحو التزايد مع أي زيادة تحدث في المرتبات، وبين ما تجمعه المؤسسة من أقساط تأمين من العاملين في الدولة المؤمن عليهم لديها، وبما أن الجانب الأكبر من الأقساط التي تجمعها المؤسسة في أثناء فترة خدمة العامل يتم على أساس مستويات أقل من المرتبات (مقارنة بالمرتبات عند التقاعد) فإن المؤسسة سوف تصل إلى مرحلة تكون فيها غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها نحو المتقاعدين بدون أن تحصل على المساعدة المالية المناسبة من الدولة. لقد أثبتت التجربة السابقة أن العجز الاكتواري أمر خطير جدا ومكلف في ذات الوقت للدولة، فمنذ سنوات قليلة التزمت الحكومة بسداد إحدى عشر مليار دينار لمؤسسة التأمينات الاجتماعية لسداد العجز الاكتواري، ولا شك أن مثل هذه المبالغ مرشحة للتزايد في المستقبل وذلك مع أي زيادة في المرتبات التي يحصل عليها العاملون في الدولة.

الثالث: أن هذه الزيادات في المرتبات في غضون هذه الفترة القصيرة من الزمن سوف تعني ضخ مئات الملايين من الدنانير سنويا والتي سوف يتحول جانب كبير منها نحو الاستهلاك لارتفاع الميل المتوسط للاستهلاك بين الأفراد في الدولة بشكل عام، وهو ما يؤدي إلى تغذية الطلب الكلي في الدولة ومن ثم التضخم. وقد يرى البعض أن أثر زيادات المرتبات على التضخم لن يكون ملحوظا باعتبار أن الجانب الأكبر لما نستهلكه في الكويت مستورد من الخارج، ومن ثم فلن تخضع تكاليف إنتاجه للضغوط الناشئة عن زيادة المرتبات في الكويت. مثل هذا التحليل يكون صحيحا اذا كنا نتحدث عن زيادة طارئة في الدخول مثل المنحة الأميرية، إلا أننا نتحدث عن زيادة مستمرة في المرتبات سوف تشكل ضغطا مستمرا على الطلب الكلي داخل الدولة، ومن المعلوم أن التضخم في اقتصاد مفتوح مثل الكويت يأتي من مصدرين؛ الأول هو التضخم المحلي، والراجع إلى تزايد أسعار السلع والخدمات المنتجة محليا نتيجة لارتفاع تكاليف إنتاجها او لتزايد الطلب عليها، والتضخم المستورد الذي يتسرب إلى الدولة مع أسعار السلع التي يتم استيرادها من الخارج. وعندما ترتفع أسعار السلع المحلية بصورة مستمرة فإن هذه الزيادات السعرية سوف تطال أيضا السلع المستوردة من الخارج لتعويض الوكلاء والمستوردين عن ارتفاع تكاليف أداء الأعمال في الدولة ولمجاراة الزيادات التي تحدث في الأسعار بشكل عام محليا.

إن الكثير من العاملين في الدولة ينسون في خضم سعيهم الحثيث نحو زيادة المرتبات أن الزيادات الكبيرة في الأجور والتعويضات الأخرى سوف تنعكس للأسف الشديد سلبا عليهم لاحقا، فمن الواضح أن العاملين في الدولة او نقاباتهم يعيشون ما نطلق عليه في علم الاقتصاد، حالة الوهم النقدي Money Illusion، أي أن العاملين يهتمون بالدرجة الأولى بما سيدخل جيوبهم من مرتبات من الناحية الإسمية دون أن يقيموا أثر ذلك على ما سيدفعونه لاحقا من تلك الزيادات في صورة ارتفاع في المستوى العام للأسعار وزيادة تكاليف المعيشة. فبعد فترة قليلة من زيادة المرتبات سوف تبدأ الأسعار في الارتفاع، وتتراجع بالتبعية القوة الشرائية لما يحصل عليه العاملون من مرتبات وتعويضات أخرى، ويكتشف العاملون أن ما حصلوا عليه من زيادات في الأجور قد ذاب مع ارتفاع تكاليف المعيشة، وأن أوضاعهم لم تتحسن بعد الزيادة، بل ربما تسوء تلك الأوضاع اذا تجاوزت نسبة الزيادة في الأسعار نسبة الزيادة في الرواتب التي حصل عليها العاملون في الدولة.

من هنا سوف يعاود العاملون في الدولة مطالبة الحكومة بزيادة المرتبات لمواجهة الارتفاع في تكلفة المعيشة، واذا استجابت الدولة لتلك الدعوات فإن ستصب المزيد من البنزين على نار التضخم المشتعلة، فترتفع الأسعار وتتراجع القوة الشرائية للمرتبات، ومن ثم تتصاعد الدعوات مرة أخرى بزيادة المرتبات وهكذا، فإن حالة الوهم النقدي التي يعيشها الكثير من العاملين في الدولة سوف لن توقف المطالبات بزيادة المرتبات في المستقبل في الدولة وسوف تستمر اعتمادات المرتبات في الميزانية العامة للدولة في التصاعد بمعدلات كبيرة قد لا تقوى الميزانية على تحملها على المدى الطويل، أو ربما يتم استيفاءها ولكن على حساب ما تخصصه الدولة لوظائفها الأساسية من تقديم السلع والخدمات العامة مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية، وهي تطورات سوف تكون تأثيراتها في غاية الخطورة على تنافسية الاقتصاد الكويتي وقدرته على النمو.

الرابع: أن هذا التصرف من جانب الحكومة يتناقض تماما مع استراتيجياتها التي أعلنت عنها في خطة التنمية متوسطة المدى، حيث يشير الهدف الثاني في الخطة إلى ضرورة أن يقود القطاع الخاص التنمية وفق آليات محفزة، وذلك من خلال سعي المخطط إلى تهيئة الظروف والبيئة المواتية و الآليات المحفزة ليمارس هذا القطاع دوره المرتقب بتقليص هيمنة القطاع العام تدريجيا وزيادة مساهمة القطاع الخاص، ومما لا شك فيه أن الزيادات الجوهرية التي تتم حاليا في أجور وتعويضات العاملين في الدولة لا تصب في تحقيق هذا الهدف، لأن القطاع الخاص لا يمكنه مجاراة الحكومة في هذه الزيادات الكبيرة في المرتبات، ومن ثم لن يتمكن القطاع الخاص أن يمارس دوره المرتقب في توظيف العمالة الوطنية وخلق فرص عمل لها خارج القطاعين الحكومي والعام بمثل هذه المستويات من المرتبات، لسوء الحظ أن العكس هو المتوقع أن يحدث، حيث سوف تشجع المستويات المرتفعة حاليا للمرتبات والتعويضات العاملين في القطاع الخاص للهجرة والتحول نحو القطاع الحكومي.

الحل لا يجب إذن أن يكون بالزيادات العشوائية في مرتبات العاملين في الدولة، وإنما بالزيادات المدروسة على نحو صحيح أخذا في الاعتبار ثلاثة عوامل أساسية وهي: الزيادات الطبيعية التي يحصل عليها العمال في صورة علاوات دورية وارتفاع مستوي الأجور والتعويضات بفعل الانتقال بين الدرجات الوظيفية المختلفة، والزيادة التي تحدث بالفعل في تكلفة المعيشة نتيجة ارتفاع الأسعار، والتكلفة طويلة المدى لهذه الزيادات في الأجور والمرتبات على أوضاع الميزانية والمالية العامة للدولة.

من ناحية أخرى فمن الواضح أن الزيادات العشوائية في المرتبات والكوادر أحدثت قدرا من الخلل بين الفئات الوظيفية والمهنية المختلفة في الدولة على النحو الذي يشعر الجميع بعدم المساواة بين ما يؤديه من جهد وما يحصل عليه من تعويض مقابل، وذلك مقارنة بالجهد الذي يبذله الآخرون والمقابل الذي يحصلون عليه، وهو ما يقتضي حتمية مراجعة التوصيف الوظيفي للمهن والوظائف المختلفة في الدولة وإعادة تعريف الوظائف والمهن بصورة علمية وتصنيفها بين ما يستحق أن يدرج على كادر خاص وبين من لا يستحق، وذلك استرشادا بالتصنيفات المتعارف عليها دوليا في هذا المجال.

وأخيرا فإن الاتجاه الخطير الذي حدث مؤخرا باعتماد البعض لألية الإضراب للضغط على الحكومة لتحقيق المطالبات بزيادة المرتبات أو إقرار الكوادر يعد تطورا غير محمود في معالجة مشكلة التفاوت المالي بين مختلف فئات العاملين في الدولة، وأن الاستجابة الحكومية غير المدروسة لمثل هذه التطورات والرد المناسب عليها سوف تفتح باب جهنم على الحكومة، فما من فئة وظيفية في الدولة إلا وتؤدي عملا يمكن أن يؤثر سلبا على المجتمع وبنفس الدرجة التي تحدثها إضرابات العاملين في الجمارك والخطوط الجوية الكويتية، أو ربما أكثر، إنه ملف معقد للغاية، ولكن الحاجة إلى التعامل معه بصورة علمية أصبحت أكثر إلحاحا اليوم أكثر من أي وقت مضى.

جدل حول الذهب 2: الفقاعة السعرية


نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 27/3/2012

في الأسبوع الماضي تناولنا وجهة النظر الأولى حول الذهب كأصل عقيم غير منتج ولا يولد عوائد بذاته، وقد أشرنا إلى أنه مع ذلك فإن أسعار الذهب ترتفع بصورة كبيرة في المتوسط أكثر من أي اصل استثماري حاليا، فهل يعني ذلك أن الذهب يعاني من فقاعة سعرية؟ وجهة النظر الأولى التي عرضناها في الأسبوع الماضي والتي تمثل رأي المستثمر العالمي وارن بوفيت هي أن الذهب يمر بالفعل بمرحلة فقاعة سعرية، ولكن ما هو مفهوم الفقاعة السعرية Price Bubble، فهو مصطلح يتردد كثيرا، من وقت لآخر، بصفة خاصة عندما تحدث أزمة.

الكتابات العلمية في مجال فقاعات الأصول تميل إلى الاتفاق على أنه من الصعب الحكم على ما إذا كان أصل ما يعاني من فقاعة سعرية أم لا، لذلك لا بد من اللجوء إلى بعض التحليلات المتقدمة للحكم على مدى وجود الفقاعة من عدمه، على سبيل المثال فإن تحليل السلاسل الزمنية لسعر الأصل الاستثماري الذي يشير إلى أن الأصل تميل أسعاره إلى الارتفاع السريع ثم ينهار بصورة حادة بعد ذلك هو أصل يعاني من فقاعة سعرية.

بعض وجهات النظر الأخرى ترى أنه لا يمكن الحكم بصورة مباشرة على وجود فقاعة سعرية في الأصل الاستثماري بصورة مباشرة، وأنه لا بد من الانتظار لبعض الوقت للتأكد من أن الأسعار الحالية للأصل مبررة بالتدفقات النقدية له، وبشكل عام هناك تعريفات عديدة للفقاعة السعرية، على سبيل المثال يعرف شارلز كندلبرجر الفقاعة السعرية بأنها الحالة التي يحدث فيها تحرك لسعر الأصل نحو الارتفاع خلال مدى زمني متسع نسبيا ثم ينهار سعره بعد ذلك.

البعض الآخر يعرف الفقاعة السعرية بأنها ارتفاع حاد في أسعار أصل استثماري محدد أو مجموعة من الأصول وبصورة مستمرة بحيث يترتب على الارتفاعات المبدئية للأصل تغذية التوقعات بمزيد من الارتفاعات في المستقبل، وهو ما يجذب مستثمرين جدد إلى سوق الأصل الاستثماري مندفعين أساسا نحو تحقيق أرباح من التداول في الأصل، أي من خلال الإتجار فيه وليس بسبب قدرة الأصل على توليد عوائد من الأساس. معنى ذلك أن هذا التعريف ينص على أن أسعار الأصل الذي يواجه حالة فقاعة تكون أساسا غير مبررة بالعوائد التي يتم تحقيقها على الأصل.

بعض الاقتصاديين حاول ربط الفقاعة السعرية بالعوامل الأساسية التي تحدد سعر الأصل مثل التدفقات النقدية المتوقعة للأصل، ومعدل الخصم .. الخ التي يتحدد على أساسها سعر الأصل الاستثماري، ووفقا لهذا المدخل فإن الفقاعة السعرية هي الحالة التي يتجه فيها سعر الأصل نحو التزايد بصورة لا تبررها العوامل الأساسية Fundamentals المحددة له. وعندما لا تعكس أسعار الأصول تدفقات العوائد النقدية المتوقعة فإن ذلك يعكس حقيقة إما أن التوقعات حول التدفقات النقدية المستقبلية للأصل غير عقلانية، أو أن معدل الخصم المستخدم في خصم الإيرادات النقدية المتوقعة لحساب السعر العادل للأصل غير مناسب. معنى ذلك أن تعريف الفقاعة وفقا لهذا المدخل يعتمد على ما اذا كان سعر الأصل مبرر بالتدفقات النقدية المستقبلية له أم لا، فإذا اتجهت أسعار الأصل نحو الارتفاع خارج هذا النطاق فإن الأصل يواجه حالة فقاعة سعرية، وبالتالي فإن تعريف الفقاعة هو الحالة التي يوجد فيها انحراف لسعر الأصل السوقي عن السعر العادل للأصل الذي يجب أن يتحدد بالعوامل الأساسية.

ولكن لماذا تنشأ الفقاعة السعرية؟ إن الإجابة على هذا السؤال نجدها في النماذج السلوكية للمتعاملين في الاصول الاستثمارية والتي تأخذ بشكل عام أربعة تفسيرات أساسية لوجود الفقاعة السعرية؛

·         التفسير الأول يتمثل في انحراف معتقدات المستثمر حول القيمة العادلة للأصل الاستثماري مقارنة بسعر الأصل السوقي.

·         التفسير الثاني ينطلق من طلب المضاربين على الأصول والذي يستند إلى أحدث اتجاهات سعر الأصل في السوق، مع وجود اعتقاد  بأن الأسعار الحالية للأصل سوف تستمر في الزيادة في المستقبل.

·         التفسير الثالث يفترض أن المضاربين يعانون من تحيز ذاتي، حيث يهتمون بالإشارات السعرية التي تتماشى مع ما يؤمنون به من معتقدات حول الأصل، بينما في ذات الوقت يهملون تلك التي لا تتوافق مع توقعاتهم أو ما يتمنونه حول اتجاهات الأسعار في المستقبل، الأمر الذي قد يسبب مبالغة في أسعار الأصول.

·         أما التفسير الرابع فيفترض أن المستثمرين يبالغون في الاستجابة لأي أخبار تلفت انتباههم، على الرغم من أنها قد لا تحمل أي معلومات مفيدة، وهو ما يدفعهم إلى المبالغة في ردة الفعل في حول الأصل، أو ربما يكون لدى المضاربين قدر كبير من التحفظ في الاستجابة، بحيث تكون استجابتهم بطيئة لعمليات التصحيح للنموذج الخاطئ الذي يستخدمونه في تحديد قرار الإقبال على شراء الأصل من عدمه، وذلك استنادا إلى الإشارة المناسبة التي تأتيهم من الواقع الذي يتعاملون فيه.



تاريخ الفقاعات السعرية في كافة الأزمات المالية التي مر بها العالم يشير إلى أن المستثمرين، أو بالأحرى المضاربين الذين عاشوا حالة الفقاعة لم يكونوا يقومون بإدارة محافظهم الاستثمارية على نحو جيد أو رشيد، وأنهم غالبا ما يتجاهلون الإشارات السوقية، على سبيل المثال بالرغم من ميل أسعار الأصل للتزايد على النحو المثير للقلق، فإن هذه الإشارات السعرية لا ينظر الهيا المتعاملون على أنها إشارات سلبية، بالعكس لقد كان الجميع يرحب بالانتفاخ السعري ويدلل به على سلامة الموقف الذي اتخذه من الأصل الاستثماري. مثل هذه المواقف الاستثمارية قد تكون راجعة إلى نقص الخبرة أو نقص المعلومات أو عدم ملائمتها، أو التحليل الغير ملائم لها أو سلوك القطيع Herd behavior حيث يسير المستثمر وراء المتعاملين في السوق أينما ذهبوا وبصورة عمياء، باعتبارها استراتيجية للحماية ضد المخاطر، وهي استراتيجية يطبقها قطيع الحيوانات في الغابة أو الأسماك في البحار بسير الجميع في اتجاه واحد في ذات الوقت للحماية ضد هجمات الوحوش المفترسة. لذلك دائما ما سنجد أن قانون سوق المال في أي دولة يؤكد على ضرورة توافر المعلومات الكاملة للمتعاملين في سوق الأصول لتجنب فجوات المعلومات.

ولكن هل كل الفقاعات السعرية لها نفس الأثر على الاقتصاد الحقيقي، الإجابة هي لا، فبعض الفقاعات كان تأثيرها عميقا ومنتشرا للغاية مثل فقاعة أسعار المساكن في الولايات المتحدة التي مهدت إلى انطلاق أزمة مالية شملت العالم كافة وتسببت في الكساد الحالي، وقد يكون تأثير الفقاعات محدود للغاية على الاقتصاد الكلي مثل فقاعة الإنترنت في 2000. في الأسبوع القادم نتناول تحليل البيانات الفعلية لاتجاهات أسعار الذهب، بإذن الله تعالى.


الاثنين، مارس ٢٦، ٢٠١٢

تطور اصول الصناديق السيادية في العالم


اصدر المعهد الدولي لصناديق الثروة السيادية تحديثا حول تطورات قيمة صناديق الثروة السيادية في العالم،  الجدول التالي يوضح هذا التطور خلال الفترة من يونيو 2010 حتى مارس 2012. خلال هذه الفترة ازدادت قيمة أصول الصناديق السيادية من 4.1 تريلون دولارا الى حوالي 5 تريليون دولارا، وفقا لآخر تحديث للمعهد الدولي للصناديق السيادية.
المصدر:

اتجاهات النمو في الاقتصاد السعودي: الإنفاق العام


نشر في صحيفة الاقتصادية يوم الجمعة 23/3/2012
تمر المالية العامة للمملكة بمراحل دقيقة حاليا وذلك بالنظر إلى النمو الكبير في مستويات الإنفاق العام، بصفة خاصة الإنفاق العام الجاري، وذلك مقارنة بالنمو في إجمالي الإيرادات العامة للدولة. فمن الواضح أن المملكة تواجه نموا كبيرا في هذا الإنفاق، وعاما بعد عام تضيف المملكة إلى التزاماتها الجارية أعباء دائمة في صورة رفع الإنفاق على المرتبات والدعم والخدمات العامة وغيرها من جوانب الإنفاق المدني التي يصعب التخلص منها في المستقبل عندما تميل الإيرادات العامة نحو التراجع، أو ربما سيكون التخلص منها مكلفا للغاية من الناحية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فمن المعلوم أن الإنفاق العام الجاري يتصف بصعوبة قابليته للتخفيض في المستقبل اذا ما طرأ طارئ ترتب عليه انخفاض الإيرادات العامة للدولة، وفي ظل جمود الإنفاق الجاري غالبا ما تلجأ الدول بشكل عام إلى خفض الإنفاق الرأسمالي في حال حدوث أي انخفاض طارئ للإيرادات العامة بها، لأنه اسهل من حيث الآثار الاجتماعية والسياسية التي تترتب على تخفيض الإنفاق الاستثماري العالم.

في عام 1970 اقتصر إجمالي الإنفاق العام للمملكة على 6293 مليون ريالا فقط، غير أنه مع نمو الإيرادات النفطية خلال هذه الفترة أخذ الإنفاق العام في المملكة في النمو بمعدلات غير مسبوقة بلغت في المتوسط 48% سنويا، وفي عام 1980 بلغ إجمالي الإنفاق العام 236755 مليون ريالا، وبشكل عام شهدت فترة الثمانينيات أعلى مستويات الإنفاق العام في المملكة على الإطلاق خلال هذه الفترة، ففي عام 1981 قفز إجمالي الإنفاق العام إلى 284650 مليون ريالا، غير أنه بدءا من هذا العام ومع تراجع أسعار النفط الخام اخذ الإنفاق العام للمملكة في التراجع على نحو مستمر حتى بلغ 137422 مليون ريالا فقط في عام 1986.  منذ هذه العام والإنفاق العام في المملكة يتقلب على نحو واضح من سنة لأخرى متأثرا بالإيرادات النفطية بشكل أساسي، ومع تراجع الإنفاق العام من أعلى مستوياته في عام 1981 لم يسترد الإنفاق العام في المملكة تلك المستويات سوى في عام 2004، حينما بلغ الإنفاق العام 285200 مليون ريالا، ومنذ ذلك العام يتزايد الإنفاق العام في المملكة بمعدلات مرتفعة جدا، لدرجة أنه في عام 2011 بلغ إجمالي الإنفاق العام 840250 مليون ريالا، الجانب الأكبر منه عبارة عن انفاق جاري (612150  مليون ريالا).



الشكل رقم (1) يوضح تطور كل من الإنفاق العام الجاري والرأسمالي في المملكة، ومن الشكل يلاحظ أن الإنفاق الجاري يميل نحو التزايد بشكل عام، وخصوصا في فترات ارتفاع الإيرادات العامة بفعل ارتفاع أسعار النفط، غير أن مستويات الإنفاق الجاري كما هو واضح من الشكل أخذت مسارا مختلفا منذ عام 2000 تقريبا، وأخذا في الاعتبار اتجاهات الإيرادات العامة، فإن المستويات الحالية للإنفاق العام الجاري والمرتفعة جدا تعتبر غير مستدامة، وسوف تمثل تحديا خطيرا للمالية العامة في حالة تراجع الإيرادات العامة.

من ناحية أخرى فإن الشكل رقم (2) يوضح نسبة الإنفاق الجاري إلى الناتج المحلي الإجمالي في المملكة، ومن الشكل يتضح أن نسبة الإنفاق العام إلى الناتج بلغت أعلى مستوياتها في عام 1990 حيث قفزت الى 43.1%، وخلال الفترة من 1985 حتى عام 1995 بلغت نسبة الإنفاق الجاري إلى الناتج المحلي في المتوسط حوالي 35%، ومنذ عام 2000 حتى اليوم بلغت نسبة الانفاق العام الجاري الى الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط 27%.

على العكس من الإنفاق الجاري يلاحظ من الشكل أن الإنفاق الرأسمالي العام يتسم بالتقلب بصورة أكبر وبميله نحو التراجع بشكل عام مع أي تراجع في الإيرادات، حيث تعد الآثار الناجمة عن تخفيض هذا النوع من الإنفاق بصفة خاصة الاجتماعية والسياسية محدودة بشكل عام، كما سبقت الإشارة. غير أن الآثار الاقتصادية لمثل هذا التخفيض تعد عميقة على المدة الطويل حيث تتراجع القدرة التنافسية للاقتصاد المحلي مع تراجع الإنفاق الاستثماري العام، لأن هذا النوع من الاستثمار غالبا ما يكون موجها نحو مشروعات البنى التحتية والسلع العامة الأساسية مثل الصحة والتعليم وشبكات الطرق وخطوط المياه والكهرباء وغيرها، وجميعها تصب في رفع القدرات التنافسية لقطاع الأعمال. في عام 1981 بلغ الإنفاق الاستثماري أعلى مستوياته؛ 171014 مليون ريال، ومنذ هذا العام انخفض الإنفاق الاستثماري بصورة واضحة ولم يستعد تلك المستويات سوي في عام 2009.



كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي تميل نسبة الإنفاق الاستثماري إلى الناتج المحلي إلى التراجع بشكل عام كما يتضح من الشكل رقم (2). فعلى الرغم من أنه خلال الفترة من 1973 حتى 1985 بلغت نسبة الإنفاق الاستثماري إلى الناتج المحلي الإجمالي حوالي 22% في المتوسط، وهي نسبة مرتفعة، فإنه بدءا من منتصف التسعينيات بلغت نسبة الإنفاق الاستثماري العام إلى الناتج المحلي الإجمالي مستويات متدنية للغاية، سواء بمقاييس الدول الغنية أو الدول الفقيرة في العالم، فخلال الفترة من 1993 حتى عام 2006 بلغ الإنفاق الاستثماري العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط 3.4%، وهو متوسط متدن للغاية، لدرجة أنه في عام 1997 بلغت نسبة الإنفاق الاستثماري العام إلى الناتج المحلي اقل من نصف في المائة، وبشكل عام شهدت السنوات الخمس الأخيرة عودة الإنفاق الاستثماري العام إلى النمو بصورة ملحوظة وهو أهم التطورات الإيجابية في الإنفاق العام في السنوات الأخيرة.  

الخلاصة أن الإنفاق العام في المملكة بنوعية اتسم خلال العقود الأربعة الماضية بالتقلب بصورة واضحة، بصفة خاصة الإنفاق الاستثماري، ولا شك أن مثل هذا التقلب يحدث تأثيره على مستويات النشاط الاقتصادي المحلي في المملكة باعتبار أن الإنفاق الحكومي هو أهم مكونات الإنفاق الكلي في الدول النفطية، وهو ما يعكس ارتفاع نسبة الإيرادات النفطية إلى إجمالي الإيرادات العامة وعدم القدرة على تطوير مصادر بديلة للإيرادات النفطية حتى اليوم.

الأحد، مارس ٢٥، ٢٠١٢

هل تلجأ الكويت الى تخفيض قيمة الدينار؟ 4


العوامل التي تؤدي إلى تغيير معدل صرف العملة
سبق أن ذكرنا أن معدل صرف العملة يتغير بتغير الطلب والعرض في سوق الصرف الأجنبي داخل الدولة، وهناك الكثير من العوامل المسئولة عن التغير في الطلب والعرض من العملات الأجنبية، سوف نذكر منها 4 عوامل تؤدي إلى تغير الطلب والعرض من تلك العملات ومن ثم تغير قيمتها بالارتفاع أو بالانخفاض، وهذه العوامل هي:
1. فروق معدلات التضخم بين الداخل والخارج، كقاعدة عامة إذا ارتفع معدل التضخم في الكويت عن معدل التضخم في الولايات المتحدة فإن ذلك يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية للدينار بالنسبة للدولار، ومن ثم انخفاض قيمة الدينار (ارتفاع معدل صرف الدولار) وهو ما يؤدي إلى انخفاض قيمة العملة الوطنية، أما إذا كان معدل التضخم في الكويت أقل من معدل التضخم في الولايات المتحدة، فإن القوة الشرائية للدينار سترتفع بالنسبة للدولار (انخفاض معدل صرف الدولار)، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع قيمة العملة الوطنية.
2. فروق معدل الفائدة بين الداخل والخارج، كقاعدة عامة، إذا ارتفع معدل الفائدة على الدينار بالنسبة لمعدل الفائدة على الدولار، فإن ذلك سيدفع المودعين إلى تحويل مدخراتهم بالدولار إلى الدينار لإيداعه في البنوك الكويتية للحصول على فوائد أعلى، وهو ما يؤدي إلى انخفاض معدل صرف الدولار (ارتفاع قيمة الدينار)، والعكس إذا كان معدل الفائدة على الدولار أعلى من معدل الفائدة على الدينار فإن ذلك سيشجع المودعين بالدينار الكويتي على تحويل مودعاتهم إلى الدولار للاستفادة من معدل الفائدة المرتفع عليه، ويرتفع نتيجة لذلك معدل صرف الدولار (انخفاض قيمة الدينار).
تجدر الإشارة إلى أن معدلات الفائدة والتضخم بينهما ارتباطا كبيرا، بمعنى آخر، في حالة ارتفاع معدل التضخم فإن معدلات الفائدة الاسمية لا بد وان ترتفع لكي تعوض المودعين عن انخفاض القوة الشرائية لمودعاتهم، والعكس في حالة انخفاض معدل التضخم.
3. عجز أو فائض ميزان المدفوعات، ميزان المدفوعات هو حساب يتم فيه تسجيل قيمة السلع والخدمات التي يتم تصديرها إلى الخارج (الصادرات)، وقيمة السلع والخدمات التي يتم استيرادها من الخارج (الواردات) وكذلك تحركات رؤوس الأموال. فإذا كانت الصادرات إلى الخارج (كمية الدولار التي يعرضها الأجانب في مقابل الصادرات) اكبر من الواردات من الخارج (كمية الدولارات التي يطلبها المواطنين لشراء السلع الأجنبية) يحدث فائض في ميزان المدفوعات (أي فائض في الكميات المعروضة من الدولار في سوق الدولار)، وهو ما يخفض معدل صرف الدولار، والعكس إذا كانت الصادرات إلى الخارج (كمية الدولار التي يعرضها الأجانب في مقابل الصادرات) أقل من الواردات من الخارج (كمية الدولارات التي يطلبها المواطنين لشراء السلع الأجنبية) يحدث عجز في ميزان المدفوعات (أي نقص في الكميات المعروضة من الدولار في سوق الدولار)، وهو ما يرفع معدل صرف الدولار.
4. عدم الاستقرار السياسي، تتأثر قيمة العملة بالاستقرار السياسي من خلال المخاطر المصاحبة للاستثمار بهذه العملة، فإذا ارتفعت درجة عدم الاستقرار السياسي في دولة ما، مثل شيوع الإضرابات أو نشوب الحروب.. الخ، ترتفع مخاطر الاستثمار في هذه الدولة، وإذا لم يصاحب ذلك ارتفاع في علاوة المخاطرة في معدل العائد على الاستثمار، فإن الإقبال على الاستثمار في أصول هذه الدولة يقل (انخفاض عرض العملة الأجنبية)، بينما يزيد الطلب على الاستثمار في الأصول الأجنبية (زيادة الطلب على العملة الأجنبية) ومن ثم ترفع معدلات صرف العملة الأجنبية، والعكس.
بناء على ما سبق يفترض من الناحية النظرية أن يتم تخفيض قيمة العملة بسبب تفاعلات قوى العرض والطلب على العملات الأجنبية في سوق النقد الأجنبي، وليس بسبب ضغوط الرواتب على الميزانية، وبما أن الكويت حاليا لديها فوائض ضخمة في ميزان مدفوعاتها وكذلك في ميزانيتها العامة، فإن ليس من المفترض أن يشهد سوق النقد الأجنبي في الكويت تراجعا لقيمة الدينار الكويتي. إذن من أين سيأتي تخفيض قيمة الدينار؟ الإجابة هي أنه سوف يحدث بموجب قرار إداري يتم بمقتضاه تخفيض معدل صرف الدينار بالعملات الأجنبية. مثل هذا الإجراء يعد إجراء غير طبيعي أو غير عادي.

الثلاثاء، مارس ٢٠، ٢٠١٢

جدل حول الذهب 1


نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 20/3/2012

منذ أكثر من عقد من الزمن تقريبا وأسعار الذهب تواصل الارتفاع، فقد بدأت رحلة الصعود لأسعار الذهب من  250 دولارا تقريبا في 2001 ثم بلغت أعلى مستوياتها حتى الآن في منتصف 2011 عندما بلغ سعر الأوقية 1925 دولارا، وهو ما يمثل ارتفاعا  كبيرا لهذا الأصل في غضون هذه الفترة القصيرة نسبيا، الأمر الذي يجعل متوسط معدل العائد السنوي على الذهب بحوالي 20%، وهو معدل استثنائي بكل المقاييس، فلا يوجد تقريبا أصل يحقق عائدا متوسطه 20% سنويا. مع بلوغ الذهب قمته في العام الماضي تعرض الذهب لحملة تصحيح محدودة نسبيا، ومنذ ذلك الوقت تميل أسعار الذهب إلى التقلب بصورة كبيرة تدفع البعض إلى الاعتقاد بأن عقد الذهب قد قارب على الانتهاء، وأن هذه التقلبات تلقي ببعض الشك حول احتمال استمرار الاتجاه العام الصاعد للسعر. فالذهب بينه وبين الأساس النقدي الأمريكي نوع من الارتباط، وينتظر مضاربو الذهب دائما بقدر كبير من الشغف الإعلان عن أي تيسير كمي أو تسهيل في السياسة النقدية الأمريكية لتبدأ حمى المضاربة في الذهب، ومؤخرا كانت أنظار مضاربي الذهب متجهة أساسا نحو التيسير الكمي الثالث للاحتياطي الفدرالي، وقد كانت التوقعات حول صعود أسعار الذهب نتيجة لهذا التيسير كبيرة، ولكن حتى الآن يبدو أن هذه الآمال تتبدد شيئا فشيئا.
البعض الآخر يرى أن الذهب لا يعاني من فقاعة سعرية لأن شروط الفقاعة السعرية، من وجهة نظره، لا تنطبق على الأصل حاليا، بل ويؤكد الكثير من  المضاربين في الذهب أن التوقعات تشير إلى أن الطلب العالمي على الذهب سوف يستمر مرتفعا في السنوات القادمة، وعلى الأقل في 2012، ومن ثم يجزم المضاربون في الذهب باستمرار الاتجاه الصاعد له، وآخر هذه التوقعات أن سعر الذهب في 2012 سوف يضرب حاجز الـ 2000 دولارا للأوقية، وهو ما يعتبر تراجعا واضحا في التوقعات التفاؤلية حول سعر الذهب التي كانت تصل بهذا السعر وفقا لبعض التوقعات الشاذة إلى 5000 دولارا. فمعدلات الفائدة الإسمية صفرية تقريبا، ومعدل الفائدة الحقيقي سالب في معظم أنحاء العالم، وليس هناك في الواقع احتمالات أن تنعكس هذه الاتجاهات لمعدل الفائدة سواء في الأجل القصير أو المتوسط، وهذا ما اكد عليه الاحتياطي الفدرالي من حيث الإبقاء على معدلات الفائدة مثبتة عند مستوياتها الحالية حتى منتصف 2013، وطالما استمرت هذه الظروف في العالم فإن الضغوط على سعر الذهب نحو الارتفاع سوف تستمر في التصاعد.
وسط هذا تتعدد التوقعات حول اتجاهات أسعار الذهب في المستقبل، وربما تكون أقوى وجهات النظر في الذهب هي ما اطلقها مؤخرا المستثمر العالمي وارن بوفيت في التقرير السنوي لمؤسسته Berkshire Hathaway Inc عن عام 2011 حيث وصف الذهب بأنه أصل عقيم لا ينتج أي شيء، وإنما يتم شراءه من جانب المستثمرين لأن المشتري يأمل بأن يأتي شخص ما في المستقبل، والذي يعلم أيضا أن الذهب اصل لا ينتجه يكون مستعدا لدفع سعر أعلى فيه.
لقد شبه بوفيت هؤلاء المشترين بالمضاربين في زهرة التيوليب أحد الأصول المفضلة للاستثمار في القرن السابع عشر، والتي تناولتها هنا على الاقتصادية في الحلقة الأولى من سلسلة عالم لا يتعلم من أزماته، وكما هو شائع يشير بوفيت إلى أن الطلب على اصل عقيم مثل الذهب يكون دائما مدفوعا بالخوف من الانهيار الاقتصادي أو تراجع القيمة الحقيقية للأصول شبه السائلة مثل سندات الدين وكذلك عندما تتصاعد مخاطر انهيار العملات.
يرى بوفيت أن مثل هذا النوع من الأصول الاستثمارية يتطلب تجمعا متزايدا من المشترين الذين يتم إغراءهم بشكل مستمر، والذين يعتقدون أن تجمع المشترين سوف يتسع أكثر فأكثر في المستقبل، وفي ظل هذا التجمع فإن مالكي الأصل لا يندفعون نحو الاستثمار فيه بما يمكن أن ينتجه الأصل، وإنما بالاعتقاد بأن الآخرين سوف يرغبون في الأصل بصورة اكثر وأكثر في المستقبل، وفي وجهة نظر بوفيت يعد الذهب من الأصول المفضلة حاليا للمستثمرين الذين يخشون الاستثمار في باقي الأصول، بصفة خاصة النقود الورقية. غير أن للذهب عيبان أساسيان هما أنه ليس له فائدة كبيرة لمن يقتنيه في حد ذاته، كما أنه أصل عقيم لا ينتج.
فعندما يتملك شخص ما سبيكة وزنها أوقية من الذهب للأبد، فإنه لن يجد في النهاية سوى أوقيه ذهب، بدون أي زيادة تذكر في المحتوى المعدني للسبيكة، واذا كان الأمر كذلك فما الذي يشجع الناس على  الاستمرار في اقتناء المعدن؟ يرى بوفيت أن الذي يشجع المضاربين في الذهب على الاستثمار فيه هو أن العوامل المسئولة عن الخوف من الاستثمارات البديلة سوف تنمو، وقد كانت هذه المعتقدات صحيحة وخلال العقد الماضي، فضلا عن أن ارتفاع الأسعار دفع بالمشترين نحو المزيد من عمليات الشراء والتي حققت توقعاتهم الاستثمارية، خصوصا مع زيادة أعداد المنضمين إلى طابور المشترين، وخلال الخمس عشر سنة الأخيرة ارتفعت أسعار اسهم شركات الإنترنت وكذلك ارتفعت أسعار المساكن، وخلال هذه العملية انضم الكثير من المستثمرين إلى مجمع المشترين بالشكل الذي ساعد ارتفاع الأسعار على الاستمرار، غير أن الفقاعات السعرية التي تكونت نتيجة لذلك انفجرت بشده فيما بعد.
وللتأكيد على خطورة الذهب كأصل يشير بوفيت إلى أن إجمالي الذهب المستخرج من باطن الأرض حتى الآن حوالي 170 ألف طنا متريا، والتي اذا ما تم صهرها فسوف تصبح مكعبا أبعاده 68 قدما فقط، واذا ما قورنت قيمة هذا المكعب بباقي الأصول مثل ما يساويه هذا المكعب من أراضي زراعية أو أصول للشركات الضخمة مثل اكسون موبيل، فخلال قرن من الزمن من الآن سوف تنتج الأراضي الزراعية كميات هائلة من المحاصيل الزراعية بينما ستكون اكسون موبيل قد وزعت تريليونات الدولارات من الأرباح وكذلك ينطبق الأمر على باقي الأصول، بينما ستظل كمية الـ 170 ألف طنا من الذهب كما هي بدون أي تغير وأيضا غير قادرة على إنتاج أي شيء.
بالطبع على الرغم من أن الذهب أصل عقيم لا يولد عوائد نقدية (مثل فائدة او توزيعات أرباح)، فإن ذلك لا يعني أن المضارب لا يمكنه تحقيق عوائد من الطلب على الأصل، فكما أشرنا مسبقا أنه ما بين 2001 إلى 2010، تضاعف سعر الذهب أكثر من خمس مرات، ولذلك ينظر إلى الذهب بأنه يعاني من هي الفقاعة السعرية، ولكن ما هي الفقاعة السعرية؟ هذا ما سوف أتناوله في الحلقة  القادمة إن شاء الله