الخميس، يونيو ٣٠، ٢٠١١

أخبار سارة من اليونان

أخيرا قام البرلمان اليوناني بالموافقة بشكل اولي على خطة التقشف الخمسية والتي تقضي بأن يتم خفض 40.8 مليار دولارا في الانفاق العام، كما سيتم فرض ضرائب جديدة، بالاضافة الى خطة التقشف سوف تقوم الحكومة اليونانية ببيع اصول عامة تقدر بحوالي 50 مليار يورو في اطار برنامج للتخصيص كشرط اساسي لاتفاقية الانقاذ الثانية التي يتوقع ان تبلغ قيمتها 100 مليار يورو، والتي ستسهل عملية تمويل الاحتياجات المالية لليونان حتى 2014. بهذا الشكل تكون اليونان قد استوفت متطلبات خطة الانقاذ الجديدة والتي ستحمي اليونان من خطر اعلان الافلاس. الموافقة الاولية تعني ان بنود خطة التقشف سوف يتم التصويت عليها غدا بندا بندا مرة أخرى.
أخيرا وجدت الخطة من يؤيدها داخل البرلمان على الرغم من المعارضة الشديدة التي ووجهت بها الخطة، لكن صوت العقل يعلو في النهاية. صحيح ان الخطة سوف تؤثر بشكل مباشر على مستويات معيشة الناس وكذلك على معدلات النمو والبطالة، ولكن البديل لهذا الخيار اسوأ بشكل كبير. ففي مقابل هذا الخفض ب 40 مليار دولار فإن اليونان سوف تحصل على الدفعة التالية من حزمة الانقاذ التي سبق ان قدمها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي في العام الماضي والتي تعادل 110 مليار يورو.
في رسالته الى البرلمان حث الرئيس اليوناني باباندريو اعضاء البرلمان على ضرورة حماية الدولة من الانهيار من خلال التصويت لصالح الخطة لخفض الانفاق، مشيرا الى انه ليس هناك خطة بديلة. في حال افلست اليونان فإن هناك احتمال كبير أن تنتقل العدوى الى الدول الاوربية الأخرى، على المستوى الشعبي الخطة تواجه رفضا عاما من قبل عدد كبير الناس الذين ينزلون الى الشوارع معلنين رفضهم لهذه الخطة، وفي هذه المرة يرتدون الاقنعة الواقية من الغاز، ولكن للأسف الشديد لا يقدمون بديلا معقولا قابلا للتطبيق يسمح للحكومة ان تخرج من ورطتها ويحول دون اعلان اليونان افلاسها، وهو امر في غاية الخطورة بالنسبة لليونان وكذلك بالنسبة لليورو والاتحاد الاوروبي، لأن ذلك سوف يعني لا محالة ضرورة خروج اليونان من الاتحاد النقدي الاوروبي وهو ما سوف يحمل آثارا خطيرة على الاسواق المالية في العالم وكذلك على اليورو.

الثلاثاء، يونيو ٢٨، ٢٠١١

الذهب يتراجع الى ما دون 1500 دولارا

في تطور مثير هذا الاسبوع تراجع الذهب الى ادنى مستوياته منذ خمس اسابيع الى ما دون مستوى 1500 دولارا للأوقية، ووفقا للتقارير فإن المعدن النفيس خسر بعض الارض كحصن أمان في الاوقات التي تسود فيها ظروف عدم التأكد نتيجة لعوامل عديدة أهمها تراجع التوقعات التضخمية في الولايات المتحدة والعالم، على سبيل المثال اعلنت الصين أن معدل التضخم المتوقع لن يتجاوز 5% بالنسبة لباقي العام في الوقت الذي كانت تدور فيه التوقعات حول 9%، كذلك ظل معدل التضخم في الولايات المتحدة اقل من المعدل المستهدف بواسطة الاحتياطي الفدرالي. من ناحية أخرى كان الذهب يستمد بعض الدعم من التوقعات بقرب قيام الاحتياطي الفدرالي الامريكي بمزيد من التوسع النقدي وأن خطة التيسير الكمي 3 آتية لا محالة، غير ان تأكيد الاحتياطي الفدرالي على انه لن يقوم بمزيد من التوسع النقدي قد قلل من عوامل الدعم للذهب. من ناحية اخرى فقد كان هناك رهان على فشل صفقة انقاذ اليونان، إلا ان الاخبار الاخيرة قد دعمت التوقعات بقرب التوصل لحل مناسب للأزمة اليونانية.
ينبغي التنبيه الى أن ذلك لا يعني ان فقاعة الذهب قد انتهت، فمازالت العوامل المسئولة عن تضخم الفقاعة موجودة ولم تنتهي بشكل كامل حتى يبدأ الذهب رحلة العودة مرة اخرى الى اسعار ما قبل الازمة، وأن الذهب ربما يتلقى بعض الدعم مستقبليا مع تدهور الاوضاع على الارض.

السبت، يونيو ٢٥، ٢٠١١

بعض الحلول المقترحة لمشكلات مصر الاقتصادية


1.     سوف يظل ضعف البنية التحتية أهم العوائق أمام انطلاق عملية التنمية في مصر، ولا شك ان مصر تحتاج في المرحلة القادمة إلى تكثيف عمليات الاستثمار لرفع مستويات بينتها التحتية والتركيز على تنفيذ المشروعات التي تسهل أداء الأعمال وترفع من تنافسية الاقتصاد المصري، مثل هذه المشروعات ينبغي ان تعطى أولوية في المرحلة القادمة. غير أنه تنبغي الإشارة إلى أن مصر ربما لن تستطيع ان تقيم تلك البنى التحتية بمفردها، وسوف تحتاج إلي مساعدات مالية كبيرة لكي تتمكن من ذلك، وفي هذا الخصوص يمكن لمصر الاستعانة بالتسهيلات المالية التي تقدمها المؤسسات التمويل الدولية مثل البنك الدولي.

2.     ليس هناك خلاف بأن محاربة الفقر سوف تكون معركة مصر الكبرى في مرحلة ما بعد الثورة، فمما لا شك فيه أن مجتمع يعيش فيه أكثر من 40% من السكان بدولارين في اليوم أو أقل هو مجتمع يواجه أزمة حقيقية، كيف ستتمكن مصر من رفع مستويات دخول كل هؤلاء؟ ليس هناك من سبيل سوى العمل على رفع معدلات النمو وزيادة مستويات الإنتاج ومن ثم رفع الدخول، وهي مهمة للأسف تتطلب وقتا وجهدا، ومع ذلك فإن مصر اليوم في أمس الحاجة إلى مقاومة المطالب الشعبية برفع مستويات الدخول في الوقت الحالي، والى بث روح الوطنية والمسئولية لدى الفئات المختلفة من العمال، وغرس قيم زيادة الإنتاج وتحسين جودته، وخلق روح الإبداع والابتكار بين العاملين في مختلف المجالات، ورفع درجة وعي الفئات المختلفة بان الزيادة في أجورهم لكي لا تضر بمستويات معيشتهم لا بد وان ينتجوها بأنفسهم، لا ان تمنحهم الدولة إياها من مصادر غير حقيقية، أو بالأحرى مصادر تضخمية ترتد عليهم بصورة سلبية بعد ذلك. المشكلة هي أن الكثير من الذين توقفوا عن العمل مطالبين بالمزيد من الأجور لا يفهمون قواعد اللعبة في الاقتصاد، بصفة خاصة الشروط اللازمة لحدوث زيادات حقيقية في مستويات دخولهم. إن أي زيادة في الأجور بمقدار جنيه لا بد وان يصاحبها زيادة صافية في الإنتاجية تساوي جنيها على الأقل، وبمعنى آخر، فإن الزيادات الحقيقية في أجور العمال هم الذين سيقومون بإنتاجها، وليس الحكومة، ذلك أن الزيادات التي تأتي عن طريق الحكومة، هي في غالب الأمر ما تكون من خلال المزيد من العجز المالي في الميزانية، والتي تنعكس في زيادة مستويات الدين العام، أو من خلال المزيد من طباعة النقود، ومثل هذه الزيادات لها نتيجة واحدة لا بد وأن يعلمها هؤلاء الذي يتظاهرون مطالبين بالزيادة في أجورهم، وهي التضخم. قليل هم العمال الذين يدركون أن الزيادات التي حصلوا عليها الماضي كانت بالفعل تضرهم ولا تفيدهم، وأنه ربما كان من الأفضل للعمال أن يستمروا بأجورهم القديمة دون ان يحصلوا على زيادات اسمية في تلك الرواتب لتتآكل بعد ذلك بفعل التضخم. غير أن الحد من المطالب بزيادة الدخول في الوقت الحالي لا بد وان يصاحبه في الوقت ذاته التركيز على محاربة الضغوط التضخمية، كسبيل لرفع القوة الشرائية للمواطنين، بصفة خاصة من ذوي الدخول المحدودة والثابتة، وهم أكثر الفئات عرضة للتأثيرات السلبية التضخم.

3.     من ناحية أخرى فإن معالجة مشكلة البطالة سوف تقتضى من مصر ضرورة تبني استراتيجيات نمو وإنتاج مختلفة، والتي تعتمد أساسا على وفرة عنصر العمل، حتى تتمكن مصر من التعامل مع الأعداد الكبيرة الداخلة لسوق العمل، ولتستفيد من الميزة النسبية التي يتيحها هذا الوضع حاليا في الاقتصاد المصري والمتمثل في الرخص الكبير لتكلفة هذا العنصر. مصر إذن تحتاج إلى تبني استراتيجيات صناعية تحاكي تلك التي تبنتها الصين، لكي تواجه الضغوط التي يعاني منها سوق العمل، والتي تلعب فيها تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر دورا حيويا، ولتحقيق ذلك تحتاج مصر إلى تقديم مجموعة مكثفة من الحوافز أمام الاستثمار الأجنبي في المجالات الإنتاجية التي توسع القاعدة الصناعية للاقتصاد المصري، استنادا إلى مواردها المحلية وطاقتها البشرية الكبيرة، وفي ذات الوقت مقاومة الأنشطة الطفيلية التي تدر الأموال الطائلة على من يقومون بها دون ان تضيف نموا حقيقا في القدرات الإنتاجية للدولة، بصفة خاصة أنشطة المضاربات على الأراضي والعقارات والأسهم.

4.     مصر تحتاج أيضا إلى تعديل هيكلها الضريبي ليكون أكثر عدالة من جانب، ويعمل على تشجيع الاستثمار في المجالات المنتجة من جانب آخر، ولكي لا يتم جمع الضرائب أساسا من الفئات ذات الدخل المحدود، مثلما يتم حاليا، وفي جميع الأحوال يجب أين يتم فرض ضرائب مرتفعة على المعاملات في الأنشطة الطفيلية والأنشطة التي تقوم على المضاربة، حتى تحصل الدولة على حقها في النمو الذي يحدث في القيمة الرأسمالية للأصول التي تولد دخولا طفيلية، بدلا من أن تذهب بالكامل إلى المضاربين بغض النظر عن جنسيتهم.

5.     تحتاج مصر أيضا إلى تعديل التشريعات القانونية الخاصة بأنشطة الفساد والضرب بيد من حديد على أيدي الفاسدين، وتكوين أجهزة مستقلة وفعالة للتعامل مع الفساد، وقوة خاصة بمكافحة الفساد، وبحيث يتم فتح جميع ملفات الفساد، وأن يتم التعامل معها بصرامة، وبغض النظر عن شخصية من يشتبه في قيامه بممارسته، على سبيل المثال ملف أراضي الصحراء لا بد وأن يفتح وأن تتأكد الدولة من أن الأراضي المخصصة وجهت إلى الأغراض التي تم تخصيصها نحوها في الأساس، وأن تتوقف الدولة عن بيع الأراضي، بحيث يتم تخصص الأراضي للاستثمار مع استمرار ملكية الدولة لها، وأن تفرق الدولة بين الجادين الذين يوجهون تلك الأراضي إلى الأغراض المخصصة لها بالفعل، وبين غيرهم الذين يضاربون على رمال الصحراء لكي يجنوا المليارات، دون ان تستفيد البلد استفادة حقيقية من ذلك.

6.     تحتاج مصر إلى مراجعة كافة أنظمتها البيروقراطية الخاصة بمناخ الأعمال، وتسهيل هذه النظم وإلغاء الخطوات غير الضرورية أو ذات الأهمية الأقل حتى تمكن المستثمرين المحليين والأجانب من العمل في بيئة أعمال صديقة، وحتى تتمكن من جذب الاستثمارات اللازمة للمرحلة القادمة بالكميات التي تحتاج إليها وفي المجالات التي تسعى إلى تنميتها، وحتى تقضى أيضا على فرص انتشار الفساد الناجم عن تعقد النظم البيروقراطية الخاصة بممارسة الأعمال في مصر.

7.     مصر في حاجة أيضا إلى رفع درجة سيولتها الدولية اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهذا يقتضي ضرورة سعي السلطات لدى الجهات المقرضة من اجل إعفاء مصر من جانب من ديونها القائمة، أو على الأقل تأجيل عمليات السداد وإعادة هيكلة هذه الديون على أساس شروط أفضل، خصوصا وأن هناك شكوك حول الأسباب التي دعت مصر إلى اقتراض هذه الأموال، والأوجه التي تم توجيه هذه الأموال إليها، ذلك أن عملية رفع مستويات السيولة الدولية حاليا من خلال الاقتراض سوف تكون أمرا مكلفا للغاية، وذلك نظرا لارتفاع الهامش الذي سيطلبه المستثمرون لإقراض الدولة في مثل هذه الظروف، خصوصا وأن احتياجات مصر للاقتراض سوف تكون مرتفعة. تحتاج مصر أيضا إلى تشجيع الصناديق العربية للاستثمار في مصر الجديدة، مصر الشفافة، مصر الخالية من الفساد. فقد أسهم فساد الحكومات السابقة، في تسميم مناخ الاستثمار في مصر وجعله للأسف مناخا غير صالح للاستثمار المنتج طويل الأجل، فاتجهت الاستثمارات الأجنبية إلى مجالات غير منتجة أو تتسم بالمضاربة أكثر منها في مجالات الإنتاج الحقيقي، ومثل هذه المجالات للاستثمار لم تساعد مصر على التعامل مع مشكلتي البطالة والتضخم على النحو المناسب. إستراتيجية مصر الاستثمارية الجديدة يجب ان تبتعد عن، أو لا تشجع مثل، هذه الأنشطة الاستثمارية ذات العائد التنموي المحدود. مصر في حاجة إلى بناء جدار الثقة مع المستثمرين في القطاعات الحقيقية من الاقتصاد سواء المستثمرين المحليين أو الأجانب، حتى توفر الحوافز أمام هؤلاء للاستثمار الجاد في المجالات المنتجة وليس المجالات العقيمة الغير منتجة.

ليس لدينا شك في أن مصر ما بعد ثورة 25 يناير لن تكون كتلك التي كانت قبلها، وأن جهود شبابها ورجالها الذين قاموا بهذه الثورة العظيمة سوف تنصب في رفع مستويات الإنتاج في كافة القطاعات، مستنيرة بالقدوة الحسنة لقادتها القادمين، وحكوماتها المدنية المنتخبة بصورة ديمقراطية والتي تتمتع بأقصى درجات الشفافية والنزاهة، ورجالها الذين يضعون مصلحة مصر فوق كل اعتبار، ويديرون موارد الدولة لخدمة عملية التنمية والتقدم في الأساس الأول، ويحترمون الحقوق الأساسية للمواطن، ويشيعون العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع ،واضعين نصب أعينهم إعطاء أقصى درجات الحرية للمواطنين لضمان إطلاق قوى الإبداع والابتكار لديهم. مثل هذه القيم هي ما تحتاجه مصر في المستقبل كي تضمن ولاء وإخلاص رجالها ومساهمتهم الفعالة لضمان تقدم مصر ووضعها في مصاف الدول الناشئة في العالم.



الجمعة، يونيو ٢٤، ٢٠١١

مخاطر عدم رفع سقف الدين الأمريكي

نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية يوم الجمعة 24/6/2011
سبحان مقلب الأحوال، فبعد أن كان الحديث عن أزمة الديون هو من الناحية التقليدية حديث يخص دول العالم الثالث، والفقير منها على وجه الخصوص، فإن الاهتمام العالمي للأسواق ينصب اليوم على احتمالات توقف الولايات المتحدة، أغنى وأقوى اقتصاد في العالم عن خدمة ديونها، وقد تناولنا في الأسبوع الماضي تطورات وملامح الدين العام الأمريكي حتى اليوم كما تناولنا مفهوم سقف الدين، والعلاقة بين رفع سقف الدين وتوقف الولايات المتحدة عن خدمة دينها العام والمتوقع ان يحدث في الثاني من أغسطس القادم، ما لم يقم الكونجرس بالموافقة على المقترح المقدم من الإدارة الأمريكية برفع سقف الدين العام إلى حوالي 16.7 تريليون دولارا، وذلك لكي تتمكن الخزانة الأمريكية من إصدار سندات جديدة تستخدمها في خدمة ديونها القائمة وكذلك في تمويل إنفاقها العام، وكما ذكرنا أن السبب الأساسي لتصاعد الدين العام الأمريكي هو العجز المتفاقم في الميزانية الأمريكية.
جانب كبير من العجز الذي تعانيه الولايات المتحدة يعود إلى نفقات الولايات المتحدة لأغراض الأمن والدفاع الناجمة عن مغامراتها العسكرية في الخارج، والتي صاحبها انخفاض في إيرادات الخزانة من الضرائب التي لا تحصلها الخزانة الأمريكية نتيجة الإعفاءات الضريبية التي تم إقرارها في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي تم مد العمل بها مؤخرا، وبالطبع تراجع مستويات الدخل والناتج الناجم عن الأزمة. الوضع المالي للولايات المتحدة اليوم، كما ذكرنا، أصبح في غاية الخطورة، فالحكومة الأمريكية تقترض اليوم حوالي 40 سنتا من كل دولار تقوم بإنفاقه، وحاليا قد تبدو تكلفة هذا الاقتراض محدودة في ظل المعدلات المنخفضة للفائدة السائدة حاليا، ولكن أي تصاعد في معدلات الفائدة في المستقبل سوف يحمل كارثة للولايات المتحدة.
لقد أصبح من الواضح اليوم أن الضمانة الوحيدة لاستمرار الولايات المتحدة في خدمة دينها العام اليوم هي استمرار رفعها بشكل مستمر لسقف دينها العام وذلك لكي تتمكن الخزانة الأمريكية من إصدار المزيد من السندات لخدمة هذه الديون، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة أصبحت تقترض لكي تخدم ديونها وهو تطور في غاية الخطورة، إذ بهذا الشكل يصبح الدين العام الأمريكي اليوم أشبه بمخطط بونزي، أو كالذي يأخذ من بول لكي يدفع إلى بيتر.
كنا قد تساءلنا في الأسبوع الماضي عن احتمالات ان تلجأ الحكومة الأمريكية إلى التوقف عن خدمة ديونها، والآثار التي يمكن ان تترتب على ذلك. الحقيقة هي أنه وحتى هذه اللحظة ما لم يقم الكونجرس الأمريكي برفع سقف الدين قبل حلول الثاني من أغسطس القادم فإن احتمال توقف الولايات المتحدة عن خدمة ديونها بصورة مؤقتة هو احتمال مؤكد، وذلك وفقا لما أوضحه وزير الخزانة الأمريكي تيموثي جايثنر، ويقصد بالتوقف المؤقت ان تتوقف الحكومة عن مدفوعات الفائدة على الديون للمقرضين لمدة محدودة من الزمن، أو ما يطلق عليه التعثر الفني Technical Default. بحلول أغسطس القادم سوف تستحق سندات على الحكومة الأمريكية بمبلغ 27 مليار دولارا، وكذلك سوف تستحق 25 مليار دولارا كوبونات مدفوعات فوائد، وبما ان الخزانة الأمريكية سوف تستنفد كافة الوسائل غير الاعتيادية لخدمة الدين بحلول هذا التاريخ فإنها سوف تضطر إلى أن تعلن عن توقفها عن السداد.
ولكن هل يعقل ألا يوافق الكونجرس الأمريكي على رفع سقف الدين مجبرا الإدارة الأمريكية الحالية على التوقف عن خدمة ديونها ومن ثم معرضا السمعة الائتمانية للولايات المتحدة برمتها للخطر؟ الإجابة هي أنه إذا رفض الجمهوريون الذين يسيطرون على الكونجرس اليوم رفع سقف الدين، فإن احتمال توقف الولايات المتحدة عن خدمة دينها العام سيصبح احتمالا حقيقيا. الجمهوريون يطالبون بأن يصاحب رفع سقف الدين ضرورة تبني خطة واضحة للسيطرة على الإنفاق العام ومن ثم على الدين الأمريكي، ووجهة النظر المعلنة للجمهوريين هي أن حملة سندات الدين الأمريكي سوف يقبلون بفكرة التوقف عن خدمة الدين لفترة مؤقتة حتى تتحسن الأوضاع المالية للولايات المتحدة من خلال تخفيض الإنفاق وهو ما يرفع من قدرتها على خدمة ديونها على المدى الطويل، وبالتالي من وجهة نظرهم فإن رفض رفع سقف الدين سوف يكون في مصلحة الجميع، ولكن الأسواق لا تفهم هذه اللغة، فالحديث عن احتمالات عجز الولايات المتحدة عن سداد التزاماتها يخيف المستثمرين في كافة أنحاء العالم وهو ما يضع الولايات المتحدة في موقف حرج للغاية ومن المتوقع ان يحدث اضطراب عظيم على المستوى العالمي إذا ما تم ذلك.
يمكن القول بأنه وعلى الرغم من المنطقية الظاهرية لحجج الجمهوريين، إلا أنها تحمل خلطا كبيرا للسياسة بالاقتصاد، بل يمكن القول أن مشكلة سقف الدين هي مشكلة سياسية بالأساس، وقد قفزت إلى السطح مع سيطرة الجمهوريين على الكونجرس والذين فيما يبدو يرفضون رفع سقف الدين الأمريكي بهدف منع أوباما من تحقيق المزيد من النجاح على الأرض واستعادة الاقتصاد الأمريكي لوضعه الطبيعي، فالجمهوريين لا يريدون ان تأتي الانتخابات القادمة والاقتصاد الأمريكي في وضع جيد، حتى تنعدم فرص أوباما في التجديد. فمن المعلوم ان الولايات المتحدة تواجه دائما ظاهرة يطلق عليها رواج ما قبل الانتخابات Pre-election boom، حيث يحرص الحزب الحاكم عندما تقترب الانتخابات على أن يكون الاقتصاد في أفضل وضع ممكن بحيث يتوافر لدى الرئيس المرشح قائمة ناصعة من المؤشرات الاقتصادية التي يستخدمها للحديث عن انجازات الحزب عند خوض الانتخابات، وبما إن الانتخابات القادمة هي بالتأكيد انتخابات الاقتصاد وليس السياسة، لذلك يريد الجمهوريون حرمان الديمقراطيين من فرصة رفع سقف الدين لزيادة الإنفاق على تحسين وضع الاقتصاد الأمريكي ومن ثم رفع فرص الفوز في الانتخابات، ومما يزيد الأمر صعوبة بالنسبة للإدارة الأمريكية الحالية هي أن الجمهوريين لا يريدون فقط خفض الإنفاق ولكنهم أيضا يقاومون أي محاولة لرفع معدلات الضريبة. على الجانب الآخر تقوم خطة الإدارة الأمريكية الحالية على جمع المزيد من الضرائب باعتبار ان معدل الضريبة الفعال حاليا على الأغنياء هو الأقل منذ الخمسينيات، والعودة إلى معدلات الضرائب التي كانت تفرض في فترة بيل كلينتون.
ربما يجرنا ذلك إلى التساؤل عن مدى حق الجمهوريين في رفض رفع سقف الدين؟ الإجابة هي أنه في 2006 تعرض الجمهوريون لنفس الموقف الحالي عندما رفض أن يصوت أي عضو من مجلس الشيوخ من الديمقراطيين لصالح رفع سقف الدين. ما يحدث اليوم إذن هو تصفية حساب لما حدث في مارس 2006، فوفقا لبلومبرج، في هذا التاريخ صوت مجلس الشيوخ بأغلبية 52-48 لرقع سقف الدين إلى حوالي 9 تريليون دولارا، ومثلما يفعل جايثنر اليوم من تنبيه للكونجرس بأن التغاضي عن رفع سقف الدين سوف يكون له آثار وخيمة على الأمريكيين أنفسهم قبل أن ينعكس على الخارج، فإن وزير الخزانة في ذلك الوقت جون سنو فعل الشيء نفسه، وكانت الخزانة الأمريكية قد أجلت عملية إصدار السندات الجديدة انتظارا لإقرار رفع السقف، وبعد نصف ساعة من هذا التأجيل تم إقرار رفع سقف الدين، وهو ما دعا جون سنو إلى التصريح بأن الكونجرس قد حمى بهذا القرار الثقة الكاملة في الجدارة الائتمانية للولايات المتحدة، وأكد على أن الحكومة الأمريكية قادرة على الوفاء بوعودها الداخلية، بصفة خاصة فيما يتعلق بمدفوعات الرفاه والرعاية الصحية.
من جانبه يتفق بن برنانكي رئيس الاحتياطي الفدرالي على أن عجز الميزانية الأمريكية لا بد وان تتم السيطرة عليه، غير أن ما ينادي به الجمهوريون بوقف رفع سقف الدين يعد استخداما للأداة الخطأ، حيث حذر برنانكي من أن الفشل في الاتفاق على رفع سقف الدين سوف يؤثر على قيمة الدولار وعلى ثقة الدول الأخرى في السندات الأمريكية. بينما يرى بول كروجمان أن خفض الإنفاق لن يخفف من احتمال توقف الولايات المتحدة عن خدمة دينها العام طالما ان هذا الدين لا يتوقف عن النمو.
غير أنه تنبغي الإشارة إلى أن ارتفاع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي لا يجب أن ينظر إليها على أنها مؤشرا لاحتمال فشل الدولة في خدمة ديونها، ويمكن القول بأنه ليس هناك معدل محدد يمكن القول عنده ان الدولة مهددة بالتوقف عن خدمة ديونها، على سبيل المثال على الرغم من أن دين المملكة المتحدة كان يمثل 240% من الناتج المحلي لها بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لم تقع في هذه المشكلة، كذلك فإن دين اليابان يمثل حاليا حوالي 200% من ناتجها المحلي الإجمالي، ومع ذلك فاليابان تستطيع ان تقترض ما تشاء وبمعدل فائدة صفري تقريبا، على العكس من ذلك فإن هناك دول أخرى وقعت في هذه الأزمة عند نسب منخفضة جدا للدين إلى الناتج المحلي، على سبيل المثال ما حدث لروسيا في 1998 بنسبة دين إلى الناتج المحلي تساوي 12.5%،  وألبانيا في 1990 بنسبة دين 16.9%.
في كتاب لهما بعنوان "This Time is Different" توصل Reinhart  و Roogff إلى أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي ليست مؤشرا جيدا على احتمالات التوقف عن السداد، وإنما تاريخ عملية التوقف عن السداد في الدولة، على سبيل المثال البرتغال لديها تاريخا طويلا في التوقف عن السداد، بينما الولايات المتحدة ليست كذلك، وبالتالي فإن الأسواق تكون أكثر حذرا في التعامل مع الحالة البرتغالية عن الحالة الأمريكية. ماذا يعني ذلك؟ إن ذلك يعني أن الولايات المتحدة سوف تتوقف عن خدمة دينها عندما يكون ذلك هو الخيار الأمثل أمامها، ولكن جميع المؤشرات تشير إلى أن ذلك الخيار ليس هو الخيار الأمثل اليوم، والآن ما الذي يحدث إذا توقفت الولايات المتحدة عن خدمة دينها العام؟ الحقيقة أن الآثار التي يمكن ان تترتب على ذلك، وفي هذا التوقيت بالذات هي آثار مرعبة، ويمكن تلخيص هذه الآثار في الآتي:
أولا سوف تضطر الحكومة الأمريكية إلى تخفيض الإنفاق العام بصورة حادة، ذلك أن توقف الولايات المتحدة عن خدمة ديونها سوف يؤثر على قدرتها على إصدار سندات جديدة، وهو ما يجبرها على اللجوء إلى خفض الإنفاق بصورة كبيرة الأمر الذي يعقد من أوضاع استعادة النشاط الاقتصادي، ومما لا شك فيه أن  إن اضطرار الولايات المتحدة إلى إتباع سياسات تقشفية سوف يغرق الولايات المتحدة مرة أخرى في الكساد ويصبح التراجع المزدوج أمرا مؤكدا مع تراجع معدلات النمو وارتفاع معدلات البطالة، وهناك حاليا خلاف واضح بين الجمهوريين والديمقراطيين حول سياسات التقشف، فالجمهوريين يرغبون في تخفيض الإنفاق العام، بينما يقترح أوباما تجميد الإنفاق الأساسي للولايات المتحدة (مثل الرعاية الصحية والدفاع) بينما يزيد الإنفاق الحكومي على الاستثمار في التعليم والابتكار وعلى البنية التحتية لكي يحافظ على تنافسية الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي. من ناحية أخرى فإنه من الصحيح أن الولايات المتحدة تملك القدرة على زيادة إيراداتها والحد من نفقاتها وذلك لتثبيت نسبة دينها العام إلى الناتج المحلي الإجمالي على الأقل، ولكن المشكلة هي ان الوقت الحالي غير مناسب إطلاقا للقيام بذلك، وطالما استمرت الضغوط الحالية التي تواجهها الولايات المتحدة سوف تستمر الضغوط المالية التي تعاني منها أيضا.
ثانيا مما لا شك فيه أن توقف الولايات المتحدة عن خدمة ديونها سوف يتسبب في شيوع حالة ذعر عظيمة في الأسواق العالمية، وهو ما يمكن أن يحدث صدمة هائلة في أسواق الأصول ليس فقط في أمريكا ولكن في أسواق العالم اجمع، بصفة خاصة في أسواق الأسهم حيث من المتوقع أن تتأثر أسعار الأسهم بصورة كبيرة، وهو ما يمكن ان يحدث فوضى عارمة في الأسواق العالمية، ولا يمكن توقع الآثار التي يمكن ان تترتب على ذلك، ولا شك أن أسوأها هو أنه من الممكن أن يتسبب ذلك في نشوب أزمة مالية عالمية أخرى، مثلما يتوقع المراقبون وهو ما قد ذلك بالاقتصاد العالمي نحو الانهيار على نحو سريع، أخذا في الاعتبار الظروف الحالية التي يمر بها.
ثالثا من المؤكد ان مؤسسات التصنيف الائتماني سوف تقوم بتخفيض تصنيف الدين الأمريكي وهو ما يمكن أن يحول السندات الأمريكية إلى سندات غير مرغوب فيها عالميا  Junk Bonds في تصنيفها العام إذا توقفت الولايات المتحدة عن خدمة الدين في أغسطس القادم، الأمر الذي سيدفع المستثمرين في الدين الأمريكي إلى طلب معدلات عائد أعلى، وعليه سوف تضطر الولايات المتحدة إلى دفع تكلفة اكبر لديونها، إلى أن تستعيد تصنيفها الائتماني الحالي مرة أخرى، ومع كل زيادة في العائد المطلوب على السندات الأمريكية سوف ترتفع نسبة خدمة الدين إلى إجمالي الإنفاق العام الأمريكي، ومن ثم يثقل العبء على كاهل دافع الضرائب، وبالنظر إلى الحجم الهائل للدين الحالي فإن مدفوعات الفائدة الناجمة عن ارتفاع تكلفة خدمة الديون سوف تربك المالية الأمريكية وتجعل من الصعب على الولايات المتحدة استعادة تصنيفها الائتماني في وقت قصير. أكثر من ذلك فإن ارتفاع مدفوعات الفائدة على الدين يؤثر سلبا على معدلات النمو الاقتصادي.
رابعا سوف يؤدي توقف الولايات المتحدة عن خدمة ديونها إلى إلقاء ضغوط إضافية على الدولار المنخفض أصلا، وفي ظل السياسات الحالية حيث لا يوجد أمل في تحسن وضع الدين العام الأمريكي في المستقبل المنظور، فإن الأخير سوف يظل مصدرا كامنا للضغط على الوضع العالمي للدولار، وسوف تتراجع قيمة الدولار بصورة كبيرة أمام العملات المختلفة الأمر الذي يمكن أن يزيد من الضغوط الحالية التي يواجهها الدولار حيث قد يدفع العالم إلى العمل على التخلص من الدولار الأمريكي كعملة احتياط عالمية.
خامسا سوف يلحق بالمستثمرين خسارة كبيرة نتيجة لتراجع قيمة الدولار، خصوصا بالنسبة للمستثمرين الذين تقترب سنداتهم من الاستحقاق، فقد قاموا بإقراض الولايات المتحدة بدولار قوي نسبيا، بينما يستردون هذا الدين بدولار ضعيف نسبيا، ولا شك أن ذلك سوف يؤثر على المستثمرين الرئيسيين في الدين الأمريكي مثل الصين باعتبارها أكبر مقرض خارجي للولايات المتحدة، ويهمها بالتالي آثار مثل هذا القرار على قيمة الدولار وعلى قيمة استثماراتها في الدين الأمريكي. مما لا شك فيه أن الصين سوف تحاول ان تمنع الولايات المتحدة من اتخاذ مثل هذه الخطوة، وقد حذرت الصين الولايات المتحدة بأنها تلعب بالنار إذا أقدمت على اللجوء إلى التوقف عن خدمة ديونها، ولكن هل تأخذ الولايات المتحدة مثل هذه التحذيرات على محمل الجد؟ ربما الإجابة هي لا، صحيح أن دائني الولايات المتحدة الرئيسيين وهم الصين واليابان والمملكة المتحدة سوف يحاولون أحداث نوع من التنويع بعيدا عن الدين الأمريكي إلا أنه قد لا يتاح أمام هذه الدول خيار آخر حاليا لاستثمار احتياطياتها الدولارية الضخمة، سوى الاستثمار في الدين الأمريكي، باعتبار انه بالرغم من كل ما يحدث ما زال الملاذ الآمن لهذه الاستثمارات الضخمة.
سادسا مع ميل معدلات العائد على الدين الأمريكي نحو التزايد فإن تكلفة خدمة الدين سوف ترتفع على الميزانية الأمريكية وهو ما يؤدي بالولايات المتحدة إلى الدخول في الحلقة الخبيثة Vicious Circle للدين العام، ويقصد بالحلقة الخبيثة للدين العام ان ارتفاع حجم الدين العام الأمريكي في ظل الأسعار المرتفعة للفائدة يؤدي إلى زيادة تكلفة خدمة الدين العام وزيادة مستويات الإنفاق العام، هو ما يرفع من قيمة العجز في الميزانية العامة، وبالتالي زيادة الحاجة نحو الاقتراض، فارتفاع تكلفة خدمة الدين العام وزيادة مستويات الإنفاق العام والعجز والدين وهكذا سيدخل الاقتصاد الأمريكي في دوامة الديون، ما لم تتمكن الولايات المتحدة من السيطرة على نمو الدين العام  ولجم الحاجة نحو الاقتراض من الجمهور (بما فيهم الأجانب).
من المؤكد ان الولايات المتحدة والعالم يمكنهما تجنب كل هذه المخاطر من خلال استمرار الولايات المتحدة في الالتزام بخدمة الديون، وليس لدي أدنى شك في أنه سوف يتم التوصل إلى صيغة توافقية بين الإدارة الأمريكية والكونجرس حول سقف الدين، بالرغم من أن ذلك لن يحل المشكلة الهيكلية التي تواجهها الولايات المتحدة، وربما يكون الجمهوريين على حق في التأكيد على أهمية التعامل مع المشكلة الحقيقية للدين الأمريكي. فرفع سقف الدين لن يحل المشكلة، وإنما يزيدها تعقيدا حيث ستشعر الحكومة الأمريكية بسهولة إمكانية اقتراضها من الخارج في ظل حقيقتين هامتين الأولى هي ان هناك طابورا طويلا من المستثمرين الدوليين المستعدين لشراء السندات الأمريكية، والحقيقة الثانية ان هؤلاء المستثمرين يقبلون إقراض الولايات المتحدة بمعدلات فائدة منخفضة جدا حاليا، ويؤدي انخفاض معدلات الفائدة إلى التقليل من تكلفة الدين على الولايات المتحدة وهو ما يشجع الولايات المتحدة على إصدار المزيد من تلك الديون. قضية رفع سقف الدين ليست إذن هي لب الموضوع، وإنما تكمن المشكلة الأساسية في لجوء الولايات المتحدة لرفع السقف بين حين وآخر ولمستويات أصبحت مرتفعة جدا حاليا، وبالتالي أصبح من المهم الآن بالنسبة للولايات المتحدة ضرورة البحث عن سبل تخفيض معدل نمو الدين العام ونسبته إلى الناتج المحلي الأمريكي، حتى لا يهدد ذلك قدرة الولايات المتحدة على خدمة ديونها على المدى الطويل.

الاثنين، يونيو ٢٠، ٢٠١١

أهم المشكلات الاقتصادية لجمهورية مصر العربية



1. كانت التقارير التي أصدرت عن النمو الاقتصادي في مصر، سواء المحلية أو الدولية مضللة، حيث ركزت على الإشادة بمعدلات النمو من الناحية المطلقة، دون أن تتطرق إلى أمرين في غاية الأهمية؛ الأول هو مصادر هذا النمو، والتي كانت في معظمها هامشية أو ريعية، في الوقت الذي كانت تتراجع فيه الأهمية النسبية للقاعدة الإنتاجية، سواء الصناعية أو الزراعية للاقتصاد المصري على نحو واضح، بحيث أصبحت مصر تفتقد حاليا إلى قاعدة إنتاجية تتناسب مع الموارد التي تملكها، خصوصا المورد البشري. فقد وجه النظام السابق جل اهتمامه إلى القطاعات الخدمية والقطاعات غير المنتجة، فتم الاهتمام بالإسكان الفاخر، وتنمية الشواطئ وبناء المنتجعات في الوقت الذي كانت تستورد فيه مصر جانبا كبيرا من السلع الاستهلاكية والآلات والمعدات والغذاء، وهو ما انعكس في العجز الهائل في الميزان التجاري المصري.


2. الأمر الثاني وهو توزيع هذا النمو، أو بالأحرى من استفاد من هذا النمو؟ فقد كان هذا النمو على حساب العدالة المفترضة في توزيع الدخل بين الفئات الدخلية المختلفة، حيث تراجعت مكانة الطبقة الوسطى والتي كانت تشكل غالبية الشعب المصري عندما استلم النظام السابق الحكم، وأصبحت الهوة بين الفئات الدخلية المرتفعة والفئات الفقيرة واسعة جدا، وقد اعترفت المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي بأن تقاريرها عن النمو الاقتصادي في مصر لم تكن دقيقة، لأنها ركزت على معدلات النمو من الناحية المطلقة، دون أن تأخذ في الاعتبار معايير التوزيع أو اعتبارات العدالة الناجمة عن هذا النمو.


3. نظرا لضيق القاعدة الإنتاجية عاشت مصر، ومازالت، فترات طويلة انتشرت فيها الضغوط التضخمية على نحو واسع، والتي ساعد على تعمقها ضعف قاعدة الإيرادات العامة للدولة والتي تسببت في عجز مستمر في الميزانية العامة للدولة والذي كان يتم تمويل جانب منه من خلال الإصدار النقدي الجديد، والذي يغذي الضغوط التضخمية. ونظرا للظروف الاستثنائية التي تمر بها مصر حاليا من المتوقع ان تتعمق تلك الضغوط بصورة أكبر في المرحلة القادمة، ولسوء الحظ فإن محاربة التضخم في هذا التوقيت بالذات سوف تكون مهمة في غاية الصعوبة، وذلك نظرا للمناخين المحلي والدولي غير الموائمان حاليا، حيث ترتفع أسعار الغذاء عالميا ومحليا بصورة مثيرة للقلق.


4. من أخطر التحديات التي تواجه مصر حاليا وفي المستقبل هي ارتفاع معدلات البطالة، لأسباب عديدة أهمها عدم مناسبة إستراتيجية التعليم الحالية لمتطلبات سوق العمل، بصفة خاصة التعليم الجامعي، من ناحية أخرى فإن عمليات الاستثمار التي تتم حاليا في الاقتصاد المصري لا تخلق فرص عمل كافية للداخلين الجدد إلى سوق العمل، وقد كان من المفترض ان تركز استراتيجيات الاستثمار على الأنشطة كثيفة الاستخدام لعنصر العمل. عدد كبير من الداخلين الجدد لسوق العمل من كافة المصادر يقضون حاليا فترات طويلة في حالة بطالة بحثا عن العمل الذي لا يجدونه في كثير من الأحيان، وأمام هذه الضغوط يضطر الكثير من الشباب إما إلى الهجرة إلى الخارج أو قبول وظائف لا تتماشى مع مؤهلاتهم ومهاراتهم، أو العمل في القطاع غير الرسمي من الاقتصاد المصري، وهو ما يمثل هدرا للموارد الضخمة التي أنفقتها الدولة على عمليات تأهيلهم. المشكلة التي يواجهها صانع السياسة في مصر هي أن نسبة صغار السن تعد مرتفعة للغاية، وعاما بعد آخر ترتفع أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل، وكل عملية خلق لوظيفة إضافية تقتضي ضرورة القيام بإنفاق استثماري يعتمد على ما يطلق عليه في الاقتصاد بالمعامل الحدي لرأس المال/العمل، أي مستوى الإنفاق الرأسمالي اللازم لخلق وظيفة إضافية. وأخذا في الاعتبار المستويات الحالية للبطالة فإن التعامل مع مشكلة البطالة في المستقبل سوف يتطلب ضرورة القيام باستثمارات ضخمة تتجاوز إمكانيات الاقتصاد المصري حاليا، ولا شك أن استقرار مصر الاقتصادي في المستقبل سوف يتطلب ضرورة خلق عدد كاف من الوظائف المنتجة للملايين من العاطلين عن العمل حاليا، وللداخلين الجدد إلى سوق العمل، ولا شك أنه هذه مهمة لن تكون سهلة، وتتطلب رسم خطط متكاملة للتنمية في القطاعات الإنتاجية المختلفة في الاقتصاد المصري مصحوبة بسياسات فعالة لجذب الاستثمارات الأجنبية في الصناعات كثيفة الاستخدام لعنصر العمل.


5. على المستوى المالي تواجه مصر تحديا آخر مرتبط بارتفاع العجز في ميزانيتها العامة، والذي يصل في بعض الأحيان إلى نسبة 9% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة مرتفعة جدا، وتفرض على مصر، في ظل ضعف القاعدة الضريبية بها أن تلجأ إلى الاقتراض، سواء المحلي أو الخارجي، ولا شك ان استمرار هذا العجز على نحو متصاعد يعني أن النمو الحالي في الدين العام سواء المحلي أو الخارجي لن يكون مستداما، ويتوقع أن يميل هذا العجز نحو الارتفاع بصورة واضحة في فترة ما بعد الثورة، وذلك قبل أن تعمل مصر على رفع إيراداتها العامة وترشيد نفقاتها بهدف السيطرة على النمو في ميزانيتها العامة. فعلى الرغم من هيكل الضرائب المكثف جدا الذي تتبناه مصر حاليا، إلا ان الإيرادات الضريبة تعتبر منخفضة بشكل عام، ولا تتجاوز نسبة الـ 15% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي بهذا الشكل تقل عن المستويات المحققة في معظم دول العالم المتقدم منها والنامي، الأمر الذي يعكس حقيقة ان الضرائب المفروضة، على كثافتها، لا تحصل، وأن هناك تهربا ضريبيا يمارس على نطاق واسع في الدولة من قبل الممولين وبمساعدة الجهاز الحكومي الذي يفرض ويحصل الضريبة، وأن الجهاز الضريبي لا يتسم بالكفاءة والفعالية المناسبة.


6. من ناحية أخرى تواجه مصر من الناحية التقليدية عجزا مستمرا ومتفاقما في ميزان المدفوعات، بصفة خاصة في الميزان التجاري (الصادرات السلعية والواردات السلعية)، حيث تعجز الإيرادات من النقد الأجنبي من الصادرات عن تغطية احتياجات مصر من الواردات من الخارج. وعلى الرغم من أن ميزان المعاملات غير المنظورة (صادرات وواردات الخدمات) يحقق فائضا، إلا إن هذا الفائض للأسف لا يكفي لتغطية فجوة الواردات في الميزان التجاري، لذلك تلجأ مصر إلى الاستدانة بصورة مستمرة لتغطية العجز في ميزان المدفوعات.


7. تواجه بيئة الأعمال في مصر عقبة خطيرة تتمثل في انتشار الفساد على نحو واسع والذي أصبح يؤثر سلبا على عمليات تخصيص الموارد وكيفية توزيعها بين الأطراف المختلفة في الدولة، كما أصبح الفساد يهدد إقبال المستثمرين على الاستثمار في مصر، بصفة خاصة الاستثمار الأجنبي. وتشير التقارير التي تصدرها منظمة الشفافية العالمية إلى تراجع ترتيب مصر الدولي في مجال مكافحة الفساد، ولا شك أن من أهم التحديات التي تواجهها مصر في المستقبل هي كيف تكسب معركة محاربة الفساد المستشري بصورة عميقة في كافة أرجاء الجهاز الإداري للدولة، خصوصا مع تدني مستوى المرتبات التي يحصل عليها العاملين في الدولة وتجاهل النظام السابق لهذه الحقيقية بصفة مستمرة وعدم العمل بجدية على تحسين أوضاع هؤلاء العاملين، وبما ان العاملين في الدولة ينبغي عليهم تدبير قوت يومهم بصورة ما، فقد انتشرت الرشوة وغيرها من أشكال الفساد الإداري على نطاق واسع.


8. وأخيرا يعد ضعف البنية التحتية وتردي مستواها أحد اخطر التحديات التي تواجه مصر لكي ترتفع بمستويات إنتاجها وتنافسيتها، فقطاعات مثل الصحة والتعليم والمياه والكهرباء والطرق والمواصلات والاتصالات والمطارات والموانئ... الخ، في حاجة إلى تحسين ضخم لرفع كفاءتها المتدنية للغاية حاليا، والتي تضع مصر في مركز متدني كدولة مستقبلة للاستثمار الأجنبي أو مقدمة للخدمات بصفة خاصة الخدمات السياحية، ولاشك أن مصر تحتاج إلى أن تستثمر في بنيتها التحتية ذات المستوى الضعيف، وهي مهمة سوف تتطلب ميزانيات ضخمة قد لا تستطيع مصر الوفاء بها ذاتيا في الوقت الحالي، وسوف تحتاج مصر إلى مساعدة المؤسسات المالية الدولية والإقليمية لرفع قدرتها على الاستثمار في مجال البنى التحتية اللازمة لنمو، وألا فسيظل ضعف البنية التحتية في الاقتصاد المصري أهم القيود على تقدمه ونموه ورفع مستويات تنافسيته.


هذه هي المشكلات الرئيسية التي تواجه مصر حاليا، ومما لا شك فيه ان هناك مشكلات أخرى ملحة مثل انتشار الفقر، وانتشار ثقافة التربح والكسب السريع وانتشار البيروقراطية ومركزية اتخاذ القرار وغيرها من المشكلات التي تكبل الاقتصاد المصري وتحول دون انطلاقه نحو الأمام لتصبح مصر في مصاف الدول الناشئة في العالم مثل ماليزيا وكوريا الشمالية، والتي لا تقل مصر عن هذه الدول من حيث الموارد والإمكانيات، ولكن المشكلة الأساسية التي تواجه الاقتصاد المصري هي في سوء عملية توجيه الموارد وإدارتها.





الأحد، يونيو ١٩، ٢٠١١

دعوة للمشاركة بأفكارك


دعوة للمساهمة البناءة لمستقبل الكويت. جميع القراء مدعوون للمساهمة في هذا المشروع، ما هي افكارك في تنويع هيكل الاقتصاد الكويتي؟ ماذا يمكن ان تفعل الكويت لتخفيف اعتمادها على النفط (عدا مشروع تحويل الكويت لمركز مالي وتجاري، وتخصص الكويت في الخدمات اللوجستية)، اطلق العنان لتفكيرك لا حدود للأفكار، نريد أن نجمع اكبر قدر من الافكار المخلصة لهذا البلد ربما نحسن الصورة الضبابية الحالية، سوف أقوم بحصر هذه الافكار ودراسة ما يستحق منها ومن ثم الكتابة عنها لعلنا نساهم في بناء مستقبل أفضل لهذا البلد.

الجمعة، يونيو ١٧، ٢٠١١

هل تتوقف الولايات المتحدة عن خدمة ديونها؟

نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية يوم الجمعة 17/6/2011.
يوما بعد يوم تتعقد أوضاع الاقتصاد الأمريكي ويحقق مزيدا من الخسائر على الأرض في ريادته للاقتصاد العالمي، ولعل أخطر القضايا المرتبطة بتدهور أداء الاقتصاد الأمريكي هي تصاعد حجم الدين العام الأمريكي إلى مستويات فلكية، بلغت هذا الشهر 14.3 تريليون دولارا، وهو ما يمثل حوالي 97% من الناتج المحلي الإجمالي. العامل الرئيس المسئول عن نمو هذا الدين هو العجز الكبير الذي تحققه الولايات المتحدة حاليا في الميزانية، والذي يتوقع ان يدور حول أكثر من تريليون دولارا سنويا في المتوسط خلال العشر سنوات القادمة، مما يعني أن الدين العام الأمريكي سوف يبلغ أكثر من 25 تريليون دولارا بنهاية العقد الحالي، الأمر الذي يفرض تحديا كبيرا على الاقتصاد الأمريكي لكي يخدم هذا الدين. يقدر بعض المراقبين أن الولايات المتحدة لكي تتمكن من خدمة هذه القدر الهائل من الديون تحتاج إلى أن تحقق معدل نمو لا يقل عن 5% سنويا، وهو معدل مرتفع جدا بالنسبة لاقتصاد ناضج مثل الولايات المتحدة، حيث لا يتجاوز معدل النمو الطبيعي في الولايات المتحدة نسبة 3% في المتوسط تقريبا، وعلى الرغم من ذلك قد يدهش القارئ عندما يعلم أن الدين الأمريكي يعد حتى هذه اللحظة واحدا من أكثر الديون أمانا في العالم، وتجد فيه الكثير من الدول التي لديها فوائض دولاريه الفرصة لاستثمار هذه الفوائض بأمان.
في عام 1980 كان الدين العام الأمريكي اقل من تريليون دولارا (908 مليار دولارا) أو ما يعادل 33.6% فقط من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، وبنهاية عقد الثمانينيات قفز الدين العام الأمريكي لأكثر من 3 أضعاف مستوياته في عام 1980 (3.2 تريلون دولارا). خلال التسعينيات تباطأت معدلات النمو في الدين العام الأمريكي، حيث شهدت تلك الفترة تحسنا واضحا في المالية العامة للولايات المتحدة، حتى أنه بنهاية حكم بيل كلينتون كانت الميزانية الأمريكية تحقق فائضا، وقد كانت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي عند مستويات معقولة بصورة كبيرة (57.5%)، وبحلول عام 2000 بلغ حجم الدين العام 5.7 تريليون دولارا.
عندما وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان الدين العام الأمريكي حوالي 5.8 تريليون دولارا، غير أن التحركات الطائشة للولايات المتحدة لاستعادة الهيبة الأمريكية عالميا والقضاء على ما يسمى بقواعد الإرهاب كان لهذا آثار مدمرا على مالية الولايات المتحدة ومستويات دينها العام. حيث أخذ الدين العام الأمريكي يتصاعد حتى بلغ حوالي 9 تريليون دولارا في عام 2007 قبل انطلاق الأزمة المالية العالمية أي ما يعادل حوالي 65% من الناتج المحلي الإجمالي، وقد تسبب نشوب الأزمة المالية العالمية وانهيار قطاع المساكن في الولايات المتحدة إلى حدوث اكبر زيادة تحققها الولايات المتحدة في دينها العام بسبب برامج الإنقاذ الضخمة التي تبنتها الحكومة لاستعادة مستويات النشاط الاقتصادي والخروج من الأزمة، حتى بلغ 14.3 تريليون دولارا هذا الشهر كما سبقت الإشارة، ونتيجة لذلك اضطرت الولايات المتحدة إلى رفع سقف دينها العام عدة مرات لكي تتمكن من اقتراض المزيد من الدولارات اللازمة لاستيفاء احتياجات الإنفاق لاقتصاد ضخم مثل الولايات المتحدة، بما في ذلك خدمة الدين نفسه.
يتسم الدين العام الأمريكي أيضا اليوم بارتفاع نسبة مساهمة المستثمرين الأجانب فيه بصورة واضحة. ففي عام 2000 كان المكون الخارجي من الدين العام الأمريكي في حدود تريليون دولارا فقط تمتلك معظمه اليابان. أما اليوم فقد ارتفع هذا الرقم إلى حوالي 4.5 تريليون دولارا، الجانب الأكبر منه يعود إلى الصين، التي تعتبر اكبر حامل للسندات الأمريكية في العالم. وتشير الإحصاءات المتاحة إلى أن الصين تمتلك 1.2 تريليون دولارا من السندات الأمريكية تليها اليابان والتي تحمل حوالي 900 مليار دولارا من السندات الأمريكية، أما بالنسبة لما تمتلكه الدول النفطية فتنبغي الإشارة إلى أن إجمالي ما تحمله الدول المصدرة للنفط وهي 15 دولة، منها المملكة العربية السعودية بالطبع، لا يزيد عن 212 مليار دولارا فقط.
باختصار فإنه ومنذ بداية الألفية الثالثة والولايات المتحدة تعاني من اضطراب واضح في ماليتها العامة، حيث تواجه عجزا خطيرا، في الوقت الذي تتضاءل فيه الخيارات المتاحة أمامها للتعامل مع هذه المشكلة، والنتيجة الطبيعية لذلك هي فقدانها القدرة على السيطرة على معدلات نمو الدين العام. مؤسسات التصنيف الائتماني أصبحت أكثر قلقا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، حول احتمالات تعمق أزمة الدين الأمريكي، ربما لضعف قيادة الديمقراطيين للكونجرس وغياب الحديث اليوم عن حلول مناسبة لتصاعد حجم الدين، الأمر الذي دفع مؤسسة ستاندرد أند بور في ابريل الماضي إلى تخفيض تصنيفها الائتماني  للدين الأمريكي من مستقر إلى سالب، وقد أشارت ستاندرد أند بور إلى أن السبب الأساسي في ذلك يعود إلى عدم وضوح الرؤية حول كيفية التعامل مع الاختلالات المالية في الميزانية الأمريكية.
من ناحية أخرى هددت مؤسسة موديز بأنها ربما تقوم بتخفيض تصنيفها للدين الأمريكي إذا لم يتم رفع سقف الدين بحلول منتصف يوليو القادم، أو إذا توقفت الولايات المتحدة عن خدمة ديونها ولم تقم باحتساب فوائد إضافية عن المبالغ التي لم يتم خدمتها. أكثر من ذلك فقد صدر الشهر الماضي تقرير مؤسسة CMA حول تصنيف الديون السيادية في العالم عن الربع الأول من هذا العام، والذي تراجع فيه تصنيف الدين الأمريكي من المركز الخامس بين أفضل الديون السيادية في العالم إلى المركز الثامن، غير أن الدين السيادي الأمريكي ظل بين قائمة أفضل عشر ديون سيادية في العالم وفقا لتقرير المؤسسة.
لا شك أن التصنيف الائتماني للدولة يعطي دلالة هامة حول احتمالات توقف الدولة عن خدمة ديونها أو احتمالات إعلانها الإفلاس، غير أن أداء مؤسسات التصنيف الائتماني في مرحلة ما قبل الأزمة المالية العالمية أصبح يلقى بشكوك كبيرة حول درجة مصداقية وقدرة هذه المؤسسات على تقديم تصنيف ائتماني سليم يمكن الركون إليه باطمئنان، وذلك لأن هذه المؤسسات ترتكز على متغيرات قد تكون خاطئة في إعداد تصنيفاتها، ووفقا للمراقبين، فإن ما تعلن عنه هذه المؤسسات حاليا قد لا يكون له قيمة أو مصداقية، بسبب فقدان هذه المؤسسات لمصداقيتها أصلا، وبشكل عام كان أداء مؤسسات التصنيف سيئا في التنبؤ بحالات التوقف عن السداد للديون السيادية.
رد الفعل الأمريكي لمثل هذه الاتجاهات في تصنيفات الدين العام الأمريكي جاءت أيضا بشكل لحظي، حيث حاول وزير الخزانة الأمريكي تيموثي جايثنر أكثر من مرة ان يطمئن المستثمرين الأجانب على سلامة دين الولايات المتحدة مشيرا إلى ان المستوى المنخفض لمعدل الفائدة الذي على أساسه تقوم الولايات المتحدة بالاقتراض ينبغي ان يبعث الاطمئنان في نفوس المستثمرين، ويمكن ان يقدم دليلا قاطعا على انخفاض احتمالات التوقف عن خدمة الدين الأمريكي. غير أن مؤسسات التصنيف الائتماني لا تهضم هذه الكلام بسهولة، وتريد أن ترى على ارض الواقع ما يؤيد مثل هذه الحجج التي ساقها وزير الخزانة الأمريكي، ولكن ما هو سقف الدين الذي تتحدث عنه مؤسسات التصنيف الائتماني ولماذا هو مهم إلى هذه الدرجة؟
ينص القانون الأمريكي على وضع سقف أعلى للدين الأمريكي، والذي بمقتضاه تستطيع الخزانة الأمريكية ان تصدر سندات دين في أي وقت والتي تتم في صورة مزادات لقبول عطاءات لقيم السندات ومعدل الفائدة التي يرغب المستثمرون في إقراض الحكومة الأمريكية على أساسه، ومتى ما تم تحديد سقف محدد للدين العام أصبح لزاما على الخزانة الأمريكية ألا تتجاوز هذا السقف بإصدار أي سندات إضافية إلا بعد أن تقدم الحكومة طلبا لتحريك هذا السقف إلى أعلى وإصدار الكونجرس تشريعا بذلك، ومنذ عام 1946 تم تعديل سقف الدين الأمريكي 100 مرة، وهو ما يعني من الناحية الفعلية أنه يمكن تحريك سقف الدين أكثر من مرة خلال السنة، وتتمثل الفكرة الأساسية من السقف في عدم ترك الدين الأمريكي هكذا بلا حدود وفقا لما يقرره الحزب الحاكم، ذلك أن الدستور الأمريكي ينص على أن متانة الدين الأمريكي لا يجب ان تكون موضع شك في أي وقت من الأوقات.
آخر مرة تم فيها تحريك سقف الدين إلى أعلى كانت في 12 فبراير 2010 حيث تم تحديد سقف الدين الأمريكي بـ 14.29 تريليون دولارا. في منتصف الشهر الماضي بلغ الدين الأمريكي هذا السقف، وبالتالي لم يعد من صلاحية الخزانة الأمريكية إصدار أي سندات دين إضافية، ولكي تتجاوز الخزانة هذا السقف أصبح لزاما على الإدارة الحالية أن تتقدم بطلب إلى الكونجرس لإصدار تشريع برفع هذا السقف. تقدمت الإدارة الأمريكية الحالية أكثر من مرة بطلب لرفع سقف الدين بدءا من يناير الماضي بحوالي 2.4 تريليون دولارا، وهو ما يعني أنه في حالة الموافقة على الرفع سوف يصبح السقف الجديد للدين الأمريكي 16.7 تريليون دولارا.
المشكلة هي أن الحزب الحاكم حاليا لا يسيطر على الكونجرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون، وعلى الرغم من أن الجمهوريين قد قاموا في عهد الرئيس بوش برفع سقف الدين العام سبع مرات، يرفض الجمهوريون حاليا رفع سقف الدين الأمريكي ما لم يكن ذلك مصحوبا ببرنامج محدد لخفض الإنفاق الحكومي للإدارة الحالية والسيطرة على النمو في الدين العام، ولكن ماذا يعني رفض الكونجرس رفع سقف الدين؟
الإجابة هي انه يعني ان الخزانة الأمريكية لن تكون قادرة من الآن فصاعدا على إصدار سندات خزانة جديدة لتتجاوز السقف الحالي، وبالتالي، على الأقل لن تتمكن الإدارة الأمريكية من الاستدانة لكي تخدم ديونها الحالية، أو ببساطة شديدة لقد تم وقف الأداة التي تمكن الحكومة الأمريكية من ان تقترض من الصين لكي تسدد مستحقات اليابان.
الوضع الحالي يضع الإدارة الأمريكية في حرج كبير بالنسبة لوضعها المالي، حيث قد تضطر إلى التوقف عن خدمة دينها العام، وهو إجراء خطير جدا. بالطبع يمكن للإدارة الأمريكية ان تلجأ إلى إجراءات محددة لإعادة ترتيب أولويات إنفاقها العام بحيث تتمكن من الوفاء بالتزاماتها نحو خدمة الدين، على سبيل المثال يمكن إلا تدفع أجور موظفيها أو تؤخر إصدار مدفوعات الضمان الاجتماعي أو مدفوعات الرفاهية الاجتماعية مثل مدفوعات المعاقين .. الخ، ولكن إلى متى يمكن أن تفعل الحكومة الأمريكية ذلك؟ وهل يمكن أن تجرؤ الحكومة على القيام بذلك أصلا؟ لقد أعلن جايثنر انه سوف يتخذ إجراءات إضافية للاستمرار في سداد الالتزامات حتى 2 أغسطس القادم، فإذا لم يقم الكونجرس برفع سقف الدين الأمريكي حتى ذلك التاريخ فإن الإدارة الأمريكية سوف تكون مضطرة إلى أن تتوقف عن خدمة دينها العام.  
لم يحدث ان كان التوقف عن خدمة الدين الأمريكي احد خيارات الحكومة الأمريكية، على الرغم انه قد حدث في بعض المرات أن توقفت الحكومة عن خدمة الدين ولكن ذلك لم يكن بشكل متعمد، على سبيل المثال في عام 1979 توقفت الحكومة الأمريكية عن خدمة بعض سندات الخزانة، حيث لم يتم تسديد مستحقات المستثمرين في السندات التي تستحق في 26 ابريل 1979 وذلك بالنسبة للمستثمرين من الأفراد (وليس كافة المستثمرين)، وأعلنت الخزانة أنها لن تتمكن من سداد مستحقات المستثمرين في السندات التي تستحق في هذا التاريخ بصورة مؤقتة، واضطرت إلى دفع فوائد تأخير عن فترة توقفها عن السداد، ولكن الولايات المتحدة سددت التزاماتها بعد ذلك، ونتيجة لذلك ارتفعت معدلات الفائدة التي تقترض الولايات المتحدة على أساسها بمقدار ستين نقطة أساس (0.6%) واستمرت في الارتفاع بعد ذلك، وهو ما عني ارتفاعا في تكاليف الاقتراض للحكومة الأمريكية.
صحيح أن توقف الولايات المتحدة عن خدمة ديونها اليوم لن يؤدي إلى تلك التكاليف التي تحملتها في 1979، حيث كان معدل الفائدة 9-10%، مقارنة بالمعدلات المنخفضة جدا اليوم، ولكن من المؤكد أن مثل هذا القرار سوف تكون له آثارا كارثية، ويمكن القول بأنه إذا لم يتحرك سقف الدين فربما يكون العالم على أبواب أزمة مالية جديدة. فما هي احتمالات أن تلجأ الحكومة الأمريكية إلى التوقف عن خدمة ديونها، وما هي الآثار التي يمكن أن تنشأ عن ذلك؟ هذا هو موضوع المقال القادم بإذن الله تعالى.

الجمعة، يونيو ١٠، ٢٠١١

اقتصاديات البلطجة


نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 10 يونيو 2011.
عصابات البلطجة أو عصابات الجريمة المنظمة أو جماعات المافيا أو عصابات الشباب وغيرها من المسميات، هي مجموعات إجرامية تمارس الكثير من الأنشطة سواء القانونية أو غير القانونية في مختلف دول العالم، وتعتمد قدرة هذه العصابات على زرع دورها في المجتمع سواء في مناطق جغرافية محددة أو في أنشطة معينة على قدرتها استخدام القوة وممارسة العنف، ويعد تقديم خدمات الحماية، التي قد تعرض اختيارا أو تفرض جبرا على أفراد المجتمع، أو النخبة منهم، احد الأسباب الأساسية لقيام مثل هذه الجماعات، غير أن أعمال هذه الجماعات تتسع على نحو واضح لتشمل الدخول في عمليات إنتاج وتوزيع الكثير من السلع والخدمات، ولذلك غالبا ما تتناول البحوث التي تتعلق بأنشطة الجريمة المنظمة هذه العصابات على أنها شركات، ويتم تحليل أسواق السلع والخدمات التي تقدمها على هذا الأساس.
عندما ينتشر الفساد في المؤسسات الأمنية وتقل ثقة الأفراد بإمكان حصولهم على الحماية اللازمة من جانب الحكومة، فإن القادرين من السكان الذين لا يثقون في الحماية الأمنية التي تقدمها الدولة كخدمة عامة، يلجئون إلى توفير هذه الحماية بشكل خاص، وهو ما يفتح المجال واسعا أمام تشكيل عصابات البلطجة في صورة مجموعات أمنية تقدم خدمات الحماية الخاصة، ويصبحون دولة داخل الدولة، ويقصد بالحماية إما حماية الأشخاص أو ذويهم، أو حماية الممتلكات من السرقة أو الاعتداء عليها من قبل آخرين، أو إجبار الآخرين على تنفيذ الاتفاقيات أو العقود المبرمة معهم. غير أن التعاون مع تلك العصابات غير مأمون الجانب، فمن الممكن ان يتحول اتجاه البنادق نحو من يفترض أنها تستخدم لحمايتهم، ولذلك يعد الاستعانة بخدمات عصابات البلطجة أشبه بمن يتحالف مع الشيطان، فالبلطجية هم فئات انعدم ضميرهم والإحساس الديني لديهم، وهم مستعدون للقيام بأي مهمة مهما كانت طبيعتها والنتائج التي يمكن ان تترتب عليها، بهدف واحد وهو الحصول على المال، ولذلك فهم مستعدون دائما للتعاون مع من يدفع أكثر، ومن ثم فإن تأمين ولاء هذه المجموعات يكون دائما مكلف للغاية.
لا تخلو أي بقعة في الأرض من عصابات الجريمة المنظمة، وتختلف درجة انتشار هذه العصابات حسب درجة قوة أو ضعف النظم القانونية والمؤسسات الرسمية، بصفة خاصة الشرطة، في دول العالم، فقد اشتهرت الولايات المتحدة بانتشار عصابات المافيا التي اختلفت أصولها الجغرافية بين الصقليين من ايطاليا إلى اللاتينيين في أمريكا اللاتينية إلى الآسيويين من الصين، كما تحول انتباه العالم في الفترة الأخيرة إلى الدول الشيوعية سابقا مع انتشار عصابات الجريمة المنظمة في هذه الدول في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، ومن أمثلة عصابات المافيا ما يعرف بالياكوزا في اليابان والترايادز في هونج كونج وتكتلات منتجي المخدرات في المكسيك وكولومبيا.
لعل عصابات المافيا الصقلية، هي أشهر عصابات الجريمة المنظمة على الإطلاق، وقد كان نشاطها الأساسي هو تقديم الحماية الشخصية للإقطاعيين والفلاحين ورجال الأعمال والسياسيين، والقائمة طويلة جدا في، ايطاليا، وقد تمتعت عصابات المافيا بسطوة شديدة استطاعت من خلالها ان تخضع أعلى المناصب السياسية وإجبارها على التعاون معها، على سبيل المثال لقد كشفت فضائح الفساد في ايطاليا عن ان رئيس الوزراء السابق جوليو اندريوتي اشترك في أنشطة المافيا.
تنحدر عصابات المافيا الأمريكية من عصابات المافيا الصقلية، والتي انتشرت بصورة كبيرة خلال العشرينيات من القرن الماضي، وقد كان الأعضاء فيها هم أساسا من المهاجرين الايطاليين، وقد انخرطت المافيا في العديد من الأنشطة من البناء حتى صناعة الفراء، إلى فرض تنفيذ العقود وتقديم خدمات تصفية الخلافات بين المتعاملين. ساعد المافيا في ذلك قدرتها على الولوج إلى النظم الشرطية وسيطرتها في كثير من الأحيان على أقسام الشرطة والمحليات في كثير من المدن، ويقال ان نجاح الرئيس السابق جون كينيدي في الانتخابات يرجع إلى رجل عصابات شيكاغو سام جيانغانا. كما تشير رويترز إلى انه حتى عام 1980 كان عمد المدن الأمريكية مثل بوسطن وفيلاديلفيا ونيو يورك على صلة بالمافيا المحلية في تلك المدن، وعلى الرغم من نجاح الحملات التي قامت بها الحكومة الأمريكية ضد عصابات المافيا الأصلية، أو هكذا يبدو، إلا انه ليس من الواضح مدى الانخفاض في أنشطة الجريمة المنظمة التي تقوم بها تلك العصابات، إذ ربما حدث تحول في طبيعة العصابات التي تقوم بأنشطة المافيا إلى عصابات من كولومبيا والمكسيك والصين.
كذلك اشتهرت في اليابان عصابات الياكوزا والتي كانت تمارس أنشطة الأعمال المختلفة بشكل رسمي حتى عام 1992، عندما تم تعديل القانون بالشكل الذي يجعل من الصعب عليها ان تمارس أنشطة اقتصادية بصورة علنية، وقد استخدم مطورو المباني المتخصصين في اليابان الياكوزا لإجلاء شاغري الأراضي اللازمة لإقامة الإنشاءات الجديدة، وهو ما جعل العصابة تتخصص في أنشطة التطوير العقاري والمضاربة العقارية، كما قد كشف عام 1991 عن ان أكبر مؤسسات السمسرة في الأسهم Nomura and Nikko، كان تتعاون مع الياكوزا لرفع أسعار بعض الأسهم، كما كشف عن وجود ارتباطات عديدة بين أحزاب وأثرياء وغيرهم بالعصابة.
تشتهر كولومبيا بأن بها أكثر مجموعات الجريمة المنظمة عنفا وديناميكية في العالم، وتعد عمليات تصنيع وتوزيع الكوكايين النشاط الأساسي للمجموعات الكولومبية، والتي تتخصص في تحويل أوراق الكوكا الذي يتم زراعته في أقاليم الأمازون وبوليفيا وبيرو وكولومبيا إلى كوكايين ثم تهريبه إلى الولايات المتحدة وأوروبا، وأشهر هذه العصابات ما يعرف بمجموعة كالي. لم تتورع هذه العصابات عن مهاجمة المؤسسات الحكومية وكذلك وسائل الإعلام، وتقديم الرشوة للبوليس والجيش والقضاة والقادة السياسيين.
كذلك ازدهرت مجموعات عصابية في المكسيك لتهريب الكوكايين إلى الولايات المتحدة، مستغلة في ذلك فساد رجال الشرطة، وتشير الدراسات المتاحة إلى أن الكثير من مكاتب الشرطة في المكسيك يمكن ان تعتبر من مجموعات الجريمة المنظمة التي تمارس أنشطة الأعمال الخاصة بها مثل سرقة السيارات وتلقي الرشوة، ومن الحوادث المشهورة أن أحد رجال الشرطة أوقف قائد سيارة ووجه إليه سلاحه طالبا منه تسليمه ما يحمل من مال وممتلكات، ولسوء حظ الشرطي أن الرجل كان ابن رئيس البلاد، حيث لحقه رجال الأمن الشخصي وقبضوا على الشرطي، ونظرا لفقدان الثقة في رجال الأمن، قامت حكومة المكسيك أثناء حملتها على عصابات المافيا بتعيين قائد الجيش مسئولا عن حرب الدولة ضد المخدرات، ومع ذلك فقد كشف لاحقا عن أن ذلك لم يمنع من تزايد عمليات الرشوة.
كما هو الحال في كثير من دول أمريكا اللاتينية فإن الشرطة في روسيا والكثير من الدول الشيوعية السابقة تقع ضمن هذه المجموعات، بل يقال ان معظم الاقتصاد والسياسة في هذه الدول تسيطر عليه هذه العصابات، ولعل أهم ما يميز العصابات السوفيتية وجماعات المافيا فيها هو قدرتها الكبيرة على استخدام القوة ونشر العنف، وبالإضافة إلى الاتجار في المخدرات فإن احد النشاطات الرئيسية للعصابات في روسيا والدول الشرقية هي تهريب النساء من دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى مختلف دول العالم. بالطبع لا يمكن ان تنتشر هذه العصابات على هذا النحو إلا إذا كان هناك نوع من التعاون مع الشرطة ورجال السياسة والجيش ورجال الأعمال، والذين يعتقد أن لهم صلة على نحو ما بهذه العصابات، وفي دراسة عن 107 دولة موقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة، توصل Edgardo Buscaglia  إلى أن أفضل وسيلة لمكافحة الجريمة المنظمة هي تقوية مؤسسات الدولة ومكافحة الفساد فيها.
تنتشر أيضا في مدن العالم ما يطلق عليه عصابات الشباب Youth Gangs، والذين غالبا ما ينحدرون من المناطق منخفضة الدخل، وهي جماعات اقل تنظيما وأصغر في الحجم من عصابات المافيا، وتتخصص في الأنشطة الأقل تنظيما مثل توزيع المخدرات، ربما بسبب افتقاد التنظيم الرأسي الصارم الذي تتمتع به عصابات الجريمة المنظمة، أو غياب قدرتها على التأثير السياسي مثلما هو الحال بالنسبة لعصابات المافيا.
غالبا ما تنشأ عصابات الجريمة المنظمة في المناطق التي تهملها السلطات باعتبارها مناطق غير مهمة بالنسبة للدولة، مثل المناطق النائية أو المناطق العشوائية في المدن، حيث يصبح المناخ خصبا لنشوء هذه العصابات التي تلعب دور شبيها بدور الحكومة، حيث تفرض سيطرتها ونظامها في تلك المناطق. أو قد تنشأ هذه المجموعات مع حدوث تغير سياسي جوهري، مثل الحروب أو الثورات أو التغير الكبير في النظام السياسي، حيث يذهب النظام السياسي القديم ويأت نظام جديد، ولكنه يأخذ فترة لكي يتكون ويفرض السيطرة والاستقرار الأمني، مثل التحول الذي حدث في الدول الشيوعية، وما بين النظامين القديم والجديد تكون هناك فترة انتقالية يشعر الأفراد خلالها بفقدان الأمن، على سبيل المثال تكونت المافيا الايطالية في أعقاب توحيد ايطاليا، والمافيا الروسية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق.
أو قد تتكون هذه العصابات من جماعات اثنية تتشابه في الأصل العرقي أو الأصل الجغرافي أو الإحساس بأنها معزولة في هذا المجتمع الذي تعيش فيه، وأنها لا تحصل على كامل احتياجاتها، أو أن النظام السياسي أو القانوني في الدولة قد أهملها. غير أن هناك بعض الدراسات التي تشير إلى أن نشاط البلطجة يأخذ في الازدهار مع ارتفاع معدلات البطالة، وأن الأوضاع الاقتصادية تلعب دورا مهما في ازدهار هذه الأنشطة أو اختفاءها، وقد حاول Alan Seals اختبار هذه الفرضية في دراسة عن الولايات المتحدة الخمسين، وقد توصل إلى أن انخراط الشباب صغار السن في العصابات يتركز في الفئات العمرية تحت 16 عاما (السن القانوني للعمل)، بعد هذه السن ترتفع تكلفة الفرصة البديلة للانخراط في عصابات الشباب، حيث يصبح العمل متاحا بشكل قانوني، ومن ثم ينخفض انخراط الشباب في العصابات بصورة واضحة، وقد خلص Seals إلى أن معدل البطالة يلعب دورا حيويا في التأثير على أنشطة عصابات الشباب، وقد توصل Martin Katzman و Poutvaara and Priks، إلى نفس الخلاصة في دراسات أخرى. غير أنه إذا كانت هذه الفرضية معقولة، فمن المفترض إلا تشهد دولة مثل اليابان مثل هذه الأنشطة، وهي دولة معروفة بانخفاض معدلات البطالة فيها على نحو واضح، على الأقل قبل الأزمة الآسيوية. هناك أيضا فرضية تقضي بأن الانضمام إلى هذه العصابات يتم في بعض الأحيان تحت التهديد الذي تمارسه هذه العصابات ضد من تتوسم فيه أنه مشروع عنصر ناجح للانخراط في التنظيم.
بغض النظر عن الأسباب المسئولة عن انتشار مثل هذه الجماعات، فإنه من المؤكد أن الآثار الاقتصادية لانتشارها متعددة، لعل أهمها هو انخفاض كفاءة استغلال الموارد في المجتمع، حيث توجه بعض هذه الموارد نحو أنشطة البلطجة، وقد كان من الممكن توجيهها نحو أنشطة أكثر إنتاجية في حال اختفاء هذه الجماعات، ويشبه السوق الذي تعمل فيه هذه الجماعات سوق المنافسة الاحتكارية، حيث تعمل كل جماعة على الاستئثار بأكبر قدر ممكن من سوق الخدمة، وفي سبيل ذلك فإن كل مجموعة من هذه المجموعات تحاول أن يكون لديها جيش أقوى ومعدات أفضل واستعداد أكثر للقتال الأمر الذي يتطلب موارد ضخمة.
الأثر الثاني هو ما يسمى بالأثر التوزيعي حيث تتم عملية إعادة توزيع للموارد في المجتمع نحو هذه الجماعات، والتي من الواضح أنها عملية إعادة توزيع قسرية، الأمر الذي يضر بعدالة توزيع الدخل وتكوين الثروة في المجتمع. ذلك أن أنشطة البلطجة تجلب المال الوفير، والذي تستخدمه العصابات لتوفير الغطاء المالي لأسر من يتم القبض عليهم أو من يقتلون في المطاردات التي تتم مع السلطات الأمنية.
الأثر الثالث هو تراجع هيبة الدولة وفقدان الأفراد الثقة فيها، الأمر الذي يشعر الأفراد بالخوف، وبما أن الأمن يعد أحد الحاجات الأساسية في أي مجتمع، والتي ينبغي ان يتم استيفاؤها بأي شكل من الأشكال، سواء أكان ذلك من خلال مؤسسات عامة أو خاصة أو من خلال الأفراد أنفسهم، فإن انتشار هذه الجماعات يؤدي إلى تراجع مستويات الرفاهية نتيجة فقدان الإحساس بالأمن وتراجع نوعية الخدمات الأمنية التي يحصل عليها السكان في حال تخصيص عملية تقديمها لمثل هذه الجماعات مقارنة بالحال عندما تضطلع حكومة مركزية قوية بتقديمها.
الأثر الرابع هو أن مقاومة عصابات البلطجة مهمة ليست سهلة فضلا عن تكلفتها الكبيرة، فهي أشبه ما تكون بحرب طويلة الأجل، حيث يستحيل القضاء على هذه الجماعات بين يوم وليلة، فقد ظلت الولايات المتحدة تحارب جماعات المافيا لمدة خمسين عاما قبل أن تقضي على نفوذ هذه الجماعات بصورة كبيرة، ومع ذلك فإن هناك أشكالا أخرى من العصابات ما زالت تعمل بصورة فعالة في الولايات المتحدة إلى يومنا هذا، وطالما ان العوامل المسئولة عن انتشار هذه الجماعات موجودة، فسوف تظل هذه الجماعات قائمة بصورة أو بأخرى في المجتمع، يعتمد ذلك على مدى شفافية هذا المجتمع ونزاهة قوى الأمن وطبيعة الساسة فيه، فقد تجد البلطجة رعاية رسمية من أعلى السلطات في الدولة باعتبارها أداة مهمة لتأديب الخارجين على النظام دون ما حاجة إلى ملاحقتهم بصورة رسمية خصوصا إذا كانوا من معارضيه.
لقد كشفت الثورة في مصر على أن أنشطة البلطجة تمارس على نطاق واسع، وأن المتنفذين يمكنهم تجييش الجيوش من هؤلاء البلطجية في أي وقت لتحقيق مآربهم، ولعل ما أطلق عليه بمعركة الجمل خير شاهد على ذلك، حيث تمكن بعض رجال الأعمال والسياسيين بما فيهم الوزراء من حشد مجموعات كبيرة من هؤلاء البلطجية الذين امتطى بعضهم ظهور الأحصنة والجمال لطرد المتظاهرين من ميدان التحرير، وهو ما انتهى بنهاية مأساوية، لما فشلت الفكرة، تم حشد مجموعات أخرى من البلطجية ومدهم بقطع الرخام الصغيرة وإطلاقهم على المتظاهرين في ميدان التحرير، في محاولة يائسة لإخراجهم من الميدان وهو ما انتهى بجرح عشرات الآلاف من المتظاهرين. يوم السبت 21/5/2011 صرح وزير العدل المصري بأنه يوجد هناك ما بين 300 إلى 500 ألف بلطجي في مصر، يتقاضى الواحد منهم أجرا يوميا في مقابل خدماته يصل إلى 5000 جنيه، وهو مقابل مجز جدا بالمقاييس المصرية، ولقد صعقت عندما قرأت عن هذا العدد، الذي لا أدري ان كان دقيقا أم لا، ولكن إذا كان هذا الرقم صحيحا فإن ذلك يعني أن مصر تحتوى على أكبر عدد من البلطجية إلى كل ألف نسمة من السكان، فالولايات المتحدة الأمريكية بولاياتها الخمسين يقدر عدد أفراد العصابات التي تعمل فيها بحوالي 750 ألف عنصرا فقط.
الأثر الخامس هو على الاستثمار في قطاع الأعمال الخاص، ففي دراسة مثيرة على 34 دولة من الدول الناشئة وتلك التي  تمر بمرحلة تحول في أوروبا وآسيا توصل Krkoska and Robreck إلى أن انتشار الجريمة يؤثر بصورة سلبية على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، ومن ثم على قرارات المستثمرين الأجانب بالاستثمار في الدولة من عدمه. وقد توصلت الدراسة إلى أن تأثير الجريمة على قرارات الاستثمار اكبر في حالة الدول التي تمر بمرحلة التحول عن الدول المستقرة في أوروبا، حيث يضطر المستثمر إلى تحمل تكاليف إضافية في صورة تحويلات مالية منتظمة أو هدايا للمسئولين في الجهاز الأمني في مقابل الحصول على الحماية الأمنية المناسبة لاستثماراته ضد أنشطة هذه العصابات، وهي نتائج في غاية الخطورة وتشير إلى ضخامة حجم التكلفة التي يتحملها الاقتصاد نتيجة انتشار مثل هذه العصابات.
تشير الدلائل المتاحة حتى الآن إلى أن الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر قد توقف تماما حتى هذه اللحظة، ويعزى السبب الأساسي إلى غياب الأمن وانتشار أعمال البلطجة، الذي يرفع درجة مخاطر الدولة. فالخوف من الجريمة له تأثير سلبي جدا على قرارات الاستثمار، والمستثمر الأجنبي يريد أن يتأكد أن أصوله التي سيقوم بإنشائها في الدولة التي سيستثمر فيها تلقى حماية مناسبة، وأن ما سيقوم بإنتاجه سيتم نقله وتوزيعه أو تصديره إلى الخارج بأمان تام، وأنه لن يضطر إلى دفع تكاليف إضافية في مقابل طلب حماية هذه العصابات بعد أن يكتشف انه قد قام بالاستثمار في مناخ استثماري غير آمن.
باختصار شديد البلطجة نشاط مدمر للمجتمع من الناحية الاقتصادية قبل أن يكون مدمرا من الناحية الأمنية والاجتماعية والسياسية، ولذلك ينظر علماء الدين إلى البلطجة على أنها نوع من الحرابة ضد المجتمع وشكل من أشكال الإفساد في الأرض، وقد كان حكم الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عادلا وبحجم الضرر الذي تسببه مثل هذه الجماعات، حيث تنص الآية الكريمة "إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ" صدق الله العظيم.