الأربعاء، أغسطس ٢٩، ٢٠١٢

مصر تلجأ إلى صندوق النقد الدولي 1

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 29/8/2012

تقدمت مصر في أعقاب الثورة بطلب إلى صندوق النقد الدولي لاقتراض 3.8 مليار دولار، غير أنه قبل بدء المفاوضات بين الصندوق ومصر لتمرير القرض أعلنت مصر من جانبها عن تأجيل طلبها للحصول على القرض لاعتبارات عدة. إلا أنه مع اشتداد حدة نقص السيولة من النقد الأجنبي وبدء تراجع معدل صرف الجنيه على نحو مثير للقلق في الأشهر الأخيرة، وتسجيل الميزانية العامة للدولة لعجز تاريخي، قررت الإدارة الحالية المضي قدما في طلب المساعدة، ولكن هذه المرة تم رفع مبلغ القرض إلى 4.8 مليار دولارا. وقد أعلنت كريستين لا جارد أن الصندوق سوف يستجيب بسرعة لطلب مصر، وأن طاقما من الفنيين في الصندوق سوف يتوجه إلى مصر في أوائل سبتمبر القادم لمناقشة الأشكال المختلفة من المساعدة الفنية التي يمكن أن يقدمها الصندوق.  كما أشارت لاجارد إلى إن مصر تواجه تحديات جوهرية أهمها ضرورة استعادة عملية النمو والسيطرة على العجز المزدوج في الميزانية العامة وميزان المدفوعات، كما أكدت على ضرورة فتح المزيد من الوظائف ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم، ونبهت إلى أن عملية رفع مستويات المعيشة للمصريين ليست مهمة سهلة، على الرغم من التوقعات المشروعة للناس في الرفاه والعدالة الاجتماعية.
لقد أثارت زيادة لاجارد لغطا كبيرا، خصوصا من جانب غير المتخصصين، ذلك أن هناك سوء فهم واضح لدور الصندوق كمؤسسة دولية والفرص التي يمكن استغلالها من خلال التعاون معه من جانب الدول التي تواجه مشكلات اقتصادية كمصر، وربما كان ذلك بسبب السمعة السيئة التي تحيط بالصندوق نتيجة فشل بعض الاقتصادات التي تعامل معها مسبقا في حل مشكلاتها الاقتصادية الهيكلية، والتي علقتها حكومات تلك الدول على كاهل الصندوق، دون أن تحمل نفسها مسئولية الفشل في معالجة تلك الاختلالات وانتهاج السياسات الاقتصادية السليمة اللازمة لمعالجة الاختلالات الهيكلية التي تعاني منها، وتتمثل أهم جوانب الاعتراض الأساسي على الساحة المصرية في أن الاقتراض من الصندوق يعزز تبعية مصر للخارج ويفتح السبيل للنيل من استقلال عملية صناعة القرار فيها، وهو أيضا سوء فهم واضح لطبيعة الدور الذي يقوم به الصندوق في الدول التي يساندها اقتصاديا، حيث يتمثل دور الصندوق في تقديم المساعدة  المالية مصحوبة بالمساعدات الفنية في عملية صناعة السياسات الاقتصادية المناسبة للدولة وتطبيقها، والتي يفترض في حالة التطبيق السليم لها أن تؤدي إلى إصلاح الخلل الذي تواجهه الدولة. بالطبع يقوم الصندوق من وقت لآخر بمراجعة مدى التزام الدولة بتطبيق السياسات المتفق عليها بموجب برنامج المساندة، والتي قد تتقاعس بعض الحكومات عن الالتزام بها نظرا لما يحتويه جانب كبير منها من آثار على الفئات ذات الدخول المحدودة، وهو ما يؤثر بصورة واضحة على شعبية الحكومات والقبول السياسي لها في الشارع.
تعتبر تجربة مصر مع صندوق النقد الدولي غير مريحة بالنسبة للكثير من المراقبين، خصوصا وأن جانبا كبيرا منها قد ارتبط بفترات حكم النظام السابق، التي صاحبها العديد من الإخفاقات في الجوانب الاقتصادية التي تزامنت مع التعاون مع الصندوق، ونظرا لغياب  القدرة على انتقاد النظام، فقد ألصقت هذه الإخفاقات ببرامج الصندوق، خصوصا وأنها تضمنت بعض الإجراءات غير الشعبية التي أثرت بشكل سلبي على حياة الكثير من المصريين، مثل تعديل نظام الدعم وخصخصة المشروعات العامة وتنظيم العلاقة الإيجارية بين المالكين والمستأجرين.. الخ، ولقد كانت الصورة السائدة هي أن الجانب الأكبر من المعاناة التي يواجهها المصريون سببها الصندوق لا فشل النظام السابق، ولذلك عندما بدأت الاتصالات مع الصندوق في بداية الثورة، واجهت مثل هذه الاتصالات هجوما كبيرا على أساس أن مصر الثورة لا يجب أن تخضع لتأثير أي جهة في العالم، واستجابة لتلك الدعوات قامت الحكومة السابقة برفض عرض الصندوق بإقراض مصر، نظرا لتصاعد الخلاف بين مجلس الشعب والحكومة حول اللجوء إلى صندوق النقد الدولي.
تنبغي الإشارة إلى أن القروض التي يمنحها الصندوق للدول الأعضاء غالبا ما تكون مصحوبة بخطاب للنوايا Letter of intent يتم صياغته بمساعدة الخبراء الاقتصاديين في الصندوق، والذي تعلن فيه الدول عن حزمة السياسات التي ستطبقها خلال الفترة الزمنية القادمة، وغالبا ما تتناول هذه السياسات ثلاث قضايا بصفة أساسية وهي عجز الميزانية، وعجز ميزان المدفوعات والسياسات المالية التي ستتبعها الدولة، خصوصا ما يتعلق منها بسياسات الدعم وكيفية تسعير السلع والخدمات العامة للدولة وكيف ستتم إدارة عملية تحديد سعر صرف العملة. غير أن المشكلة الأساسية التي تواجهها تلك الدول هي أن اثر سياسات التصحيح على الهيكل الاقتصادي والمالي للدولة سوف يظهر في الأجلين المتوسط والطويل، بينما تظهر الآثار السلبية لتلك السياسات سريعا على الفئات محدودة الدخل في الأجل القصير، وهو ما قد يتسبب في اضطرابات سياسية قد تدفع الدولة إلى إيقاف العمل بالبرنامج أو تأجيل بعض السياسات فيه.
يتمثل الهدف الأساسي من القرض الذي تسعى مصر إليه في رفع درجة سيولة الاقتصاد المصري من النقد الأجنبي، حيث تعاني مصر من أزمة سيولة حادة في الوقت الحالي. فقد فقدت مصر اكثر من نصف احتياطياتها من النقد الأجنبي منذ قيام ثورة 25 يناير حتى اليوم، نتيجة لسداد التزاماتها المالية بالنقد الأجنبي في موعدها، وحتى لا تتوقف مصر عن خدمة ديونها وينخفض تبعا لذلك تصنيف مصر الائتماني، وكذلك نتيجة للدفاع عن الجنيه المصري في سوق النقد الأجنبي من خلال ضخ السيولة اللازمة لاستيفاء احتياجات الطلب على العملات الأجنبية، وقد ظل الجنيه نتيجة لهذه الإجراءات محتفظا بقيمته إلى حد كبير، مقارنة بعملات دول الربيع العربي التي شهدت  تراجعا بصورة حادة نتيجة الثورات بها، وقد كان من المتوقع أن يحدث انخفاضا كبيرا في قيمة الجنيه المصري تحت هذه الظروف.
لذا ينبغي التنبيه إلى أنه إذا استمر استنزاف احتياطيات النقد الأجنبي بالمعدلات الحالية ولم تجد مصر سبيلا لاستعادة احتياطياتها إلى مستويات آمنة فإن الاقتصاد المصري لا محالة مقدم على إعلان الإفلاس، كما أنه من المرجح حدوث انهيار في قيمة الجنيه لتتراجع قيمته بشكل كبير أمام العملات الأجنبية، خصوصا الدولار، وهو ما سيتسبب في حدوث تضخم مرتفع وتراجع في الدخول الحقيقية لعموم الناس، خصوصا ذوي الدخول المحدودة، الذين يشكلون الغالبية العظمى من الشعب المصري.
إن القيمة الحقيقية لقرض صندوق النقد الدولي ليست في حجمه، فهو من الناحية الفعلية اقل بكثير من الاحتياجات المالية الحقيقية لمصر، وإنما في مغزاه والإشارات الإيجابية التي سيرسلها إلى العالم، فقيام مؤسسة دولية مهمة مثل صندوق النقد الدولي بإقراض مصر والدخول معها في مفاوضات حول حزمة السياسات الاقتصادية والمالية اللازمة لمعالجة الأوضاع الاقتصادية السارية، يعد بمثابة شهادة ثقة يمنحها الصندوق للاقتصاد المصري، والتي تمثل في رأيي أهم مزايا الاتفاق، وهذا بلا شك هو أهم ما تحتاج إليه مصر في الوقت الحالي، من اجل طمأنة المستثمرين ولضمان استمرار عودة تدفقات الاستثمارات الأجنبية إليها مرة أخرى، ولتيسير عملية طرح سندات الدين المصري، خصوصا بالعملة الأجنبية، ولتخفيض معدلات العائد التي تدفعها مصر على ديونها بالعملة المحلية والعملات الأجنبية والتي ارتفعت بصورة كبيرة حاليا مع تراجع تصنيف مصر الائتماني دوليا.
في الجزء الثاني من هذا المقال سوف نستعرض، بإذن الله، الملامح المتوقعة لبرنامج المساندة الذي سيتم توقيعه مع الصندوق والمحاذير التي يجب أن تتجنبها مصر في مثل هذا الاتفاق.

الثلاثاء، أغسطس ٢٨، ٢٠١٢

احتياطيات العالم من النقد الأجنبي


نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 24/8/2012

تميل دول العالم اليوم للاحتفاظ بكميات أكبر من النقد الأجنبي مقارنة بما سبق، فقد أصبحت البنوك المركزية أكثر سيولة واقدر على تدبير احتياجاتها من النقد الأجنبي كنسبة من الناتج أو الواردات. غير أن التوزيع الدولي للاحتياطيات من النقد الأجنبي يختلف حول العالم بشكل عام، حيث تتركز الزيادة في احتياطيات النقد الأجنبي في الدول الناشئة والنفطية والنامية بشكل عام، والتي تحتفظ حاليا بحوالي 70% من احتياطيات العالم من النقد الأجنبي، على رأسها الصين. على الجانب الآخر فإن الدول الصناعية الرئيسة في العالم تقتصد حاليا في احتياطياتها من النقد الأجنبي كنسبة من الناتج أو الواردات مقارنة بالوضع السابق، ربما لانخفاض فوائضها التجارية أو نتيجة الضغوط المالية التي تعاني منها هذه الدول حاليا.
الاحتفاظ بقدر كبير من احتياطيات النقد الأجنبي له العديد من المزايا أهمها سهولة تبني نظام لأسعار الصرف الثابتة للعملة الوطنية وذلك لسهولة الدفاع عنها، وتجنب التقلبات العنيفة التي يمكن أن تتعرض لها نتيجة تدفق الاحتياطيات للخارج مثلما حدث في الأزمة الآسيوية في تسعينيات القرن الماضي، ولكن في المقابل فإن الإفراط في الاحتياطيات له تكاليف أيضا، أهمها ما يسمى بتكلفة الفرصة البديلة للاحتفاظ بهذه الاحتياطيات في صورة سائلة بدلا من استخدامها في تمويل الاستهلاك المحلي أو الاستثمار ودفع معدلات النمو.
على الرغم من هذا النمو الكبير في الاحتياطيات الدولية من النقد الأجنبي، إلا أن مصادر القلق التي تحيط بهذه الاحتياطيات متعددة، والتي تنشأ أساسا من تركز هذه الاحتياطيات في الدولار الأمريكي (حوالي 62% حاليا)، هذا التركز في عملة واحدة يحمل معه مخاطر عديدة، خصوصا عندما تكون هذه العملة غير مستقرة، مثلما هو الدولار حاليا. فمع أي انخفاض في قيمة الدولار تميل القيمة الحقيقية لهذه الاحتياطيات نحو التراجع، من ناحية أخرى فإن هذا التركز في الاحتياطيات في عملة واحدة يحمل مخاطر كامنة في أن يقوم أي محتفظ رئيس بالاحتياطيات مثل الصين، بالتأثير على قيمة الدولار على المستوى الدولي، حيث أنه من الممكن أن توجه الصين هذا السلاح ضد أمريكا في أي وقت من خلال التصرف في هذه الاحتياطيات على نحو يضر بقيمة الدولار، أما من خلال رفعه أكثر من اللازم أو خفضه أكثر من اللازم، وهو ما أسمته وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري، كلينتون أثناء الانتخابات الأمريكية السابقة، "الخيار النووي الصيني" ضد الاقتصاد الأمريكي، في إشارة إلى المخاطر الضخمة التي يمكن أن تسببها الصين للدولار الأمريكي خلال احتفاظها بهذا القدر الهائل من الاحتياطيات الدولارية. غير أن هذا الوضع يعد أيضا غير مريح للصين، فاحتفاظها بهذا القدر الكبير من الاحتياطيات السائلة يجعلها رهينة التطورات التي تحدث للدولار. تركز الاحتياطيات الدولية لدولة رئيسه في العالم في عملة واحدة هو إذن سلاح ذو حدين.
لكي تدخل عملة ما سلة عملات الاحتياطيات الدولية فلا بد وان تتصف بصفتين أساسيتين وهما السيولة وعمق سوق النقد الخاص بها، ومن ثم فلا يكفي أن تكون الدولة صاحبة العملة المرشحة لأن تكون عملة احتياط دولية قوية اقتصاديا، فهذا شرط لاستقرار العملة، ولكن استقرار قيمة العملة ليس شرطا كافيا لصلاحية العملة لأن تكون عملة احتياط، على سبيل المثال فإن الوضع الاقتصادي القوي والمستقر لدول مثل النرويج وسويسرا وكندا وأستراليا لم يمكن عملاتها بأن تحتل وضعا ذا أهمية على المستوى الدولي في سلة احتياطيات العالم من النقد الأجنبي. من ناحية أخرى فإن أهم عملتين في سلة الاحتياطيات الدولية من النقد الأجنبي وهما الدولار واليورو، هما أكثر عملات العالم تقلبا، والمخاطر المصاحبة للاحتفاظ باحتياطيات دولية ضخمة من هاتين العملتين، تعد كبيرة، ومع ذلك فإن سيولة هاتين العملتين وعمق أسواق النقد لهما مكنتهما من أن يحتلا المراكز الأولى في سلة احتياطيات العالم من النقد الأجنبي (حوالي 88% من احتياطيات العالم بالنقد الأجنبي).
تتمتع الدولة صاحبة العملة الرئيسة في الاحتياطيات الدولية مثل أمريكا بميزة غير عادلة مقارنة بدول العالم الأخرى، خصوصا فيما يتعلق بقدرتها على إصدار أدوات دين تتجاوز الحدود الآمنة دوليا، فضلا عن قدرتها على طباعة المزيد من عملتها دون أن يصاحب ذلك آثارا كبيرة على المستوى الكلي بها، على سبيل المثال يمكن هذا الوضع المتميز أمريكا من أن تمطر العالم بمئات المليارات من الدولارات المطبوعة بدون أن يصاحب ذلك تلك الآثار المتوقعة بين النمو في عرض النقود والتضخم، ذلك أن جانبا كبيرا من هذه النقود الإضافية سوف يتم تداوله والاحتفاظ به خارج الولايات المتحدة. من ناحية أخرى فإن مثل هذا الوضع المتميز يمكن الولايات المتحدة من أن تتجاوز القيود المالية المفروضة عليها وتحتفظ بعجز كبير في ميزان مدفوعاتها وكذلك في ميزانيتها العامة، في الوقت الذي يمكن أن تتمتع فيه بدين عام كبير وبتكاليف تعد محدودة نسبيا مقارنة بباقي دول العالم، حيث أن الطلب على سندات الدين الأمريكية شبه مضمون نظرا للوضع المتميز الذي يحتله الدولار على النطاق العالمي، ولقد مكن هذا الوضع أمريكا من أن تتجاوز كافة الحدود الآمنة لدينها العام بالنسبة للناتج، فقد بلغ الدين الأمريكي أعلى مستوياته إلى الناتج على الإطلاق (122%) في أربعينيات القرن الماضي، كما يتجاوز الدين الأمريكي في الوقت الحالي 15 تريليون دولارا، وهو مستوى فلكي لم تقترضه الحكومة الأمريكية في تاريخها. أكثر من ذلك يمكن هذا الوضع المتميز أمريكا من ألا تخشى من احتمال التوقف عن السداد أو الإفلاس، لأن ماكينات طباعة الدولار يمكن أن تجنب الولايات المتحدة مثل هذه المخاطر، وإن كانت أمريكا لا تفعل ذلك على نحو متعمد أو لا تغرق العالم بالدولار لأنها حريصة في ذات الوقت على هذا المركز العالمي للدولار.
هذا الوضع الحرج للاحتياطيات العالمية من الدولار يطرح سؤالا في غاية الأهمية، ما هو البديل؟ الإجابة هي أنه من الناحية النظرية قدمت بدائل كثيرة للدولار الأمريكي في سلة الاحتياطيات الدولية من النقد الأجنبي، غير أنه من الناحية العملية فإن كافة هذه البدائل لا تتوافر فيها المقومات التي يتمتع بها الدولار كعملة احتياط عالمية، لسبب رئيس وهي أن هذه البدائل لا تتمتع بهذا القدر من السيولة الذي يتمتع به الدولار الأمريكي من حيث عمق سوق الدين قصير الأجل وسهولة التخلص من السندات الأمريكية قصيرة الأجل بالسرعة المناسبة وبدون أن يؤثر ذلك على أسعار هذه السندات أو معدلات العائد عليها بصورة جوهرية. بالطبع يمكن تصور حدوث مثل هذا التأثير الجوهري عندما يقوم العالم كله وفي نفس اللحظة بالتخلص من أدوات الدين الأمريكي قصير الأجل، لكن ذلك السيناريو غير متوقع في الظروف العادية، فلا بد وان تحدث كارثة ضخمة للاقتصاد الأمريكي حتى تقدم دول العالم على مثل هذا الإجراء، وفيما عدا ذلك فإن الكميات التي يتم تداولها من الدين الأمريكي قصير الأجل يوميا تعد في الحدود الآمنة لكل من الولايات المتحدة وللدول التي تحتفظ باحتياطيات ضخمة من الدولار.
لقد اقترح العالم الكثير من البدائل للدولار، منها "البانكور" وهي عملة دولية اقترح الاقتصادي الشهير جون ماينارد كينز إنشاءها في أربعينيات القرن الماضي لتستخدم في اطار اتحاد نقدي دولي، وذلك لأغراض المقاصة في المعاملات النقدية الدولية ولتحل محل الذهب كأصل احتياطي للتغلب على مشكلة نقص الذهب في ذلك الوقت، وكذلك لتجنب استخدام الدولار الأمريكي كأساس للنظام النقدي الدولي بدلا من الذهب. كذلك طرح صندوق النقد الدولي "حقوق السحب الخاصة" باعتبارها بديل غير تضخمي للدولار في الاحتياطيات الدولية، كذلك طالب بعض الاقتصاديين مثل روبرت مونديل أن يقوم صندوق النقد الدولي بإصدار كميات ضخمة من حقوق السحب الخاصة تصل إلى تريليون دولارا، لتستخدم كعملة احتياط دولية بدلا من الدولار.
غير أنه من الناحية التاريخية فإن العملات متعددة الأطراف مثل حقوق السحب الخاصة لم تلق هذا القبول أو شيوع الاستخدام على النطاق الدولي كما كان متوقعا، وظل دور هذه العملة الاحتياطية الدولية هامشيا للغاية، على الرغم من الآمال الواسعة التي علقت عليها عند إنشاءها في نهاية ستينيات القرن الماضي، أو حتى عندما قرر صندوق النقد الدولي إصدار كميات جوهرية منها منذ سنوات قليلة، فقد ظل دور حقوق السحب الخاصة في سلة العملات الاحتياطية الدولية محدودا بشكل كبير، وحتى يظهر في العالم منافس قوي للدولار، سوف يستمر الدولار الأمريكي متربعا عرش احتياطيات النقد الأجنبي في البنوك المركزية للعالم وسوف تظل احتياطيات العالم من النقد الأجنبي عرضة لمخاطر تقلبات الدولار على المستوى الدولي.

الأربعاء، أغسطس ٢٢، ٢٠١٢

لماذا كل هذا الحرص على استمرار اليورو؟

 

منذ فترة طويلة وهناك حديث عن نهاية اليورو كعملة موحدة مع نشوء أزمة اليونان ودخول دول مثل إيرلندا والبرتغال على الخط، غير أنه مع ارتفاع الضغوط على منطقة اليورو من جهة إيطاليا وإسبانيا تزايد الحديث عن أن نهاية اليورو مسألة وقت، واعتقد الكثير من المراقبين أنه أصبح من المحتم على دول منطقة اليورو البحث في العودة إلى عملاتها الوطنية التي كانت تستخدمها قبل الانضمام إلى الاتحاد النقدي، وذلك حتى تتمكن من أن تستعيد سياسات النقد الأجنبي الخاصة التي تتناسب مع أوضاعها الاقتصادية الخاصة، والتي من الممكن أن تختلف عن أوضاع باقي الأعضاء وحتى لا تضطر إلى استمرار الانضواء تحت البنك المركزي الموحد وسياساته النقدية التي ترسم أساسا لكي تتوائم مع الأوضاع العامة للغالبية العظمى من الدول الأعضاء أو الاقتصادات الكبرى فيه.
غير أنه ومنذ بداية أزمة منطقة اليورو كان هناك حرصا شديدا، على الأقل من الدول الكبرى في التكتل مثل ألمانيا وفرنسا، على استمرار بقاء دول مثل اليونان وإيرلندا داخل المنطقة حتى لا يسقط اليورو. من الناحية النظرية يفترض أن الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي سوف تحقق الكثير من المزايا باستمرار اليورو، فبالإضافة إلى المزايا المتعارف عليها للاتحاد النقدي، فإن الأزمة قد أثبتت أن الدول الضعيفة يمكنها أيضا تحقيق مزايا إضافية أهمها المساندة المالية من باقي الدول، مثلما حدث مع اليونان وإيرلندا، فضلا عن أنه من المفترض أن هذه الدول ستتمكن من الحصول على احتياجاتها التمويلية بمعدلات فائدة منخفضة قد لا تتناسب مع مستويات المخاطرة الحقيقية التي تتعرض لها لسهولة وصولها إلى النظم المصرفية للدول الأعضاء في المنطقة بحكم استخدامها جميعا لنفس العملة.
غير أنه مع اشتداد أزمة بعض الدول الكبرى، مثل إسبانيا وإيطاليا، فإن الأسواق تتمكن من تقيم المخاطر بصورة واقعية، إلى الحد الذي لم يمنع الدول الأعضاء في التكتل من أن تواجه ارتفاعا كبيرا في معدلات العائد الذي تدفعه على سنداتها بالصورة التي تجعل من ديونها السيادية أمر غير مستدام تحت أي سيناريو للمالية العامة في هذه الدول، على سبيل المثال لم يشفع لليونان عضويتها في اليورو من أن تدفع معدلات عائد خيالية على سنداتها. بل إن بعض المراقبين يرون أن معدلات الفائدة الفعلية التي تدفعها دولة مثل اليونان تعد في الواقع أعلى بكثير مما كان من الممكن أن تدفعه لو كانت هذه الدولة خارج الاتحاد النقدي، وذلك نتيجة القيود على قدرتها على التعامل مع أزمتها بسبب كونها عضو في العملة الموحدة، وهو ما يعني أن وجود مثل هذه الدولة داخل الاتحاد كان أمرا مكلفا لها من الناحية المالية.
أحد الحقائق الأساسية عن الدول الأعضاء في اليورو أنهم ليسوا جميعا على نفس المستوى من التنافسية، فهناك دول ترتفع مستويات تنافسيتها  بصورة واضحة مثل ألمانيا، في الوقت الذي تنخفض فيه تنافسية البعض الآخر مثل اليونان، هذا الانخفاض في التنافسية جزء منه كامن بسبب الطبيعة الهيكلية لاقتصاد مثل هذه الدولة، والجزء الآخر ناتج عن عضوية دولة مثل اليونان في اليورو، حيث يترتب على العضوية في العملة الموحدة انقطاع فرص تحسين التنافسية من خلال فقدان السيطرة على السياسات الاقتصادية المحلية مثل تخفيض قيمة العملة، ليبقى الحل أمام مثل هذه الدول يتمثل فيما يسمى بالتخفيض الداخلي، Internal devaluation، غير أن التخفيض الداخلي يقتضي ضرورة تحمل الدولة لمعدل مرتفع من البطالة ولمدى زمني طويل (حتى تنخفض الأجور الحقيقية بصورة مناسبة)، ومن ثم لا بد وأن تعاني هذه الدول لمعدلات نمو سالب لفترة زمنية طويلة.
بالطبع كان من المفترض في البداية أن تكون عضوية الدول في اليورو انتقائية، بحيث يتم رفض انضمام بعض الأعضاء من البداية مثل اليونان والبرتغال وإيرلندا، فقد كان من الأفضل للاتحاد النقدي الأوروبي ألا يتم ضم هذه الدول وأن يظل صغيرا باقتصادات أقوى. اذا كان الوضع كذلك فإن السؤال الملح هو، لماذا يحرص الاتحاد الأوربي على بقاء دولة مثل اليونان على الرغم من مشكلاتها المستعصية على الحل ضمن العملة الموحدة؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تصبح أكثر وضوحا عندما نستعرض السيناريوهات التي تترتب على الخروج بالنسبة للدول الكبرى في التكتل مثل ألمانيا، ذلك أن اثر الخروج لا يقتصر على الدولة التي ستخرج من العملة الموحدة، وإنما سيمتد ليشمل كافية الدول الأعضاء في الاتحاد، حيث ستتزعزع الثقة في المنطقة بأكملها، وستتأثر الأسواق من احتمال أن يحدث انكسار فيها، وهو ما قد يدفع المستثمرين إلى محاولة التخلص من استثماراتهم المالية في المنطقة.
فعندما تخرج دولة مثل إسبانيا من اليورو سوف يترتب على ذلك تأثر البنوك الأوروبية التي قامت باستثمارات ضخمة فيها، ومن ثم فإن خروج هذه الدولة من اليورو سوف يعني تعرض هذه المؤسسات لخسائر ضخمة، وهو ما يمكن أن يعمق من أزمة الائتمان داخل المنطقة. أكثر من ذلك فإن انهيار النظام المصرفي في أي من الدول المدينة مثل إسبانيا سوف يؤدي إلى آثار كارثية على البنوك الأوروبية الأخرى، وكذلك على المؤسسات المالية المرتبطة بهذا النظام المصرفي، ومن ثم فإن أول ضحايا هذا السيناريو هو فقدان الثقة داخل النظام المالي الأوروبي، وهو ما سوف يترتب عليه انخفاض في مستويات الائتمان في المنطقة وتعقد أوضاعها الاقتصادية بالتبعية.
بالطبع الدول الكبرى في المنطقة مثل ألمانيا وفرنسا غالبا ما تكون حريصة على بنوكها ومؤسساتها المالية نظرا لعظم المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها في حال تدهور أوضاع هذه المؤسسات، ومن ثم فإنها تستمر في غض النظر عن الأوضاع السائدة في الدول المضطربة لضمان استمرار اليورو وذلك لتجنب التداعيات الاقتصادية عليها، بصفة خاصة انتقال الآثار المالية إلى القطاع الحقيقي فينخفض الناتج المحلي بشكل كبير، ومن ثم تنتشر البطالة على نحو واسع وبصورة أكبر مما تشهده حاليا.
في حال انهيار اليورو أو لجوء الدول إلى الخروج من العملة الموحدة، فإن السيناريو المتصور هو أن احتمالات الخروج الجماعي سوف تكون محدودة، حيث من المتوقع أن تتم عملية الخروج دولة دولة بدء من الدول التي لا تستطيع خدمة ديونها السيادية مثل اليونان أو البرتغال، بينما ستظل الدول الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا في المنطقة، ومن ثم من المتوقع أن تحدث عملية انتقال هائل من رؤوس الأموال من الدول الضعيفة ماليا، والمرتفعة المخاطر إلى الدول الأكثر استقرارا وقوة من الناحية المالية، وهو ما سيؤدي إلى التأثير السلبي على قدرة البنوك التجارية في دول الأزمة على الإقراض، الأمر الذي يعقد من المشكلة الاقتصادية فيها، أكثر من ذلك سوف تتم عملية بيع ضخمة لسندات الدول الضعيفة الأمر الذي يزيد الضغوط على أسواق المال في منطقة اليورو.
معنى ذلك أن خروج الدول الضعيفة ربما يفيد المراكز الكبرى في الاتحاد مثل ألمانيا التي ستستقبل كميات هائلة من رؤوس الأموال والمدخرات، وسوف تتلقى بنوكها كميات كبيرة من المودعات من باقي مناطق الاتحاد، وبالطبع ربما يختار أصحاب المدخرات مناطق أخرى أكثر أمانا من منطقة اليورو مثل الانتقال إلى الولايات المتحدة، أو التحول إلى عملات اكثر استقرارا مثل الدولار، ولكن مثل هذه الفوائد القصيرة الأمد لا تقارن بالتكلفة التي يمكن أن تتحملها الدول الكبرى نتيجة انتشار الكساد وارتفاع معدلات البطالة في أنحاء أوروبا وتراجع معدلات النمو بها.
باختصار فإن الأثار التي يمكن أن تترتب على انهيار اليورو بلا شك رهيبة على المستوى الأوروبي والدولي، وسوف يكون تأثيرها أكبر بكثير من تأثير انهيار المؤسسات المالية التي أدت إلى اندلاع الأزمة مثل بنك ليمان براذرز، ولذلك تستمر الدول الكبرى في الاتحاد النقدي الأوروبي في الإصرار على استمراره.


هل هو تراجع مزدوج أوروبي؟

من الواضح أن تداعيات أزمة الديون السيادية الأوروبية تؤثر بشكل واضح على اتجاهات وأفاق النمو في الاتحاد الأوروبي بأكمله، وفي منطقة اليورو على نحو خاص. فقد ترتب على الأزمة تذبذبا واضحا في معدلات النمو للناتج، حيث يواجه الإنفاق الكلي، بصفة خاصة الاستثماري، تراجعها واضحا بسبب حالة عدم التأكد التي تعاني منها المنطقة بشكل عام.
يقيس النمو في الناتج المحلي الإجمالي الزيادة في قيمة السلع والخدمات التي يتم إنتاجها بواسطة اقتصاد ما، أو منطقة اقتصادية، وغالبا ما يتم حساب هذا النمو من خلال التعديل بالتضخم، وذلك بغية التخلص من تأثير التغير في الأسعار على بيانات الناتج المحلي الإجمالي، حتى تبدو الصورة واضحة بصورة أكبر حول حجم النمو الحقيقي في قيمة السلع والخدمات التي يتم إنتاجها في الاقتصاد.
منذ عدة أيام تم الإعلان عن نتائج النمو في الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو في الربع الثاني من هذا العام، وقد جاءت النتائج للأسف الشديد، كما هو متوقع، مخيبة للآمال، فقد تراجع النمو في الناتج في منطقة اليورو بمعدل 0.2% مقارنة بالربع الأول. كذلك تراجع النمو في الاتحاد الأوروبي (27 دولة) بمعدل 0.2%. تعد منطقة اليورو والتي تتكون من 17 دولة هي النمسا وإستونيا وألمانيا وإسبانيا وأيسلندا وإيطاليا وبلجيكا وقبرص وفنلندا وفرنسا واليونان ولوكسمبورج ومالطا وهولندا والبرتغال وسلوفاكيا وسلوفينيا ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، ومن بين هذه الدول يعد الاقتصاد الألماني أكبر اقتصاداتها بشكل عام، ولذلك يطلق عليه الاقتصاد المفتاح بالنسبة لمنطقة اليورو Key Economy، يليه الاقتصاد الفرنسي ثم الإيطالي فالإسباني. هذه الدول الأربع الكبرى في منطقة اليورو تواجه صعوبات واضحة في النمو الحقيقي في الفترة الأخيرة، فالواقع أن تراجع النمو في الربع الثاني من هذا العام لم يكن الأول، ففي الربع الرابع من العام الماضي تراجع النمو في منطقة اليورو بنسبة 0.3%، بينما لم تحقق المنطقة أي نمو على الإطلاق في الربع الأول من هذا العام. الأسوأ من ذلك أنه من المتوقع أن يستمر هذا الاتجاه حتى نهاية العام على الأقل. فالعديد من دول أوروبا غارق في سياسات التقشف التي تنعكس بصورة واضحة على آفاق النمو في المستقبل.
الاقتصاد الرئيس في المنطقة، ألمانيا، حقق نموا أفضل مما كان متوقعا، حيث كانت السيناريوهات تدور حول احتمال ألا يزيد النمو في الاقتصاد الألماني عن 0.2%، بينما لم تحقق فرنسا أي نمو، وهو على الرغم من ذلك كان أفضل من النمو المتوقع والذي كان مقدرا بسالب 0.1%. باقي الاقتصاديات الكبرى في المنطقة تراجع معدل النمو بها، فقد تراجع الناتج في إسبانيا بمعدل 0.4% وفي إيطاليا بمعدل 0.7% وفي البرتغال، التي يتراجع النمو فيها بشكل مستمر منذ سنتين، تراجع النمو فيها بنسبة 1.2%، وقد كان من المتوقع أن يقتصر التراجع في النمو على 0.7%، وبالطبع ليس من المستغرب أن تكون أكبر معدلات التراجع في حالة الاقتصاد اليوناني الذي تراجع النمو فيه بنسبة 6.2%، اكثر من ذلك فإن الاقتصادات القوية في الشمال مثل فنلندا تراجع النمو فيه بنسبة 1%. باقي الاقتصادات الهامشية في المنطقة حققت إما نموا سالبا، أو نمو ضعيف بشكل عام، وحتى لو حققت هذه الدول معدلات نمو جوهرية، فإن تأثيرها العام على النمو في المنطقة يعد محدودا.
يلعب النمو الألماني بالطبع دورا هاما في نمو منطقة اليورو بشكل عام، وفي الكثير من الأحيان من الممكن أن يعوض التراجع الذي يحدث في نمو باقي الاقتصاديات في المنطقة، غير أن ضعف النمو الألماني في الفترة الأخيرة لم يساعد على تعويض التراجع في الكثير من اقتصاديات المنطقة، ونتيجة لذلك تراجع النمو في منطقة اليورو بنسبة 0.2%، ويتوقع أن يستمر النمو موجبا في ألمانيا بمعدلات هامشية في الجزء المتبقي من السنة مدفوعا بالإنفاق الاستهلاكي الخاص. فمعدلات البطالة في ألمانيا منخفضة جدا حاليا والتي بلغت 6.8% في شهر يوليو، وهو المعدل الأدنى منذ حوالي 20 عاما في ألمانيا، ومع تزايد مستويات الأجور فقد مهد ذلك إلى نمو الإنفاق الاستهلاكي الخاص، ومن ثم الإنفاق الكلي.
المشكلة الأساسية هي أن الأوضاع المتردية للاقتصاد الأوروبي تؤثر بشكل واضح على الاقتصاد الألماني، بصفة خاصة على الطلب على الصادرات الألمانية الذي يتراجع حاليا، حيث تمثل صادرات ألمانيا إلى دول الاتحاد الأوروبي ثلث الصادرات الألمانية، بين يتجه ثلثي الصادرات خارج دول الاتحاد الأوروبي، والواقع أن هذا النمو المتواضع في الاقتصاد الألماني كان حصيلة النمو في الإنفاق الاستهلاكي وصافي الصادرات خارج أوروبا. من ناحية أخرى يشهد انفاق الشركات الاستثماري تراجعا واضحا، فعلى الرغم من شروط الإقراض المناسبة فإن خطط الاستثمار لقطاع الأعمال تم تأجيلها في ظل مناخ عدم التأكد السائد حاليا حول الأوضاع الاقتصادية المستقبلية في ألمانيا والمنطقة. 
من ناحية أخرى فإن هناك توقعات بأن يستمر النمو الألماني ضعيفا في الربع الثالث من 2012، على الرغم من انخفاض معدل البطالة، وانخفاض معدل التضخم، وارتفاع الأجور، ذلك أن نتائج المسوحات المختلفة التي تم أجراءها تشير إلى أن النظرة ما زالت سلبية حول آفاق النشاط الاقتصادي الذي ربما يكون ضعيفا في الأشهر القادمة، أكثر من ذلك فإن تراجع حجم التجارة العالمية بصفة خاصة بالنسبة لآسيا يضيف المزيد من الضغوط على النمو الألماني.
من العوامل التي ساعدت على تدهور النمو في منطقة اليورو بشكل عام تراجع النمو في الاقتصاد الإيطالي، والذي بلغ 2.5% مقارنة بالربع الثاني من العام الماضي، كذلك شهد الإنتاج الصناعي في يونيو الماضي تراجعا بنسبة 1.4% مقارنة بالشهر السابق، وفي الربع السابق تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 1.8%، وهذا هو الربع الرابع الذي يتراجع فيه الناتج في إيطاليا على نحو مستمر، أكثر من ذلك تتوقع الحكومة الإيطالية أن يحقق الاقتصاد الإيطالي تراجعا هذا العام بنسبة 1.2%، في ظل معدل للبطالة يصل إلى 11% حاليا.
حاليا يشهد الإنتاج الصناعي الشهري في منطقة اليورو تراجعا في الجانب الأكبر من المنطقة، فقد انخفض الإنتاج الصناعي بنسبة 0.6% في يونيو، وفي الربع الثاني من العام تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 0.5%، وينتظر استمرار التراجع في الربع الثالث. هذه الصورة القاتمة حول اتجاهات النمو في منطقة اليورو وفي الاتحاد الأوروبي بشكل عام تضيف المزيد من التعقيدات على اتجاهات النمو الاقتصادي العالمي، حيث يواجه النمو في الاقتصادات الرئيسة في العالم، بما في ذلك الصين، صعوبات واضحة، على سبيل المثال لم يتجاوز معدل النمو في الربع الثاني من هذا العام في الولايات المتحدة 0.4% وفي اليابان 0.3%.
ولكن هل هذه مقدمة لتراجع مزدوج يشهده الاقتصاد الأوروبي المثقل بالديون، بعض المراقبين يرون أن أوروبا في طريقها إلى التراجع المزدوج، فالنمو في الاقتصاد المفتاح في منطقة اليورو ضعيف ويواجه مشكلات ضخمة وآفاقه ليست مبشرة، وتراجع النمو في الاقتصادات الكبرى في جنوب أوروبا مستمر، ولهذا يؤكدون على أن أوربا ستدخل لا محالة مرحلة التراجع المزدوج. شخصيا لا أستطيع التأكيد على احتمال تحقق ذلك، حيث أفضل دائما ألا أستبق الأحداث وأن أرى الأرقام على أرض الواقع حتى يمكن التأكد من هذا الاحتمال من عدمه. فمن غير المؤكد، حتى الآن، أن الاقتصاد الألماني سوف يشهد استمرار تراجع النمو فيه في الفترة القادمة، على الرغم من الإشارات المتناقضة حول اتجاهات هذا النمو، وبما أن الاقتصاد الألماني يمثل قاطرة النمو في منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي بشكل عام، فإن الأمر سوف يعتمد بشكل أساسي حول اتجاهات النمو في هذا الاقتصاد. الإنفاق الكلي في الاقتصاد الألماني يتزايد، كما سبقت الإشارة، مدفوعا بالانفاق الاستهلاكي الخاص، وهو ما قد يحد من احتمالات أن تشهد منطقة اليورو تراجعا مزدوجا
وأخيرا، وبمناسبة حلول عيد الفطر المبارك، أدعو الله للجميع بأن يتقبل منهم صالح أعمالهم وأن يعيده الله على الأمة الإسلامية باليمن والبركات، وكل عام وأنتم بخير.

التعليم وتوقع الحياة

توقع الحياة هو متوسط عدد السنوات المتوقع أن يقضيها الفرد على قيد الحياة عند ولادته، ومثل هذه التوقع يختلف بصورة كبيرة بين الدول حسب مستوى النمو بشكل عام، فكلما ارتفعت مستويات النمو في الدولة ارتفع معها توقع الحياة بشكل عام والعكس، أيضا من بين العوامل التي تحدد توقع الحياة بالنسبة للفرد جنسه، أي فيما إذا كان ذكرا أم أنثى، ووضعه الاجتماعي، ومستوى دخله، ودخل الأسرة التي نشأ فيها، والفرص التي تتاح للفرد... إلخ. فمن المعروف أن هناك فروقا في توقع الحياة حسب الجنس، حيث تميل الإناث إلى البقاء على قيد الحياة لفترة أطول من الذكور في المتوسط، ويعد توقع الحياة ثمرة العديد من العوامل أهم هذه العوامل هو التنمية، فمع استمرار جهود التنمية تتحسن طبيعة معيشة الأفراد وتتحسن الخدمات والتسهيلات المتاحة لهم وهو ما ينعكس على ارتفاع توقع الحياة.
يتحسن توقع الحياة بمرور الوقت بشكل عام، بمعنى آخر أن توقع الحياة للشخص الذي يولد اليوم أفضل من توقع الحياة للشخص الذي ولد في منتصف القرن الماضي، على سبيل المثال في عام 1950 كان توقع الحياة للفرد في السعودية عند الولادة هو 40.5 عاما، أي أنه كان من المتوقع للفرد السعودي عند ولادته في ذلك الوقت أي يظل على قيد الحياة هذا العدد من السنوات فقط، اليوم ارتفع هذا التوقع إلى 73.1 عاما، بمعنى أن من يولد اليوم في المملكة يتوقع له أن يظل على قيد الحياة لمدة 73 عاما في المتوسط، ولا شك أن هذا الارتفاع هو ثمرة عوامل عديدة أهمها ارتفاع مستويات الدخول وتحسن الخدمات الصحية المقدمة للفرد.
متى تم قياس توقع الحياة في بلد أو إقليم ما، فلا بد أن يفهم على أنه متوسط، أي أنه ليس بالضرورة أن كل شخص يعيش في هذا البلد أو هذا الإقليم لا بد أن يعيش هذا العدد من السنوات، فالكثيرون يموتون قبل بلوغهم هذا المتوسط، والكثيرون أيضا يبقون بعد بلوغ هذه المتوسط من العمر. على سبيل المثال إذا كان توقع الحياة في دولة ما هو 70 عاما، فإن ذلك يعني أنه في المتوسط يتوقع أن يعيش من يولد اليوم في هذه الدولة لمدة 70 عاما، ولكن هذا لا يعني أن شخصا بعينه، سوف يعيش هذا القدر من العمر، فقد يموت قبل ذلك أو بعد ذلك، ولكننا نقول إنه في المتوسط من يولد اليوم يتوقع (في المتوسط) أن يعيش 70 عاما، وإذا كان الوضع كذلك، فإنه إذا توفي شخص ما في هذه الدولة عند سن 45 عاما، في هذه الحالة نقول إنه فقد 25 عاما من عمره المفترض أن يحياه وفقا للمتوسط الذي يحياه الناس في الدولة، أما إذا بقي على قيد الحياة عند سن 75 عاما، فإننا نقول إن هذا الشخص ظل على قيد الحياة 5 سنوات أطول من توقع الحياة في الدولة الوقت الحالي.
أجريت العديد من الدراسات على محددات توقع الحياة، وذلك من خلال تحليل الخصائص الديموغرافية والاجتماعية والداخلية والتعليمية... إلخ، للأشخاص المتوفين عبر الزمن، وقد توصلت هذه الدراسات إلى علاقات عدة للارتباط مع توقع الحياة، من الدراسات التي يتزايد الاهتمام بها حاليا في العديد من دول العالم، بصفة خاصة دول العالم المتقدم، هو اختبار العلاقة بين توقع الحياة ومستوى تعليم السكان، حيث توصلت هذه الدراسات إلى أن توقع الحياة يكون أكبر بالنسبة للأشخاص الحاصلين على مستويات أفضل من التعليم، حيث يتمتع السكان الحاصلون على تعليم جيد بشكل عام بسنوات عمر أطول، هذا ما تثبته الدراسات التطبيقية في العديد من دول العالم سواء المتقدم أو النامي. أكثر من ذلك فقد توصلت الدراسات إلى أنه من بين مستويات التعليم يتمتع حملة التعليم العالي بسنوات حياة أطول مقارنة بالحاصلين على الثانوية العامة أو المستويات التعليمية الأقل. ففي دراسة لجامعة هارفارد أشارت النتائج إلى أن الشخص الذي يصل عمره إلى 25 عاما في 1990 وحصل على تعليم لمدة 12 عاما أو أقل يتوقع أن يبقى على قيد الحياة حتى سن 75 عاما، من ناحية أخرى فإن الشخص في العمر ذاته والحاصل على تعليم جامعي، يتوقع أن يمتد به العمر إلى سن 80 عاما.
في دراسة حديثة عن الولايات المتحدة توصلت إلى أن التعليم العالي يضيف في المتوسط أكثر من عشر سنوات لتوقع حياة الإنسان، أي أن الإنفاق على التعليم العالي يعطي عوائد عدة من بينها ارتفاع توقع الحياة للشخص مقارنة بحملة التعليم أقل من الجامعي، بالطبع هناك فروق في توقع الحياة بين الإناث والذكور وبين البيض وغير البيض والأمريكيين من أصول أوروبية وغيرهم من أصول أخرى لاتينية أو أفريقية، هذه كلها تنعكس في فروق توقع الحياة، غير أن الدارسة توصلت إلى حملة التعليم العالي من الذكور البيض يعيشون 12.9 سنة أكثر، ومن الإناث يعيشون 10.4 سنة أكثر، بينما يقل عدد السنوات بالنسبة للأشخاص من ذوي الأصول اللاتينية والأمريكان من أصل إفريقي، ولذلك أخذ بعض الكتاب في الولايات المتحدة أخذ في تفسير الفروق بين توقع الحياة للمجموعات المختلفة باستخدام الفجوة التعليمية، فطالما أن الفجوة التعليمية بين الأجناس المختلفة في الولايات المتحدة قائمة ومستمرة، تظل هذه الفروق في توقع الحياة بين الفئات الإثنية المختلفة قائمة.
ولكن لماذا يؤدي ارتفاع المستوى التعليمي للفرد إلى ارتفاع توقع الحياة بالنسبة له؟ تشير الدراسات إلى أنه على الرغم من التأكيد على هذا الرابط بين التعليم وتوقع الحياة إلا أنه ليس من السهل بشكل عام تفسيره، ولا يفهم الكثيرون هذا الرابط بين التعليم والتوقع العمري للإنسان، ولكن بعض التفسيرات لمثل هذا الرابط تتمثل في أن التعليم يترتب عليه تغير السلوك الصحي للأفراد، فالأشخاص الذين يحصلون على تعليم أفضل يتحسن سلوكهم الصحي وتنخفض نتيجة لذلك المخاطر الصحية المصاحبة لسلوكياتهم بشكل عام، حيث من المتوقع أن يقل إقبال هؤلاء على التدخين مثلا أو إدمان الكحوليات، كذلك فإن الأفراد ذوي التعليم الأدنى أو غير الحاصلين على التعليم العالي غالبا ما يفشلون في الإقلاع عن التدخين، وتشير الدراسات عن مسببات الوفاة في الدول المتقدمة، على سبيل المثال في الولايات المتحدة، إلى أن التدخين وإدمان المشروبات الروحية وارتفاع مستويات الكوليسترول وارتفاع ضغط الدم والسمنة أهم العوامل التي تؤدي إلى الوفاة السريعة.
كما يؤدي ارتفاع المستوى التعليمي إلى تزايد المعارف عن الصحة والأمراض ومسبباتها وسبل الوقاية منها وأهمية الالتزام بقواعد العلاج وسبله... إلخ، وهو ما يطلق عليه غالبا الأمية الصحية، ومن ثم يتمكن ذوو التعليم الأعلى من فهم وإدارة أوضاعهم الصحية بصورة أفضل، كما يمكنهم التفاعل بصورة أفضل مع مقدمي الخدمات الصحية، معنى ذلك أن المتعلمين يحصلون على ميزة صحية من التعليم والتي تؤدي إلى تحسين توقع الحياة بالنسبة لهم.
كذلك فإن الحاصلين على التعليم الأعلى غالبا ما تتاح لهم فرص أفضل للوظائف ومن ثم تحقيق دخول أعلى، من هذا المنطلق يؤدي التعليم إلى التأثير في الوضع الاجتماعي للفرد، حيث يمكن التعليم من وضع الفرد في مكانة اجتماعية أفضل، وتشير الدراسات إلى أن الوضع الاجتماعي للأفراد يمكن أن يلعب دورا في توقع الحياة لهم، على سبيل المثال أشارت بعض الدراسات إلى أن وقوع الفرد في فئة اجتماعية أقل يمكن أن يسبب المزيد من الضغط على هذا الفرد، ويؤدي هذا الضغط عبر الحياة إلى مشكلات صحية، مثل ارتفاع ضغط الدم.
بالطبع الذهاب إلى الجامعة في حد ذاته لا يؤدي إلى إطالة العمر، وإنما يؤدي التعليم الأفضل إلى لجوء الأشخاص إلى خيارات أفضل، حيث يكون السلوك الصحي للأفراد المتعلمين أفضل من غير المتعلمين بشكل عام، فالمتعلمون بشكل عام يدخنون أقل، ويتجنبون السمنة، ويضعون حزام الأمان في السيارة، ويضعون أجهزة الكشف عن الدخان في منازلهم، يحرصون على أن يكون لديهم تأمين صحي، وغالبا لا يستخدمون المخدرات... إلخ. هذا بالطبع لا يعني أن كل المتعلمين كذلك، فمنهم من هو سمين، ومنهم من يدخن ومنهم من يشرب... إلخ، ولكن هذه ليست غالبيتهم.
الخلاصة هي أن توقع الحياة يتحسن بمرور الوقت، لكن هذا التحسن يظل أكبر بالنسبة للفئات الأفضل تعليما، وكلما امتدت الأعوام التي يقضيها الشخص في التعليم، أضاف ذلك إلى السنوات المتوقعة من عمره.

لماذا لم تنهر اليابان تحت ضغط الدين؟ (2)


ذكرنا في الحلقة الأولى من هذا المقال أن الحكومة اليابانية قد تمكنت من أن تدبر احتياجاتها التمويلية لفترة طويلة من الزمن بسهولة وبمعدلات فائدة منخفضة، غير أن اليابان تمر حاليا ببعض التغيرات الهيكلية التي سوف تعقد من مشكلة توفير التمويل المناسب للعجز المالي الياباني. اهم التغيرات الهيكلية تنشا من اتجاه العجز المالي نحو التزايد بمعدلات غير مسبوقة، فحاليا يبلغ العجز حوالي 11% من الناتج وهو معدل مرتفع للغاية، الأمر الذي يدفع الحكومة اليابانية إلى إصدار المزيد من السندات، لذلك ليس من المستغرب أن يتزايد اعتماد الحكومة اليابانية على الأسواق للتمويل أكثر من أي وقت مضى، ففي عام 2012 سوف تضطر اليابان إلى تمويل حوالي 50% من إنفاقها العام (1.16 تريليون دولارا) من خلال الاقتراض، من ناحية أخرى فإن اليابان تواجه تطورات هيكلية في تركيبة إنفاقها العام بسبب مشاكلها الديموغرافية، فمن المتوقع في السنة القادمة أن يمثل الإنفاق على الرعاية الاجتماعية حوالي 52% من إجمالي الإنفاق العام، وهو ما سيمثل تحديا كبيرا لليابان كون هذا النوع من الإنفاق غير منتج.

من الناحية الديموغرافية تواجه اليابان اليوم مشكلة تراجع أعداد السكان نظرا لزيادة أعداد الوفيات عن أعداد المواليد، في الوقت الذي لا يتم فيه تعويض هذا الفقد السكاني من خلال استقدام سكان من الخارج من خلال الهجرة، فقد أخذ عدد السكان يتراجع منذ 2009 حتى اليوم. وفي خلال العقدين القادمين يتوقع أن يقل عدد السكان بحوالي 12 مليون نسمة، ومعه سوف تتراجع مشتريات السندات اليابانية، وكذلك ستتدهور قوة العمل ويتراجع حجم الناتج المحلي الإجمالي، حيث يتوقع أن يترتب على ذلك انخفاض حجم الناتج المحلي بحوالي 7% ومن ثم متوسط نصيب الفرد منه.

المشكلة الديموغرافية الثانية هي شيخوخة السكان التي أصبحت أحد أهم التحديات التي تواجه اليابان، حيث بدأت أحدى ثمار التنمية تضر بالدولة، وتقدر حاليا نسبة كبار السن بحوالي 30%، ومن المتوقع أن تستمر هذه النسبة في الارتفاع حتى 40% خلال الثلاثة عقود القادمة، ومع استمرار تعقد مشكلة شيخوخة السكان سوف تتزايد عمليات السحب من المدخرات أو ربما تتحول معدلات الادخار إلى سالبة. ذلك أن صناديق المعاشات اليابانية تمتلك حوالي 11% من الدين الياباني، بالطبع مع تزايد معدلات الشيخوخة وارتفاع معدلات التقاعد، سوف تضطر صناديق المعاشات إلى بيع السندات الحكومية لتدبير الحاجات المالية اللازمة لخدمة المشتركين فيها، وهناك شواهد تشير إلى أن صناديق المعاشات بدأت بالفعل في بيع السندات الحكومية لأول مرة منذ 9 سنوات.

من ناحية أخرى فإنه في ظل هذه الضغوط قد تضطر اليابان إلى التمويل النقدي لإنفاقها العام لتشعل بذلك نار التضخم وتفقد أحد أهم مزاياها التنافسية، أكثر من ذلك فإن التضخم سوف يرفع معدلات العائد المطلوب على السندات وهو ما يعقد مشكلة الحكومة بصورة أكبر، وحاليا يحتفظ البنك المركزي بحوالي 9% من محفظته في صورة سندات حكومية، بالطبع كأي بنك مركزي، يحتاج البنك المركزي الياباني إلى الاحتفاظ بنسبة من أصوله في صورة سندات حكومية قصيرة الأجل لكي يتمكن من تنفيذ عمليات السوق المفتوح، ومن وقت لآخر يتدخل البنك المركزي الياباني لشراء السندات اليابانية بهدف رفع أسعارها وخفض معدلات الفائدة عليها، وهو ما يضمن تخفيض تكلفة خدمة الدين الياباني.

حاليا يضع البنك المركزي الياباني حدا اقصى على كمية السندات التي يقتنيها من الدين الحكومي، غير أنه في ظل الضغوط المالية على الحكومة قد يضطر إلى هجر هذه السياسة وتمويل نسب اكبر من العجز المالي الحكومي، بل إن بعض المراقبين يرون أنه ربما لا يجد صانع السياسة الياباني من خيار آخر سوى اللجوء لعملية التمويل النقدي، ونظرا لاحتمالات تزايد هذه الضغوط في المستقبل، فإن هناك دعوات حاليا بأن يتم إلغاء استقلال البنك المركزي عن الحكومة، على الرغم من أن هذه الاستقلالية تعد محدودة في الوقت الحالي.

تنبغي الإشارة إلى أن السبب الرئيس في استمرار اليابان في تمويل عجزها المالي على نحو مستمر وبمعدلات فائدة متدنية هو طول فترات الكساد التي عانت منها اليابان، ففي ظل استمرار تراجع الأسعار تبدو المعدلات المتدنية للفائدة مجزية بالنسبة للمقترضين من الناحية الحقيقية، ولتوضيح ذلك لا بد وان نفرق بين معدل الفائدة الاسمي (معدل الفائدة في السوق النقدي، أو معدل الفائدة المعلن للسندات) ومعدل الفائدة الحقيقي، أي معدل الفائدة الاسمي معدلا بالتضخم، والذي يساوي معدل الفائدة الاسمي مطروحا منه معدل التضخم، فإذا افترضنا أن معدل الفائدة الإسمي هو 1%، وأن معدل التضخم هو سالب 2%، فإن ذلك يعني أن معدل الفائدة الحقيقي الذي يحصل عليه مشترو السندات هو 3% وليس 1%، معنى ذلك أن الانحسار السعري يساعد الحكومة اليابانية في أن تجد المشتري المحلي لسنداتها بدون عناء. غير أنه مع تعرض اليابان لأي موجة تضخمية، فإن هذا الوضع سوف يتغير بصورة جوهرية، حيث ستتحول معدلات العائد على السندات اليابانية إلى معدلات عائد سالبة.

وطالما أن اليابان تستمر في بيع سنداتها محليا فإنها لن تواجه مشكلات كبيرة، غير أن الضغوط على سوق السندات الياباني قد تعني أن اليابان قد تضطر إلى اللجوء إلى أسواق السندات الدولية لكي تمول احتياجاتها، وفي هذه الحالة سوف تضطر اليابان إلى المنافسة مع الدول المقترضة الرئيسة في العالم مثل الولايات المتحدة وأوروبا، وحاليا تدفع اليابان معدلات فائدة أقل من الجميع، إلا أنه من المؤكد أن هذا الخيار سوف يجبر اليابان على دفع معدلات أعلى للعائد على سنداتها، ومن ثم تنتهي حقبة التمويل الرخيص التي تمتعت بها اليابان لفترة طويلة من الزمن، وقتها سوف يبدأ العبء الحقيقي للدين الياباني في الظهور على السطح ويتحول الدين الياباني إلى دين غير مستدام.

إن لجوء اليابان إلى السوق العالمي للسندات سوف يمثل كارثة بالنسبة لها، حيث سيترتب على أي تصاعد في معدلات الفائدة على دين ضخم مثل الدين الياباني انفجار تكلفة خدمة الديون، الأمر الذي سيدخل الاقتصاد الياباني في دائرة خبيثة من تصاعد معدلات الفائدة وتصاعد معدلات العجز المالي فزيادة حجم الدين فتصاعد خدمة الدين وهكذا. فحاليا وبنسبة 1% معدل فائدة على الدين تمثل مدفوعات خدمة الدين أكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي، ومع تصاعد معدلات الفائدة سوف تأخذ خدمة الدين في النمو على نحو كبير، وهذا ما عبر عنه وزير السياسة الاقتصادية في اليابان كاورو ياسانو حينما قال "إننا نواجه الحلم المزعج بأنه في يوم من الأيام ربما تأخذ معدلات الفائدة طويلة الأجل في التزايد". 

وأخيرا، هل يمكن أن تتحول اليابان إلى يونان أخرى؟ على الرغم من انخفاض مثل هذا الاحتمال على نحو واضح، إلا أن تدهور وضع الدين الياباني سوف يضع العالم في مأزق، فقد تمكن العالم من خلال الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي من التعامل بشكل سهل نسبيا مع الحالة اليونانية. الأمر مختلف تماما في الحالة اليابانية نحن نتحدث عن 12 تريليون دولارا، وهو حجم قد لا يستطيع الاقتصاد العالمي بأكمله التعامل معه.

الخلاصة هي أن الدين العام الياباني في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى للتعامل معه بصورة أكثر جدية، وعلى ما يبدو أن أحد لا يريد أن يقوم بهذه الخطوة، أو على الأحرى لا أحد لديه القدرة حاليا على التعامل مع المشكلة، فقد أصبحت المشكلة إلى حد كبير خارج نطاق السيطرة، ومن الواضح أن ضغوط التمويل في اليابان تميل نحو التزايد بمرور الوقت وأن على اليابان أن تجد سبيلا لوقف هذا التدهور الخطير في موقفها المالي. 

الأربعاء، أغسطس ٠٨، ٢٠١٢

لماذا لم تنهر اليابان تحت ضغط الدين؟ (1)

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 7/8/2012

هناك اتفاق عام بين الاقتصاديين على أنه عندما تتجاوز نسبة الدين العام 60% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، فإن هذه الدولة تبدأ  تواجه مخاطر تتعلق بقدرتها على خدمة دينها العام في المستقبل، وأن هذه الدولة ربما تواجه أزمة مديونية في حال استمر الدين العام في التصاعد وارتفعت معدلات العائد عليه. اليابان دولة تعدى فيها الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي نسبا غير معقولة ولفترة طويلة من الزمن، ومع ذلك لم تتعرض اليابان حتى اليوم لأزمة مديونية، وما زالت الدولة متماسكة اقتصاديا، ولم تنهار العملة اليابانية تحت ضغط الدين العام، فهل اليابان تمثل استثناء من القواعد المتعارف عليها حول النسب الآمنة للدين العام إلى الناتج؟ ولماذا استطاعت اليابان الاستمرار ولفترة طويلة من الزمن في أن تحتفظ بدين عام مرتفع جدا دون أن تواجه المشكلات المفترضة من الناحية النظرية؟ وهل يمكن أن تستمر أوضاع اليابان على هذا النحو في الأجل الطويل؟. في الجزء الأول من هذا المقال نقدم خلفية عامة عن الدين العام الياباني، وفي الحلقة الثانية نقدم أهم التطورات الهيكلية في الدين والتحديات التي تواجهها اليابان في المستقبل فيما يتعلق بدينها العام.

اليابان واحدة من اقدم الدول في العالم ومن أكثرها استقرارا، وهي حاليا صاحبة أكبر ثالث اقتصاد في العالم بعد الصين، ووفقا لآخر التقديرات يصل الدين العام الياباني إلى حوالي 12 تريليون دولارا حاليا، وهو ما يجعله ثاني أكبر دين في العالم من الناحية المطلقة بعد الولايات المتحدة، ومن المؤكد أنه لولا الأزمة الحالية والتي صاحبها ارتفاع الدين العام الأمريكي بسبب جهود مكافحة الأزمة، لكانت اليابان صاحبة اكبر دين قائم في العالم من الناحية المطقة. غير أنه كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي تعد اليابان أكبر دولة مدينة في العالم المتقدم، حيث تصل نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي حوالي 228%. غير أن أهم مزايا الدين الياباني على الإطلاق هي أن أكثر من 95% من الدين الياباني يتم الاحتفاظ به محليا، كما أن الدين الياباني مقوم أساسا بالين، العملة المحلية لليابان، وهذه نقطة في غاية الأهمية بالنسبة لعملية خدمة الدين.

دول العالم المدين مثل مجموعة الـ PIIGS، تواجه أزمة ديون سيادية خانقة، وعلى الرغم من أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في اليابان تعد أكبر بكثير من هذه الدول، إلا أنها مازالت تتمتع بقدرتها على زيادة دينها وبيع سنداتها بسهولة وعند معدلات فائدة منخفضة للغاية، بينما لا تتمتع الدول المدينة الأخرى بهذه المزايا. لتوضيح الصورة بشكل أكبر، دعنا نقارن وضع اليابان مع دولة مدينة أخرى مثل إيطاليا. الدين الياباني يمثل 228% من الناتج، بينما يمثل الدين الإيطالي 120% فقط من الناتج، ومع ذلك فإن إيطاليا تدفع حوالي 7% معدل فائدة على سنداتها استحقاق 10 سنوات، بينما تدفع اليابان معدل فائدة لا يتجاوز 1% على نفس السندات.

ولكن كيف تمكنت اليابان من بيع سنداتها في ظل هذا النمو الكبير في الدين ومعدلات الفائدة القريبة من الصفر؟، الإجابة تكمن في هيكل الاقتصاد الياباني ذاته الموجه أساسا نحو التصدير، حيث يحقق قطاع الأعمال فوائض تجارية كبيرة مع باقي دول العالم، من ناحية أخرى فإن لدى اليابان قدر كبير من الاحتياطيات بالنقد الأجنبي والذي يستثمر جانب كبير منه في الدين الأمريكي، وعندما تقوم الشركات بإيداع هذه الفوائض والدخول في البنوك اليابانية فإن الأخيرة تقوم باستثمارها في شراء سندات حكومية.

ويرجع انخفاض معدلات العائد على السندات اليابانية مقارنة بغيرها من الدول المدينة، إلى أن تمويل عمليات شراء السندات اليابانية يتم أساسا من خلال السوق المالي المحلي، حيث تتميز اليابان بارتفاع مستويات الادخار المحلي، سواء من جانب القطاع العائلي أو قطاع الأعمال، وبسبب الأوضاع الاقتصادية لليابان وضيق فرص الاستثمار بفعل دائرة الكساد التي يعاني منها الاقتصاد الياباني منذ أكثر من عقدين، فإن المؤسسات المالية تجد الاستثمار في السندات اليابانية، على الرغم من تدني معدلات العائد عليها، بديلا أمثل، وهو ما يمكن الحكومة اليابانية من التمتع بعجز مالي كبير وفي ذات الوقت تدفع معدلات عائد متدنية على هذه السندات. هذا التمويل للدين الياباني بمثل هذه المعدلات المنخفضة يعد كأنه نوع من الضرائب على مشتري السندات اليابانية أخذا في الاعتبار الفرص البديلة لاستثمار الأموال في ديون حكومات أخرى. 

غير أن هناك الآن الكثير من الشواهد التي تشير إلى تغير هذه الأوضاع بصورة جوهرية، فالكثير من المراقبين اصبح ينظر إلى وضع الدين الياباني على انه وضع غير مستدام. ذلك أن قدرة الحكومة اليابانية على خدمة ديونها سوف تعتمد من بين عدة عوامل على معدلات نمو الناتج، فطالما أن معدلات نمو الاقتصاد الياباني مرتفعة فسوف تستمر الحكومة اليابانية قادرة على خدمة دينها، إلا أن تراجع معدلات نمو الناتج المحلي الياباني يؤدي إلى تعقد مشكلة الدين حيث تنخفض الإيرادات العامة للدولة من ناحية وترتفع نسبة الدين إلى الناتج من ناحية أخرى.

في ظل المعدلات المنخفضة للفائدة فإن أي ارتفاع ولو ضئيل في معدل الفائدة سوف يرفع من تكلفة خدمة الدين العام الياباني على نحو كبير، على سبيل المثال إذا ارتفعت معدلات الفائدة على السندات اليابانية بمقدار واحدة في المئة فقط فإن ذلك سوف يؤدي إلى تضاعف تكلفة خدمة الدين المحلي الإجمالي في اليابان، وهذا تحد كبير تواجهه اليابان حاليا. إذ أن عملية خدمة الدين العام تستهلك حاليا حوالي ربع الإنفاق العام للدولة، ويتوقع في غضون عقدين من الزمان، بافتراض استمرار معدلات الفائدة الحالية، أن تصل هذه النسبة إلى النصف، وهو تطور خطير جدا، لأنه ليس هناك أي ضمان أن تستمر الحكومة اليابانية في الاقتراض عند هذه المعدلات المتدنية للفائدة.

من ناحية أخرى ينظر اليابان اليوم على أنها صاحبة أسوأ هيكل سكاني من الناحية الديموغرافية في العالم، حيث ترتفع نسبة الشيوخ بصورة ملفتة للنظر، ونتيجة لذلك أخذت مدفوعات الرعاية الاجتماعية في التزايد من 20% من الإنفاق العام إلى حوالي 30% خلال العشر سنوات الأخيرة، وهو ما يعني أن العجز المالي الياباني مرشح للانفجار في المستقبل، واليوم تقترب اليابان من حقيقة أنها لا يمكن أن تدفع دينها القائم عليها، وبالتالي فإنه قد تضطر إلى التمويل النقدي من خلال طباعة الين وتحمل مخاطر التضخم من أجل السيطرة على دينها العام، بالطبع من سيدفع التكلفة الحقيقية لذلك هم القطاع العائلي أساسا.

على المستوى الخارجي بدأت اليابان تفقد اليوم بعض مقومات وضعها الدولي بسبب تراجع مستويات تنافسيتها، وفقدان ريادتها التقليدية في العديد من الصناعات الأساسية، فضلا عن الأثر السلبي لتصاعد قيمة الين. وبشكل عام أخذ الطلب على السندات اليابانية في الانحسار نتيجة تراجع معدلات الادخار بسبب شيخوخة السكان، في الوقت الذي يتصاعد فيه العجز المالي للحكومة، ومن ثم فإن الصورة العامة للدين الياباني في المستقبل هي استمرار اتجاهه نحو الزيادة، ولكن السؤال المهم هو إلى متى؟

الاثنين، أغسطس ٠٦، ٢٠١٢

هروب رؤوس الأموال (2)


نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 3/8/2012 
تناولنا في الحلقة الأولى من هذا المقال خلفية نظرية عن عمليات هروب رؤوس الأموال ومسبباتها وطرق التهريب، اليوم نتناول تقديرات هروب رؤوس الأموال في العالم وذلك وفقا للتقرير الذي أصدرته شبكة العدالة الضريبية في الشهر الماضي عن الثروات التي غير المسجلة والتي يعتقد أنها توجد في مراكز الأوفشور التي تمثل جنة الضرائب لمثل هذه الثروات.


مراكز الأوفشور التي تمثل جنات للضرائب تتصف بخاصيتين رئيسيتين، السرية المطلقة حيث لا يمكن، أو ليس من السهل، الحصول على المعلومات المالية من البنوك الموجودة في هذه المراكز أو غيرها من المؤسسات المالية لاستخدامها في أغراض مثل فرض الضرائب، وكذلك سرية الكيانات القانونية القائمة فيها، حيث قد لا تسمح القوانين أو الممارسات الإدارية المطبقة بتوفير المعلومات عن الشركات أو المؤسسات أو غيرها من الكيانات القانونية، مثل المعلومات عن المالكين أو المساهمين أو المستفيدين، أو الأشخاص المسؤولين عن استخدام الأصول أو الحسابات المالية إلى آخر هذه المعلومات المهمة التي يمكن أن تساعد في تتبع اصحاب الثروات المختبئة في هذه المراكز. الصفة الثانية الأساسية هي عدم وجود الضرائب أو انخفاض الضرائب الى مستويات دنيا، أو أن القوانين السارية يمكن الالتفاف حولها بسهولة للتخلص أو التهرب من عبء الضريبة، على سبيل المثال من خلال تشكيل الكيانات القانونية للشركات بالصورة التي تمكن من ذلك.


بالطبع تقدم جنات الضرائب في العالم خدمة جليلة لأصحاب الثروات والتي تتمثل في إمكانية التهرب من دفع التزاماتهم الضريبية، نظرا لضمان إخفاء أساس الضريبة وهو الثروة،  وبالرغم من أن هذا الأمر مفيد لصاحب الثروة، إلا أن ذلك يترتب عليه خسارة للدول التي ينتمي إليها أصحاب هذه الثروات، وذلك لفقدان الإيرادات الضريبية التي يمكن تحصيلها على هذه الثروات أو الدخول التي تتولد عنها. معنى ذلك أن مراكز الأوفشور تساهم بهذا الشكل وبصورة فعالة في جريمة التهرب الضريبي على المستوى الدولي.


تقدر شبكة العدالة الضريبية أنه في عام 2010 يملك أثرياء العالم أصولا مالية تقدر بحوالي 21 تريليون دولارا من الأصول المالية غير المسجلة والمخبأة في جنات الضرائب السرية، لاحظ أن هذا الرقم ضخم جدا إلى الحد الذي يتجاوز فيه إجمالي الناتج المحلي الإجمالي لاثنين من أكبر اقتصاديات العالم وهما اقتصاد الولايات المتحدة واليابان. من ناحية أخرى فإن الشبكة أيضا تقدر أن الأشخاص ذوي الثروات المرتفعة يملكون حوالي 32 تريليون دولارا من الأصول المختبئة في مراكز الأوفشور، وهو ما يقترب من نصف حجم الاقتصاد العالمي. الواقع أن مثل هذه التقديرات الخيالية تثير الشكوك حول مدى دقة تلك التقديرات.


بالنسبة للشبكة تعد هذه التقديرات متحفظة لأنها تتناول فقط تقديرات الثروة المالية للأغنياء، ومن ثم لا تشمل باقي أشكال الثروة مثل الأصول الحقيقية كالعقارات والمقتنيات الثمينة وغيرها من أشكال الثروة غير المالية. على أي حال تمثل تقديرات الشبكة لهذه الثروات المختبئة ما يتراوح بين 21 – 32 تريليون دولار، والتي تمثل أساس للضريبة التي لو جمعت على عوائد هذه الثروات فإن الدول النامية يمكن أن تحقق ما بين 190-280 مليار دولارا سنويا كإيرادات ضريبية على عوائد هذه الثروات، وهو رقم ضخم بمقاييس المالية العامة لحكومات الدول النامية، حيث يمثل هذا الرقم ضعف تدفقات مساعدات التنمية الرسمية إلى الدول النامية سنويا.


بالطبع عندما نقوم بالتعميم على الدول النامية فإن هذه الإيرادات الضائعة تمثل مصادر مالية يمكن أن تحدث فارقا كبيرا في التمويل المتاح للعديد من دول العالم، بصفة خاصة الدول الفقيرة، لكن بالنسبة لبعض الدول الأخرى مثل الدول النفطية التي لا تجمع ضرائب أصلا ولا تتدفق لها مساعدات مالية خارجية، بل إنها في واقع الأمر تندرج في نطاق الدول المانحة، أو حتى الدول الناشئة مثل الصين، فإن إيراداتها الضائعة من الضرائب على هذه الثروات لن تضيف بعدا جوهريا لماليتها العامة.


من بين هذه التقديرات قامت شبكة العدالة الضريبية بعمل تقديرات لرصيد ثروات الأغنياء في أكبر 20 دولة يتم تحويل الأموال منها في العالم إلى مراكز الأوفشور والموضحة في الجدول رقم (1)، ويلاحظ من الجدول أن هناك دولتان عربيتان تقعان بين أكبر 20 دولة في العالم يملك أثرياءها ثروات في مراكز الأوفشور وهما الكويت والسعودية. حيث تحتل الكويت المرتبة الخامسة عالميا بالنسبة لحجم الثروات المخبئة في مراكز الأوفشور المالية برصيد يصل إلى حوالي نصف تريليون دولارا، بينما تحتل المملكة المرتبة العاشرة عالميا برصيد يقدر بـ 308 مليار دولارا. فهل بالفعل هذه التقديرات لثروات أثرياء هاتين الدولتين دقيقة؟ شخصيا أميل إلى التشكيك في صحة هذه التقديرات لهذه الثروات المختبئة في جنات الضرائب لأثرياء هاتين الدولتين لعدة أسباب:


الأول أنه إذا كان الحافز الأساسي للاحتفاظ بهذه الثروات في الخارج هو البحث عن جنة للضرائب في مراكز الأوفشور، فإن السعي نحو التهرب من الضرائب لا يمثل حافزا لأصحاب الثروات في هاتين الدولتين حيث لا توجد ضرائب تقريبا على الثروات في هاتين الدولتين، ومن ثم فليس هناك المحفز الضريبي الذي يمكن أن يدفع بهذه الثروات الضخمة للانتقال والاختباء في هذه المراكز. فبشكل عام تعد دول مجلس التعاون جنات ضرائب.


قد يقول قائل أيضا أن هذه الثروات تختبئ بسبب محفزات أخرى، أهمها أنها نشأت أساسا من مصادر غير مشروعة، قد يكون هذا مبررا معقولا، ولكن هل يصل حجم الاقتصاد الخفي في هاتين الدولتين إلى الحد الذي يمكن أن يولد هذا القدر من الثروات؟ في الحقيقة لا يمكن الإجابة عن هذا التساؤل لغياب الدراسات الدقيقة عن حجم الاقتصاد الخفي في الدولتين.


جدول رقم (1) تقديرات الثروات المختبئة في مراكز الأوفشور


الرصيد
الدولة
الترتيب
الرصيد
الدولة
الترتيب
283
ماليزيا
11
1189
الصين
1
283
نيجيريا
12
798
روسيا
2
242
المجر
13
779
كوريا
3
169
سنغافورة
14
520
البرازيل
4
167
أوكرانيا
15
496
الكويت
5
165
بولندا
16
417
المكسيك
6
158
تركيا
17
406
فنزويلا
7
147
ايران
18
399
الأرجنتين
8
141
ساحل العاج
19
331
إندونيسيا
9
138
كزاخستان
20
308
السعودية
10


المصدر: Tax Justice Network “The Price of Offshore Revisited” July 2012


الثاني أن هذه التقديرات للثروات المختبئة قد تكون مرتفعة بشكل كبير جدا في حالة الكويت على نحو خاص لعدة أسباب أهمها أن الدولة هي المالك الرئيس للعنصر الأساسي المولد للدخل في الدولة وهو النفط، والذي تتولى الدولة مهمة بيعه إلى الخارج وتوزيع الإيرادات النفطية من خلال برامج الإنفاق العام المختلفة، ومثلما هو الحال في الدول النفطية في المنطقة، يمثل القطاع النفطي المساهم الأكبر في الناتج المحلي الإجمالي، من ناحية أخرى فإن الناتج غير النفطي ليس جوهريا إلى الحد الذي يمكن من تكوين هذا القدر الضخم من الثروات، وأخيرا فإن الصندوق السيادي للدولة وهو أكبر الأصول المالية التي تملكها الكويت على الإطلاق يمثل حوالي نصف هذه التقديرات وهو أمر غير منطقي. 


لهذه الأسباب أميل إلى الاعتقاد بأن هذه التقديرات مبالغ فيها، وأن هذه المبالغة في التقديرات ربما تعود إلى أسلوب حساب الثروات بالطرق المستخدمة في تقدير هروب رؤوس الأموال من ميزان المدفوعات الخاص بالدولة، على سبيل المثال غالبا ما يدرج بند "السهو والخطأ" ضمن تقديرات الأموال الهاربة، وفي عام 1992 عندما بدأت عملية تحرير الكويت من الاحتلال العراقي وإعادة إعمار الكويت أنفقت الكويت قدرا ضخما من احتياطياتها في العملية، وفي هذا العام ظهر بند السهو والخطأ في ميزان المدفوعات الكويتي على نحو غير مسبوق، بالطبع وفقا لأساليب التقدير المتعارف عليها في مجال هروب رؤوس الأموال سوف ينظر إلى هذا الرقم على أنه هروب لرؤوس الأموال الخاصة، بينما هو في حقيقة الأمر غير ذلك.


وأخيرا إذا ما افترضنا أن هذه التقديرات صحيحة هل يمكن تبرير ارتفاع حجم الثروات المختبئة لأثرياء الكويت بالنسبة لأثرياء المملكة، مع أن الاقتصاد السعودي يفوق حجم الاقتصاد الكويتي؟ الإجابة هي أنه على فرض أن هذه التقديرات صحيحة فإن هذا الفرق يمكن تبريره بالفروق في الفرص المتاحة للقطاع الخاص في كل من المملكة والكويت، حيث تنحسر هذه الفرص على نحو كبير في الكويت مقارنة بالوضع في المملكة. /