الجمعة، يونيو ٢٧، ٢٠١٤

اقتصاديات كأس العالم لكرة القدم

تتجه أنظار العالم هذه الأيام نحو البرازيل، حيث تقام المنافسات بين 32 دولة في إطار مسابقات كأس العالم لكرة القدم، وحيث يحتشد عدد كبير من مشجعي كرة القدم من دول كثيرة معظمهم من الدول المشاركة، وواقع الأمر أن العالم يشهد من وقت لآخر منافسة شديدة بين بعض الدول الراغبة في تنظيم المسابقة واستضافة كأس العالم على أراضيها، على الرغم من التكلفة الكبيرة التي تنطوي على تنظيمها، فما الذي يدفع الدول إلى التنافس على الحصول على فرصة استضافة كأس العالم؟

لا شك أن استضافة كأس العالم لكرة القدم تحقق للدولة المضيفة العديد من المزايا النسبية، ففي الأجل القصير من المؤكد أن الطلب الكلي ينتعش مع تنظيم المسابقة، حيث ترتفع حجوزات الفنادق وتنتعش مبيعات شركات الطيران، ويشتد الإقبال على المطاعم، بصفة خاصة التي تقدم الوجبات الخفيفة منها، كما يزداد الطلب على المشروبات بكافة أنواعها، والسجائر .. إلخ، ففي المسابقة الحالية يتوقع أن يزور البرازيل نحو 600 ألف سائح خلال فترة تنظيم المسابقة، يقدر متوسط إنفاق الواحد منهم بنحو خمسة آلاف دولار، أي أن الدخل السياحي المتوقع يصل إلى نحو ثلاثة مليارات دولار.

أكثر من ذلك ترتفع حركة النقل الداخلي عند الانتقال من مكان إلى آخر لمتابعة المسابقة بين مختلف المدن في الدولة المضيفة، كما ترتفع مبيعات الأجهزة الإلكترونية مثل أجهزة التلفاز، ويشتد الطلب على وسائل الاتصال وخدمات الإنترنت إلى آخر هذه القائمة الطويلة من الإنفاق والمرتبطة بارتفاع حجم التجمعات السكانية في منطقة جغرافية محددة، وعلى الرغم من أن هذا النوع من الإنفاق يتسم بأنه إنفاق مؤقت، إلا أنه بالتأكيد يمثل رفعا في مستويات الطلب الكلي ومن ثم النمو، الأمر الذي يرفع الأداء الاقتصادي للدولة المضيفة ولو على نحو مؤقت.

على الجانب الآخر تضطر الدولة المضيفة إلى القيام بإنفاق آخر وعلى نطاق زمني أطول. فدائما ما تشترط "الفيفا" أن يتوافر لدى الدولة المنظمة على الأقل ثمانية ملاعب حديثة، ويفضل أن يكون العدد عشرة، تتسع لعدد كبير من المشجعين، بحيث لا تقل الطاقة الاستيعابية للملعب الواحد عن 40 ألف مشجع، وقد هيأت البرازيل 12 ملعبا للمسابقة، ويقدر أن متوسط ما تم إنفاقه على كل ملعب نحو 400 مليون دولار، والواقع أن إنفاق البرازيل في مجال التسهيلات الرياضية كان متعدد الأهداف، فالبرازيل تطور ملاعبها ليس فقط لتنظيم كأس العالم، وإنما أيضا لتقام عليها ألعاب الأولمبياد في 2016.

أكثر من ذلك تضطر الدولة المضيفة إلى توسيع بنيتها التحتية استعدادا لاستضافة مئات الآلاف من السائحين الأجانب الذين سوف يتجمعون في وقت قصير لحضور المسابقات، وهو ما يتطلب توسعة الطاقة الفندقية في الدولة، وما يصاحب ذلك من ضمان توفير التسهيلات الأخرى اللازمة من كهرباء وماء وطرق ومواصلات واتصالات وخدمات الأعمال والخدمات الأمنية، ومنافذ لتجارة التجزئة، ومطاعم ووسائل ترفيه .. إلخ، مثل هذه التسهيلات تتطلب قدرا كبيرا من الإنفاق، غير أن هذا الاستثمار في البنى التحتية له آثار انتشارية موجبة على نطاق واسع على المدى الطويل، خصوصا في تعزيز رصيد رأس المال الثابت، وتحسين مستويات الإنتاجية، ورفع الأداء التنافسي لاقتصاد الدولة المضيفة، وهي آثار تستمر حتى بعد انتهاء المسابقات، وتنظر البرازيل إلى هذه المشروعات على أنها تتم في إطار استراتيجية البرازيل لكي تصبح الاقتصاد رقم 5 عالميا بحلول عام 2023.

فاتورة الإنفاق على تنظيم كأس العالم وفقا لبعض التقديرات تصل إلى حوالي 28 مليار ريال برازيلي (نحو 12.6 مليار دولار أمريكي)، في مجالات تسهيلات النقل وتطوير المطارات والملاعب والأمن والموانئ والاتصالات والخدمات السياحية، في المقابل تتوقع الحكومة أن تنظيم كأس العالم سوف يترتب عليه تدفق حوالي 112 مليار ريال (نحو 50 مليار دولار) للاقتصاد البرازيلي، كما أنه سوف يولد دخولا في الاقتصاد المحلي تقدر بـ 63.5 مليار ريال برازيلي (28.5 مليار دولار).

نظير هذا الإنفاق الضخم الذي قامت به البرازيل للاستعداد لكأس العالم تتعرض الحكومة البرازيلية للانتقادات الشديدة، حيث يرى البعض أنه كان من الواجب إنفاق هذه الأموال على الخدمات العامة التي يحتاجها الناس بصورة ملحة مثل الصحة والتعليم والإسكان وغيرها بدلا من إنفاقها على تنظيم المباريات الكروية. غير أن الحكومة ترد على هذه الانتقادات بأن هذه المشروعات تم تصميمها بحيث تساعد على تعزيز النمو الاقتصادي للبرازيل، وتعمل على تسريع عمليات الانتقال الحضري للسكان بين المناطق المختلفة للبرازيل، وأن مثل هذه المشروعات التي تمت إقامتها تقع ضمن قائمة المشروعات الاستراتيجية التي كانت ستقوم بها البرازيل سواء عهد إليها بتنظيم كأس العالم أم لا، حيث إن العديد من هذه الإنشاءات تمثل اللبنة الأساسية لمشروعات أخرى مدنية وترفيهية وتعليمية وسكنية حول هذه الإنشاءات تدعم طاقة المدن التي ستقام فيها المباريات على استيعاب المزيد من السكان. أي أن تنظيم المسابقة سوف يعني تهيئة 12 مدينة في البرازيل على نحو أفضل، بينما تستفيد كافة مناطق الدولة من توسيع نطاق المطارات والموانئ، والنقل العام، وغيرها من أشكال البني التحتية بعد انتهاء المسابقة.

كذلك فإن هناك العديد من الآثار الخارجية الإضافية الموجبة لتنظيم مسابقة كأس العالم وأهمها خلق الوظائف، فالملاعب لا بد وأن تبنى أو يتم تطويرها على نحو جذري، وكذلك الفنادق ومجمعات الأسواق وغيرها من التسهيلات لأغراض استيعاب مئات الآلاف من الزائرين، تؤدي إلى فتح عدد كبير من الوظائف، على سبيل المثال تقدر إرنست آند يونج أن هناك نحو 3.6 مليون وظيفة سوف يتم فتحها في البرازيل نتيجة تنظيم المسابقة، وهو ما يخفف من ضغوط البطالة.

أكثر من ذلك فإن البعض أيضا يرى أن العوائد التي تنجم عن تنظيم مثل هذه المسابقة لا يجب أن تحسب من الناحية الاقتصادية فقط، وإنما يجب أن يؤخذ في الاعتبار العوائد غير المادية مثل التقدير الدولي للعالم للدولة التي سيعهد إليها بتنظيم هذه المسابقة المهمة، حيث تصبح هذه الدولة محط أنظار مئات الملايين من متابعي كأس العالم الذين يتابعون المسابقات للعبة التي أصبحت اللعبة رقم 1 في العالم، كذلك قد يرفع تنظيم المسابقة من الشعور القومي لدى مواطني الدولة ويزيد من التفافهم حول حكومتهم، على النحو الذي قد يرفع من درجة الاستقرار السياسي وتعزيزه.

في المقابل هناك تخوف من التأثير السلبي لتنظيم المسابقة، حيث يعمد عدد كبير من الناس إلى ترك أعمالهم، أو الدخول في إجازات مؤقتة وذلك لمتابعة المسابقة، وهو ما قد يؤثر سلبا على معدلات النمو في الاقتصاد الوطني في فترة تنظيم المسابقة، وباختصار فإن لتنظيم مسابقة كأس العالم لكرة القدم مجموعة من الآثار الإيجابية والسلبية في ذات الوقت، ولكن الأثر الصافي سواء على المدى القصير أو الطويل، غالبا ما يكون إيجابيا.

الجمعة، يونيو ٢٠، ٢٠١٤

عصر معدلات الفائدة الاسمية السالبة, الجزء الثاني

في الأسبوع الماضي ناقشنا الأسباب التي دفعت البنك المركزي الأوروبي إلى تبني معدلات الفائدة الاسمية السالبة لمواجهة تطورات الأزمة الاقتصادية الأوروبية، اليوم نتناول بالتحليل ماهية هذه السياسة غير التقليدية واحتمالات نجاحها في معالجة المشكلات التي يواجهها الاقتصاد الأوروبي.

من المعلوم أن هناك حدا أدنى لمعدلات الفائدة الاسمية السالبة، وهو أن يصل معدل الفائدة إلى الصفر، بعدها يفترض من الناحية النظرية أن يتوقف معدل الفائدة عن الانخفاض، لأن ذلك يعني تحول معدلات الفائدة على المودعات من الصفر إلى النطاق السالب، وبدلا من أن تقوم البنوك بدفع فوائد على المودعات فإنها تحصل على فائدة من المودعين، ويصبح معدل الفائدة السالب بمثابة ضريبة على المودع يدفعها إلى البنك.

لم تكن معدلات الفائدة السالبة التي تبناها البنك المركزي الأوروبي أول محاولة يقوم بها بنك مركزي ليتجاوز الحد الأدنى لمعدلات الفائدة الاسمية، إنما سبقه البنكان المركزيان السويسري والياباني، وفي خضم الأزمة الحالية قام بنك السويد المركزي بتبني معدلات الفائدة السالبة، كذلك تبنى بنك الدنمارك السياسة نفسها في 2012، الغايات التي يسعى البنك المركزي الأوروبي إلى تحقيقها من هذه السياسة متعددة، أولها إضعاف اليورو بالنسبة لعملات العالم الأخرى، وهذا أمر مطلوب في الوقت الحالي لتحسين الوضع الخارجي لتلك الاقتصادات، بل إن بعض المراقبين نظر إلى الخطوة على أنها بمنزلة إعلان حرب عملات من جانب منطقة اليورو، حيث من الممكن أن تجر هذه الخطوة البنوك المركزية الأخرى إلى اتخاذ إجراءات مماثلة للحفاظ على العلاقة بين عملاتها واليورو حتى لا تتدهور تنافسيتها نتيجة الإجراءات، لكني أعتقد أن شبح حرب العملات أصبح بعيدا الآن، بعد أن تجاوز العالم الأسوأ في مراحل الأزمة، كما أن قادة العالم أكدوا في أكثر من مرة في لقاءاتهم من خلال مجموعة العشرين أنهم لن يلجأوا إلى هذه السياسة لمعالجة آثار الأزمة.

ثاني هذه المستهدفات هو رفع معدلات التضخم، وهو أمر مطلوب في ظل تراجع اتجاهات التضخم خلال السنوات الماضية على النحو الذي يحمل آثارا سلبية على النمو الاقتصادي، أما ثالثها، وهو أكثر هذه الغايات التي يتناولها المراقبون بالتحليل، فهو إجبار البنوك غير الراغبة في مد خطوط الائتمان في الاقتصاد الأوروبي على القيام بذلك حتى تتجنب أن تدفع فائدة على الأموال التي لا تقرضها، وهو أمر مرغوب أيضا في ظل هذه الظروف لتغذية الطلب الكلي في الاقتصاد الأوروبي، هذا بالطبع بافتراض أن البنوك تهتم بالدرجة الأولى بالفائدة التي ستدفعها، غير أنه ليس هناك ما يؤكد قيام البنوك بذلك نظرا لأن البنوك لا تأخذ في الاعتبار عنصر العائد فقط، إنما أيضا تهتم بجوانب المخاطرة عند منح الائتمان، خصوصا في أوقات الأزمات، من ناحية أخرى فإن القضية الأهم في هذا الجانب ليست في إقدام البنوك على منح الائتمان، بقدر ما هي هل هناك طلب فعلي على الائتمان من جانب قطاع الأعمال؟

من ناحية أخرى، فإن البعض يعتقد أن معدلات الفائدة السالبة تخفض من مستويات الائتمان التي تمنحها البنوك، وليس العكس، ذلك أنه يفترض عندما تنخفض معدلات الفائدة إلى الصفر أو أدنى من ذلك فإن الائتمان المحلي ينخفض نتيجة السلوك الاستثماري للبنوك. فالبنوك تحاول أن تحتفظ بمدخرات الأفراد من خلال منحهم معدلات فائدة معقولة، وهو ما قد يقلل من الإقراض للشركات والقطاع العائلي لأن العائد على هذا الإقراض سيكون منخفضا، وبدلا من ذلك قد تفكر البنوك في الاستثمار في الأصول ذات العوائد الأعلى.

كذلك يرى المراقبون أنه ليس من المتوقع أن يترتب على الخطة آثار عميقة في الاقتصاد الأوروبي، ذلك أنه كي ينجح البنك المركزي الأوروبي في تحقيق مستهدفاته لا بد أن تمتلك البنوك الأوروبية قدرا هائلا من السيولة على النحو الذي يجعل الاحتفاظ بالسيولة الفائضة أمرا مكلفا بالنسبة لهذه البنوك، غير أن البنوك الأوروبية هذه الأيام لم تعد تحتفظ بالقدر نفسه من السيولة التي كانت تحتفظ بها من قبل في أوج الأزمة، فوفقا لبعض التقديرات تراجعت مودعات البنوك لدى البنك المركزي الأوروبي من نحو 800 مليار يورو إلى 100 مليار يورو فقط حاليا، بينما يرى بعض المحللين أن معدلات الفائدة السالبة ستؤثر في كمية ضئيلة فقط من النقود، حيث يقدر أن هذه الاحتياطيات الزائدة لدى البنوك الأوروبية لا تزيد على 30 مليار يورو في نهاية أيار (مايو) 2014، ومثل هذه الكمية من النقود ليس من المتوقع أن تحدث فارقا كبيرا يؤثر في اقتصاد منطقة اليورو، وفي ظل هذه الأوضاع فإن معدل الفائدة السالب ربما لا يؤدي إلى المزيد من الإقراض، لأن المزيد من الإقراض يتطلب المزيد من رأس المال الذي ستحتاج إليه البنوك في هذه الحالة لاستيفاء بعض متطلبات المخاطرة، وفقا لمؤشرات رأس المال/الأصول، وبالتالي فليس من المتوقع أن تكون البنوك راغبة في عمليات الإقراض في الأجل القريب.

كذلك يتوقع أن يكون الأثر على عرض النقود ضئيلا، عندما يقوم البنك المركزي الأوروبي بوقف حالات التعقيم عند قيامه بشراء السندات الأمر الذي يسمح لعرض النقود بالتزايد، ويحدث التعقيم عندما يقوم البنك المركزي باسترداد ما يضخه من نقود في جسد الاقتصاد مرة أخرى، من خلال إصدار المزيد من السندات قصيرة الأجل، وبما أن محتفظات البنك المركزي من السندات في ظل برنامج السندات السوقية، لا تزيد على 165 مليار يورو، فإن الأثر في عرض النقود سوف يكون صغيرا.

أكثر من ذلك فإنه في خضم هذه الخطة سيمارس البنك المركزي الأوروبي عمليات التيسير الكمي من خلال زيادة حجم ميزانيته عن طريق برنامج شراء السندات المضمونة بالأصول، غير أنه ليس هناك تأكيدات بأن هذه الخطة سيتم تطبيقها نظرا لأن حجم سوق السندات المضمونة بالأصول يعد محدودا بشكل عام في أوروبا، ما يعني أن آثار السياسة في ميزانية البنك المركزي ستكون محدودة.

ربما يكون أكثر الإجراءات المتوقعة من حيث الفاعلية هي خطة البنك المركزي الأوروبي المسماة "التمويل في مقابل الائتمان"، حيث سيقوم البنك المركزي بتدبير سيولة أكثر للبنوك، في مقابل قيام البنوك بالإقراض، وذلك من خلال توسيع نطاق القروض للبنوك لمدة أربع سنوات وعلى أساس معدلات فائدة ثابتة 0.25 في المائة، وذلك في مقابل قيام البنوك بتوسيع عمليات الإقراض، ووفقا للخطة ستتمكن البنوك الأوروبية من اقتراض ما يقارب 400 مليار يورو، وفي حالة عدم قيامها بالإقراض سيطلب منها رد القروض إلى البنك المركزي الأوروبي مرة أخرى.

باختصار على الرغم من تعدد جوانب الخطة التي سيطبقها البنك المركزي الأوروبي لتحفيز اقتصاد منطقة اليورو، وعلى رأسها فرض معدلات سالبة للفائدة، فإن الآثار المتوقعة لهذه الخطة ربما تكون محدودة، وأن الأمر ربما يتطلب تحفيزا ماليا وليس نقديا، على الرغم من مخاطره المرتبطة بارتفاع مستويات الديون السيادية لدول مثقلة أصلا بالديون.

الجمعة، يونيو ١٣، ٢٠١٤

عصر معدلات الفائدة الاسمية السالبة

طالعتنا وسائل الإعلام المختلفة الأسبوع الماضي بأنباء عن قيام البنك المركزي الأوروبي باعتماد معدلات الفائدة السالبة على مودعات البنوك، وذلك ضمن حزمة من السياسات التي تهدف إلى انتشال الاقتصاد الأوروبي من مصيدة الركود طويل الأجل، وحتى تتجنب الكارثة التي واجهتها اليابان في القرن الماضي والمعروفة باسم العقد الضائع.

كان البنك المركزي الأوروبي قد أعلن مسبقا أنه على استعداد لاتخاذ ما يجب للتعامل مع استمرار ارتفاع معدلات البطالة في أوروبا، التي لازمها انخفاض واضح في معدلات التضخم مع ما يصاحب ذلك من مخاطر مرتبطة بالانحسار السعري، وبالفعل في اجتماعه الأخير الذي عقد في الأسبوع الماضي، أدخل البنك المركزي الأوروبي ثلاثة إجراءات غير تقليدية تهدف جميعها إلى زيادة عرض السيولة، وتمثلت هذه الإجراءات في:

أولا: خفض معدلات الفائدة على قروض إعادة التمويل من البنك المركزي الأوروبي من 0.25 في المائة إلى 0.15 في المائة. من ناحية أخرى قام البنك المركزي الأوروبي بخفض معدلات الفائدة التي يدفعها على مودعات البنوك لديه لمدة ليلة إلى سالب 0.10 في المائة، بمعنى أن البنوك التي ترغب في الاحتفاظ باحتياطياتها لدى البنك المركزي الأوروبي أصبح عليها الآن أن تقوم بدفع فائدة على هذه المودعات بنسبة 0.10 في المائة.

ثانيا: أعلن البنك المركزي الأوربي أنه سيفتح خطوط ائتمان طويلة الأجل بنحو 400 مليار يورو "أي أكثر من نصف تريليون دولار" للأسر ومؤسسات الأعمال التي في حاجة إلى تمويل (لا يشمل تمويل المساكن).

ثالثا: وقف عمليات التعقيم Sterilization، التي يقوم بها البنك المركزي الأوروبي، أي وقف سحب النقود من التداول في مقابل مشترياته من السندات.

لكن لماذا يقوم البنك المركزي الأوروبي بهذه الإجراءات العنيفة؟ من المعلوم أن البنك المركزي الأوروبي كان أكثر تحفظا في سياساته النقدية من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، سواء من حيث طبيعة الإجراءات التي قام بها لخفض معدلات الفائدة، أو من حيث حجم التوسع النقدي الذي قام به للتخفيف من حدة الأزمة المالية، ناهيك عن الفروق في برامج التحفيز المالي التي طبقها كلا الاقتصادين، على الرغم من أن أوروبا تعرضت لمخاطر أكثر من تلك التي تعرضت لها الولايات المتحدة.

على النقيض كان الاحتياطي الفيدرالي أكثر جرأة وهجومية في مواجهة الأزمة، وأكثر إفراطا في التوسع في عرض النقود على النحو الذي جعل الكثير من المراقبين يتهمون الاحتياطي الفيدرالي بأنه بفتح خطوط السيولة غير المنضبطة في إطار البرامج المختلفة التي قام بها بدءا ببرنامج إغاثة الأصول المضطربة TARP، يساعد على نشر المخاطر الأخلاقية بين قادة سوق المال، طالما أن البنك المركزي لا يعاقب من تسببوا في الأزمة، وبدلا من ذلك يقدم لهم خطوط الائتمان بتكلفة زهيدة، فضلا عن أنه لا يميز في توزيع الائتمان بين من يستحق ومن لا يستحق. كذلك اتهم الاحتياطي الفيدرالي بأنه ينشر بذور التضخم الجامح Hyper-inflation بسياساته النقدية المتهورة بتبني استراتيجية التيسير الكمي ثلاث مرات متتالية.

ومع ذلك لم يتردد الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في المضي قدما في سياساته النقدية الهجومية، يرجع السبب في هذه الفروق في سلوك المؤسستين إلى شخص واحد هو بن برنانكي رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق، الذي تركزت أبحاثه حول الكساد العالمي الكبير الذي حدث في نهاية العشرينيات من القرن الماضي. كانت أهم النتائج التي توصل إليها برنانكي هي أن الأزمة المالية التي حدثت للولايات المتحدة تحولت بسرعة إلى الاقتصاد الحقيقي في صورة ركود طويل الأجل بسبب سلوك السلطات النقدية آنذاك، التي وقفت مترددة في دعم المؤسسات المالية بتدبير السيولة اللازمة لها، وسمحت لآلاف البنوك والمؤسسات المالية بأن تسقط صريعة الإفلاس في غضون فترة زمنية قصيرة.

لم يكن بن برنانكي مستعدا كي يرتكب الخطأ نفسه الذي وقعت فيه السلطات النقدية في ثلاثينيات القرن الماضي، وظل دائما مستعدا لتوفير السيولة اللازمة للاقتصاد الأمريكي في ظل استراتيجيات عديدة لجأ إليها بدءا من خفض معدل الخصم مرورا بتبني سياسة معدلات الفائدة الصفرية ZIRP، ودفع فائدة على احتياطيات البنوك لديه ولأول مرة، وضخ مئات المليارات في صورة توسع نقدي من خلال برنامجه لشراء السندات... إلخ. ذلك كله بهدف واحد وهو دعم الثقة بالاقتصاد الأمريكي والحد من سلوكيات بعض مؤسسات القطاع المالي التي يمكن أن تكون مدمرة في مثل هذه الحالات، مثل الاتجاه إلى سياسات الحرق السعري للأصول، لتدبير السيولة التي يمكن أن تنتهي بكارثة تلحق بحملة الأسهم والمستثمرين في القطاع المالي بشكل عام، كما هدف إلى نشر التوقعات بأن الدولة تقف خلف المؤسسات المالية، وأن من يتعرض منها لنقص في رؤوس الأموال لا يتمكن من تدبيرها من خلال مصادر رأس المال الخاصة ستتم إعادة رسملتها من خلال الأموال العامة لمساعدتها على عبور حالة الكساد.

كان بن برنانكي على يقين بأن شح السيولة سيخنق مؤسسات القطاع المالي، التي مثل العديد منها قنابل مؤقتة قابلة للانفجار في أي لحظة، مثل مؤسسات الإقراض العقاري فاني ماي، وفريدي ماك، والمجموعة الأمريكية العالمية AIG، وبنك أوف أمريكا، وسيتي جروب. في كتابه بعنوان "اختبار ضغط" أطلق تيم جايثنر على هذه المؤسسات لقب القنابل الخمس. كان وقوع إحداها سيمثل كارثة للاقتصاد الأمريكي والعالم، فقد كانت أكبر بكثير من حيث الحجم من بنك ليمان براذرز، الذي أدى انهياره إلى انطلاق الأزمة.

بالطبع لم يكن الهدف حماية هذه المؤسسات من الأخطاء التي ارتكبتها، إنما لمنع انفجارها معرضة الاقتصاد الأمريكي والعالم للخطر، ولم تقتصر المواجهة الأمريكية على التحفيز النقدي، إنما أيضا شملت برامج ضخمة للتحفيز المالي، وإنفاق مئات المليارات من أجل تعزير الطلب الكلي، كل ذلك من أجل تجنب تكرار ما حدث في يابان التسعينيات.

في طريقها للتعافي وقعت أوروبا في العديد من الأخطاء التي أدت إلى تأخر خروج الاقتصاد الأوروبي من حالة الكساد الطويل الذي عاصرته في أعقاب الأزمة، ومثلما واجه الاقتصاد الأمريكي قنابل مؤقتة كان من الممكن أن تطيح باستقراره، فإن الاقتصاد الأوروبي وعلى وجه الخصوص منطقة اليورو، واجه العديد من المشاكل كان أخطرها، ولا يزال، حالة الدول المثقلة بالديون، أو ما اصطلح على تسميته بمجموعة الـ PIIGS.

منذ فترة طويلة والتقارير الدورية لمكتب الإحصاء الأوروبي Eurostat تشير إلى استمرار تراجع النمو في منطقة اليورو وتراجع معدلات التضخم مصحوبة بارتفاع معدلات البطالة، مثل هذه التطورات تزيد من مخاطر وقوع الاقتصاد الأوروبي في مصيدة الركود وضياع سنوات طويلة من النمو، مثلما حدث في اليابان، ورغبة في مواجهة هذه المخاطر يعود البنك المركزي الأوروبي بسياسات هجومية غير تقليدية في محاولة يائسة لتعزيز النمو، بصفة خاصة تبني معدلات الفائدة الاسمية السالبة، لكن ما هذه السياسة غير التقليدية وهل تفلح في معالجة المشكلات التي يواجهها الاقتصاد الأوروبي؟ هذا ما سنحاول تحليله في الأسبوع المقبل - إن أحيانا الله.

الجمعة، يونيو ٠٦، ٢٠١٤

اقتصاديات المياه المعبأة

تعد صناعة المياه المعبأة من الصناعات الحديثة نسبيا، حيث بدأت هذه الصناعة في العالم على نطاق واسع في بداية الثمانينيات تقريبا، ومنذ ذلك الوقت تتوسع هذه الصناعة بصورة جوهرية، ويذكر بعض المراقبين أن الصناعة لم تحقق أرباحا جوهرية لمصانع إنتاج المياه المعبأة إلا أخيرا، ويرجع ذلك إلى انخفاض تكلفة المدخلات التي تستخدمها لإنتاج المياه المعبأة، سواء باستخدام منابع المياه المعدنية في الأرض، أو باستخدام مصادر المياه المنزلية العادية.

ويتزايد حاليا نشاط تعبئة المياه باستخدام طرق معالجة مياه المنازل العادية، على سبيل المثال يقدر بأن 40 في المائة من المياه المعبأة في الولايات المتحدة هي مجرد مياه منازل عادية تمت معالجتها، كذلك يقدر أن نسبة هذه المياه تبلغ 25 في المائة من المياه المعبأة في كندا. ربما يكون من المثير للاهتمام الإشارة إلى أن بعض مصانع المياه الغازية في العالم تتحول اليوم بصورة متزايدة نحو صناعة المياه المعبأة كأحد مصادر الدخل الضخمة، على سبيل المثال فقد دخلت "بيبسي كولا" و"كوكا كولا" مجال تعبئة المياه، إضافة إلى نشاطهما الأساسي في تعبئة المياه الغازية، ويتمتع العديد من هذه الشركات، خصوصا تلك العالمية، بموقف تنافسي قوي جدا في سوق المياه المعبأة على مستوى العالم.

أكثر من ذلك فإن الشركات العاملة في هذه الصناعة لا تدفع غالبا رسوما عن استخدام آبار المياه المعدنية أو رسوما إضافية على مياه الاستهلاك العادية التي تعيد إنتاجها في صورة معبأة. ووفقا لبعض التقارير فإن شركات المياه الغازية على مستوى العالم مثل بيبسي كولا وكوكا كولا التي تعبئ المياه في الوقت الحالي تحقق إيرادات من المياه المعبأة تفوق تلك التي تحققها من المشروبات الغازية، ونظرا لتزايد اعتماد شركات المياه المعبأة على مياه المنازل للحصول على احتياجاتها من الماء، فإن البعض ينادي بتخصيص المياه حتى تتمكن الدولة من تحميل هذه الشركات التكلفة الحقيقية لها.

وتشير الدراسات إلى أن المياه المعبأة أصبحت بالنسبة لمئات الملايين من سكان العالم جزءا أساسيا من حياتهم. على سبيل المثال يقدر أن الأمريكيين ينفقون سنويا نحو 21 مليار دولار على المياه المعبأة، لذلك ينظر إلى صناعة المياه المعبأة على أنها من الأنشطة التجارية الواعدة في العالم. أكثر من ذلك فإن الطلب على المياه المعبأة يتزايد بصورة أكبر في الدول الفقيرة في العالم، لكن السؤال الأساسي هنا هو: ما سبب هذا التوسع الكبير في هذه الصناعة في عالم اليوم؟ ولماذا يتزايد استهلاك المياه المعبأة بالذات؟ الواقع أن هناك عوامل كثيرة تقف وراء هذا التوسع في صناعة المياه المعبأة في العالم، بعضها ينصرف إلى جانب الطلب والبعض الآخر ينصرف إلى جانب العرض.

يرجع النمو في الطلب على المياه المعبأة لعوامل عدة أهمها أنها ربما تكون أفضل طعما من مياه المنازل العادية، كما أنها أكثر نقاء، ومن ثم فإنها ربما تكون أكثر أمانا من المياه المنزلية العادية. أكثر من ذلك فإن تزايد اهتمام الناس بصحتهم أدى إلى تزايد القلق لدى قطاعات كبيرة من الناس حول درجة جودة مياه المنازل، خصوصا في الدول النامية.

كذلك أدى تزايد مستويات السمنة بين الناس في العالم إلى تزايد الاهتمام بالمياه المعبأة باعتبارها بديلا مناسبا للمشروبات المختلفة المعبأة التي تحتوي غالبا على السكر، ودائما ما يوصي الأطباء بزيادة استهلاك المشروبات الخالية من السكر، مثل المياه بدلا من استهلاك المشروبات المعبأة الأخرى، لمواجهة ارتفاع معدلات السمنة وارتفاع معدلات الإصابة بمرض السكري وانتشار أمراض القلب. لذلك ينظر إلى المياه المعبأة اليوم على أنها أحد الخيارات لحياة صحية سليمة، وهناك ادعاءات بأن المياه المعدنية بالذات لها فوائد علاجية مقارنة بمياه المنازل العادية، وإن كانت منظمة الصحة العالمية لم تجد ما يؤيد ذلك.

كذلك يعكس تزايد الطلب على هذه المياه عدم قدرة التسهيلات الحكومية أو البلدية القائمة على إنتاج وتوفير مياه للشرب ذات جودة عالية أو موثوق في درجة أمان استخدامها من جانب الإنسان، واتساع درجة التحضر بالهجرة من الريف إلى المدن وما يصاحب ذلك من ارتفاع في مستوى المعيشة، فضلا عن الخوف من انتشار الأمراض المصاحبة لاستخدام المياه العادية، ففي دراسة عن المياه المعبأة في الهند تم التوصل إلى أنه ما بين 1999-2004 زاد الطلب على المياه المعبأة بنسبة 25 في المائة سنويا، وهو واحد من أعلى معدلات النمو في العالم. بالطبع الملايين من الناس في الهند تفتقر إلى المياه الصالحة للشرب، حيث لا تصل المياه إلى جانب كبير من المنازل أو حتى في حال وصولها لا تكون بالجودة المناسبة للإنسان، ومن ثم فإن فشل السلطات في توفير خدمات المياه على نحو مناسب يفتح الباب على مصراعيه أمام صناعة مربحة للمياه المعبأة في دولة مثل الهند.

في جانب العرض تلعب الأرباح المرتفعة التي تحققها الشركات العاملة في الصناعة، فضلا عن سهولة وصول هذه الشركات لمصادر المياه سواء كانت المعدنية أو مياه المنازل العادية، الدور الأساسي في ارتفاع العرض من هذا المنتج للناس، إذ تشير الدراسات إلى أن المياه المعبأة سعرها مرتفع للغاية. على سبيل المثال فإن برميلا من المياه المعبأة يفوق في سعره برميلا من الغاز، حيث يتم بيع مياه المنازل العادية بمئات أضعاف سعرها الحقيقي، بعد أن يتم إجراء بعض العمليات عليها لرفع درجة نقائها وتعزيز جودتها، وبهذا الشكل تحقق هذه الشركات أرباحا ضخمة، وبفضل هذه الأرباح تستطيع شركات المياه المعبأة أن تنفق مليارات الدولارات على عمليات الإعلان التي تقوم بها بصورة سنوية باستخدام كل الوسائل وصولا إلى جيب المستهلك.

وعلى الرغم من الآثار الاقتصادية الإيجابية للمياه المعبأة، فإن المطالب تتزايد بحظر هذا النوع من المياه نظرا لأضراره السلبية على البيئة الناتجة عن استهلاك كميات ضخمة جدا من الزجاجات البلاستيكية التي تلقى في القمامة يوميا، بل إن بعض الأماكن بدأت بالفعل في منع بيع المياه المعدنية فيها، وهو اتجاه خاطئ، ذلك أن هناك مئات الأنواع من السوائل الأخرى التي تتم تعبئتها في زجاجات بلاستيكية وتلقى في القمامة يوميا في العالم. أكثر من ذلك فإن حظر بيع المياه المعبأة سيجبر الجمهور على استخدام بدائلها، وهي المشروبات المثلجة، التي تحتوي غالبا على السكر، ليتم استبدال مشروب خال من المواد السكرية نقي من أي ألوان أو إضافات صناعية، إلى مشروبات تعج بهذه الإضافات، فتكون النتائج أسوأ على صحة الناس.

Book Review


اليوم انتهيت من كتاب:
“The Crash of 2016: The Plot to Destroy America--and What We Can Do to Stop It Hardcover”
للمؤلف
Thom Hartmann
مشكلة هذا الكتاب أنه كتب بواسطة كاتب وضع في ذهنه أن أمريكا سوف تنهار في 2016، بل وستحدث فيها ثورة أيضا، أسماها ثورة التقدميين على طبقة الملكيين، أو الأغنياء السوبر في الولايات المتحدة، لكن المؤلف لم يشرح لنا بالتفصيل ما الانهيار وكيف سيحدث وما هي العوامل التي ستؤدي اليه بصورة علمية، وكل ما فعله الكاتب هو الخوض في التاريخ الأمريكي بدءا من صدور الدستور الأمريكي حتى قيام أوباما بحلف اليمين بعد انتخابه لمرة ثانية، متناولا بالتحليل المطول الذي يتسم بالطابع الحماسي الفاقد للخلفية الاقتصادية السليمة كيف تكونت طبقة الملكيين، وكيف عاثت في الولايات المتحدة فسادا حتى أودت به الى ما يعايشه الاقتصاد الأمريكي في الوقت الحالي، وأن الحال سوف يتطور بهم للإجهاز عليه في 2016.
كما تناول بالتفصيل وطبيعة الأزمات الكبرى التي مر بها الاقتصاد الأمريكي، بصفة خاصة أزمة 1929 وأزمة أسواق المساكن، مؤكدا على أن هذه الأزمات نتجت أساسا من السياسات الاقتصادية الخاطئة التي انتهجتها أمريكا، بصفة خاصة في عصر ريجان الذي قام بخفض الضرائب على الأغنياء، وسياسات آلان جرينسبان الذي قام بتعبئة الوقود الذي انطلقت بسببه الأزمة الحالية، وبأنه في أعقاب انهيار 2016 سوف يتم القضاء على انصار مثل هذه السياسات في الولايات المتحدة بصفة خاصة انصار ميلتون فريدمان وأمثاله من المفكرين الذين نادوا بالتحرر الاقتصادي.  
يربط الكاتب بين فترات الازدهار التي عاصرها الاقتصاد الأمريكي بارتفاع معدلات الضرائب على الأغنياء الملكيين، والذين تمكنوا بعد ذلك من توجيه عمليات صناعة السياسة الاقتصادية وخفض معدلات الضرائب الى حدود دنيا لم تعد تكفي تمويل احتياجات الولايات المتحدة المالية، مقارنة بالعصور الذهبية التي كانت فيه الضرائب مرتفعة والتي مكنت الحكومة من تمويل برامج لتعليم الأمريكيين مثله، بينما اليوم تمثل قروض الطلبة قنبلة موقوته في الولايات المتحدة، ويطالب الكاتب الحكومة الأمريكية بالغاء قروض الطلبة وفي ذات الوقت رفع الضرائب. طوال الكتاب يؤكد الكاتب على الأخطاء التي لا تنسى والمتمثلة فيما فعله رونالد ريجان من تخفيض الضرائب على الأغنياء الأمريكيين والذي تم في إطار ما يعرف بـ Reganomics، وما فعله بيل كلينتون من تكسير لقواعد النظام المالي على يد جرينسبان ليطلق العنان للأغنياء في أن يشاركوا في صنع اكبر أزمة يتعرض لها الاقتصاد الأمريكي والعالم في العصر الحديث بعد أزمة الكساد الكبير في نهاية العشرينيات من القرن الماضي.
يرى الكاتب أن الولايات المتحدة لا بد وان تستعيد نظام ضرائبها المكثف وتعيد رفع الضرائب مرة أخرى لتصل الى معدل حدي يساوي 90%، وبل وأن تمنع الولايات المتحدة فكرة أن يكون هناك شخص بليونير، يمتلك أكثر من مليار لأنه ببساطة لن يتمكن من انفاق هذا المال في حياته أو في حياة أولاده أو في حياة أولاد أولاده، بل وأنه بهذا الشكل يعطل الثروة باحتكارها واكتنازها دون انفاقها ليخلق بذلك الوظائف ويشارك في انتاج السلع والخدمات... وهكذا من الواضح ان فكرة الثروة مشوشة لدى الكاتب وأنها عبارة عن اصول سائلة في البنك، وليست مصانع او عقارات أو غيرها من الأصول المنتجة او الأصول المالية المستخدمة في أصول منتجة. كما يلوم الكاتب بيل كلينتون على أنه سمح بإنشاء منظمة التجارة العالمية، ورفع مستويات المنافسة بين الاقتصاد الأمريكي وغيره من اقتصادات العالم بالشكل الذي ساعد دول مثل الصين بأن تتفوق على الولايات المتحدة وأن تنتقل الوظائف من أمريكا إلى هناك، متناسيا أن هذه قواعد لعبة المنافسة، وأنه لكي تظل الوظائف مستمرة داخل الولايات المتحدة لا بد وأن ترتفع مستويات تنافسيتها في مقابل دول مثل الصين أو حتى كوريا الجنوبية.
كذلك يقترح الكاتب استبدال النظام الرأسمالي الحالي في الولايات المتحدة بنظام آخر أكثر كفاءة من وجهة نظرو وهو النظام هو النظام التعاوني والذي اكتشفه الكاتب أثناء زيارة له إلى ألمانيا عندما استقل تاكسي يتبع مجموعة تعاونية ناجحة في ألمانيا، ليقترح الكاتب استبدال النظام الرأسمالي السيئ بالفعل حاليا بنظام آخر هو أكثر سوءا وفشل في كل الدول التي تبنته كنظام لغياب الحافز على العمل أساسا.
ما أساءني في الكتاب هو أنه من وقت لآخر يؤكد على حتمية الانهيار القادم في 2016، وما يجب أن تقوم به الولايات المتحدة بعد انهيار 2016، وأنا الآن أتخيل موقف القارئ عندما يأتي اليوم الذي تشرق فيه الشمس على الولايات المتحدة في 2016 وكل شيء عادي لا انهيار ولا ثورة، ماذا سيفعل؟ تذكرت هنا موقف الاقتصادي الكبير "روبيني" الذي ملأ الدنيا صراخا وعويلا بانهيار اليونان القادم وكذلك بانهيار اليورو وبأنه مجرد مسألة وقت قبل أن تخرج اليونان من الاتحاد النقدي الأوروبي وينهار اليورو كعملة. من الواضح اليوم أن فصول الأزمة الصعبة تمر، ولم يحدث أن انهارت اليونان بل وما زالت اليونان عضوا في منطقة اليورو، واليورو ما زال عملة قوية متماسكة، بينما ذهبت كل هذه التوقعات أدراج الرياح، ما الذي حدث، التزم روبيني الصمت، ونسيت الناس ما كان يقول. هذا هو ما سيعتمد عليه كاتبنا، فإن تحقق ما يشير إليه فإنه سوق يملأ الدنيا صراخا وعويلا بأنه من تنبأ بانهيار الاقتصاد الأمريكي، وأن الدنيا لم تسمع له على الرغم من أنه كان على صواب.. الخ، وإن لم يتحقق فهو مطمئن بأن الناس تنسى، لكن بعض الناس أمثالي للأسف الشديد لا ينسون.