السبت، فبراير ٢٨، ٢٠٠٩

هدر المال العام واجب شرعي

نشر في جريدة القبس بتاريخ الأحد 1/2/2009
في برنامج لتليفزيون العدالة يوم الخميس الماضي 19/2/2009 الساعة 9.30 مساءا تم تناول قضية إلغاء قروض المواطنين في مقابل الخطة المقترحة للاستقرار المالي، وفي أثناء الحوار حدث اتصال من أحد المشاهدين للبرنامج، وأشار إلى أن هناك حاليا فتوى مضمونها أن "إلغاء القروض الشخصية في دولة الكويت هو واجب شرعي" بمعنى انه أصبحت الموافقة على مقترح إلغاء القروض في حال طرح الموضوع للإقرار مرة أخرى أصبح واجبا شرعيا على الجميع. بجرة القلم الذي سطر تلك الفتوى أصبحت الدولة مطالبة الآن بتحمل أكثر من 5 مليار دينار هي تكلفة إلغاء القروض الشخصية للمواطنين. منذ فترة قليلة قطع السيد جاسم الخرافي رئيس مجلس الأمة الباب على المزايدين على قضية إلغاء القروض حينما صرح بان موضوع إلغاء القروض انتهى من الناحية الرسمية، حيث سبق أن صوت عليه المجلس بالرفض سابقا، ومن ثم لا يجوز إعادة طرح الموضوع على المجلس. غير أن الموضوع قد أعيد الزج به مرة أخرى في خضم مناقشة قانون الاستقرار المالي المطروح حاليا، بحيث يمكن أن تضمن الحكومة الموافقة على قانون الاستقرار المالي في مقابل إلغاء قروض المواطنين، استنادا إلى الحجة القائلة بأنه إذا كانت الحكومة ستقوم بإنقاذ البنوك وشركات الاستثمار، فالأولى بها أن تنقذ المواطن من قيد القروض الشخصية. الدعوة لإلغاء قروض المواطنين حججها ضعيفة، فضلا عن ذلك فان هناك عدد من الملاحظات التي يجب أخذها في الاعتبار عند إجراء هذه التوأمة غير الموضوعية بين إقرار قانون الاستقرار المالي وإلغاء قروض المواطنين أهمها:

أولا: أن الدعوة إلى إلغاء القروض الشخصية تعد مخالفة دستورية واضحة لما تحمله من شبهة عدم العدالة بين المواطنين في الاستفادة من المال العام. ذلك أن ليس كل المواطنين مقترضين، أو ليس كل المواطنين مقترضين لنفس القرض، كما أنه ليس كل المقترضين غير قادرين على السداد، وليس كل المواطنين يرزحون تحت عبئ القروض بالصورة التي يروج لها المطالبين بالمقترح، وعلى ذلك فان المقترح بإلغاء القروض الشخصية يمثل مخالفة صريحة لدستور دولة الكويت لما يؤدي إليه من عدم المساواة بين المواطنين.

ثانيا: إن المقارنة بين قانون الاستقرار المالي وإلغاء القروض أمر غير موضوعي، حيث لا يوجد أي وجه للمقارنة بينهما سوى أن المال العام سوف يتم استخدامه في الحالتين، ولكن بأسلوب وتبعات مختلفة تماما. فوفقا لمشروع قانون الاستقرار المالي سوف يتم استخدام المال العام في صورة تسهيلات مالية لرفع مستويات السيولة لدى المؤسسات المالية التي تواجه عجزا مؤقتا في السيولة في مقابل تكلفة مالية تتحملها المؤسسات التي ينطبق عليها الشروط وليس بصورة مجانية، وبضمانات كافية تضمن استعادة الدولة لهذه التسهيلات، معنى ذلك أن المال العام المقدم في ظل قانون الاستقرار المالي لن يقدم في صورة مساعدة مجانية، كما يروج البعض، وسيعود المال العام المستخدم في ظل قانون الاستقرار المالي مرة أخرى إلى خزانة الدولة. أما المال العام الذي سيستخدم في إلغاء القروض الشخصية، فهو بمثابة أموال ضاعت على الدولة (أقصد جميع المواطنين الحاليين والأجيال القادمة) في سبيل شراء الدولة لقروض المواطنين من البنوك.

ثالثا: أن المال العام الذي سيستخدم في إلغاء القروض الشخصية سيتم بدون أي شروط أو ضوابط، حيث، ببساط شديدة، سيستفيد منه أي مقترض بغض النظر عن ملاءته المالية ومدى استحقاقه للمساعدة، ومدى العبء الحقيقي للقرض عليه، أما المال العام الذي سيتم استخدامه وفقا لقانون الإصلاح المالي فسيتم تحت شروط محددة ولمدد محددة لضمان استرداد هذه الأموال مرة أخرى.

رابعا: أن المال العام الذي سيستخدم وفقا لقانون الاستقرار المالي هو أساسا تسهيلات مقدمة للبنوك لتفادي أزمة حقيقية يمكن أن تطال آثارها الجميع في حال إفلاس أحد البنوك لما يمكن أن يترتب على ذلك من آثار مدمرة على النظام المالي برمته في الدولة. أما المال العام الذي سيستخدم في شراء القروض فيمثل نثرا للمال لحل مشكلة غير حقيقية، فوفقا لبيانات البنك المركزي فان نسبة المتعثرين من المقترضين غير القادرين على السداد محدودة جدا، وهو ما يعني أن النظام المصرفي يمكن أن يستمر بسهولة حتى مع إعسار بعض المدينين.

خامسا أن المال العام المقدم في إطار قانون الاستقرار المالي سوف يساعد مؤسسات القطاع المالي على الاستمرار في العمل ومن ثم المزيد من الإنتاج والتوظيف والاستقرار الاقتصادي، بينما المال العام الذي سيستخدم في إلغاء القروض سوف يرسخ مفاهيم مدمرة لدى الفرد، ومن المؤكد انه سوف يشجع الآلاف المستفيدين من الخطة على إعادة الاقتراض مرة أخرى، أي أن الدعوة إلى إلغاء القروض سوف ترسخ ثقافة الهدر لدى المواطنين وثقافة المسئولية الكاملة للدولة عن المواطن.

مشروع قانون الاستقرار الاقتصادي ليس هدرا للمال العام ولن يذهب المال العام لجيوب أصحاب شركات الاستثمار كما يروج البعض، بل على العكس فوفقا للقانون فان الشركات التي سيثبت أنها غير مستحقة للمساعدة تكتب شهادة وفاتها حاليا.

أستغرب أن يتم إصدار فتوى "شرعية" بهذا المعنى وبهذه السهولة، فمما لا شك فيه أن من اصدر الفتوى كان بحاجة إلى أن يدرس آليات عمل النظام المالي، ودوافع الأفراد للاقتراض، والأغراض التي تستخدم فيها القروض الشخصية، ومتى يصبح القرض عبئا، واعتبارات العدالة الاجتماعية عند استخدام المال العام، وقواعد العدالة بين الأجيال في الاستفادة من المال العام، والعوامل التي تتحكم في قدرة الأفراد على خدمة قروضهم، بما في ذلك دخلهم الدائم، أي القيمة الحالية للدخول المتوقعة لدخول الأفراد حاليا وفي المستقبل، فمن قد يبدو أنه غير قادر حاليا على خدمة قرضه، قد يكون قادرا على ذلك في المستقبل، عندما يرتفع دخله وتقل أعباءه .. الخ قبل إصدار فتوى من هذا النوع. لقد أشيع عن الملك فاروق (أمير المؤمنين في عصره) قوله أنه يمكنه أن يحصل على أي فتوى ب "ديك رومي"، أي عزومةة شخصية للشيخ وطرح الموضوع والحصول على الفتوى في إشارة إلى سهولة الحصول على الفتوى، طالما كثر المفتين، وما أكثر المفتون في هذا العصر.

السلوك المنطقي والطبيعي في التعامل مع المشكلة هو أنه إذا كانت هناك مشكلة لدى بعض المواطنين في خدمة ديونهم نتيجة لارتفاع عبئ الدين بالنسبة للدخل، فان هناك أدوات عديدة يمكن من خلالها التعامل مع تلك الحالات، بدلا من شطب الدين، وبحيث لا نأخذ العاطل في الباطل، فهو أمر في غاية الخطورة ويرسخ ثقافة ضارة جدا على المجتمع. من لا يمكنه السداد، يمكن إعادة جدولة ديونه، أو إعادة هيكلة خدمة الدين عليه لفترات أطول، حتى يتمكن من استعادة قدرته على السداد، من خلال برامج متعددة مثل صندوق مساعدة المتعثرين، أو إلغاء جانب من دينه في الحالات المتعثرة جدا من خلال مثل هذا الصندوق، وذلك بعد أن تتم دراسة كل حالة على حده وبصورة موضوعية، فليس كل مقترض غير قادر على السداد، سواء حاليا أو في المستقبل.

احتياطيات الكويت المالية ليست ملكا للجيل الحالي فقط، وإنما هي ملك أيضا للأجيال القادمة، وعلينا أن نعمل بمبدأ المحاسبة بين الأجيال، فعندما تنثر هذه الأموال على الجيل الحالي فقط، فان ذلك يحمل ظلما فادحا للأجيال القادمة، فهل من ينادي بإلغاء القروض على استعداد لتحمل المساءلة أمام الله عز وجل عن ذلك، خصوصا وان واقع الحال يشير إلى أن تلك الأجيال لن تعيش في مستويات الرفاه التي ننعم بها حاليا، بصفة خاصة عندما ينتهي عهد النفط. ثم هل تجوز المطالبة بإلغاء القروض على الجميع من يستحق ومن لا يستحق، القادر وغير القادر، أو غير القادر حاليا مع احتمال ارتفاع قدرته في المستقبل. إن المشكلة الجوهرية هنا في وجهة نظري ليست من سيستفيد من إسقاط القروض؟، وإنما هي المتضرر من إسقاط القروض؟ بمعنى آخر من سيدفع التكلفة؟ إنهم للأسف أطفال الحاضر وأسر المستقبل، أي الأجيال القادمة، والذين سيدفعون ثمنا باهظا لتلك الهرطقات التي لا تهدف إلا لدغدغة الشارع، وتدعيم المراكز الانتخابية، وضمان أصوات تمكن من احتلال كرسي في البرلمان القادم، أما الكويت ومصلحتها، والأجيال القادمة ورفاهيتها، والتنمية ومستقبلها، فتلك أمور لا تعني البعض للأسف. إسقاط القروض، لو تم، فانه سيكون بمثابة أكبر تبرع انتخابي في التاريخ تقدمه حكومة لنائب أو مجموعة من النواب من أجل تأمين مقعد برلماني، وتلك في وجهة نظري جريمة في حق الأجيال القادمة، فكيف به يصبح واجبا شرعيا.

الخميس، فبراير ٢٦، ٢٠٠٩

هجمة شرسة على المال العام

قلما شهدت الساحة الكويتية هذا القدر الكبير والمتنوع من المطالب النيابية باستخدام المال العام بأشكال مختلفة لمصلحة المواطن، بين مطالب بإلغاء القروض الشخصية للمواطنين، وآخر يطالب بإلغاء فوائد القروض، وغيره يدعو إلى تحويل القروض الشخصية إلى قروض حسنة، وآخر ينادي بتوزيع حصة متساوية من المال على كل المواطنين ضمانا للعدالة التي ينص عليها الدستور بين المواطنين.... الخ، والنتيجة في كافة الأحوال واحدة وهي حرق جزء من الثروة العامة للدولة حتى يتباهى من يتباهى بأنه صاحب المطلب الذي نفذته الحكومة، وانه المدافع الأمين عن مصالح الناس ومنقذهم مما يعانون منه من هم وكرب عظيمين. من يطالع البيانات الصحفية أو المقابلات التليفزيونية للمطالبين بهدر المال العام، لا يمكنه أن يصدق أننا نعيش في الكويت.

لو أن شخصا لم يزر هذه البلاد الجميلة قرأ أو شاهد الصورة الكئيبة التي يرسمها البعض عن المأساة التي يعيشها الناس، فانه لا يملك إلا أن يعتقد أن الكويت من أفقر دول العالم، حتى يعيش فيها الناس بهذه الصورة المخالفة للحقيقة التي يرسمها البعض. لماذا هذه المبالغة في رسم صورة مزرية للمواطن ومعيشته وهمومه والأعباء التي يتحملها على كاهله، وكأننا نعيش في بنجلاديش أو في مجاهل إفريقيا أو أمريكا اللاتينية.

المواطن لدينا والحمد لله بخير ونعمة ورفاهية ومتوسط دخل يحسده عليه الناس في العالم أجمع. إذا لم تصدقوا ذلك، طالعوا التقارير الدولية عن متوسط نصيب الفرد من الدخل في العالم والمقارنات الدولية لمستويات الرفاهية التي يعيش فيها الإفراد في العالم لتعلموا كم هو محظوظ هذا المواطن الذي تتحدثون عنه بين كل سكان هذا العالم غنيه وفقيره.

لماذا هذه الهجمة الشرسة على المال العام إذن؟ وكأن المال العام لا صاحب له أو بالأحرى هو ملك الشيطان، وإلا لما كان عاقل لديه أدنى قدر من الحرص على المال العام أن يبادر إلى المطالبة بنثره يمينا وشمالا بهذه الصور المقترحة، الإجابة هي لأن من يطالب بذلك ببساطة لا ينثر من جيبه، وإنما من جيب الدولة. والدولة لدى البعض مخلوق أسطوري لا وجود له حلال دمه، وإلا لما انبرى البعض مطالبا بما يطالب به. عندي اقتراح بسيط لدعاة إنقاذ المواطن، لماذا لا تطالبون بفرض ضريبة على الأغنياء وأصحاب الأعمال من ذوي الثروات العظيمة لتستخدم في رفع مستوى المواطن الذي تتحدثون عنه، إذا كنتم تبحثون عن العدالة.

السبت، فبراير ٢١، ٢٠٠٩

هل تؤدي الأزمة الاقتصادية إلى حرب تجارية عالمية

نشر في جريدة القبس بتاريخ السبت 21/9/2009
بدأت الدعوة للقومية الاقتصادية تنتشر الآن عبر كافة اقتصاديات العالم، حيث يدعو السياسيون الآن المستهلكين لشراء السلع الوطنية، وكذلك تتزايد الدعوات إلى الحد من توظيف الأجانب، أكثر من ذلك فان جانبا من خطط الإنقاذ للقطاع المالي وبعض القطاعات الصناعية التي تتبناها دول العالم يتناقض مع التزاماتها نحو منظمة التجارة العالمية التي يبدو أنها لم يعد لها صوت وسط جلبة الأزمة، حيث يفترض أن كافة أشكال الدعم والمعاملة الوطنية لا يسمح بها وفقا لقانون المنظمة. المد المعاكس للعولمة بدأ ينطلق الآن من الدول الصناعية في صور مختلفة للدعم وخطط التحفيز المالي الموجهة لمعالجة آثار الأزمة الاقتصادية العالمية. إذا استمر هذا المد فان العالم مرشح لان يعيد التجربة المريرة للحماية التجارية أثناء الكساد العالمي الكبير، حيث حاولت كل دولة أن تحمي مصالحها الذاتية دون النظر إلى أثار تلك السياسات على غيرها من الدول، وبدون تقييم للآثار السلبية التي يمكن أن تترتب على هذه السياسات محليا، وتعرف هذه الإجراءات بسياسات "إفقار الجار"، الأمر الذي أدى إلى إطالة أمد الأزمة، وتعمق آثارها. فخلال المدة من 1929-1932 انخفض حجم التجارة العالمية بنسبة 60%، كما انخفض حجم الإنتاج الصناعي في الولايات المتحدة بأكثر من 35%.

في يناير 2009 أصدر قانون استعادة النشاط وإعادة الاستثمار الأمريكي، والذي اشترط على كافة المشروعات العامة التي سيتم تمويلها من خلال خطة التحفيز المالي الأمريكية أن تستخدم فقط الحديد والصلب المنتج في الولايات المتحدة، غير أن مجلس الشيوخ قد قام بتوسيع تلك الفقرة لتشمل كافة الاحتياجات من المنتجات الصناعية، وقد تم إدراج هذا الشرط في القانون على أساس أن أموال دافعي الضرائب يجب أن تذهب إلى العمال الأمريكيين. هذا الشرط أثار المخاوف في أن تقوم الدول الأخرى بتقليد ممارسات الولايات المتحدة الأمريكية أو أن تنتقم من انتهاك الولايات المتحدة لالتزاماتها التجارية، وهو ما قد يؤدي إلى خسارة الولايات المتحدة للمزيد من الوظائف. "اشتري الأمريكي"، شعار ترفعه الولايات المتحدة الأمريكية حاليا تدعو فيه الجمهور الأمريكي على اختلاف فئاته إلى شراء السلع الأمريكية الصنع ووقف التوسع الواضح في السلع الأجنبية في الأسواق الأمريكية على حساب السلع الأمريكية، ومن ثم الحد من تدهور معدلات البطالة بين العمال الأمريكيين وتدهور مستويات الاستثمار الصناعي والناتج المحلي الإجمالي بشكل عام. الشرط الأمريكي بشراء السلع الأمريكية قائم على فكرة المضاعف الكينزي، وهو انه كلما كان الإنفاق يتم محليا كلما كانت قيمة مضاعف الإنفاق اكبر، بينما تقل قيمة المضاعف كلما أدى الإنفاق إلى مزيد من الواردات، والذي، من وجهة نظر البعض، يقلل من فاعلية خطة الإنقاذ الأمريكية.

انطلقت الانتقادات الخارجية للشرط الأمريكي مباشرة عقب إصداره، على سبيل المثال تصاعد الانتقاد الكندي للقانون الأمريكي المقترح بالإشارة إلى أن تلك المادة في خطة الإنقاذ تتعارض مع الالتزامات التجارية للولايات المتحدة الأمريكية، كما أنها يمكن أن تخنق جهود استعادة النشاط الاقتصادي العالمي، وأنها تثير القلق حول احتمالات تأثير الحماية الأمريكية على التجارة بين الدولتين. كذلك هاجم الرئيس البرازيلي هذا التحرك الأمريكي، وأعلنت اليابان معارضتها للخطوة الأمريكية. ويتصاعد القلق بشكل واضح في الاتحاد الأوروبي من هذا الاتجاه الجديد في السياسة التجارية الأمريكية. حيث ينظر إلى التحرك الأمريكي على أنه يعد منافيا لقواعد منظمة التجارة العالمية، وهو ما يسمح باتخاذ إجراء قانوني في إطار المنظمة من قبل شركاء الولايات المتحدة التجاريين. من ناحية أخرى فان شعار اشتري الأمريكي يعد تناقضا مع التزامات الولايات المتحدة أمام مجموعة العشرين بألا تتخذ أي إجراءات حمائية جديدة في إطار سياسات إفقار الجار.

"اشتري الأمريكي" وضع أوباما في واحدة من أعقد معضلات فترته الرئاسية وبصورة مبكرة جدا، فكيف يتمكن من تحقيق هدفين متعارضين في ذات الوقت؛ الأول وهو حماية وظائف الأمريكيين، والثاني حشد دعم شركاءه التجاريين للعمل سويا من اجل معالجة الأزمة الاقتصادية العالمية. الرئيس الأمريكي نفى أن تكون الحماية ضمن أجندته السياسية، قائلا بأنه لا يمكن أن نرسل إشارة حمائية إلى العالم وأضاف انه من الخطأ القيام بذلك في الوقت الحالي، حيث أن هذه الرسالة تعد مصدرا كامنا للحرب التجارية. غير أن مثل هذه الإجراءات ينظر إليها من قبل شركاء أمريكا التجاريين على أنها تقف في وجه اتفاقيات التجارة العالمية الموقعة من كافة الأطراف، ويمكن أن تؤدي إلى المزيد من المشكلات التجارية. ذلك أن الأثر السلبي الناجم عن الإجراءات الانتقامية من قبل الشركاء التجاريين للولايات المتحدة على عملية خلق الوظائف سوف يكون اكبر بكثير من الأثر الايجابي على الوظائف الأمريكية، وأن عملية خلق الوظائف لا تأتي من الإجراءات الحمائية بقدر ما تأتي من الاستثمار في الاقتصاد الأمريكي ومن ثم خلق المزيد من الوظائف باستخدام أموال خطة التحفيز. لقد قام معهد بيترسون للاقتصاد الدولي بعملية تقدير للفرص الوظيفية التي يمكن أن تنتج عن رفع شعار "اشتري الأمريكي" في صناعة الحديد والصلب، فوجد أن هذا الشعار يمكن أن يسمح بخلق حوالي 1000 وظيفة إضافية، نظرا لان صناعة الحديد والصلب كثيفة الاستخدام لرأس المال، والتي لا تساوي شيئا يذكر بالقياس إلى عدد العمال في الولايات المتحدة الذي يزيد عن 140 مليونا، كذلك توصل إلى أن مد الدعوة لكي تشمل كافة السلع المصنعة ربما يؤدي إلى فتح 9000 فرصة عمل إضافية، وهو ما يعد مرة أخرى يعد رقما ضئيلا. من ناحية أخرى فانه إذا ما خسرت الولايات المتحدة جزءا صغيرا من صادراتها إلى المؤسسات العامة في الخارج نتيجة للإجراءات الانتقامية فان خسارة الوظائف في الولايات المتحدة ربما تتراوح بين 6500 إلى 65000 وظيفة. خلاصة الدراسة هي أن الحماية التجارية لن تكون في صالح الولايات المتحدة أو العالم.

السياسات الحمائية الجديدة لأمريكا لم تقتصر على السلع، وإنما امتدت إلى تشديد القيود المفروضة على الهجرة إلى أمريكا، حيث صوت مجلس الشيوخ في 6 فبراير الماضي على تقييد قدرة البنوك، وغيرها من المؤسسات المالية التي تحصل على أموال دافعي الضرائب في إطار برنامج الإنقاذ، على توظيف عمال مهرة أجانب بتصاريح عمل مؤقتة، والتي ينظر إليها البعض على أنها أكثر ضررا على الاقتصاد الأمريكي من شرط "اشتري ألأمريكي" على الأقل في الأجل الطويل، حيث أن صناعة المال الأمريكية في حاجة إلى هؤلاء خصوصا مع تراجع مستويات الرواتب والقيود الحالية على أعداد العمال المهرة في صناعة المال. ومثل هؤلاء هم من يساعدون أمريكا على خلق المزيد من الوظائف من خلال الأساليب الجديدة التي يطبقونها والحلول التي يقترحونها. من ناحية أخرى فان المهاجرين الأجانب خلال العشر سنوات الأخيرة قاموا بإنشاء المئات من المشروعات الجديدة التي أسهمت في توظيف ما يقرب من نصف مليون أمريكي. سياسات الهجرة الأمريكية كانت في وقت من الأوقات هي الوحيدة من بين السياسات التي نجحت في جذب المهاجرين مرتفعي المهارات إلى الولايات المتحدة، وهو ما دعا أوروبا ألان إلى أن تأخذ نفس النهج لجذب المزيد من المهاجرين مرتفعي المهارة، بحيث أصبح هناك منافسة دولية بين أوروبا والولايات المتحدة على جذب العقول المهاجرة. في ظل هذا التعديل الجديد للقانون فان القدرة التنافسية للولايات المتحدة في هذا المجال تصبح أقل.

المخاوف من انتشار الحماية تعززت مع التصريحات الحمائية للرئيس ساركوزي وخطة الحكومة لإنقاذ صناعة السيارات الفرنسية، حيث ينوي الفرنسيون منح قروض مضمونة من الحكومة لمدة 5 سنوات بأسعار فائدة منخفضة لشركات رينو وبيجو وستروين، كذلك سوف يتم تقديم مساعدة مالية للبنوك التي تقوم بتقديم قروض لشراء السيارات وذلك في مقابل التزام شركات السيارات الفرنسية بعدم إغلاق أي من مصانع السيارات المحلية لتجنب خفض عدد الوظائف في فرنسا وكذلك بشرط عدم بيع السيارات الفرنسية المصنعة في الخارج داخل فرنسا. دعوة ساركوزي لشركات السيارات الفرنسية واضحة، وهي إعادة إنتاج السيارات من شرق أوروبا إلى المصانع الفرنسية في فرنسا، في إشارة واضحة إلى مصانع بيجو وسيتروين في جمهورية التشيك. مشكلة الخطة الفرنسية هي أنها تربط حماية الوظائف المحلية في فرنسا بالمساعدة المالية. الخطة الفرنسية واجهت انتقادا شديدا من ألمانيا التي وصفت الخطة بأنها أحد أشكال الحماية التجارية، وللتعبير عن إيمان ألمانيا بحرية التجارة فان خطة التحفيز الألمانية نصت على منح المشترين للسيارات الذين يستبدلون سياراتهم القديمة بسيارات جديدة مساعدة مالية، غير أنها لم تقصر تلك المساعدة على السيارات الألمانية فقط. إذا ترتب على الخطة الفرنسية أن يطلب من المصنعين شراء المنتجات الفرنسية فقط أو الاستثمار في فرنسا فقط، فان الخطة تعد انتهاكا للقانون الأوروبي، وربما لا تقر بواسطة الاتحاد الأوروبي.

من ناحية أخرى فان سياسات الحماية أخذت أيضا في التصاعد في الصين، والتي تشجع شراء السلع المنتجة المحلية، هذه السياسات كانت تمثل مشكلة كبيرة في الصين خلال الثمانينيات والتسعينيات. الحماية الصينية الآن تأخذ أشكالا عديدة، أهمها التركيز على شراء الماركات المصنعة محليا، واشتراط ألا تقل نسبة المعدات المصنعة محليا في السلع التي تجمع أو تصنع داخل الصين عن حد معين، ومنح دعم إضافي لآلات الحرث والآلات الزراعية المصنعة محليا، كما أن مشاريع البنية التحتية يجب أن تستخدم منتجات مصنعة محليا على سبيل المثال الاسمنت المصنع محليا.. الخ.

من جانبهم حذر المديرون التنفيذيون لصناعة تكنولوجيا المعلومات بأنه إذا أجبرت المشروعات في بريطانيا على شراء خدمات تكنولوجيا المعلومات من الشركات البريطانية فان ذلك سوف يعد أحد أشكال الحماية، وذلك في تخوف من أن إجراءات للحماية في هذا المجال قد تصدر في المملكة المتحدة لإجبار الشركات البريطانية على عدم تكليف الشركات الهندية بتوفير تلك الخدمات بهدف خلق المزيد من الوظائف في المملكة المتحدة. وفي بريطانيا أيضا حدثت إضرابات عمالية تعترض على توظيف العمال الايطاليين والبرتغاليين في المشروعات النفطية، ورفعت شعار الوظائف البريطانية للعمال البريطانيين. وفي مجال الخدمات المالية أصبحت سويسرا اليوم تفضل القروض المحلية، من خلال إهمال حساب تلك القروض عند حساب مستويات رأس المال التي يجب أن تحتفظ بها البنوك، بينما يتم حساب القروض الأجنبية بالكامل عند حساب مستويات رأس المال. باقي الخدمات القابلة للاتجار فيها مثل الاتصالات والتوزيع والنقل والخدمات المهنية .. الخ عرضة أيضا لمثل هذه الممارسات مما سيؤدي إلى أعباء اكبر على المستوى الدولي.

العالم الآن يتجه بصورة واضحة نحو الحماية التجارية، سواء أكان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة. إذا أدت الأزمة الاقتصادية العالمية إلى انتشار الحماية التجارية فإن هناك كسادا عظيما ينتظر العالم، وربما يكون أعنف بكثير من أزمة الكساد العالمي في الثلاثينيات من القرن الماضي. ذلك أن سياسات إفقار الجار هي روشتة للدمار الاقتصادي العالمي، ولذلك حرص الوزراء في مجموعة العشرين على تأكيد عدم اتخاذ إجراءات حمائية أثناء الأزمة. غير أن الالتزام بعدم اتخاذ إجراءات حمائية يبدو أنه مقصور حاليا على حوائط التعريفة الجمركية على الواردات، في الوقت الذي اتخذت فيه سلسلة من الإجراءات بواسطة الكتل التجارية الرئيسية في العالم بعضها في إطار نقدي والآخر في إطار مالي وجميعها تؤدي إلى تشويه ساحة اللعب لصالح الشركات الوطنية، ومن ثم التمييز ضد الشركات الأجنبية المنتجة للسلع والخدمات، أو تؤدي إلى التمييز ضد عناصر الإنتاج غير الوطنية. وهو ما يعني أن الكتل التجارية الرئيسية يتزايد استخدامها للإجراءات غير التعريفية. إذا كانت استجابة اكبر الاقتصاديات في العالم للازمة على هذا النحو فان المزيد من الاضطرابات الاقتصادية ينتظر العالم، ومن الممكن أن تؤدي الحماية إلى حرب تجارية بين المجموعات التجارية الكبرى.

الأربعاء، فبراير ١٨، ٢٠٠٩

مستقبل النظام المالي العالمي بعد الأزمة

نشر في جريدة القبس بتاريخ الاربعاء 18/2/2009
والاقتصادية السعودية (http://www.aleqt.com/2009/02/17/article_196815.html)
أثارت الأزمة المالية الحالية حملة عالمية لإعادة النظر في النظام المالي العالمي بسبب ارتفاع درجة الهشاشة المتأصلة في الهيكل الحالي لهذا النظام، وبصفة خاصة في ظل المد العولمي الذي اجتاح أسواق المال خلال العقدين الماضيين، والفوضى التي صاحبت عمليات الابتكار للأدوات المالية الجديدة، وطبيعة المخاطر المصاحبة لهذه الأدوات، وفشل مؤسسات التقييم في فهم طبيعة المخاطر الخاصة ببعض الأدوات المالية الحديثة، ومن ثم تضليل المستثمرين حول مسويات المتانة المالية للكثير من المؤسسات المالية. وتتركز جهود إعادة هيكلة النظام المالي العالمي حاليا حول الجوانب التنظيمية، ودور المؤسسات المالية المختلفة، والدور المنوط بالحكومات القيام به في ظل الأزمة.

ويمكن أن ينظر إلى الأزمة المالية على أنها تمثل نقطة تحول هامة في تاريخ العالم الحديث، فبعد أكثر من عقدين من النمو الاستثنائي للنظام المالي العالمي الذي انطلق من الإيمان المطلق بنظام السوق واليات الاقتصاد الحر، أخذت المؤسسات المالية حاليا تتكيف مع بيئة أعمال جديدة تتسم بشكل عام بتشديد الائتمان وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي وزيادة درجة التدخل الحكومي، وتراجع وتيرة العولمة المالية التي سادت في السابق مع اتجاه الحكومات نحو تشديد عملية فتح حدودها من اجل حماية اقتصادياتها من الآثار السلبية التي تنشأ عن ضعف المناطق الأخرى في العالم ماليا.

منذ أيام صدر الجزء الأول من تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس حول مستقبل النظام المالي العالمي والذي تناول بالتحليل طبيعة التغيرات المتوقع حدوثها في المستقبل القريب لإعادة هيكلة النظام المالي العالمي في المستقبل. ووفقا للتقرير تتمثل أهم جوانب التغير المتوقع حدوثها للقطاع المالي العالمي في الآتي:

التدخل التنظيمي لإصلاح النظام المالي
ارتكزت الاستراتيجيات الرئيسية للمصارف العالمية على الإيمان بحرية الأسواق والاعتماد على التنظيم الذاتي. على سبيل المثال فان قطاع الخدمات المالية في الولايات المتحدة الأمريكية شهد تطورا جوهريا في عام 2004 في شكل تعديل قاعدة "صافي رأس المال" لبنوك الاستثمار التي تتملك أصولا تتجاوز 5 مليار دولار، حيث سمح لهذه البنوك باستخدام نظم إدارة المخاطر الخاصة بها لحساب احتياجاتها الرأسمالية، وهو ما أدى إلى نقل بعض مسئوليات عمليات الرقابة من لجنة الأوراق المالية والبورصات في الولايات المتحدة وهيئات الرقابة في أوروبا إلى البنوك ذاتها.

غيرا أن الأزمة المالية قد أدت إلى إعادة التفكير حول دور الحكومة في قطاع الخدمات المالية. فعلى النقيض من العقد الماضي وتفضيل الدور الحكومي المحدود، أصبح ينظر إلى الحكومات الوطنية حاليا على أنها مصدر مهم لرأس المال واللاعب الرئيسي في حماية النظام المالي العالمي، وهذا الاتجاه الجديد والتحول الجوهري في نظرة القطاع المالي لدور الحكومات يشير إلى بداية وجود نوع من العقد الضمني بين الحكومات والمؤسسات المالية والذي بمقتضاه تمنح الحكومات الطرف الأخير حق الاستمرار في ممارسة النشاط في مقابل مزيد من الرقابة والتنظيم من قبل الحكومات.

أكثر من ذلك فانه من المتوقع إعادة هيكلة البدائل الاستثمارية لمؤسسات القطاع المالي بحيث يقل استخدام الأدوات مرتفعة المخاطرة وضمان ضرورة تنويع المحافظ المالية للمؤسسات المالية وتوازنها لإحداث التوازن المطلوب بين العوائد ومستويات المخاطرة وفي ذات الوقت ضمان مستويات أعلى من السيولة.

في قمة مجموعة العشرين حول الأسواق المالية والاقتصاد العالمي والتي عقدت في نوفمبر 2008، التزم قادة تلك الدول باتخاذ إجراءات عاجلة و في الأجل المتوسط يلتزم بمقتضاها صانعي السياسة على المستوى العالمي بإطار تنظيمي جديد للقطاع المالي، والذي يتوقع معه أن تتسع عمليات تنظيم وحدات القطاع المالي، وزيادة التنسيق العالمي في مجال تنظيم هذا القطاع. وترتكز عمليات إصلاح النظام المالي على خمس مبادئ أساسية للإصلاح وهي:
تعزيز الشفافية والمساءلة في النظام المالي
تعزيز التنظيم السليم في النظام المالي
تعزيز النزاهة في الأسواق المالية
تعزيز التعاون الدولي بشكل عام
إصلاح المؤسسات المالية الدولية

القطاع المالي العالمي سوف يشهد إذن في المستقبل درجة اكبر من التنظيم ومستويات أعلى من الرقابة على أعمال هذا القطاع.

العودة إلى أساسيات العمل المصرفي
سوف تدفع الأزمة المالية العالمية البنوك إلى العودة مرة أخرى إلى أساسيات الصناعة المالية، بصفة خاصة الحفاظ على ميزانيات سليمة. وقد بدأت البنوك من جميع الأنواع في عمليات إصلاح واسعة لمواقف ميزانياتها من خلال رفع معدلات السيولة والحفاظ على نسبة ملائمة لرأس المال إلى الأصول، وتخفيض الاعتماد على عمليات الإقراض القصير الأجل والمرتفع المخاطر. ومن المتوقع أيضا إن تسلك البنوك سلوكا مختلفا في استراتيجياتها التنافسية، بحيث تعتمد بشكل أكبر على قدراتها الجوهرية، وكذلك من المتوقع التأكيد على المزايا التنافسية التي تملكها البنوك من جديد.

معظم البنوك سوف تقوم بعملية التحول هذه على مرحلتين، في المرحلة الأولى الاستمرار في موجة إلغاء القروض التي تتسع حاليا في مجال الصناعة المصرفية، حيث سترتكز استراتيجيات البنوك في هذه المرحلة على إصلاح ميزانياتها من خلال تعديل تركيبة أصولها والتزاماتها، وزيادة رأسمالها، وربما الاندماج كإمكانية للمؤسسات الأضعف في إعادة بناء نفسها. وفي المرحلة الثانية فان البنوك التي اجتازت الأزمة سوف تعيد تقييم قدراتها وتعيد تركيز نماذج أعمالها في أنشطة أضيق نطاقا موجهة أساسا نحو عملاءها.

من ناحية أخرى فان الإطار المقترح للمؤسسات المالية في المستقبل يشير إلى أنها سوف تخضع لدرجة عالية من التنظيم كما ستمنح ضمانات حكومية عالية بصفة خاصة للبنوك، وذلك من بين أمور أخرى، وفي المقابل فان البنوك يجب أن تحتفظ بكميات كافية من الأصول السائلة قصيرة الأجل لكي تكون على أهبة الاستعداد دائما إذا حدث خلل في الأسواق. معنى ذلك أن الأوان قد آن لموجات تكسير القواعد التي صاحبت الابتكارات المالية الحديثة والتي صبغت النظام المالي العالمي خلال العقدين الماضيين أن تتم مراجعتها لضمان سلامة القطاع المصرفي والعودة مرة أخرى إلى أساسيات العمل المصرفي الرصينة.

تباطؤ وتيرة عولمة القطاع المالي
مكنت العولمة المالية مؤسسات القطاع المالي من النمو في أسواق جديدة في كل من الدول المتقدمة والناشئة معا، وهو ما ساعد الصناعة المالية على النمو بالشكل الهائل الذي رأيناه في السابق، ومكن المؤسسات المالية من تحقيق إيرادات وأرباح مرتفعة، وفي ذات الوقت مكنها من تحقيق درجات أعلى من التنويع لمحافظها المالية. ومن أهم الآثار المصاحبة للازمة حدوث تباطؤ في نمو عولمة السوق المالي العالمي، ومن ثم النمو المستقبلي للمؤسسات المالية التي تقرض بالجملة. وتتمثل أهم ملامح هذا التباطؤ في أن الأزمة قد أدت إلى تأميم الكثير من البنوك على المستوى العالمي سواء بصورة كاملة أو جزئية، ومع تزايد أعداد البنوك المؤممة سوف تزداد الحوافز لدى الحكومات نحو تبني سياسات مصرفية وطنية لحماية هذا القطاع من المنافسة، ومن المتوقع بعد أن قامت الحكومات بإنفاق مليارات الدولارات لإنقاذ بنوكها الوطنية، أن لا تصبح راغبة في أن تسمح للبنوك الأجنبية بالمنافسة مع بنوكها الوطنية، وهو ما قد يترتب عليه فصل النظام المصرفي المحلي عن النظام المصرفي العالمي من خلال ازدياد تركيز البنوك على أسواقها الوطنية.

من ناحية أخرى هناك تهديد كامن متمثل في زيادة مستويات الرقابة المالية على خروج ودخول رؤوس الأموال وبصفة خاصة رؤوس الأموال الساخنة، فمع قيام حكومات العالم بتحمل الأعباء التي ترتبت على الأزمة فانه من المتوقع أن تعمل هذه الحكومات على الحد من فرص تعرض اقتصادياتها المحلية للازمات الخارجية مرة آخري. وعلى الرغم من أن أهم آثار العولمة المالية هي ظهور البنوك العالمية، وتكامل أسواق السندات على المستوى الدولي وربط نظم الاتصالات والبيانات وان تلك الاتجاهات يصعب انعكاسها، إلا أن هناك إمكانية لحدوث درجة ما من الانعكاس في ظل الأزمة.

ولكن ما هي الآثار المصاحبة لتباطؤ العولمة المالية؟ إن أهم الآثار المترتبة على ذلك هو الحد من فرص الاستثمار المالي دوليا بالنسبة للمؤسسات المالية ذات الحجم الكبير، فضلا عن أن فرض القيود على حركة رأس المال سوف ترفع من تكلفة الديون ومن الممكن أن تقلل من درجة الارتباط بين العوائد على الأصول عالميا. باختصار فانه من المتوقع أن تشهد المرحلة القادمة انخفاضا في حجم النظام المالي العالمي وزيادة في التدخل الحكومي لتنظيم هذا القطاع وإعادة هيكلة للأدوات المالية المستخدمة وانخفاض حركة الأموال عبر الحدود القومية للدول.

الاثنين، فبراير ١٦، ٢٠٠٩

ملاحظات على اتجاهات أسعار النفط الخام الكويتي

في لحظة كتابة هذا المقال يوم الخميس 12/2/2009 الساعة الخامسة مساءا بلغ سعر النفط الأمريكي الخام 35.3 دولارا أمريكيا، وذلك في ضوء التقارير التي تشير إلى تراجع الطلب العالمي على النفط بفعل تعمق أثار الأزمة الاقتصادية العالمية. يتوقع في ظل هذا السعر للخام الأمريكي، أن يتراوح سعر برميل النفط الخام الكويتي المصدر إلى الخارج بين 31 – 32 دولارا أمريكيا. وهو بلا شك انخفاض كبير مقارنة بالمستويات القياسية التي بلغها سعر النفط الخام العام الماضي. هذا التراجع في سعر النفط الخام يثير عدة ملاحظات:

الملاحظة الأولى وهي أن اتجاه سعر النفط الخام نحو التراجع بهذه الصورة يؤكد ما سبق أن اشرنا إليه من أن عملية تقدير الإيرادات المتوقعة في مشروع الميزانية للسنة المالية 2009/2010 تمت لأول مرة عند سعر يلامس السعر السوقي للنفط الخام الكويتي، على عكس ما درجت عليه وزارة المالية خلال السنوات السابقة في إعداد الميزانية بأخذ درجة أكبر من الحيطة من خلال اعتماد سعر منخفض للنفط مقارنة بالسعر السوقي له عند تقدير السيناريو المتوقع الإيرادات النفطية في مشروع الميزانية. إذا كان السعر الذي قامت على أساسه عملية تقدير الإيرادات النفطية في مشروع الميزانية هو 35 دولارا فان الإيرادات المتوقعة خلال السنة المالية القادمة ربما تقل بشكل واضح عما هو مفترض في سيناريو الإيرادات العامة للدولة خلال العام القادم. ويعني ذلك أن مشروع الميزانية المقترح حاليا من قبل وزارة المالية في حاجة إلى المراجعة قبل اعتماده من قبل مجلس الأمة، وذلك بافتراض سعر أكثر اعتدالا لبرميل النفط الخام والذي ربما يتراوح بين الـ 20 إلى 25 دولارا، أخذا في الاعتبار أن جميع الشواهد تشير إلى تراجع سعر النفط الخام بصورة اكبر خلال السنة الحالية في ضوء التوقعات الخاصة بتطورات الأزمة الاقتصادية العالمية.

الملاحظة الثانية هي أنه بالإضافة إلى وثيقة مشروع الميزانية فانه هناك وثيقة أخرى في حاجة إلى مراجعة وهي الخطة الخمسية للدولة، وذلك بحيث يكون السعر المفترض لبرميل النفط الخام الكويتي واحدا في الميزانية والخطة حتى تتوافق سيناريوهات الإيرادات العامة في الخطة مع تلك الخاصة بالميزانية. أكثر من ذلك فان هناك حاجة إلى إعادة تقدير نماذج الخطة لأخذ أثر هذا الاتجاه التراجعي لأسعار النفط في الاعتبار على معدلات النمو المستقبلي المتوقع للاقتصاد الكويتي خلال المدى الزمني للخطة، ومن ثم الأثر على معدلات نمو استثمار القطاع غير النفطي ومعدلات نموه وعلى فرص التوظف التي تتيحها الخطة بشكل عام.

الملاحظة الثالثة هي أن هناك حاجة إلى إدراج حزمة من السياسات التي تقترحها الخطة الخمسية للتعامل مع هذه الأوضاع الجديدة للسوق العالمي للنفط الخام، وذلك لمعالجة الآثار السلبية لتراجع سعر النفط على الأداء الاقتصادي الكلي في دولة الكويت، بما في ذلك خطط الإنفاق العام والأدوات المساعدة للسياسة النقدية.

الملاحظة الرابعة يبدو أننا مقبلون على سنة صعبة جدا فيما يتعلق بإيراداتنا النفطية، حيث أعتقد أن السعر الحالي (35 دولارا للبرميل) مرشح للانخفاض بشكل اكبر تحت ضغوط تراجع الطلب العالمي على النفط في ضوء تعقد الأزمة الاقتصادية العالمية، وفشل القرارات المتتالية لمنظمة أوبك بخفض حصص الإنتاج للدول الأعضاء في أن تؤثر على اتجاهات السوق العالمي للنفط أو أن توقف التراجع المستمر للأسعار.

الملاحظة الخامسة ليس من المتوقع أن يترتب على هذا التراجع في أسعار النفط أثارا سلبية على مستوى رفاهيتنا، فقد أعلنت الحكومة أنها لن تمس المرتبات بالتخفيض مع تراجع إيرادات النفط، على الأقل في الميزانية الحالية، إذا تحقق ذلك فانه من المتوقع أن تتحسن الأوضاع المعيشية لأصحاب الرواتب بشكل عام. ذلك أن كافة التقارير تشير إلى تراجع معدلات التضخم على المستويين العالمي والمحلي بصورة جوهرية هذا العام، وهو ما سوف يؤدي إلى ارتفاع القوة الشرائية لدخول الأفراد ومستويات رفاهيتهم، وهو الأثر الايجابي الوحيد للتراجع الحالي في أسعار النفط.

الأربعاء، فبراير ١١، ٢٠٠٩

أخبار سارة: خسارة الصندوق السيادي للكويت 31 مليار دولار فقط

نشرت جريدة الوطن بتاريخ اليوم الاربعاء11/2/2009 اليوم تصريح النائب وليد الطبطبائي عن مدير الهيئة العامة للاستثمار أن خسائر الصندوق السيادي للاستثمار في دولة الكويت بلغت 9 مليار دينار (31 مليار دولار أمريكي) من استثماراتها المقدرة بحوالي 300 مليار دولار. وقد جاءت هذه التصريحات بناءا على ما تم مناقشته داخل الجلسة المغلقة للحالة المالية للدولة. من ناحية أخرى أشار الخبر إلى أن الخسارة هي عبارة عن خسارة دفترية نتيجة للازمة المالية العالمية.

وفقا لهذه التصريحات فان نسبة الخسارة إلى رأس المال تبلغ 10% فقط، وإذا كانت جميع التقارير عن الأسواق العالمية تشير إلى تراجع أسعار الأصول المالية بين 40% إلى 60% حسب الحالة، وبما أن استثمارات الكويت الخارجية موزعة بين هذه الأسواق (ملاحظة لا يوجد أي بيانات منشورة عن توزيع استثمارات الكويت الخارجية) فان هذه الخسائر للصندوق السيادي الكويتي تعد استثنائية في الأداء. من ناحية أخرى فان الخبر يشير إلى أن كل هذه الخسائر دفترية (أي تراجع في القيمة السوقية عن القيمة المسجلة لهذه الأصول في دفاتر الهيئة العامة للاستثمار)، وهو ما يعني أن الكويت لم تكن تستثمر في أي من البنوك أو الشركات التي أفلست عالميا.

اذا كان رأس مال الصندوق السيادي هو 300 مليار دولار فهل فعلا تبلغ نسبة خسائر استثمارات الكويت الخارجية 10% فقط؟ أشك في ذلك.

قانون للاستقرار المالي + ميزانية انكماشية = حل أعرج للأزمة

نشر في جريدة القبس بتاريخ الأربعاء 11/2/2009
شهدت الأيام القليلة الماضية الإفصاح عن مشروع قانون للاستقرار المالي في دولة الكويت، والذي تضمن مقترحات لمعالجة أزمة القطاع المالي في دولة الكويت. في ذات الوقت تم نشر مشروع الميزانية العامة للدولة المقترح للعام المالي 2009/2010. وقد جاء المشروعان متناقضان في أهدافهما وآثارهما على الاقتصاد المحلي.

قانون تعزيز الاستقرار المالي، وفقا للصياغة المنشورة ليس خطة إنقاذ، ومن ثم من المتوقع حدوث بعض حالات الإفلاس حتى مع إقرار القانون بصيغته المقترحة حاليا، حيث يتكون مشروع القانون المقترح من 3 أجزاء أساسية الجزء الأول خاص بالبنوك ويهدف إلى ضمان العجز المالي مقابل الأصول المتعثرة والمضطربة لدى البنوك وضمان الانخفاض الذي قد يطرأ على قيمة محافظ الاستثمارات المالية والعقارية القائمة لدى البنوك، فضلا عن إمكانية شراء أصول متعثرة أو مضطربة لدى البنوك. معالجة أوضاع شركات الاستثمار حسب الجزء الثالث من مشروع القانون، لم تكن على نفس المستوى من الكثافة، حيث سيتم تصنيف الشركات حسب أهمية دورها في الاقتصاد، وملاءتها المالية، والمخاطر التي يمكن أن تترتب على تعثر هذه الشركات، أي أن أسلوب معالجة أوضاع تلك الشركات سوف يختلف من حالة إلى أخرى. كذلك احتوى مشروع القانون على جزء متعلق بدعم قطاعات النشاط الاقتصادي المحلي، وذلك من خلال ضمان القروض والتمويل الجديد الذي يحصل عليه عملاء البنوك المحلية من جميع قطاعات النشاط الاقتصادي المحلي والذي يتم استخدامه محليا، وبحد أقصى 4 مليارات دينار. هذه ببساطة جوانب المشروع المقترح فيما يتعلق بالاستقرار المالي، والمشروع بشكله الحالي ليس كافيا لإحداث الاستقرار المنشود، لسببين:

الأول هو أن الميزانية المدرجة للمشروع (حوالي 1.5 مليار دولار) غير كافية قياسا بحجم التزامات القطاع المالي الداخلية والخارجية وحجم الأصول المتعثرة والمضطربة في القطاع المالي.
الثاني أن القانون لم يشمل إجراءات كافية لتحفيز النشاط الاقتصادي في القطاع غير النفطي في دولة الكويت.

نتائج قانون الاستقرار المالي إذن معروفة سلفا، وهي أنه سيكون بمثابة حقنة مسكنة للقطاع المالي في دولة الكويت، يتبعها حدوث استقرار مؤقت في أوضاع البورصة، بصفة خاصة بالنسبة لأداء القطاع المالي، أي بالنسبة لأسهم البنوك وشركات الاستثمار، أما بالنسبة لأسعار أسهم باقي القطاعات في البورصة فسوف تستمر في التراجع. لقد أثبتت تجارب الأزمة الحالية أن خطط الإنقاذ المالي ليست كافية للحد من تدهور أداء سوق المال. على سبيل المثال فان خطة بولسون في الولايات المتحدة بضخ 700 مليار دولار للإنقاذ المالي لم تحل دون تدهور أسواق المال في الولايات المتحدة، وبات من الواضح أن الاقتصاد في حاجة إلى خطة أضخم للتحفيز المالي. خطة أوباما المقترحة للتحفيز المالي سوف تكلف الميزانية ما يزيد عن 800 مليار دولار، تستخدم في صورة حزمة إجراءات في مجال الإنفاق العام في صورة استثمار في البنية التحتية، ومزايا ضريبية للأفراد ولقطاع الأعمال لوقف عمليات تسريح العمال وتشجيع مستويات استثمار قطاع الأعمال. ومن المؤكد أنه سوف يتم إقرار الخطة على الرغم من أنها سوف تؤدي إلى عجز في الميزانية يقدر بحوالي 2 تريليون دولار خلال العامين القادمين.

الخلاصة هي أن هناك اتفاق حاليا بين جميع المراقبين على أن خطط إنقاذ القطاع المالي ليست حلا للازمة الاقتصادية التي يواجهها العالم، وأن الأمر يحتاج إلى تحفيز مالي للاقتصاد المحلي، بمعنى أنه لا بد من استخدام مزيج من السياستين النقدية والمالية، لأن أداء القطاعات الاقتصادية في بورصة الأوراق المالية لا يعتمد على ضخ سيولة في القطاع المالي فقط، وإنما يعتمد على نتائج أداء القطاعات في الاقتصاد الحقيقي، ذلك أن أسعار الأسهم سوف تعتمد أساسا على حجم أعمال الشركات، ومعدلات أرباحها، ومستويات التوزيع للأرباح... الخ، وهي جميعها تعتمد على مستويات النشاط الاقتصادي المحلي الحقيقي.

للأسف جاء مشروع ميزانية 2009/2010 مخيبا للآمال في هذا الوقت بالذات، حيث انخفض الإنفاق الاستثماري في الباب الرابع من 1664.5 إلى 1220 مليون دينار، أي بنسبة 26.7%، وهو ما يمثل أكبر نسبة للخفض في جوانب الإنفاق العام في مشروع الميزانية. ويعني ذلك أن ميزانية الدولة في العام المقبل، وهو العام المتوقع ان تصل فيه الازمة الى أشدها، هي ميزانية انكماشية. بهذه الميزانية الانكماشية تسير الكويت في خط معاكس تماما للاتجاه العام في العالم اجمع، حيث تميل دول العالم حاليا المتقدمة والنامية إلى أن ترصد المزيد من الأموال لأغراض زيادة الإنفاق العام كتحفيز مالي للاقتصاد المحلي للتخفيف من آثار الأزمة الاقتصادية العالمية. لقد كان من المفترض أن تحمل ميزانية 2009/2010 أخبارا سارة للقطاع غير النفطي باعتماد ميزانية ضخمة للإنفاق الاستثماري على قائمة مشروعات الكويت الضخمة التي ما زالت حبيسة الأدراج حتى وقتنا هذا، وذلك باستخدام جانب من فوائض الكويت التي تحققت خلال فترة ارتفاع أسعار النفط. الوقت الحالي ليس وقتا للتقتير على الاقتصاد. اقتصاديات دورات الانكماش تقوم على مبدأ أساسي هو المزيد من الإنفاق، أي عكس ما نراه حاليا من تراجع المشاريع الضخمة لدولة الكويت واحدا تلو الآخر بين الإلغاء أو التأجيل.

الأحد، فبراير ٠٨، ٢٠٠٩

قراءة في مشروع الميزانية العامة للدولة 2009/2010

نشر في جريدة الوطن بتاريخ الاربعاء 11/2/2009 (http://www.alwatan.com.kw/Default.aspx?tabid=206&article_id=483489)
نحاول فيما يلي استعراض الاتجاهات العامة لمشروع الميزانية العامة للدولة في العام المقبل، والذي يفترض أن يتم العمل بها، بعد إقرارها من قبل مجلس الأمة، في ابريل المقبل. بشكل عام مالت الميزانية العامة للدولة نحو الانخفاض سواء بالنسبة لجانب الإيرادات، والتي انخفضت من 12678.3 في مشروع ميزانية 2008/2009 إلى 785.3 مليون دينارا في مشروع الميزانية الحالية، أو الإنفاق العام والذي انخفض من 18966 مليون دينارا إلى 12054 مليون دينارا على التوالي، وقد قدر العجز المتوقع في مشروع الميزانية بحوالي 4819 مليون دينارا.

الإيرادات النفطية
تعتمد الإيرادات النفطية المتوقعة في الميزانية بشكل أساسي على الفروض الخاصة بسعر النفط، وقد قامت الميزانية ولأول مرة في الكويت على افتراض سعر للنفط قريب جدا من السعر السوقي، على عكس ما درجت عليه العادة في وزارة المالية عند إعداد مشروع الميزانية أن يتم اخذ درجة كبيرة من التحوط فيما يتعلق بالسعر الذي على أساسه يتم حساب الإيرادات النفطية، وقد تم تقدير الإيرادات النفطية على أساس سعر 35 دولارا للبرميل. إن سعر 35 دولارا للبرميل يعد سعرا مرتفعا جدا حاليا، ويلامس السعر السوقي الحالي للنفط الكويتي. وأخذا في الاعتبار أن عام 2009، وفقا لكافة التوقعات، ربما يكون أسوأ أعوام الأزمة الاقتصادية العالمية، فليس هناك أي ضمان أن يتحقق هذا السعر الافتراضي المرتفع لبرميل النفط الكويتي خلال السنة المالية القادمة، مما يعني أن الإيرادات الفعلية قد لا تتماشى مع التنبؤات الخاصة به، وان العجز المحسوب في الميزانية العامة للدولة مرشح للتفاقم مع أي تدهور في أسعار النفط.

الإيرادات غير النفطية
مازالت الإيرادات غير النفطية تمثل نسبة ضئيلة من الإيرادات العامة للدولة، وقد بلغت تقديراتها في مشروع ميزانية العام الماضي 1026.1 مليون دينارا، أي بنسبة 8% من إجمالي الإيرادات العامة. أما في مشروع ميزانية هذا العام فيقدر أن تصل إلى 1150 مليون دينارا، ومن ثم ترتفع نسبتها إلى الإيرادات العامة إلى حوالي 14.6%، وهي أعلى نسبة تصل إليها الإيرادات غير النفطية في مشاريع الميزانية العامة للدولة. وتنبغي ملاحظة أن ارتفاع أهمية الإيرادات غير النفطية يعود أساسا إلى انخفاض تقديرات الإيرادات النفطية في الميزانية، ولذلك يفضل التركيز على القيم المطلقة لهذه الإيرادات والتي تشير إلى تواضع الإيرادات غير النفطية في هيكل الإيرادات العامة لدولة الكويت. هذا التواضع في الإيرادات غير النفطية يشير إلى ضرورة تفعيل برامج الإصلاح المالي لتخفيف آثار تراجع أسعار النفط على الميزانية العامة للدولة.

الإنفاق العام
يوضح مشروع الميزانية خطورة باب المرتبات على وضع الميزانية العامة للدولة، فقد مثلت زيادة المرتبات اكبر زيادة في مشروع الميزانية لهذا العام والتي بلغت 249 مليون دينار، أي بنسبة 7.8%. من ناحية أخرى فانه مقارنة بالإنفاق الفعلي على المرتبات في السنة المالية 2007/2008، والذي بلغ 2477 مليون دينارا تقريبا، فان الإنفاق على المرتبات قد تزايد بحوالي مليار دينار خلال السنتين الماضيتين، أي بنسبة 40% تقريبا. لقد تمت هذه الزيادة أساسا في فترة الأسعار المرتفعة للنفط، حيث كان الجميع يتصرف على أن الأسعار المرتفعة للنفط لا يمكن أن تنعكس. غير أن المشكلة الأساسية هي أن الزيادة في بند المرتبات غير قابلة للتخفيض مثلما هو الحال في الأبواب الأخرى، الأمر الذي يعقد أوضاع الميزانية العامة لدولة الكويت في فترات الأسعار المنخفضة للنفط الخام. وعلى ذلك فانه على الرغم من ميل أبواب الإنفاق العام نحو الانخفاض بشكل عام، استمر الإنفاق على هذا الباب نحو التزايد.

كانت أهم بنود خفض الإنفاق العام على الباب الخامس (المصروفات المختلفة والمدفوعات التحويلية)، حيث قررت الحكومة وقف دفع القسط الثاني من العجز الاكتواري لمؤسسة التأمينات الاجتماعية هذا العام، وكان العجز الاكتواري لمؤسسة التأمينات قد قدر بحوالي 11 مليار دينار، وقد قررت الحكومة استخدام جانب من الفوائض النفطية في سداد هذا العجز الضخم على جزأين، رصدت الحكومة 5.5 مليار دينار، أي نصف العجز الاكتواري في السنة المالية الماضية. ومع تراجع أسعار النفط قررت الحكومة وقف دفع القسط الثاني من العجز الاكتواري. والواقع انه بهذا التصرف للحكومة من المتوقع أن يتزايد العجز الاكتواري لمؤسسة التأمينات لسببين، الأول هو فقدان مؤسسة التأمينات لعوائد استثمار هذا القسط، حتى تقوم الحكومة بسداده. والثاني هو أنه مع تزايد المرتبات على النحو السابق الإشارة إليه من المتوقع أن يتزايد العجز الاكتواري للمؤسسة بسبب الفرق بين ما دفعه الموظفين من أقساط للتأمينات على أساس مستويات منخفضة للمرتبات، وما سيتقاضونه من معاشات تقاعدية على أساس مستويات مرتفعة للمرتبات، ومن ثم من المتوقع أن تتدخل الحكومة مرة أخرى في المستقبل لسداد العجز المتفاقم للمؤسسة بسبب زيادة مستويات الرواتب.

للأسف جاءت بيانات الإنفاق الاستثماري في الباب الرابع للميزانية (المشاريع الإنشائية والصيانة) مخيبة للآمال في هذا الوقت بالذات، حيث انخفض الإنفاق الاستثماري في الباب الرابع من 1664.5 إلى 1220 مليون دينار، أي بنسبة 26.7%، وهو (باستثناء تأجيل دفع القسط الثاني من العجز الاكتواري) يمثل أكبر نسبة للخفض في جوانب الإنفاق العام، ويعني ذلك أن ميزانية الدولة في العام المقبل هي ميزانية انكماشية. بهذه الميزانية الانكماشية تسير الكويت عكس التيار في العالم اجمع، حيث تميل دول العالم حاليا إلى أن ترصد المزيد من الأموال لأغراض الإنفاق العام كتحفيز مالي للاقتصاد للتخفيف من آثار الأزمة الاقتصادية العالمية. لقد كان من المفترض أن تحمل ميزانية 2009/2010 أخبارا سارة للقطاع الخاص باعتماد ميزانية ضخمة للإنفاق الاستثماري على قائمة مشروعات الكويت الضخمة التي ما زالت حبيسة الأدراج حتى وقتنا هذا، وذلك باستخدام جانب من فوائض الكويت التي تحققت خلال فترة ارتفاع أسعار النفط.

الجمعة، فبراير ٠٦، ٢٠٠٩

الأزمة المالية العالمية1: جذور الأزمة

نشر في مجلة المصارف عدد فبراير 2009

الجزء الأول

مقدمة

يعيش العالم حاليا أزمة طاحنة بدأت بوادرها في صورة اضطراب للقطاع المالي في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم امتدت آثار تلك الأزمة بعد ذلك لتطال النظم المالية لدول العالم كافة بسبب الترابط الشديد بين النظم المالية لدول العالم المختلفة في ظل مناخ العولمة المدعوم بثورة الاتصالات التي يشهدها العالم اليوم. كذلك فقد امتدت آثار الأزمة من القطاع المالي إلى القطاع الحقيقي من الاقتصاد العالمي، وأصبح العالم مهدد حاليا بضغوط انكماشية حادة وارتفاع في معدلات البطالة وارتفاع في مستويات الفقر، وانخفاض في تدفقات التجارة الدولية، وتدهور في معدلات النمو على النطاق العالمي بشكل عام. الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعلم مدى ما ستسفر عنه الأزمة الحالية، حيث لا يستطيع كائنا من كان حاليا أن يتنبأ بمتى تنتهي الأزمة، أو كيف ستنتهي، أو بما سوف تنتهي عليه الأزمة. وعلى الرغم من أن هناك محاولات من قبل بعض المؤسسات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالتنبؤ بالمدى الزمني الذي سوف تستمر طواله الأزمة، وبمعدلات النمو المتوقع خلال ذلك المدى الزمني، إلا أن تلك التنبؤات تتم في إطار نماذج اقتصادية كلية، يصعب فيها التنبؤ بآثار الأزمة أو المدى الزمني لها فضلا عن عدم قدرتها على الإحاطة بتأثير الكثير من المتغيرات من الناحية الواقعية. ولذلك نلاحظ تضارب التنبؤات بين المؤسسات المختلفة حول آثار الأزمة في المستقبل، فضلا عن أن تلك المؤسسات أصبحت تقوم من وقت لآخر بتعديل تنبؤاتها عن آثار الأزمة في ضوء المستجدات من المعلومات والآثار على المستوى الدولي نظرا لصعوبة التنبؤ بمسار وانعكاسات الأزمة في المستقبل بدقة.

في هذه السلسلة من المقالات نحاول فهم الأزمة المالية العالمية والأبعاد المختلفة لها من خلال التعرف على جذور الأزمة، ثم مسار تلك الأزمة وكيف شبت الأزمة في النظام المالي، ثم نقوم تحليل كيفية التعاطي مع الأزمة من قبل كافة دول العالم وتقييم الحلول المقدمة لمعالجة الأزمة، ثم تحليل التداعيات المختلفة للازمة على كل من الولايات المتحدة والدول الصناعية والاقتصاديات الناشئة والدول النامية، ودول مجلس التعاون على وجه الخصوص، وأخيرا نتناول بالتحليل الدروس المستفادة من الأزمة وكيف يمكن تجنب تكرار مثل هذه الأزمة على هذا النطاق.

كيف نشأت الأزمة

ببساطة شديدة نشأت الأزمة المالية من نظام مالي غير منضبط، تحدث فيه ابتكارات ماليةFinancial Innovations هدفها الأساسي هو زيادة حجم الاستثمارات المالية ومن ثم أصول المؤسسات المالية بدون حدود، بما في ذلك حدود قيود المخاطرة، ولم تخل تلك الابتكارات من اعتبارات المصلحة الخاصة والتي تمثلت في أن مديري المؤسسات المالية على اختلاف أنواعها يحصلون على نصيب من هذا التضخم في الأصول في صورة نسبة مئوية على شكل مكافآت إضافية أو Bonus. وعلى الرغم من أن تبني نظم المكافآت الإضافية كان يستهدف معالجة مشكلة التعارض بين المصالح الخاصة للمديرين وأصحاب المال في المؤسسات المختلفة، وهو ما يعرف علميا بمشكلة ألـ Principal Agent Problem، أي تعارض مصالح أصحاب المال (Principal) مع مصالح المديرين (Agent). إلا أن النمو الحادث في أصول القطاع المالي في الولايات المتحدة على وجه الخصوص فاق كافة الحدود المتعلقة بمعدلات نمو أي قطاع من قطاعات الاقتصاد الحقيقي. ونتيجة لهذا النمو الهائل في هذا القطاع حدثت فجوات هائلة بين عوائد ومرتبات ومكافآت القائمين على القطاع المالي وغيرهم من القائمين على قطاعات الاقتصاد الحقيقي الأخرى. أكثر من ذلك فان القطاع المالي في الولايات المتحدة الأمريكية كان يضيف سنويا مئات المليارات من الدولارات إلى الناتج المحلي الإجمالي متفوقا في ذلك على كافة القطاعات الأخرى في الاقتصاد. وتشير الشواهد إلى أنه من المؤكد أن قادة صناعة المال لم يحصلوا على تلك الملايين بطريقة صحيحة، وان الأرباح الضخمة التي حققتها الكثير من المؤسسات المالية كانت أقرب من أن تكون وهمية.

في مقال له بعنوان "اقتصاد مادوف" يشبه بول كروجمان عالم الاقتصاد المشهور والحاصل على جائزة نوبل، قصة مادوف الذي استولى على حوالي 50 مليار دولار من عدد من المؤسسات المالية الأمريكية وغير الأمريكية، بما حدث في صناعة الاستثمار المالي في الولايات المتحدة. حيث نمت صناعة الخدمات المالية الأمريكية على نحو جعل قادة هذا القطاع أثرياء على نحو فاحش. وإذا كان مادوف قد استطاع من خلال التحايل الحصول على 50 مليار دولار، فان صناعة الاستثمار المالي حاليا لم تضف إلى الناتج المحلي، بقدر ما أدت إلى تدمير قيمة الأصول وليس زيادتها، بحيث لا يمكن التفرقة بين ما فعله مادوف على المستوى الشخصي وما فعلته صناعة المال على المستوى الكلي من خلق أصول مالية ذات عوائد مالية مرتفعة، ولكن بمستويات مخاطرة مرتفعة لا يفهمها أحد.

وبشكل عام تعود النقطة الأصلية للازمة إلى قطاع العقار الأمريكي، وبالتحديد قطاع السكن الخاص، والذي واجه طلبا حادا على المساكن مدفوعا بابتكارات مالية مكنت الملايين من تملك مساكن خاصة ودفعت بأسعار المساكن نحو الارتفاع إلى مستويات فلكية مكونة بذلك ما عرف بفقاعة أسعار المساكن.

فقاعة أسعار المساكن

مع زيادة الطلب على المساكن وارتفاع الأسعار تبعا لذلك، تهيأت كافة العوامل لتكوين فقاعة أسعار المساكن والتي بلغت مستويات حرجة أدت إلى انفجارها مع تراجع أسعار المساكن وتوقفها عن الارتفاع. وترجع جذور الأزمة إلى أوائل التسعينيات من القرن الماضي مع الارتفاع الحادث في سوق العقارات، حيث أخذت أسعار المساكن في الارتفاع بصورة كبيرة من عام لآخر، لدرجة أن النمو في سعر المساكن أصبح يمثل الجانب الأكبر من ثروة الفرد الأمريكي، ولم تتماشى هذه الزيادات في الأسعار مع أسس التحليل الجوهري لتلك الأشكال من الاستثمار، مثل العلاقة بين الارتفاع في أسعار المساكن والنمو في دخول المستهلكين، أو العلاقة بين أسعار المسكن والإيراد الذي يولده المسكن. وقد ترتب على النمو السنوي في أسعار المساكن تكون فقاعة لأسعار المساكن أخذت في الانتفاخ عاما بعد آخر مع النمو الحادث في أسعار المساكن. الغريب في الأمر انه مع نمو أسعار المساكن لم يكن احد يتوقع أن فقاعة المساكن سوف تنفجر، بل على العكس كانت توقعات الأفراد دائما هي أن أسعار المساكن لا بد في صعود مستمر، ربما إلى ما لا نهاية، وهي احد المسلمات الناجمة عن النمو المستمر في أسعار المساكن خلال تلك الفترة. ويوضح الشكل رقم (1) الرقم القياسي لأسعار المساكن خلال الفترة من 1950 – 2007 في الولايات المتحدة. حيث تشير البيانات الحكومية إلى أن الأسعار الحقيقية للمساكن بعد تعديلها بمعدل التضخم خلال المدة من 1953- 1995 لم تتغير. وبحلول عام 2002 كانت أسعار المساكن قد ارتفعت بحوالي 30% بعد التعديل بالتضخم. ومن الشكل يتضح الزيادة الهائلة التي حدثت في أسعار المساكن بدءا من بداية العقد الأول لهذا القرن حتى عام 2007، حيث ارتفع الرقم القياسي لأسعار المساكن بمعدلات غير مسبوقة بعد عام 2000.


الشكل رقم (1)
الرقم القياسي لأسعار المساكن في الولايات المتحدة (عام 1953 = 100)


ومن الواضح أن هذا النمو الكبير في الطلب على المساكن في الولايات المتحدة الأمريكية قد حث نتيجة لعدة عوامل تقف وراء هذه الزيادة، غير انه وبشكل عام هناك 3 عوامل أساسية مسئولة عن هذا الارتفاع في أسعار المساكن:

السبب الأول: توقعات الأسعار، حيث أن ارتفاع أسعار المساكن يؤدي إلى تغذية التوقعات حول استمرار ارتفاع الأسعار في المستقبل، وهو ما يؤدي إلى تخفيض التكلفة الفعلية لتملك أي مسكن. ذلك أن التكلفة الحقيقية لتمويل المسكن في هذه الحالة لا بد وان يطرح منها الزيادة الرأسمالية في قيمة المسكن والتي ترتفع بمعدلات تفوق تكاليف التمويل، مثل هذه الأوضاع تؤدي إلى شيوع ثقافة الشراء بين الأسر اعتقادا منها أن الارتفاع المستمر في أسعار المساكن هو مسألة مفروغ منها وأنها احد مسلمات الاستثمار العقاري.

السبب الثاني: ارتفاع مستويات دخول الأفراد، وذلك بفعل معدلات النمو الحقيقي التي حققها الاقتصاد الأمريكي خلال العقدين الماضيين. فمع ميل متوسط نصيب الفرد من الناتج نحو الارتفاع من الناحية الحقيقية، ترتفع قدرة الأسر على تحمل تكاليف الاقتراض لتمويل المساكن، ومن ثم يرتفع الطلب على المساكن نتيجة لذلك. غير انه تنبغي الإشارة إلى أن النمو في أسعار المساكن قبل الأزمة الحالية قد فاق النمو الحادث في الدخول الحقيقية، لأسباب إضافية مرتبطة بالتطورات التي حدثت في مجال صناعة المال على النحو الذي سيرد ذكره.

السبب الثالث: انخفاض معدلات الفائدة الحقيقية، فمع ميل معدلات الفائدة الحقيقية نحو الانخفاض، مقارنة بسلوكها طويل الأمد قبل الأزمة، تميل تكلفة تمويل المساكن نحو الانخفاض، وهو ما ساعد على تغذية الطلب على الاقتراض العقاري ومن ثم تغذية الطلب على المساكن. ولكي تقوم الشركات المالية بزيادة معدلات أرباحها استغلت تلك الشركات انخفاض معدلات الفائدة واقترضت بشكل مكثف لكي تعيد استثمار كل تلك القروض. وفي الكثير من الحالات قامت تلك الشركات بالاقتراض وإعادة الاستثمار في السندات المغطاة بالقروض العقارية ذات معدلات العائد المرتفع. وعندما أخذت قيمة الأصول التي تغطي تلك السندات في التراجع لم يكن لدى تلك الشركات رأس مال كاف في ميزانياتها، لدرجة تحول الكثير من الشركات إلى شركات متعثرة، مثلما حدث لـ Lehman Brothers و Bear Stearns.

باختصار شهدت الفترة ما قبل الأزمة نموا كبيرا في الطلب على المساكن في الولايات المتحدة، كما يتضح من الشكل رقم (2) حيث نمت مبيعات المساكن الجديد في الولايات المتحدة بشكل متواصل بلغ أقصى مستوياته عام 2005. وعلى الرغم من ميل مبيعات المساكن الجديدة نحو الانخفاض في عام 2006، إلا أن متوسط المبيعات خلال الفترة من بداية الألفية الثالثة حتى 2006 كان أعلى بكثير من متوسط المبيعات قبل عام 1995.



الشكل رقم (2)
مبيعات المساكن الجديدة في الولايات المتحدة بالألف


من ناحية أخرى فان مبيعات المساكن القديمة قد شهدت نموا كبيرا هي الأخرى خلال الفترة كما هو موضح بالشكل رقم (3).



الشكل رقم (3)
مبيعات المساكن القائمة في الولايات المتحدة بالألف


ومن الطبيعي ان ينعكس هذه الطلب المتزايد على المساكن في على نمو صناعة البناء والتي أخذت في الانتعاش مع بداية هذا القرن، حيث يوضح رقم (4) عمليات بناء المساكن الجديدة في الولايات المتحدة، وهو ما يعكس جانب العرض للمساكن الجديدة في الولايات المتحدة. ويعني ذلك أن النمو الحادث في الطلب المساكن كان مصحوبا أيضا بنمو في جانب العرض، ومن ثم انتعاش لقطاع البناء. ومما لا شك فيه أن هذا النمو لم يكن ممكنا إلا إذا توافرت فرص التمويل الكاف والمنخفض التكاليف.



الشكل رقم (4)
عمليات بناء المساكن الجديدة في الولايات المتحدة

الأزمة المالية العالمية1: جذور الأزمة

نشر في مجلة المصارف عدد فبراير 2009
الجزء الثاني
جذور الأزمة

تتعدد تحاليل الكتاب حول جذور الأزمة المالية الحالية، غير انه يمكن اختصار جذور الأزمة في ثلاث عناصر أساسية هي الابتكارات المالية، وضعف رقابة السلطات النقدية، وضعف عملية تقييم المخاطر. وفيما يلي نتناول هذه العناصر بالتحليل.

1. الابتكارات المالية Financial Innovations

تم ابتكار أدوات مالية جديدة لتمويل الإقراض العقاري، لتسهيل عمليات التمويل العقاري ولتمكين المؤسسات المالية من تعظيم أرباحها من عمليات التمويل، وهذه الأدوات هي:

أ. القروض العقارية من الدرجة الثانية Subprime Mortgage

تطلق الكتابات العربية على أزمة القروض العقارية من الدرجة الثانية عبارة "أزمة الرهن العقاري"، والتي ينظر إليها على أنها المسبب الرئيسي للازمة، فما هي قروض الدرجة الثانية؟ القروض العقارية من الدرجة الثانية هي قروض تمنح لمقترضين لا يستوفون شروط الاقتراض التقليدية التي تتوافر في المقترضين المؤهلين للحصول على قروض وفقا لشروط قروض الدرجة الأولى Prime Mortgage. وإذا ما حاول أي من هؤلاء المقترضين التقدم للحصول على قرض وفقا لشروط قروض الدرجة الأولى فانه طلبه سيقابل بالرفض أما بسبب تاريخه الائتماني السيئ، أو أنه ليس لديه مقدم مالي كاف لإتمام الصفقة، أو ليس لديه أي وثائق حول تاريخ دخله الذي يحصل عليه، أو مزيج من هذه الأسباب أو أسباب أخرى. ونتيجة لذلك فان المقرضين يصنفون عملية الإقراض لمثل هؤلاء المقترضين بأنها عملية مرتفعة المخاطر، بصفة خاصة مخاطر التوقف عن السداد. ولهذا السبب يتم تحميل هذا النوع من الائتمان معدلات فوائد أعلى مقارنة بقروض الدرجة الأولى. وقد أدت الابتكارات المالية لهذه الأداة، إلى جعل المقترضين للقروض من الدرجة الثانية، والذين كانوا سابقا لا يتم تقديم قروض عقارية لهم، مقترضين جذابين لمؤسسات الإقراض العقاري. كما أدى الارتفاع في أسعار المساكن إلى ابتكار المقرضين لنظام قروض الإقراض العقاري معدلة الفائدة Adjustable Rate Mortgages، وذلك بتسهيلات كبيرة، وبدون مدفوعات مقدمة على القروض، وكذلك السماح للمقترضين بتأجيل دفع جانب من الفوائد على القروض وإضافتها إلى اصل القرض نفسه، استنادا إلى توقع أن أسعار المساكن سوف تواص الارتفاع في المستقبل.

إن التحدي الأساسي الذي واجهته المؤسسات المانحة للائتمان بالنسبة للمقترضين الذي يرغبون في الحصول على قروض عقارية لشراء مساكن ولكنهم غير مؤهلين للحصول على قروض بشروط قروض الدرجة الأولى، يتمثل في كيف يمكن أن تجعل المقترضين يستطيعون تحمل أعباء هذه القروض، وفي ذات الوقت جعل مثل هذه القروض مربحة بالنسبة للمؤسسة المالية المقرضة؟ لقد تمخضت عملية تطوير هذه الأداة في التمويل إلى جعل القرض من الدرجة الثانية يتكون من مرحلتين؛ مرحلة تمهيدية تتراوح بين سنتين إلى ثلاث سنوات، ومرحلة لاحقة على المرحلة التمهيدية. وخلال المرحلة التمهيدية تكون معدلات الفائدة على تلك القروض منخفضة في البداية، ثم تأخذ في الارتفاع بعد انتهاء المرحلة التمهيدية. مثل هذه المعدلات المنخفضة للفائدة في المرحلة الأولى تمكن المقترض بأن يخدم القرض بدفع معدلات الفائدة المنخفضة فقط دون أن يدفع أية أقساط من أصل القرض. غير أن معدلات الفائدة وأقساط خدمة الدين تعود مرة أخرى في الارتفاع بعد السنتين أو الثلاث سنوات التمهيدية للقرض. ولكن على أي أساس يقوم هذا النظام من التمويل بتخفيض مدفوعات خدمة الدين في المرحلة التمهيدية؟ انه يقوم أساسا على توقع ارتفاع أسعار المساكن خلال الفترة التمهيدية للقرض. ويعني ذلك أن تصميم هذا النوع من القروض موجه أساسا لتمكين المقترضين من الاستفادة من الارتفاع الذي يحدث في قيمة المساكن خلال الفترة الزمنية التمهيدية، وهو ما يساعدهم على إعادة التمويل بشروط أفضل (شروط قروض الدرجة الأولى) بعد انتهاء الفترة التمهيدية.

كيف إذن تم إقناع المقترضين ذوي الملاءة المنخفضة بقدرتهم على مواصلة خدمة ديونهم بعد تلك المدة التي تكون فيها خدمة الدين منخفضة؟ لقد تم ذلك على أساس إقناعهم بأنه خلال تلك الفترة سوف ترتفع أسعار مساكنهم بالدرجة التي تمكنهم من إعادة تمويل قروضهم. ولم لا وأسعار المساكن في معظم المناطق في الولايات المتحدة تزداد سنويا بين 10% - 20% سنويا، وهو ما يعني أن القرض الذي تصل قيمته إلى 100% من قيمة المسكن، سوف ينخفض إلى حوالي 80% في غضون هذه الفترة القصيرة جدا من الزمن، وان المقترض سوف يتمكن من إعادة التمويل من خلال قرض آخر على الزيادة في قيمة المسكن بشروط إقراض ميسرة. وقد كان التدهور في شروط الإقراض جوهريا، لدرجة أن نسبة القروض العقارية القابلة للتعديل ارتفعت من 50% تقريبا في عام 1999 إلى حوالي 80% في عام 2006.

من ناحية أخرى فان المؤسسات المقرضة تستفيد من هذا النظام لان شروط قروض الدرجة الثانية ستجبر المقترض إن آجلا أو عاجلا على إعادة التمويل، استنادا إلى الارتفاع المتوقع في سعر المساكن، وهو ما يقلل من مخاطر توقف المقترضين عن السداد على تلك المؤسسات. ولكن ماذا لو لم يرتفع سعر المساكن؟ من الواضح أن هذا السؤال لم يكن يدور في خلد أي من قادة القطاع المالي، لأنه في هذه الحالة، أخذا في الاعتبار طبيعة المقترضين، لن يتمكن المقترضين من إعادة التمويل بعد انتهاء الفترة التمهيدية للقرض، ومن ثم يرتفع احتمال التوقف عن السداد.

وقد ترتب على الزيادة الهائلة في قروض الدرجة الثانية المساعدة على نفخ بالونة أسعار المساكن، فقبل عالم 2000 لم تكن القروض العقارية من الدرجة الثانية موجودة تقريبا، ثم أخذت قروض الدرجة الثانية بعد ذلك في التزايد بمعدلات فلكية، وأصبح الكثير من المقترضين الغير مؤهلين للحصول على القروض العقارية مؤهلين لمثل هذه القروض، وقد ساعدت هذه المجموعة الجديدة من المقترضين غير المؤهلين إلى زيادة الطلب على المساكن مما ساعد في تضخيم أسعار المساكن.

غير أن الابتكارات في مجال الإقراض العقاري من خلال القروض العقارية من الدرجة الثانية بمفردها لم تكن لتمكن هذا العدد الكبير من المقترضين من الدرجة الثانية من الوصول إلى الائتمان بدون ابتكار آخر أكثر خطورة وهو ما يعرف بتوريق Securitizing القروض العقارية أو تجميع القروض العقارية في حزم ثم إعادة بيع سندات مغطاة بهذه الحزم لمستثمرين آخرين. وكانت شركتي "فاني ماي" و "فريدي ماك" للإقراض العقاري قد ابتكرتا هذا الأسلوب من التمويل في السبعينيات من القرن الماضي، من خلال منح ضماناتهما لتلك الأوراق المالية لكي تعطيها القابلية للتسويق. وبهذا الشكل تم تمويل الإقراض العقاري من الدرجة الثانية. معنى ذلك أن البنوك ومؤسسات الإقراض ووسطاء الإقراض العقاري يقومون بعقد هذه القروض، ولكنهم لا يحتفظون بها. فخلال العقد الماضي ابتكرت البنوك التجارية وبنوك الاستثمار طرقا جديدة لتوريق القروض العقارية من الدرجة الثانية بصفة أساسية من وضعها في حزم من التزامات الديون المرهونة Collateralized Debt Obligations وفي بعض الأحيان بسندات مغطاة بأصول، ثم تقسيم التدفقات النقدية الناجمة عن تلك الحزم على شرائح لكي تكون جذابة للمستثمرين من مختلف الفئات حسب درجات استعدادهم لتحمل المخاطرة.

ب. الأوراق المالية المغطاة بالقروض العقارية Residential Mortgage Backed Securities

ابتكرت بنوك الاستثمار الأوراق المالية المغطاة بالقروض العقارية وذلك بهدف تجميع تلك القروض وبيعها. ولكن على شركات الاستثمار في البداية أن تقوم بشراء القروض العقارية من المقرضين الأساسيين لها، ثم تقوم بعد ذلك بعملية فصل هذه القروض إلى مجموعات تسمى الشرائح، بحيث يتم سداد الشرائع العليا أولا ثم الشرائح الأدنى وهكذا، ومثل هذا النظام يمكن الشرائح المختلفة من أن يتم تصنيفها بشكل مختلف. وإذا ما ظلت معدلات التوقف عن السداد منخفضة فان الشرائح مرتفعة المخاطر تظل آمنة، أما إذا ما ارتفعت معدلات التوقف عن السداد، تصبح هذه الشرائح في خطر. وقد تم توسيع نطاق توريق القروض العقارية من صناعة القروض العقارية إلى تأمين الأوراق التجارية وقروض الطلبة ومديونيات بطاقات الائتمان وغيرها من أشكال القروض المختلفة.

ج. التزامات الديون المرهونة Collateralized Debt Obligations

التزامات الديون المرهونة هي عبارة عن أدوات مالية يتم اشتقاقها بواسطة المؤسسة المالية التي تقوم بشراء محفظة من السندات والديون أو أي أصول أخرى، ثم تقوم ببيع أوراق مالية مدعومة بالمدفوعات التي سيتم الحصول عليها من أصول المحفظة. وعلى الرغم من أن التزامات الديون المرهونة ليست مخصوصة بنوع معين من الديون، إلا أنها تستخدم أساسا في القروض غير العقارية أو السندات. ومن الناحية التقليدية فان التزامات الديون المرهونة هي أساسا نقدية، ويتم استخدام الأصول كرهان لها. وتتمثل أهم مزايا التزامات الديون المرهونة هي أنها تساعد على توزيع المخاطر. حيث أنه بما أن التزامات الديون المرهونة مضمونة بالعديد من الأصول فان فشل إحدى تلك الأصول سوف يكون له تأثير محدود بين مجموعة الأصول في المحفظة.

د. مقايضات مخاطر التوقف عن سداد الائتمان Credit Default Swaps

قامت شركات التأمين وبنوك الاستثمار وغيرها من المؤسسات بابتكار مشابه من خلال بيع ما يسمي بـ "مقايضات مخاطر التوقع عن سداد الائتمان" Credit Default Swaps حيث يقوم بائع هذه المقايضات بوضع رأسمال منخفض الحجم لتغطية تلك المبادلات في مقابل رسوم للضمان. وتعتبر مقايضات مخاطر الائتمان أحد المشتقات المالية التي تعمل بمثابة تأمين على الأوراق المالية، حيث يقوم البائع بضمان ملاءة الائتمان للمؤسسة المالية في مقابل رسم. ومن خلال ذلك فان مخاطر التوقف عن السداد يتم تحويلها من الطرف الذي يحتفظ بالقرض إلى بائع المقايضة. غير أن مقايضات مخاطر الائتمان يصاحبها قدر كبير من الالتزام على البائع. ففي حال فشل الأصول التي تغطي المقايضة، فان بائع المقايضة يصبح ملتزما بكامل قيمة المقايضة. وبما أن إيرادات البائع من المقايضة هي الرسوم التي يحصل عليها، فان التزامات البائع من بيع تلك المقايضات تكون أضعاف الرسوم التي يحصل عليها من عملية البيع. وعلى ذلك تحدث المشكلة الكبرى عندما يحدث انخفاض مفاجئ أو غير متوقع لقيمة الأصول التي تشكل المقايضة، في هذه الحالة سوف يتعرض بائع المقايضة لخسائر ضخمة نتيجة لالتزامه بهذه المقايضات. وقد تمكن مبتكرو تلك الأداة من تمويل عمليات الإقراض من الدرجة الثانية من خلال بورصة الأوراق المالية، وهو ما ساهم في دعم النمو الحادث في القروض العقارية من الدرجة الثانية، ومن ثم تحويل الأموال من مستثمرين مؤسسيين إلى الإقراض العقاري من الدرجة الثانية.

ويترتب على مثل هذه المشتقات احتمال ارتفاع التزامات بائعها إذا مالت قيم الأصول نحو الانخفاض، حيث أنه من الواضح أن الكثير من المشتقات الجديدة مثل مقايضات مخاطر الائتمان يمكن أن يترتب عليها التزامات مالية على البائع تساوي إضعاف قيمة الإيرادات التي يتم توليدها من عمليات بيعها، وذلك إذا مالت قيم الأصول التي يتم مقايضتها نحو الانخفاض. فقد قام الكثير من مالكي السندات المغطاة بالقروض العقارية بشراء مقايضات مخاطر الائتمان. وعندما حدثت الأزمة كان انخفاض قيم المساكن كبيرا إلى الحد الذي أدى إلى توليد التزامات ضخمة لبائعي مقايضات مخاطر الائتمان. على سبيل المثال فان المشكلة الأساسية للمجموعة الأمريكية الدولية والتي تعد اكبر شركات التأمين في العالم لـ AIG كانت ناجمة عن مقايضات مخاطر الائتمان.

أصبحت عملية التوريق إذن حل للتخلص من مشكلة ارتفاع المخاطرة حيث أنها تخلص مقدمي القروض من قيود السيولة في ميزانياتهم، من خلال بيع القروض لطرف ثالث وإزالتها من ميزانياتهم، ثم استخدام عوائد عمليات البيع في منح المزيد من القروض.

الأزمة المالية العالمية1: جذور الأزمة

نشر في مجلة المصارف عدد فبراير 2009
الجزء الثالث
2. ضعف رقابة السلطات النقدية

ساعد على ازدهار تلك الابتكارات المالية مناخ السياسة النقدية المتساهل للاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، وضعف بنية رقابة الاحتياطي الفيدرالي على القطاع المالي. وقد ساعدت معدلات الفائدة المنخفضة مع ضعف الرقابة المؤسسات المالية على اقتراض المزيد من الأموال مما أدى إلى رفع قدراتهم المالية على تمويل مشترياتهم من الأوراق المالية المرتبطة بالقروض العقارية. كذلك بدأت البنوك في إدخال ما يعرف بقيود خارج الميزانية Off-balance Sheet لتسجيل عمليات شراء الأصول المرتبطة بالتمويل العقاري والتي لم تكن تخضع للقيود الرقابية، كذلك لجأت المؤسسات المالية إلى الاقتراض قصير الأجل المرهون، مثل اتفاقيات إعادة الشراء، كما انتشر في النظام المالي بأكمله فشل في عملية تقييم المخاطر المصاحبة لعمليات الإقراض، أكثر من ذلك انتشرت مشكلة لا تماثل المعلومات Asymmetric information، حيث يكون لدى احد الأطراف في المعاملة المالية معلومات أكثر من الطرف الآخر، وفي مثل هذه الحالات عندما يقوم طرف بتقييم المخاطرة المصاحبة للتعامل مع الطرف الآخر استنادا إلى المعلومات المتاحة لديه، فانه سيفشل في تقييم مستوى المخاطرة على نحو دقيق إذا لم تكن المعلومات المتوافرة لدى الطرف الآخر متاحة لديه. ثم أخذت نماذج الحاسوب في تقييم مستويات المخاطرة في الانتشار كبديل عن التقييم البشري المباشر لتلك المخاطر، مما ترتب عليه إساءة تقييم المخاطر المصاحبة لعمليات الإقراض العقاري، وكذلك المخاطر المصاحبة للأوراق المالية التي يتم بيعها وهكذا. وقد ساعدت الحوافز المصاحبة لعمليات إصدار الأوراق المالية على نقص الاهتمام بعمليات تقييم المخاطر، حيث تتوافر القدرة على تحويل المخاطرة المصاحبة لأصل ما إلى طرف أخر، وهو ما قلل من اهتمام المؤسسات المالية بالمخاطر الفعلية المصاحبة لعملياتها المالية طالما أن طرفا آخر يمكن أن يتحمل تلك المخاطرة في النهاية.

ولكن ماذا عن المشترين لتلك المشتقات والذين يتحملون المخاطرة في النهاية، كيف لم يتمكنوا من تقييم المخاطر المصاحبة لتلك المشتقات، الإجابة هي أنهم مثل غيرهم، كانوا مدفوعين بثقافة البالون التي صبغت النظام بأكمله. بينما كان الآخرين مدفوعين بالأرباح الضخمة التي تحققها القروض العقارية من الدرجة الثانية. أكثر من ذلك فان تعقد النظام في ظل هذه الغابة من المشتقات جعل من الكثير من المتعاملين غير قادر على، أو ليس لديه المعلومات الكافية التي تمكنه من، تقييم السندات التي يحتفظون بها.

من ناحية أخرى كان هناك تدهورا خطيرا في شروط الإقراض، بصفة خاصة في عام 2004 أو 2005. فالأسر التي لا يتوافر لها دخل كاف أو مقدم تدفعه للحصول على مسكن، تم تشجيعها على الحصول على قروض عقارية، في كثير من الحالات بنسبة مرتفعة جدا للقرض إلى قيمة المسكن بلغت 100%، ومما لا شك فيه أن مثل هذه القروض تقوم على قيمة أقساط مرتفعة للقروض ومعدلات فائدة مرتفعة، مثل هذه القروض تتعارض بشكل واضح مع القواعد المتعارف عليها حول نسبة دخل المقترض اللازمة لخدمة القرض. وللتغلب على هذه المشكلة تم استخدام القروض العقارية القابلة للتعديل Adjustable Rate Mortgages، والتي كما سبقت الإشارة تبدأ بمدفوعات خدمة منخفضة في البداية، تمكن المقترض من خدمة الدين بسهولة وتمكن مقدم القرض من المضي في منح القرض.

وقد ساعدت السياسة النقدية التوسعية التي سعت إلى تخفيض معدلات الفائدة وتشجيع عمليات الاقتراض لشراء الأصول، على استمرار ارتفاع أسعار الأصول. فخلال الفترة من 2001 لعبت السياسة النقدية دورا في ازدهار أسعار الأصول، حيث ساعدت على زيادة الطلب على المساكن ومن ثم تشجيع المكاسب الناجمة عن تملك المساكن، كذلك حث الكونجرس مؤسستي الإقراض العقاري Fannie Mae و Freddie Macعلى زيادة عمليات شراء المساكن من خلال منح المزيد من القروض العقارية ومد تلك القروض للمقترضين من ذوي الدخول المنخفضة.

وفي عام 1996 وضعت إدارة الإسكان والتنمية الحضرية في الولايات المتحدة هدفا لمؤسستي الإقراض العقاري بأن تخصص 42% من عمليات تمويلها العقاري لكي تذهب إلى مقترضين مستويات دخولهم اقل من الدخل المتوسط في المناطق التي يعيشون فيها، وتم رفع هذا الهدف إلى 60% عام 2008. وقد استطاعت الشركتين تحقيق هذه المستهدفات سنويا من خلال تسهيل تمويل مئات المليارات من الدولارات في صورة قروض، الكثير منها كان في صورة قروض من الدرجة الثانية، أي منحت لمقترضين اشتروا مساكن بمقدمات تقل عن 10% من قيمة المساكن. كذلك اشترت المؤسستين مئات المليارات من الدولارات في صورة أوراق مالية مغطاة بقروض من الدرجة الثانية، وذلك لتوفير التمويل اللازم لاستيفاء المستهدفات الخاصة بتوفير مساكن بتكاليف مناسبة للمشترين. وبهذا الشكل أصبحت مؤسستي الإقراض العقاري Fannie Mae و Freddie Mac مساهمتين أساسيتين في الطلب على السندات المغطاة بالقروض العقارية من الدرجة الثانية Anna J. Schwartz 2008. ومن ثم ساهم توجيه المؤسستين بزيادة جهودهما في مجال رفع مستويات ملكية المساكن بين السكان الفقراء في المساهمة في تغذية فقاعة أسعار المساكن.

3. ضعف عملية تقييم المخاطر

قبل أن تتم عملية بيع الأوراق المالية، فان مؤسسات التصنيف الائتماني تقوم بتقييم احتمال فشل تلك الأوراق، من عدمه. ويعتمد المستثمرون على تلك التصنيفات التي تعطى للأوراق المالية من أجل تحديد مستوى المخاطرة العام لها. وإذا ما تم تقييم الأدوات المالية بدقة فان مؤسسات التصنيف الائتماني تقدم في هذه الحالة تصنيفات غير متحيزة لتلك لأدوات التمويل والاستثمار. وتشير الدلائل المتاحة إلى أن مؤسسات التصنيف الائتماني قد قامت بتقديم تصنيفات متحيزة للأدوات المالية تقلل من مستوى المخاطرة الحقيقية المصاحبة لتلك الأدوات، وهو ما يعنى أن درجة المخاطرة الحقيقية للأصول المالية كانت أعلى بكثير مما يعتقد المشترون لتلك الأصول. وتشير التقارير المتاحة إلى أن التقنيات التي استخدمتها مؤسسات التصنيف أدت إلى تقييم مستويات المخاطرة بصورة اقل من مستوياتها الحقيقية، وبصفة خاصة بالنسبة للقروض العقارية من الدرجة الثانية فان مؤسسات التصنيف الائتماني اعتمدت على وسائل إحصائية وتقنية تستند إلى البيانات التاريخية حول حالات التوقف عن السداد في القروض العقارية.

من ناحية أخرى فانه ومن خلال عملية تخطيط التدفقات النقدية الناجمة عن تلك الديون المرهونة استطاع مطورو تلك الأدوات إقناع وكالات التصنيف الائتماني بأن تمنح أعلى درجات التصنيف للأوراق المالية ذات درجات المخاطرة المرتفعة. ويعني ذلك أن تلك المؤسسات قد أعطت الأدوات المالية تقييما أعلى مما تستحق. واستنادا إلى تلك التصنيفات المعيبة قامت المؤسسات المالية بشراء أدوات مالية ذات مخاطر عالية لم تكن لتقدم على شراءها لو كانت على دراية بمستويات المخاطرة الحقيقية لها، ومن ثم انتشرت خسائر تلك المؤسسات على نحو واسع عندما أخذت أسعار الأصول في التراجع

ويعني ذلك أن تبني الابتكارات المالية في مجال أدوات الاستثمار مثل التوريق، والمشتقات.. بدون أن يعي السوق بطبيعة العيوب التي تعاني منها عمليات تصميم تلك الابتكارات كان له أثر كارثي على الصناعة. بصفة أساسية كان العيب الرئيسي في تلك المشتقات هو صعوبة تحديد أسعارها، فلم يحدد مطوروا تلك الأدوات كيفية تسعيرها، حيث تركت عملية تسعير تلك الأدوات لمؤسسات التصنيف الائتماني. من ناحية أخرى فان مؤسسات التصنيف الائتماني لم تكن تملك آليات محددة لتسعير هذه المخاطر، وبشكل عام أدت عملية التقييم إلى المغالاة في قيمة الأوراق المالية، كما أنها كانت تحكمية إلى حد بعيد. أكثر من ذلك فان هذه الأدوات معقدة إلى الدرجة التي تؤدي إلى صعوبة تقييم مستويات المخاطرة المصاحبة لشرائها، فلا بائع هذه الأدوات ولا مشتريها يفهم بوضوح ودقة طبيعة المخاطرة التي يتحملونها من جراء التعامل في هذه الأدوات.

ومن الواضح أن أدوات الائتمان الجديدة أدت إلى زيادة عمليات تملك المساكن وأدت إلى توزيع مخاطر تلك الأدوات الناجمة عن احتمال التوقف عن السداد، غير أن هذا النظام للابتكارات المالية كان يعاني من نقاط ضعف قاتلة، فطالما أن أسعار المساكن تميل نحو الارتفاع فان النظام يعمل بدون أية مشاكل. غير انه مع انتهاء فورة أسعار المساكن بدأت نقاط ضعف النظام في الظهور على السطح بقوة، حيث توقف الكثير من أصحاب المساكن عن السداد لأنهم قاموا أساسا بشراء مساكن غير قادرين على تحمل تكاليفها، في ظل ارتفاع تكاليف القروض العقارية من الدرجة الثانية، وكما سبق فان الشرط الأساسي لاستمرار مثل هذا النظام من التمويل أن تستمر أسعار المساكن في الارتفاع حني يتمكن ملاك المساكن من إعادة التمويل وتخفيض تكلفة الائتمان، ومع توقف أسعار المساكن عن الارتفاع لم يتمكن الكثير من ملاك المساكن من إعادة التمويل ومن ثم أخذ الكثير من ملاك المساكن في التوقف عن السداد، وعندما أدركت بنوك الاستثمار أعداد المساكن التي توقف مالكوها عن السداد قد أخذت في الارتفاع توقفت فورا عن إصدار أي تسهيلات ائتمانية جديدة، وتوقفت بالتالي عمليات إصدار القروض العقارية من الدرجة الثانية، وحدث انخفاض حاد في القروض الجديدة هو ما أدى إلى انخفاض الطلب على المساكن الحديدة، ومن ثم أخذت عمليات إفلاس المؤسسات المالية في التزايد، وبدأ القطاع المالي في الولايات المتحدة في الانهيار وأخذت سلسلة حلقات الأزمة تنفض واحدة تلو الأخرى.

هذه هي باختصار الجذور الأولى للازمة المالية التي يعاني منها العالم اليوم. في الحلقة القادمة نتناول مسار الأزمة المالية وكيف شبت الأزمة في النظام المالي وتطورت إلى الحد الذي هددت فيه بالإطاحة بالاقتصاد الأمريكي برمته.

الأربعاء، فبراير ٠٤، ٢٠٠٩

لا عملة خليجية موحدة في 2015

أخيرا تم الإعلان عن تأجيل عملية إطلاق العملة الخليجية الموحدة في 2010، كما كان مخططا لها. منذ أن أعلن المجلس في مطلع هذا القرن عن مشروع الوحدة النقدية، أصبت بدهشة بالغة حول كيفية تمكن دول المجلس من تنفيذ 3 مراحل ضخمة للتكامل الاقتصادي بنجاح في حوالي ثمان سنوات، وهي الاتحاد الجمركي والسوق الخليجية المشتركة والعملة الخليجية الموحدة. لقد استغرق الاقتصاد الأوروبي بكل ما يتمتع به من قوى ومزايا ديناميكية أكثر من 40 عاما لتحقيق هذه المشروعات الثلاث، فكيف لنا أن ننجز هذه المشروعات بنجاح في غضون هذه الفترة الزمنية القصيرة، وكان من الواضح أن الذي يضع هذه الجداول لقادة دول الخليج لا يدرك أبعاد الواقع بشكل عقلاني، وإلا لما كان أقدم على تسطير مثل هذا الجدول الزمني المثير للدهشة.

كنت متأكدا من أن ما يسمى بالعملة الخليجية الموحدة لن يتم إطلاقها في 2010، لأن دول مجلس التعاون في ظل الأوضاع الحالية لا تمثل حالة جيدة لإطلاق عملة موحدة ناجحة، وقد حذرت أكثر من مرة وفي أكثر من موضع من الإصرار على المضي في مشروع العملة الموحدة قبل اكتمال عناصر نجاحها، وكنت أرى أن عناصر نجاح العملة الخليجية الموحدة مخطوطة على الورق فقط، أي بدون واقع اقتصادي يبرر احتمال هذا النجاح.

وفقا لخبر نشرته جريدة القبس في 28/1/2009 بعنوان لا عملة خليجية موحدة في 2010 أشارت إلى أن "هذا ما صرح به الدكتور ناصر القعود الأمين العام المساعد لدول مجلس التعاون الخليجي والوزير المكلف بالوحدة النقدية في الدوحة أمس (27/1/2009). وقال القعود أن مجلس النقد الذي سيتم تشكيله نهاية العام الجاري، سيتولى مهمة تحديد جدول زمني جديد لإطلاق العملة الخليجية الموحدة. ولم يتطرق القعود إلى تحديد الموعد الجديد للمشروع، لكن مصادر اقتصادية خليجية رجحت أن يكون في عام 2015". القضايا الخلافية الحالية التي أدت إلى تأجيل عملية الإطلاق هي وفقا للقبس "عدم اتفاق جميع دول التعاون حتى الآن على معايير الاتحاد النقدي التي يتوجب الاتفاق عليها تمهيدا لإطلاق العملة الموحدة. وتشمل هذه المعايير سعر الفائدة، ونسبة التضخم، وحجم الاحتياطيات من النقد الأجنبي لدى المصارف المركزية، بالإضافة إلى معياري حجم العجز في الميزانيات الحكومية وحجم الدين العام. وهناك تباين واضح بين دول مجلس التعاون إزاء مدى الالتزام بهذه المعايير خصوصا فيما يتعلق بنسبة التضخم وأسعار الفائدة، وهناك قضايا خلافية أخرى حول العملة الموحدة تتصل باسم العملة الذي يتراوح حتى الآن ما بين خليجي ودينار وريال، وقيمتها مقابل الدولار، إضافة إلى تسمية الإدارة النقدية للمجلس النقدي المنتظر فيما إذا سيكون بنكا مركزيا أو غير ذلك وتحديد مقره".

في برنامج خاص على CNBC عربية في العام الماضي، كنت أنا وزميلي أ.د. سيف السويدي أستاذ الاقتصاد في جامعة قطر نتناول بالتحليل موضوع العملة الخليجية الموحدة، وكان د. السويدي مثلي من المعارضين تماما لموضوع العملة الموحدة، وفي مداخلة للدكتور ناصر القعود في البرنامج أكد أن الأمور على ما يرام، وان الترتيبات اللازمة لإطلاق العملة الموحدة جاهزة وأن دول الخليج سوف تشهد إصدار العملة الموحدة في 2010. بالنسبة لي كنت أرى أن عملية الإطلاق لو تمت فستكون قفزا على معطيات واقع التكامل بين دول المجلس الذي لا يبرر مطلقا في الوقت الحالي السير في عملية إصدار عملة موحدة.

من وجهة نظري نقاط الخلاف المعلن عنها في الخبر الذي ساقته القبس، إذا كانت هي التي أدت إلى عملية التأجيل، فإنها لا تمثل نقاط خلاف جوهرية ويمكن التغلب عليها بسهولة. ما هو أهم وأخطر هو هيكل الاقتصاد الخليجي والذي يحتاج إلى تعديلات هيكلية عديدة قبل إطلاق العملة الموحدة بنجاح. قرار التأجيل يعد خطوة هامة على الطريق الصحيح، فقد كنت أرى أن المخاطر المصاحبة لعملية إطلاق العملة الموحدة قد تهدد ما حققته دول المجلس من انجازات، بل وربما تهدد كيان التكامل ذاته، وأعتقد أن المجلس يحتاج إلى فريق فني متخصص لدراسة موضوع العملة الخليجية الموحدة بصورة أكثر عمقا يأخذ في الاعتبار واقع التكامل الاقتصادي بين دول المجلس والقيود المختلفة التي يمكن أن تحول دول تحقيق هذا المشروع بنجاح، حتى لا يدخل المجلس في إقرار جداول زمنية لمشروعات تكامل طموحة تفوق قدرة المجلس على تحقيقها بالنجاح المناسب، وأخيرا أنا متأكد من أننا سنقرأ خبرا في المستقبل مفاده أن لا عملة خليجية موحدة في 2015.

التضخم الجامح في زيمبابوي: زيمبابوي تزيل 12 صفرا من قيمة عملتها

في تطور مثير أعلنت حكومة زيمبابوي أنها ألغت 12 صفرا من عملتها المصدرة، ومن ثم سيتم إعادة إصدار الدولار الزيمبابوي بسبع فئات تبدأ من 1 إلى 500 دولار زيمبابوي. أي انه لم يعد أي من سكان زيمبابوي تريليونيرا. حيث أصبح التريليون دولار زيمبابوي من العملة القديمة يساوي دولارا واحدا فقط. الخطوة الأخيرة اتخذتها الحكومة لكي تتمكن (حسب تصريح محافظ بنك زيمبابوي المركزي) من السيطرة بشكل أفضل على التضخم الجامح الذي بلغ وفقا لآخر الإحصاءات في يوليو 2008 بحوالي 231 مليون في المائة. والواقع أن معدل التضخم الحقيقي يفوق هذا الرقم المعلن بمراحل، حيث لم يعلن البنك المركزي الزيمبابوي عن معدل التضخم منذ ذلك الوقت. ويرى البعض أن معدل التضخم يجب أن يقاس حاليا بالمليار في المئة.

يوم الأحد 1/2/2009 تراوح معدل صرف الدولار الأمريكي بين 3-4 تريليون دولار زيمبابوي. العديد من المؤسسات الخاصة في زيمبابوي أصبحت الآن ترفض قبول الدولار الزيمبابوي وتتعامل أساسا بالعملات الأجنبية، خصوصا في ظل تصريح الحكومة لمؤسسات الأعمال باماكانية أن تدفع أجور عمالها بالعملة الأجنبية. هذه العملية تسمى في اقتصاديات النقود والبنوك بإحلال العملة، أي إحلال العملة الأجنبية محل العملة المحلية في التداول، وهي ظاهرة غالبا ما تحدث في حالات التضخم الجامح، حيث لا تقوم العملة المحلية بوظيفتها الأساسية كمخزن للقيمة، وهي أحد الوظائف الأساسية للنقود. ومع ذلك فان هناك أزمة سيولة خطيرة في زيمبابوي لدرجة أن الكثير من المواطنين يضطر إلى أن ينام أمام باب بنكه على أمل أن يتمكن مع الساعات الأولى في الصباح من الحصول على أمواله في البنك.

هل تنجح خطوة البنك المركزي في السيطرة على تدهور الدولار الزيمبابوي. في رأيي أنه في ظل النظام الحالي لن تنجح تلك الخطوة في الحد من الانهيار المستمر للعملة الزيمبابوية، حيث أن أسباب التضخم الجامح ما زالت كما هي، وستعود الأصفار الكثيرة مرة أخرى للعملة الزيمبابوية حتى يترك موجابي السلطة هو وفريقه الاقتصادي الذي حول زيمبابوي إلى شعب من الفقراء الذين يعيشون على الإعانة الأجنبية. ووفقا للصندوق العالمي للغذاء فان حوالي 7 مليون من شعب زيمبابوي يحتاجون للمعونة الغذائية.

الاثنين، فبراير ٠٢، ٢٠٠٩

هل يشهد العالم نهاية اليوان الرخيص

نشر هذا المقال في جريدة القبس بتاريخ الاثنين 2/2/2009
حينما تقوم دولة ما بفرض قيمة لعملتها تقل عن القيمة الفعلية لها، فان صادرات تلك الدولة إلى باقي دول العالم تصبح أرخص، بينما وارداتها من باقي دول العالم تصبح أكثر تكلفة، وفي ظل توافر شروط محددة حول مرونات الطلب والعرض للصادرات والواردات، أو ما يسمى بشرط مارشال/ليرنر، فان مثل هذا الوضع يتسبب في حدوث فائض تجاري للدولة صاحبة العملة الرخيصة، حيث ترتفع القدرة التنافسية لتلك الدولة في مقابل شركاءها التجاريين، وهو ما يعني أن شركاء تلك الدولة في التجارة سوف يخسرون فرص توظيف عمالهم لصالح معدلات أعلى من التوظف في تلك الدولة.

تشير آخر التقارير إلى أن قيمة اليوان أو الرنيمبني (عملة الصين) حاليا تقل بحوالي 30% عن القيمة الحقيقية له. اليوان الرخيص هو احد الأسلحة الفتاكة التي وجهتها الصين إلى الصناعة العالمية، وبصفة خاصة الأمريكية منها، وهو ما ساعد على الإسراع بإحلال السلع الصناعية الصينية محل البضائع الأمريكية، ففي غضون فترة زمنية قصيرة تحولت الصين إلى أكبر مصدر للولايات المتحدة، وصاحبة اكبر فائض تجاري في العالم. ومما يدعم سياسة اليوان الرخيص هو أن النمو الصيني يعتمد على معدلات منخفضة للأرباح للشركات وكذلك على معدلات عائد منخفضة على استثمار رأس المال بشكل عام. النمو الصيني المعتمد على العملة الرخيصة لا يضر فقط بالولايات المتحدة وإنما يضر أيضا بجيران الصين من النمور الآسيوية، حيث يخلق ميزة لصالح الصين في مقابل منافسيها من المصنعين الجدد في المنطقة. ولذر الرماد في العيون استخدمت الصين احتياطياتها من الفوائض التجارية في الاستثمار في شراء السندات الأمريكية للتخفيف من حدة نقص السيولة التي يمكن أن تنشأ عن تصاعد الاختلال في الميزان التجاري الأمريكي مع الصين. الصين متهمة ومنذ وقت طويل بأنها تتلاعب بعملتها اليوان وهي مطالبة الآن من الإدارة الأمريكية الجديدة برفع قيمة عملتها بحيث يرتفع اليوان الصيني في مقابل الدولار الأمريكي، الأمر الذي يشجع الصادرات الأمريكية إلى الصين ويخفف من سيل الواردات من تلك الدولة، بما يسمح بتقليل العجز التجاري الأمريكي.

من المؤكد أن صانع السياسة الصيني كان يحب الرئيس بوش لان إدارته فتحت الباب على مصراعيه لسيطرة السلع الصينية على الأسواق الأمريكية، ولم تتخذ إجراءات للحيلولة دون ذلك طالما أن الفائض الصيني يعود ليستثمر في الولايات المتحدة. الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة أوباما ترى أن الصين تحدد معدل الصرف الخاص باليوان بعيدا تماما عن قوى العرض والطلب، وان انخفاض قيمة العملة الصينية يعد مصطنعا ولا يعبر عن القيمة الحقيقية لليوان، وهو ما يعطي الصادرات الصينية ميزة تنافسية غير عادلة في مواجهة السلع الأمريكية، ومن ثم سرقة وظائف العمال في أمريكا لصالح العاملين في الصناعة الصينية. ففي آخر تصريح له أعلن تيموثي جيثنر وزير الخزانة الأمريكي الجديد هذا الأسبوع بأن الصين دولة تتلاعب بعملتها، وهي المرة الأولى التي يوجه فيها هذا الاتهام إلى الصين بهذه القوة.

وتأتي تصريحات جيثنر في ظل تبني القيادة الأمريكية الجديدة لسياسة الدولار القوي، والذي تتهدده السياسات الصينية بخفض قيمة اليوان. ولكن لماذا تتبنى الولايات المتحدة سياسة الدولار القوي في وقت تواجه فيها عجزا واضحا في ميزان مدفوعاتها؟ من الواضح أن اهتمام الولايات المتحدة في الفترة القادمة ليس منصبا على الميزان التجاري، وإنما بدرجة اكبر على حساب رأس المال، والدولار القوي يعد ضرورة أساسية لضمان استمرار تدفقات رؤوس الأموال اللازمة لعمليات الاقتراض الضخمة التي يحتاجها الاقتصاد الأمريكي لمعالجة تداعيات الأزمة المالية. فالخزانة الأمريكية تجد نفسها مضطرة إلى إصدار أدوات دين جديدة تصل قيمتها ما بين 2-3 تريليون دولار في السنتين القادمتين، ولا يمكن أن تنجح تلك الخطط في ظل تبني سياسة الدولار الضعيف. الدولار القوي في مواجهة اليوان الصيني الرخيص يعقد الأوضاع التجارية للولايات المتحدة بشكل أكبر، ومن ثم يقلل من قدرتها في التعامل مع الأزمة.

ما الذي يترتب على إعلان أن الصين دولة متلاعبة بعملتها؟ وفقا للقانون الأمريكي يحق للكونجرس في هذه الحالة اتخاذ إجراءات مضادة. وينتظر في ابريل القادم أن يكشف التقرير التالي لوزارة الخزانة الأمريكية لممارسات العملات الدولية، عن مدى تلاعب الصين بعملتها، وينص القانون الأمريكي على ضرورة أن يحدد التقرير الدول التي تتلاعب بمعدل صرف عملاتها بهدف تحقيق ميزات تجارية، وإذا ثبت من التقرير أن الصين تتلاعب بعملتها فإن هذا يمهد الطريق أمام ضرورة فتح الباب لمفاوضات ثنائية بين الدولتين حتى تغير الصين من تكتيكات تحديد قيمة عملتها، وقد ينشأ عن ذلك قيام الولايات المتحدة بفرض عقوبات تجارية على الصين بما في ذلك رفع الرسوم الجمركية على السلع الصينية، حتى تنصاع الصين وترفع قيمة اليوان.

الرد الصيني على الهجوم الأمريكي كان عنيفا أيضا، ومضمونه أن الصين لا يجب أن تكون كبش الفداء في وقت الأزمة نظرا للآثار المعاكسة التي يمكن أن يتركها اليوان القوي على نموها الاقتصادي، وأن المرحلة الحالية تقتضي ضرورة البحث عن حل للازمة المالية العالمية، وليس الحديث عن إجراءات للحماية التجارية، والتي قد لا تساعد الجهود الحالية لمعالجة الأزمة، ولن تشجع النمو المستقر والصحيح للاقتصاد العالمي.

ولكن هل تنجح الضغوط الأمريكية على الصين بحيث تجبر الصين على التخلي عن سلاحها التجاري الأساسي المتمثل في اليوان الرخيص؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد وأن نأخذ في الاعتبار أن إعلان وزير الخزانة الأمريكي يأتي في وقت حساس جدا، حيث تعاني كل من الصين والولايات المتحدة من أزمة تضعف اقتصادياتهما، وبالنسبة للصين فان اليوان القوي قد يدفع بمعدلات النمو الصيني نحو التراجع بشكل أكبر، وبما أن الصين أصبحت تمثل ثقلا لا يمكن تجاهله في الاقتصاد العالمي، فان المزيد من التراجع في النمو الصيني سوف يؤدي إلى حدوث هبوط في معدلات النمو العالمي، وهو ما قد يعطل خطط إنقاذ الاقتصاد الأمريكي ذاته. من ناحية أخرى فان الولايات المتحدة تعتمد على الصين في تمويل عجزها المتصاعد، ومن ثم عندما تتحدث الصين فان السندات الأمريكية تستمع وتتأثر تبعا لذلك، فقد أدت الفوائض الضخمة في الميزان التجاري الصيني مع العالم إلى تكوين احتياطيات هائلة من النقد الأجنبي تقدر بحوالي 2 تريليون دولار، وهو ما يجعل الصين صاحبة أكبر احتياطي نقدي في العالم، وهذه الاحتياطيات بلا شك محط أنظار الإدارة الأمريكية بصفة خاصة في هذه المرحلة، ذلك أن استمرار استثمار الصين لاحتياطياتها في الأدوات المالية الأمريكية يساعد على المحافظة على معدلات الفائدة الأمريكية منخفضة. وإذا ما أصرت حكومة أوباما على إجبار الصين على رفع قيمة اليوان، فربما تتوقف الحكومة الصينية عن شراء أدوات الدين الأمريكي وهو ما قد يعطل خطة الإنقاذ الأمريكية. أكثر من ذلك فان البعض يرى أن دعوة وزير الخزانة الأمريكي لرفع قيمة اليوان تتناقض مع دعوته للصين على بذل مجهود اكبر في مجال ضخ الأموال لتحفيز الاقتصاد الصيني حتى لا ينحسر النشاط الاقتصادي العالمي وهو ما ينعكس سلبا على اقتصاد الولايات المتحدة وشركاءها التجاريين. من جانبها قامت الصين بتخصيص مبلغ نصف تريليون دولار لأغراض التحفيز المالي للاقتصاد الصين خلال العامين القادمين، وإن لم يعلن حتى الآن عن توقيت بدء ذلك البرنامج.

المخاطر المتعددة للدعوة الأمريكية إلى رفع اليوان تشير إلى أن احتمال المواجهة المباشرة بين الدولتين قد يكون ضعيفا، ذلك أن الأوراق الأمريكية للتعامل مع السلاح التجاري الصيني تبدو محدودة، وأن قواعد اللعبة ما زالت تحت سيطرة صانع السياسة الصيني، ومن ثم فان الاحتمال الأكبر هو أن تلجأ حكومة أوباما إلى الوسائل الدبلوماسية في التعامل مع القضية بصورة أكثر ليونة، وهو ما يعني ضمنا أن سياسة اليوان الرخيص سوف تستمر لفترة زمنية قادمة في المستقبل.