الأربعاء، ديسمبر ٣٠، ٢٠١٥

مقال يعاد نشره مرة أخرى "دولة المليارديرات الفقراء"

بمناسبة الحديث عن زعيم زيمبابوي أعيد نشر مقال سابق كان قد نشر بعنوان دولة المليارديرات الفقراء على مدونة مذكرات اقتصادية.
التضخم الجامح Hyper-inflation هو حالة من التضخم الحاد الذي تأخذ فيه معدلات الزيادة في الأسعار في النمو بأكثر من 50% شهريا، أي ما يقارب الـ 1300% سنويا. وفي حالات التضخم الجامح الحادة تصل الزيادات في الأسعار إلى أرقام فلكية، بحيث تصبح النقود بلا قيمة، وربما تكون تكلفة الورق الذي تطبع عليه النقود اكبر بكثير من القيمة الاسمية المنصوص عليها على الورقة. ونظرا لذلك يتم تعديل فئات النقود من خلال إضافة أصفار إضافية على كل ورقة جديدة يتم طباعتها، فبدلا من أن تحمل الورقة قيمة دولار، تصبح 10000 دولار، ثم 100000 دولار، ثم مليون دولار، ثم بليون دولار، ثم 500 بليون دولار للورقة الواحدة، وهكذا. الشكل التالي يمثل ورقة بنصف تريليون دولار أصدرت في يوغوسلافيا أثناء التضخم الجامح (1992-1994).
لك أن تتخيل الآن ما هو إجمالي عرض النقود اذا كانت الوحدة النقدية تصدر بنصف تريليون، انه رقم يحتاج إلى أكثر من سطر لكتابته. في ظل هذه الأوضاع نواجه الحالة الكلاسيكية للتضخم الجامح الحاد، وهي طوفان من النقود يطارد كمية صغيرة جدا من السلع، فتأخذ الأسعار في الارتفاع بشكل فلكي.
زيمبابوي تعيش حاليا الحالة الكلاسيكية للتضخم الجامح، الحاد بما له من أبعاد اقتصادية خطيرة على الفرد والاقتصاد بشكل عام. السبب الأساسي للتضخم في زيمبابوي هو الأزمة الاقتصادية والسياسية الطاحنة، التي أعقبت انتخابات مارس 2008، وإعادة الانتخابات في يونيو من نفس العام. ببساطة روبرت موجابي، قرر الاستمرار في كرسي السلطة بأي ثمن، على طريقة أنا ومن ورائي الطوفان، مثل هتلر وميلوسوفيتش وصدام حسين.. وغيرهم ممن ذهبوا إلى مزبلة التاريخ. فمنذ إعلان نتائج انتخابات مارس 2008 والتي فازت فيها المعارضة، رفض موجابي النتائج، ودخلت البلاد في حالة من العنف والاضطرابات السياسية الحادة، وكان موجابي قد أعلن انه سيفعل أي شيء لكي يحكم سيطرته على البلاد، بما في ذلك اضطهاد وقتل أعضاء الحزب المعارض له حركة التغيير الديمقراطي. التضخم الجامح في زيمبابوي حول الشعب إلى فقراء وهاجر عدد كبير من السكان إلى المناطق المجاورة هربا من جحيم التضخم. وأصبح الشغل الشاغل للمواطن الزيمبابوي الآن هو كيف يدبر مسألة توفير طعام، أي طعام، على مائدته، في خضم هذا التورنادو السعري. يشير احد الصحفيين الأمريكان انه في 4 يوليو الماضي كان سعر البيرة في احد بارات هراري الساعة الخامسة مساءا يساوي 100 مليار دولار، وبعد ساعة واحدة ارتفع السعر إلى 150 مليارا (أنظر http://www.latimes.com/news/nationworld/world/la-fg-money14- 2008jul14,0,3947241.story)، أي أن الأسعار أصبحت تتغير الآن كل ساعة. من الواضح أن أعدادا متزايدة من السكان يتوقع أن تواجه الجوع، وتقدر منظمة الفاو بأن أعداد هؤلاء سوف تصل إلى 5 ملايين في السنة القادمة (ملحوظة: عدد سكان ريمبابوي حوالي 12 مليون نسمة، هاجر منهم حوالي 3 مليون نسمة. توقع العمر عند الميلاد للشخص في المتوسط 39 سنة، وهو أقل مستوى لتوقع العمر في العالم، بسبب ضعف مستوى الخدمات الصحية، وتقدر الـ CIA أعداد المصابين بالإيدز بحوالي 2 مليون شخص، يموت منهم حوالي 170,000 سنويا).
معدل التضخم الرسمي المعلن هذا الشهر هو 2,200,000% أي أعلى بـ 13 ضعفا من مستوى الأسعار في فبراير الماضي. في الوقت الذي يعتقد الكثير من الاقتصاديين أن المعدل أعلى من الضعف، أي ربما 5,000,000%، وربما يصل إلى 15,000,000%. وبالنسبة لبعض المواد الأساسية التي تباع في السوق السوداء، حيث بلغ معدل الارتفاع 70,000,000% للصابون، و 60,000,000% لزيت الطعام و36,000,000% للسكر. في ظل هذه الأوضاع يباع الزيت في زيمبابوي بالملعقة كمكيال، وليس باللتر. هل تتخيل الآن كم من ملايين الدولارات الزيمبابوية هي ثمن ملعقة من الزيت؟.
بعض الأسعار الرسمية للسلع الأساسية هي: كيلو السكر 10,000,000,000 (10 مليار) دولار زيمبابوي، رغيف الخبز 100,000,000,000 دولار زيمبابوي (100 مليار)، كيلو اللحم بـ 450,000,000,000 (450 مليار)دولار زيمبابوي، لتر الحليب 200,000,000,000 (200 مليار) دولار. غير أن أسعار السوق السوداء تفوق ذلك بمراحل. وبالنسبة للمواطن الزيمبابوي، هذه أسعار زمان، زمان جدا، هذا الأسبوع، سعر كيلو الدقيق في السوق السوداء 1,000,000,000,000(واحد تريليون) دولار، وسعر رغيف الخبز هو 250,000,000,000 دولار، وسعر الدجاجة المجمدة هو 250,000,000,000,000 (250 تريليون) دولار زيمبابوي.
إنها طاحونة أسعار، تطحن المواطنين، بصفة خاصة الفقراء منهم، والذين لم يعودوا قادرين حاليا على دفع تكاليف دفن موتاهم. وفي محاولة لتوفير السلع المدعمة أعلن الرئيس موجابي عن خطة لتوزيع السلع المدعمة والتي ستكلف الأسر المتوسطة 100,000,000,000 (100 مليار) دولارا زيمبابوي فقط شهريا. في الوقت الذي لم يعرف فيه كيف سيمول البنك المركزي تكاليف الدعم في الوقت الذي تنهار فيه الخدمات الصحية وغيرها من الخدمات العامة.
وفي ظل هذه الأوضاع أغلقت الكثير من المصانع أبوابها، بينما تعمل المصانع المستمرة بطاقة أقل من 30%، وبعد أن كانت زيمبابوي مكتفية ذاتيا في بعض السلع الأساسية، أصبحت تستوردها من الخارج. التضخم الجامح إذن خرج عن نطاق السيطرة، وأصبح الاقتصاد على حافة الانهيار بسبب مشاكل العرض وعدم فاعلية سياسات الرقابة على الأسعار. وفي ضوء هذه الأرقام الفلكية للأسعار تحتاج إلى سيارة نقل لتنقل لك كمية النقود اللازمة لشراء رغيف من الخبز اذا كانت النقود من فئة 100 دولار، ولذلك اضطرت حكومة زيمبابوي إلى إعادة إصدار النقود بفئات أعلى، أي من خلال إضافة عدة أصفار إلى أرقامها السابقة، وأخيرا تم إصدار ورقة نقدية من فئة الـ 100 مليار دولار، كما هي في الشكل التالي:
كذلك يترتب على تلك الأسعار الفلكية نقص كمية النقود المتاحة عن توفير القوة الشرائية اللازمة لتمويل المعاملات، لذلك تزيد الضغوط على البنوك أثناء التضخم الجامح، مما يدفع الحكومة إلى تحديد حد أقصى على مسحوبات الأفراد من مودعاتهم في البنوك. وقد حدد بنك الاحتياطي الزيمبابوي الحد الأقصى للسحب اليومي من البنوك بـ 100 مليار دولار.
ما الذي يؤدي إلى هذه الارتفاعات الفلكية في الأسعار، الإجابة ببساطة هي طبع النقود، وتعديل فئات النقود من دولار مثلا إلى 100 مليار دولار للورقة الواحدة. في ظل هذه الظروف يبلغ معدل نمو عرض النقود أضعاف معدل النمو في الناتج فتكون النتيجة هو ما يعرف تقليديا عن التضخم الجامح (نقود كثيرة جدا تطارد سلع قليلة جدا). ولكن ما الذي يدفع الحكومة إلى هذا السلوك. منذ أعوام قليلة بلغ الدين الحكومي نسبة تفوق 100% من الناتج المحلي لزيمبابوي، ولتمويل الدين الحكومي (أقساط الدين + الفوائد) لجأت الحكومة، في ظل ضعف مواردها (الضرائب)، إلى طبع النقود لسداد تكاليف الدين الحكومي، فبدأت الأسعار في الارتفاع، ثم حدثت الأزمة السياسية التي أعقبت انتخابات مارس 2008، ودخلت البلاد في أزمة سياسية واقتصادية طاحنة ترتب عليها نقص كبير في المعروض من السلع الأساسية مما أدى إلى هذا التضخم الجامح. غير أن هذا النقص في العرض من السلع ازداد سوءا بسبب قوانين الرقابة على الأسعار، التي تثبت أسعار السلع، بالنسبة لمنتج تلك السلع لن يجد خيارا سوى إغلاق مصنعه بسبب الزيادة الفلكية في تكاليف الإنتاج، بينما لا تتغير الأسعار الرسمية للسلع بنفس المعدل، مما يعني أن الاستمرار في الإنتاج والبيع بالأسعار الرسمية سوف يعني تحقيق خسارة هائلة. في ظل هذه الأوضاع تتعقد مشكلة نقص عرض السلع ومن ثم تأخذ الأسعار في الارتفاع بمعدلات فلكية، ليس على شكل حلزون ولكن في صورة تورنادو، حيث ترتفع الأسعار كل ساعة.
التفسير النقودي للتضخم بسيط ومباشر، انه يقوم على أساس نظرية كمية النقود والتي تأخذ الصورة الآتية:

M V = P Q
حيث M هي كمية النقود، و V هي سرعة تداول النقود (متوسط عدد المرات التي يتم استخدام الوحدة النقدية فيها بين البائعين والمشترين خلال السنة)، و P هي الأسعار، و Q هي كميات السلع والخدمات المختلفة. وتفترض النظرية أن كل من سرعة التداول V و كمية السلع والخدمات Q ثابتة. وفي ظل هذه الفروض اذا زادت كمية النقود بنسبة ما فان الأسعار لا بد وأن ترتفع بنفس النسبة، أي أنه اذا زادت كمية النقود بـ 10%، فان الأسعار لا بد وأن ترتفع بنفس النسبة. معنى ذلك أن لجوء البنك المركزي في دولة ما إلى طبع كمية من النقود تزيد عن حاجة المجتمع لتمويل المعاملات المختلفة، سوفي يؤدي حتما إلى تضخم. فإذا ما كانت معدلات النمو في طبع النقود فلكية، فان البلاد لا محالة ستواجه حالة تضخم جامح.
المشكلة في زيمبابوي أن التضخم ليس ناجما عن جذب الطلب، فالقوة الشرائية للفرد المتوسط منعدمة تقريبا، حيث يعمل حاليا واحد من كل خمس أشخاص من قوة العمل، وإنما في العجز الكبير في العرض الناجم عن انخفاض مستويات الإنتاج بسبب الأزمة الاقتصادية، في ظل طوفان عرض النقود الذي تطبعه الحكومة لمواجهة تكاليف نفقاتها من خلال تطبع المزيد من النقود. وبالنسبة للـ 20% التي تعمل من قوة العمل فإنها تطالب برفع أجورها الاسمية بشكل شبه يومي، مما يعني وجود قوة شرائية تزيد عن العرض المحدود جدا من السلع بسبب الانهيار الاقتصادي.
ماذا يجب أن تفعل زيمبابوي، للأسف الخيارات المتاحة أمام زيمبابوي هي خيارات اقل ما يمكن أن توصف به أنها خيارات حادة، بنفس حدة معدلات التضخم التي تواجهها، زيمبابوي عدة خيارات هي:
مما لا شك فيه أن على موجابي وحزبه أن يرحلان ويتركا الحكم أولا، وإتاحة الفرصة أمام وجوه جديدة بأفكار ورؤى جديدة تساعد على إعادة بناء البلاد وتعيد للشعب الزيمبابوي دخوله الحقيقية التي أهدرتها نار التضخم.
الدولرة: أي إلغاء الدولار الزيمبابوي والتعامل بعملة تتسم بالاستقرار النقدي، مثل الدولار الأمريكي أو اليورو الأوروبي. ومن ثم إلغاء البنك المركزي الزيمبابوي والتخلي عن السياسات النقدية الوطنية، وترك تلك المهمة للبنك المركزي للدولة التي سيتم تبني عملتها.
إلغاء الدولار الزيمبابوي الحالي وإصدار عملة جديدة بفئات جديدة، بحيث يتم استبدال الدولار الحالي مع العملة الجديدة على أساس معدل تحويل ثابت، مع إتباع سياسات نقدية ومالية جديدة تضمن تحقيق الاستقرار النقدي المطلوب، فضلا عن تبني سياسات تشجع رأس المال المبادر وتحسن من بيئة الأعمال وتجذب الاستثمار الأجنبي المباشر.
تحديث.
بالفعل قامت زيمبابوي بالغاء الدولار الزيمبابوي ولجأت الى الدولرة كحل لمشكلة التضخم الجامع ودخلت في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي لرسم برنامج لاستقرارها الاقتصادي. العام الماضي تراجعت الاسعار على نحو كبير بسبب هذه الاجراءات. 


السبت، ديسمبر ٢٦، ٢٠١٥

صنع في مصر Made In Egypt

صناعة مصرية، عبارة اعتدت أن أراها تملأ المحلات والأسواق في مصر وأنا صغير.
كان المنتج الأجنبي أو المستورد (صناعة بره) لا يوجد في الأسواق، عدا بعض البقع الشهيرة التي كانت تباع فيها بعض السلع المهربة من الخارج مثل الملابس، كشارع الشواربي في وسط القاهرة، أو سوق ليبيا، أو من خلال ما يسمى "تجار الشنطة"، وهي السلع التي يهربها بعض المصريين أثناء عودتهم من الخارج.
كانت مصر قد بدأت نهضتها الصناعية في أواخر الخمسينيات بإنشاء عدد ضخم جدا من المصانع في كافة المجالات، فكان تقريبا كل شيء يصنع في مصر، بدءا من الإبرة حتى الصاروخ، مرورا بالسيارات والراديوهات، والتليفزيونات، والثلاجات والغسالات وبالطبع بالملابس والكهربائيات. كل السلع الاستهلاكية كانت تصنع في مصر.
...
كان من الممكن أن تصبح مصر اليوم دولة صناعية لا يشق لها غبار، لولا توجهها الأساسي نحو الداخل، وعدم اهتمامها بالتصدير أو المنافسة، وذلك في ظل إداراتها السيئة، ومناخها السياسي غير المناسب. لو طورت مصر صناعاتها، واهتمت بالبحث والتطوير واعتماد مفاهيم الإنتاجية والتنافسية والجودة، والإدارة المتخصصة الكفؤة لا الإدارات القائمة على المحسوبية والولاء، والتوجه نحو الخارج لكان لها شأنا آخر اليوم.
...
قامت الصناعة المصرية على مبدأ الإحلال محل الواردات، بمعنى آخر، النظر إلى قائمة ما تستورده البلاد، ليتم إنشاء مصنع لها في مصر ليغلق في اليوم التالي باب استيرادها من الخارج. نجحت هذه السياسة في البداية في تخفيض الضغوط على الجنيه المصري نحو التراجع، وظل محافظا على قيمته أمام العملات العالمية لفترة طويلة، حتى بدأ الانفتاح الاقتصادي في عصر السادات، الذي دق أول وتدين في ظهر الصناعة المصرية، الأول بفتح باب الاستيراد من الخارج تحت ما يسمى "نظام الاستيراد بدون تحويل عملة"، وتحويل بورسعيد إلى منطقة حرة، والتي أصبحت بابا خلفيا للاستيراد الحر من الخارج ثم تهريب تلك السلع المستورد الى داخل البلاد، لتضغط على المصانع القائمة في الداخل.
...
مشكلة الصناعة المصرية بعد الثورة أنها بدأت في القطاع العام، أو تم تأميمها من أصحابها الذين أنشأوها وطوروها وتحويلها إلى مصانع تملكها الدولة، بإدارات غير متخصصة في الغالب، وكان توظيف العمال فيها يتم على أساس خلق فرص عمل لمصري، وفي أحيان كثيرة بغض النظر عن تخصصه.
...
اهتم قادة الصناعة المصرية في القطاع العام بالكم، ولم يلقوا أي بال للكيف أو النوعية أو الجودة. وكان الأداء يقاس بأرقام وقيم فقط، وبالتالي معدلات نمو، ولأن السوق كان مغلقا على الصناعة المصرية بمنع استيراد السلع المنافسة لها، فقد لاقت نجاحا في البداية لأن المستهلك لم يكن أمامه خيار. أبسط مثال على ذلك ما كان يطلق عليه الثلاجة آيديال" والتي كانت النوع الوحيد من الثلاجات الذي يوجد في مصر كلها، وكانت عبارة عن صندوق أبيض لم تتغير ملامحه لعشرات السنين منذ إنشاء المصنع حتى التسعينيات تقريبا، كان مصنع آيديال يتمتع باحتكار لصناعة الثلاجات، وكان الهم الأساسي لمن يديرونه هو استيفاء حاجة السوق المحلي، دون استثمار في البحث والتطوير أو بذل أي مجهود في تحسين خصائص المنتج، لذلك انهار الطلب على المصانع مع أول سماح باستيراد الثلاجات من الخارج، والتي أظهرت مدى تخلف المنتج وتخلف القائمين على إدارة تلك المصانع.
...
نفس القصة تكررت مع باقي مصانع القطاع العام، فلم تستطع الصناعة المصرية أن تواجه المنتجات المنافسة لها بجودتها العالية وبأسعارها المنخفضة، وبتطورها وكفاءتها، بعد أصبحت ذات سمعة سيئة، بينما أصبحت عبارة مستورد من الخارج حتى ولو من الصين، لها رنين خاص في أذن المصريين. أما عبارة "صنع في مصر" فلم نعد نراها إلا نادرا اليوم في مصر. وأصبح القطاع الصناعي في مصر هزيلا، لا كفاءة، ولا جودة، ولا تنافسية.. الخ.
...
إقالة الصناعة المصرية من عثرتها، وعودة عبارة صنع في مصر أو صناعة مصرية مرة أخرى تعتبر تحد كبير في عالم اليوم. شخصيا أراها مهمة شبه مستحيلة، وتتطلب استراتيجيات خاصة ونوعية مختلفة من رجال الأعمال غير هؤلاء الذين تعج بهم مصر في الوقت الحالي، وهيكل حوافز مناسب للصناعيين، وفوق هذا كله، عمال ذوي تعليم كفء، لا التعليم القائم على الدروس الخصوصية، مهندسين أكفاء وباحثين مدربين ومتخصصين في الابتكار وتطوير المنتجات، ومسوقين دوليين على دراية بالأسواق العالمية واحتياجاتها .. الخ، قائمة طويلة جدا من المتطلبات الضرورية لقيام صناعة تنافسية مرة أخرى.

الجمعة، ديسمبر ٢٥، ٢٠١٥

تزييف فواتير التجارة الخارجية وهدر ثروات الدول

من الناحية النظرية، ووفقا للمداخل الحديثة في النمو مثل مدخل سولو أو مدخل النمو الداخلي، فإنه من المفترض أن الفوائض التي تحققها الدول الغنية من المدخرات تؤدي الى زيادة عرض رأس المال فيها، ومن ثم تراجع العائد الحدي عليه، مما يدفع أصحاب رؤوس الأموال إلى البحث عن فرص أفضل لاستثمار رؤوس أموالهم خارج دولهم.
من الناحية النظرية أيضا يفترض أن الدول النامة تواجه نقصا في عرض رؤوس الأموال، نظرا لانخفاض مستويات الادخار نتيجة انخفاض الدخول، وهو ما يترتب عليه ارتفاع العائد الحدي لرأس المال فيها، وبفرض غياب القيود على تدفقات رؤوس الأموال بين الدول، يتوقع ان يحدث انتقال لرؤوس الأموال من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة، وبما أن نصيب العامل من رأس المال هو أحد أهم العوامل المحددة للنمو، فقد قاد ذلك بعض المنظرين إلى توقع حدوث تقارب في النمو بين الدول النامية والدول الغنية، وبالتالي تضييق الفجوة بينهما.
غير أن الواقع العملي في العالم ينفي هذا التوقع، حيث لا تتدفق رؤوس الأموال من الدول الغنية إلى الدول الفقيرة كما هو مفترض نظريا، وإنما على العكس من ذلك تخرج رؤوس الأموال من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية. أي من الدول الأكثر حاجة إلى رؤوس الأموال إلى الدول الأقل حاجة اليها.
تتعدد الأسباب التي تقف وراء ظاهرة تدفق رؤوس الأموال من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية، لكن أهم الأسباب هو سعي أصحاب رؤوس للبحث عن ملاذ آمن لأموالهم أو محاولاتهم إخفائها عن السلطات الرسمية في بلادهم، ربما لأن هذه الأموال سوف تخضع للضريبة، أو لأن مصدرها تشوبه مخالفات قانونية قد تؤدي في حال الكشف عنها بصاحبها الى السجن، الى غير ذلك من أسباب، وبشكل عام يعد تدفق الأموال غير المشروعة من الدول النامية إلى الدول الغنية أحد اهم المشكلات التي تواجهها الدول النامية، لأنه يتسبب في فقدان أحد أهم مواردها النادرة، بما يؤثر سلبا على الانفاق الاستثماري ومن ثم آفاق النمو الكامن بها.
منذ أيام صدر التقرير السابع في سلسلة تقاريرها عن التدفقات المالية غير المشروعة من الدول النامية، لمؤسسة Global Financial Integrity، في عامي 2013-2014، حيث يقدر تقرير هذا العام هذه التحركات لرؤوس الأموال في عام 2013 بأكثر من تريليون دولار. هذه الأرقام تمثل أضعاف ما يتدفق إلى هذه الدول من مساعدات تنموية من الدول الغنية، أو من تدفقات للاستثمار الأجنبي المباشر لهذه الدول، وهو ما قد يعكس حقيقة أن هذه الدول لا تعاني من الناحية الحقيقية من نقص في رؤوس الأموال، بقدر ما تعدم الوسيلة لتحويلها من تحت الأرض إلى سطحها. بصفة خاصة مقاومة الأنشطة غير المشروعة وتعزيز القدرة على ضبط تدفقات رؤوس الأموال الى الخارج، وحساب الضرائب وتحصيلها بالكفاءة والفاعلية اللازمة.
وفقا لتقديرات المؤسسة فإن حوالي 83% من تدفقات الأموال غير المشروعة من الدول النامية تعود الى ظاهرة تزييف الفواتير Mis-invoicing، بصفة خاصة تزييف فواتير التجارة الخارجية، والتي تقدرها المؤسسة بحوالي 655 مليار دولار في المتوسط سنويا. وهو مبلغ ضخم جدا من الممكن أن يحدث تغيرا نوعيا في النمو في هذه الدول إذا ما تم توجيهه بصورة سليمة نحو الاستثمار.
تزييف فواتير التجارة الخارجية هو إظهار فواتير البضائع الى السلطات الجمركية بصورة تختلف على القيمة الحقيقية لها، وذلك إما بهدف التهرب من الضرائب الجمركية من خلال بخس قيمة فواتير الواردات، أو تحويل الأموال إلى الخارج بصورة غير مشروعة من خلال بخس قيمة الصادرات أيضا، ففي حالة تزييف فواتير الواردات فإن المستورد يقدم فاتورة بقيمة تقل عن القيمة الحقيقية للسلع المستوردة، حتى يقوم المستورد بدفع ضرائب جمركية أقل على السلع التي يستوردها من الخارج، وفي هذه الحالة تضيع على الدولة المستوردة فرصة تحصيل الضريبة الجمركية المستحقة كاملة على هذه السلع، وهو أحد أهم أشكال التهرب الجمركي الذي تعاني منه الدول النامية بكثافة.
من جانب آخر فإن المصدرين يلجئون إلى تزييف فواتير صادراتهم ببخس قيمتها بهدف تحويل الفرق بين القيمة المسجلة في الفواتير بالنقد الأجنبي والقيمة الحقيقية لها إلى الخارج. ولذلك ينظر أيضا إلى عمليات تزييف الفواتير على أنها أحد أشكال غسيل الأموال من خلال العمليات التجارية، حيث غالبا ما يتم تحويل الفروق بين القيمة الحقيقية للسلع المصدرة أو المستوردة وتلك التي يتم ادراجها في الفواتير الى دولة ثالثة حسب طلب المصدر أو المستورد، إما بحثا عن ملجأ يمكن التخلص فيه من العبء الضريبي على هذه الأموال، أو إعادة توجيه هذه الأموال لحسابات موظفين حكوميين فاسدين، أو لتمويل عمليات غير مشروعة، أو غير ذلك من أوجه الاستخدام المشبوهة للأموال التي يتم تهريبها إلى الخارج.
من المؤكد أن أي عملية تزييف للفواتير يقف وراءها موظف فاسد في الجمارك، ومصدر أو مستورد غير مسئول في الخارج، مستعد لإرضاء من يتعامل معه بتزييف الفواتير على النحو الذي يطلب منه، لكن الذي يدفع الثمن الحقيقي لكل ذلك هم عموم الناس في الدول التي يمارس فيها المصدرون والمستوردون عمليات التزييف، خصوصا تلك التي تتم على نطاق واسع.
مما يساعد على تمرير هذه الأموال دون الكشف عنها الحركة الضخمة للأموال عبر الأسواق النقدية في العالم والتي قدرت في 2014 بأكثر من 5 تريليون دولار يوميا، ولا شك أنه من السهل إخفاء هذه الأموال ضمن هذه التدفقات الضخمة بصورة يصعب الكشف عنها، على الرغم من الجهود الدولية التي تتم للسيطرة على تدفقات رؤوس الأموال غير المشروعة.
للأسف تأتي هذه التحويلات غير المشروعة للأموال في وقت تكون فيه الدول النامية في أمس الحاجة إليها لكي تنتشل مئات الملايين من سكانها من دائرة الفقر الخبيثة، والتي تتطلب إنفاق تريليونات الدولارات على البرامج الاقتصادية والاجتماعية لتحسين مستويات المعيشة والقضاء على الفقر، وهو ما يوحي بأن معالجة الفقر في الدول الفقيرة لا تتطلب تقديم المساعدات من الدول الغنية الى هذه الدول، بقدر ما تحتاج الى تشديد الرقابة على تحركات الأموال غير المشروعة، ومعاونة الدول الفقيرة في القضاء على تحركات رؤوس الأموال غير المشروعة، ومحاربة الفساد لتوطين رؤوس الأموال في هذه الدول وتوجيهها لمصلحة الفقراء.
ذلك أن اعتماد الدول النامية على التحويلات الرسمية للمساعدات من الدول الغنية لن يقيلها من أوضاعها الحالية، نظرا لقصور هذه التدفقات من النقد الأجنبي بشكل كبير عن احتياجاتها الحقيقية لتمويل برامج الاستثمار اللازمة لفتح فرص عمل كافية، أو لبناء البنى التحتية اللازمة لرفع تنافسية اقتصاداتها، أو غير ذلك من مشروعات تنموية. من جانب آخر فإن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لهذه الدول تقل بصورة واضحة عن احتياجاتها الحقيقية، بسبب عوامل كثيرة أهمها طبيعة بيئة الأعمال بها وطبيعة التشريعات والإجراءات والنظم الحاكمة لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر، وضعف فرص الاستثمار بها بشكل عام.
لذلك فإن السيطرة على تدفقات رؤوس الأموال غير المشروعة تمثل نقطة انطلاق أساسية لتدبير احتياجاتها الدول الفقيرة من رؤوس الأموال اللازمة لها، وهو ما يتطلب تدريب موظفي الجمارك على نحو مناسب للكشف بكفاءة عن عمليات تزييف الفواتير، ومد الجمارك بقوائم محدثة لأسعار السلع التي يتم الاتجار فيها عالميا لأغراض المقارنة واكتشاف الحالات الصريحة لعمليات التزييف، وتوفير قواعد بيانات حديثة، أكثر من ذلك فإن وقف عمليات التزييف يحتاج الى جهد دولي وقوانين صارمة في دول العالم لمعاقبة المصدرين والمستوردين الذين يمارسون مثل هذا العمل على نطاق واسع.


الخميس، ديسمبر ٢٤، ٢٠١٥

سوق النفط تحتاج إلى تدخل فاعل

في 2014/6/17، بلغ سعر برميل النفط من خام برنت 114 دولارا. وقت كتابة هذا المقال بلغ سعر البرميل 37.59 دولار، وهو سعر لم تشهده السوق النفطية منذ زمن طويل، أي أن سعر النفط قد تراجع بنسبة 67 في المائة تقريبا، وبمعنى آخر فإن الدول المصدرة تحصل اليوم على ثلث السعر عن كل برميل تصدره، وفقدت بالتالي ثلثي إيراداتها النفطية.
قد لا يبدو أن صدمة تراجع الإيرادات النفطية لها تأثير محسوس في اقتصادات بعض الدول في الوقت الحالي، بسبب رصيد الاحتياطيات الذي تراكم خلال الفترة التي كانت فيها الأسعار مرتفعة، غير أن النتائج المالية لهذا العام سوف تكون كارثية بكل المقاييس للمالية العامة لجميع الدول النفطية، سواء التي لديها احتياطيات أم لا، إذا ما استمرت أسعار النفط منخفضة على هذا النحو.
في اجتماع أوبك الأخير أخفقت الدول الأعضاء في التوصل إلى اتفاق للحد من فائض العرض في السوق النفطية إلا بعد أن تتعاون الدول خارج أوبك مع المنظمة، في تحمل جزء من الخفض للعودة بالسوق نحو التوازن. في رأيي أن اشتراط مشاركة الدول خارج أوبك في الخفض أمر غير منطقي لاتحاد المنتجين. فالهدف الأساسي لاتحاد المنتجين هو الحفاظ على استقرار الأسعار، خصوصا عندما تتجه نحو النزول، وهي مهمة يقوم بها الاتحاد بنفسه، وليس بالمشاركة مع المنتجين من خارجه، ببساطة شديدة لأن هؤلاء المنتجين من خارج الاتحاد ليسوا أعضاء فيه، وبالتالي فهم ليسوا ملزمين بالمشاركة مع الاتحاد في تحمل نتائج توازن السوق والأسعار، وإلا فليترك الاتحاد السوق لقوى العرض والطلب، وبالتالي تنتفي الحاجة إلى وجوده.
وبدلا من أن تتجه أوبك نحو الحفاظ على الاستقرار السعري، تتصارع أوبك اليوم حول التمسك بحصتها السوقية، وهي استراتيجية مدمرة، أو لعبة حصيلتها صفرية بالنسبة للمنتجين، ولن يستفيد منها أحد، سوى المستهلك الذي سيتمتع بأسعار أقل للنفط على حساب المنتج. فمن يضاعف حصته السوقية ليبيعها بنصف السعر، يفكر بصورة غير رشيدة، لأنه في النهاية سوف يحصل على الإيرادات نفسها ولكن بكمية إنتاج أكبر، وبمعنى آخر فإنه يهدر ثروته النفطية بأسعار سوقية منخفضة.
على ما يبدو أن التمسك بالحصة السوقية يستهدف ضمان حصة تصدير أعلى، حتى إذا ما ارتفعت الأسعار فإنه سوف يضمن استمرار تصريف حصته بإيرادات أكبر، لكن المؤكد أن الأسعار لن ترتفع طالما أن الجميع يتمسك بحصته، في ظل وجود تخمة عرض في السوق.
للدفاع عن استراتيجية الحصة السوقية يستند البعض إلى تجربة الثمانينيات عندما تفاعلت أوبك مع تخمة العرض في السوق من خلال خفض الإنتاج ومن ثم تخفيض الحصة السوقية لأوبك، وذلك بالنظر إلى ما حدث على أنه خطأ كبير غير قابل للتكرار. من وجهة نظري أن ما حدث في الثمانينيات لم يكن خطأ. صحيح أن أوبك قد خسرت جزءا من حصتها السوقية، لكن السؤال الذي لم يطرحه أحد هو: ما الذي كان سيحدث للأسعار إذا لم تتدخل أوبك بخفض حصتها السوقية لتتوافق مع احتياجات السوق؟ الإجابة بالتأكيد هي عودة الأسعار ربما إلى مستويات ما قبل 1973، حيث كان من المفترض أن يباع النفط بدولارين. فالنفط مثل أي سلعة يتحدد سعره بالعرض والطلب، والإفراط في العرض لا بد أن يترتب عليه تراجع الأسعار، ما لم يتم التحكم في العرض، وهذا ما يحدث حاليا.
أوبك حاليا تتوقع أن تعود السوق إلى التوازن في العام المقبل وذلك من خلال تمني أن يرتفع الطلب على النفط على النحو الذي يمتص فائض العرض فتتوازن الأسعار عند مستويات مناسبة. غير أن الشواهد المتاحة تشير إلى أن سعر النفط ربما يواصل تراجعه في العام المقبل.
ما يعزز التوقعات باستمرار تراجع الأسعار أن العراق اليوم ينتج بطاقته القصوى، حيث أضاف نحو مليون برميل يوميا ليصل إنتاجه إلى نحو 4.5 مليون برميل، بينما تستعد إيران لكي تسترد ما ترى أنه حق لها من حصتها الإنتاجية التي فقدتها بسبب الحصار الذي فرضه الغرب عليها. من جانب ثالث فإن أي اتفاق للمصالحة بين الأطراف المتنازعة في ليبيا، سيقود إلى عودة الإنتاج الليبي سريعا إلى مستوياته السابقة قبل الثورة على القذافي، الأمر الذي سيؤدي إلى تغذية فجوة العرض ومن ثم الضغط على الأسعار نحو التراجع بصورة أكبر عن مستوياتها الحالية.
وعلى ذلك ففي ظل التمسك باستراتيجية حماية الحصص على أوبك أن تتوقع الأسوأ في المستقبل، وبالتالي على صانع السياسة المالية في الدول النفطية أن يستعد لمزيد من الضغط المالي، والبحث من الآن في الآليات التي تضمن تخفيض الإنفاق وزيادة الإيرادات غير النفطية على النحو الذي لا يؤثر سلبا في التنمية، ويحد من الآثار الاجتماعية والسياسية لخفض الإنفاق العام، وفي الوقت ذاته لا يعرض احتياطياتها المتراكمة للاستنزاف ولا ديونها للارتفاع السريع.
التدخل الفاعل لأوبك الآن، من وجهة نظري، لا بد أن يكون منطقيا وعمليا، فتزايد حصص بعض الدول الأعضاء في أوبك كان أساسا على حساب تراجع حصص الدول الأخرى، وبالتالي فإن أي اتفاق على فرض سقف إنتاجي يسحب العرض الفائض من السوق لا بد أن يتم في إطار تنازل باقي الدول الأعضاء لتعويض ليبيا وإيران عن الحصة التي فقدتها كل منهما، إما لظروف خارجة عن إرادتها أو بسبب الاضطرابات السياسية المحلية، ولا يمكن التمسك بحصة سوقية تم اقتطاعها أساسا من الحصة السوقية للأعضاء الآخرين في أوبك.
تراوح تقديرات فائض العرض حاليا بين 2 و 3 ملايين برميل يوميا، أي ما يقل عن 10 في المائة من الإنتاج اليومي لأوبك، وهو فائض يمكن استيعابه بسهولة من خلال أوبك، وامتصاص هذا الفائض كفيل برفع الأسعار بما لا يقل عن 60 دولارا للبرميل، فهل من الرشد الاقتصادي بيع كمية أكبر بسعر أقل، أم بيع كمية أقل بإيراد أعلى؟
أعتقد أن ما يجب أن تستوعبه أوبك بشكل جدي اليوم هو الدروس التاريخية من تجارب اتحادات المنتجين السابقة. فالتاريخ يمدنا بقائمة طويلة من اتحادات المنتجين مثل أوبك، القليل منها الذي صمد أمام الضغوط الخارجية أو الداخلية، وأوبك في الوقت الحالي ليست استثناء. فاتحاد المنتجين مثل أوبك يكون فعالا في حالة واحدة وهي أن يكون هناك عجز في السوق أو نقص في المعروض من السلعة التي ينتجها الاتحاد، بينما يكون في أضعف حالاته عندما يكون هناك فائض سوقي من السلعة، وفي هذه الحالة الأخيرة عندما يأخذ أعضاء الاتحاد في التنافس على المزيد من الإنتاج، فإن الاتحاد يصب المزيد من الوقود على النار، وإذا لم يكن هناك تحرك سريع لمواءمة حصص الإنتاج مع احتياجات السوق وفقا لآلية فعالة، فإن الاتحاد سوف يكون معرضا للانهيار. معظم الحالات التي انهارت فيها اتحادات المنتجين كان سببها الأساس هو الإفراط في الإنتاج والمنافسة على الحصة السوقية.
أخطر النتائج التي تترتب على ضعف فعالية اتحاد المنتجين هي خروج بعض الأعضاء منه، فقد يقرر بعض الأعضاء ألا فائدة ترجى من استمرار عضويتهم في الاتحاد في ظل عدم الاتفاق على آلية واضحة وعادلة لتحديد الحصص، وهو ما قد يدفعهم نحو الخروج من الاتحاد باعتبار أن وجودهم خارج الاتحاد أفضل، حيث سيسمح لهم بتحديد ما يرونه مناسبا من إنتاج. وعندما تبدأ عمليات الخروج تتراجع الحصة السوقية للاتحاد وينهار نتيجة لذلك مثلما حدث لعديد من اتحادات المنتجين التي فشلت مسبقا كاتحاد منتجي القمح والزنك والصفيح والألمنيوم والصلب والشاي والبن والسكر والنحاس والبوتاس وزيت الزيتون .. إلخ.
باختصار أوبك اليوم في حاجة إلى تدخل فاعل في السوق لضمان استقراره عند مستوى أسعار أفضل، وهذه هي مسؤولية أوبك وحدها، وليست مسؤولية الأعضاء خارج أوبك، باعتبارها اتحاد المنتجين الوحيد في هذه السلعة.

هل تنطلق الأزمة المالية القادمة من الدول الناشئة؟

كانت الدول الناشئة أكبر المستفيدين من تبعات الأزمة المالية العالمية، حيث نظر المستثمرون إليها على أنها الملاذ الآمن لرؤوس الأموال في ظل تزايد المخاطر المالية في الدول الصناعية، وتغيرت بالتالي أذواق المستثمرين وتراجعت شهيتهم نحو الاستثمار في الأسواق التقليدية، وقد شكل الاستثمار في هذه الدول أحد سبل تنويع المحافظ الاستثمارية للمستثمرين من خارج هذه الدول، ونتيجة لذلك تمكنت الدول الناشئة من استقطاب قدر هائل من الأموال بالنقد الأجنبي سواء لقطاعيها الحكومي أو الخاص، واستفادت منها في دفع معدلات النمو وزيادة احتياطياتها ودعم عملاتها، غير أنه في المقابل كان الأثر السلبي لتدفقات رؤوس الأموال الداخلة هو تزايد المديونية الخارجية لهذه الدول.
في تقريره عن الاستقرار المالي في العالم حذر صندوق النقد الدولي من مخاطر بالون ديون الدول الناشئة، مشيرا إلى أنه بين عامي 2004 و 2014 تزايدت ديون الشركات في الدول الناشئة من نحو أربعة تريليونات دولار إلى الصندوق إلى نحو 18 تريليون دولار، أي بأكثر من أربعة أضعاف مستوياتها منذ عقد مضى.
مع تراجع مخاطر الأزمة الاقتصادية وعودة النمو إلى الولايات المتحدة، ارتفعت قيمة الدولار بالنسبة لمعظم عملات العالم، وأخذ الاحتياطي الفيدرالي يفكر جديا في عكس اتجاه سياسته النقدية التوسعية برفع معدلات الفائدة. عندما يحدث ذلك من المنتظر أن تسوء هذه الأوضاع بصورة أكبر، حيث ستشتد عمليات خروج رؤوس الأموال الأمر الذي يهدد عملات هذه الدول، مثلما حدث أثناء الأزمة الآسيوية في 1998/1997.
اليوم هذه الدول تشهد بالفعل تحولا في شهية المستثمرين مرة أخرى نحو دول الأصل، الأمر الذي أثر سلبا في تدفقات رؤوس الأموال لهذه الدول، إلى الحد الذي يقدر فيه معهد الاقتصاد الدولي أن صافي تدفقات رؤوس الأموال لهذه الدول هذا العام تحول إلى النطاق السالب لأول مرة منذ فترة طويلة، حيث قدر المعهد هذه الفجوة بنحو نصف تريليون دولار.
من الطبيعي أن تترتب على هذه التطورات آثار معاكسة على الدول التي تنزح منها هذه الأموال بصفة خاصة في صورة تراجع قيمة عملاتها وانخفاض احتياطياتها، وتراجع أسواق المال فيها، وارتفاع حالات الإفلاس بين الشركات العاملة لها ومع كل ذلك تتزايد المخاوف من انطلاق أزمة مديونية للدول الناشئة. ذلك أن ارتفاع معدلات الفائدة سيتسبب في نقل المشكلات إلى الدول الناشئة، التي اعتمدت ولفترة طويلة على الديون منخفضة التكاليف، ومع ارتفاع قيمة الدولار سوف ترتفع تكلفة الديون بالنسبة لهذه الشركات بعملتها المحلية.
مع تزايد الضغوط على الدول الناشئة تزايد الحديث عن مخاطر نشوب أزمة ديون تنطلق من هذه الدول، وهي إن حدثت فستكون كفيلة بعودة الاقتصاد العالمي إلى الكساد مرة أخرى، نظرا للدور الحيوي الذي أصبحت تلعبه هذه الدول في النمو الاقتصادي العالمي، ولا شك أن أثر ذلك سوف ينتشر إلى الولايات المتحدة وأوروبا حيث يعتمد النمو في هذه الدول أيضا على النمو الذي يحدث خارج الولايات المتحدة، خصوصا في الدول الناشئة.
ديون الدول الناشئة تنقسم إلى قسمين؛ الديون السيادية على الحكومات، وديون شركات القطاع الخاص، وقد اعتمد كثير من الشركات في الدول الناشئة على إصدار سنداتها بالنقد الأجنبي لتمويل توسعاتها وعملياتها الأساسية. بالطبع عندما تتراجع مواقف النقد الأجنبي لهذه الشركات فإن مخاطر المديونية ترتفع، وهذا ما يحدث حاليا في هذه الدول، ويتداول المراقبون الأزمة القادمة لديون الشركات في الدول الناشئة على أنها تمثل الموجة الثالثة للأزمة المالية الحالية، والتي تتمثل أولاها في أزمة سوق المساكن في الولايات المتحدة، وثانيها في أزمة الديون السيادية لبعض دول أوروبا.
حاليا تدور التوقعات حول المخاطر المالية المحيطة بكل من ماليزيا وجنوب إفريقيا وتركيا وتايلاند وشيلي وإندونيسيا وبدرجة أقل كوريا والصين، بسبب اعتماد شركاتها الكثيف على رؤوس الأموال قصيرة الأجل، وعلى ما يبدو أن صندوق النقد الدولي يقدر حاليا احتياجات هذه الدول من النقد الأجنبي في حال تعرضت لعمليات خروج جماعي لرؤوس الأموال على النحو الذي حدث أثناء الأزمة الآسيوية في أواخر تسعينيات القرن الماضي، وما إذا كان في مقدوره مساعدة هذه الدول. غير أنه بالنظر إلى حجم مديونية الدول الناشئة فإن قدرة الصندوق على تدبير الاحتياجات اللازمة من النقد الأجنبي لهذه الدول للتعامل مع تداعيات عمليات الخروج الجماعي تعد محدودة للغاية، بالنظر إلى إمكانات المساندة المتاحة لصندوق النقد الدولي.
إذ تشير التقديرات إلى أنه منذ 2009 تزايدت قيمة سندات الديون على شركات الدول الناشئة إلى نحو 1.5 تريليون دولار، وقد بلغت نسبة ديون الشركات نحو 26 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول. اليوم يتزايد القلق من قدرة الشركات في هذه الدول على خدمة ديونها وخصوصا أن بعض الشركات بدأت بالفعل في التوقف عن خدمة هذه الديون في بعض هذه الدول، وتسارعت بالتالي عمليات تخفيض تصنيفها الائتماني ما جعل معدلات العائد على سندات هذه الشركات يرتفع، بل واقترب بعضها من مرتبة الديون غير المرغوب فيهاJunk Bonds. أكثر من ذلك فإن بعض هذه الدول تم تخفيض تصنيف ديونها السيادية إلى مرتبة الديون غير المرغوبة، مثل البرازيل بواسطة مؤسسة ستاندارد آند بورز للتصنيف الائتماني.
الواقع أن الخطر الأساسي لهذه الأزمة، في حال حدوثها، ليس من إفلاس بعض الشركات المدينة، وإنما من الأثر الانتشاري الذي ينتج عن ذلك أو العدوى المالية، ولعل درس الأزمة الآسيوية ليس بعيدا عنا، فقد انتشرت شرارة الأزمة من تايلاند ومن هبوط عملتها البات، أي من اقتصاد محدود الأهمية بين الاقتصادات الآسيوية، ومن عملة استخدامها الدولي شبه معدوم تقريبا.
اليوم تتزايد مخاطر قيام المستثمرين في سندات هذه الشركات بسحب أموالهم بصورة جماعية ما قد يترتب عليه انهيار عملات هذه الدول، وتزايد الضغوط على الشركات المدينة، فهل سيتكرر سيناريو الأزمة الآسيوية مرة أخرى، وينتشر أثر خروج رؤوس الأموال عبر الدول الناشئة؟ شخصيا لا أعتقد حدوث ذلك، فربما نشهد بعض حالات توقف عن خدمة الديون بصورة فردية، أما أن نشهد حالات توقف جماعي لشركات الدول الناشئة فهو أمر مستبعد، ولن تسمح به حكومات هذه الدول أو المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، أو حتى الاقتصادات المؤثرة مثل الولايات المتحدة، للحد من آثاره الارتدادية عليها.
من جانب آخر، فإن ما قد يطمئن بعض المستثمرين هو أنه من المتوقع مع ارتفاع قيمة الدولار أن تنخفض قيمة عملات هذه الدول، الأمر الذي يرفع من تنافسية شركاتها ومن ثم تحسين قدرتها على تدبير النقد الأجنبي اللازم، وخصوصا أن الكثير من هذه الشركات هي من الشركات المصدرة والتي يمكن أن تستفيد بالفعل من ارتفاع قيمة الدولار. أما الشركات التي ستكون أكثر تضررا فهي الشركات التي تبيع منتجاتها في الأسواق المحلية لهذه الدول، أي بعملتها المحلية، هذه الشركات ستواجه مشكلة عدم توافق بين العملة التي تشكل التزاماتها والعملة التي تشكل إيراداتها، مثل شركات الاتصالات، والمطورين العقاريين، وشركات الخدمات المحلية. لحسن الحظ أن نسبة هذه الشركات لا تتجاوز 20 في المائة من إجمالي الشركات المدينة وفقا لبلومبرج.
غير أن من المؤكد أنه أصبح من المحتم على هذه الدول أن تستعد لصدمة ارتفاع معدلات الفائدة، حيث سترتفع تكلفة خدمة هذه الديون، وهي مسألة حرجة في حال تراجع معدلات النمو في هذه الدول إلى مستويات أقل من معدلات الفائدة الحقيقية على هذه الديون، وهو ما يهدد استدامة أوضاع الدين للدول المدينة.
باختصار فإن انطلاق موجة ثالثة للأزمة أمر مستبعد، ويبقى على الدول الناشئة الاستعداد لمواجهة حالات إفلاس بعض الشركات فيها، خصوصا تلك الشركات المؤثرة.


هل أصبح المركز الدولي للدولار مهددا؟

كما توقع العالم، أعلن صندوق النقد الدولي هذا الأسبوع عن إدراج عملة الرينمنبي الصيني (المعروف باليوان) ضمن سلة عملات وحدة حقوق السحب الخاصة. لمن ليس لديه خلفية، حقوق السحب الخاصة هي عملة حسابية يصدرها صندوق النقد الدولي وتوزع على أعضائه عند إصدارها وفقا لحصة كل عضو في رأسمال الصندوق، ويقتصر استخدامها على المستوى الرسمي، أي بين البنوك المركزية بعضها البعض. وقد كانت إحدى المحاولات غير الموفقة التي قام بها صندوق النقد الدولي في نهاية الستينيات لفك قيود السيولة الدولية. كما جرت محاولة أخرى بواسطة الصين وروسيا بعد الأزمة مباشرة للدفع في اتجاه تفعيل دورها كعملة احتياط عالمية لتحل محل الدولار، ولكن هذه المحاولة فشلت أيضا.
قبل إدراج الرينمنبي أعلن صندوق النقد الدولي في مايو الماضي أن الرينمنبي عملة مقومة بصورة عادلة، وأنه لا مغالاة في تقدير قيمتها على النحو الذي يثار من وقت لآخر، منهيا بذلك الجدل الدائر حول تقييم الرينمنبي بأقل من قيمته، وهي الحجة التي يثيرها الكونجرس من وقت لآخر داعيا الخزانة الأمريكية لإثبات ذلك في تقاريرها عن سياسات الصرف الأجنبي في العالم، وعلى النحو الذي يمهد لفرض قيود تجارية على حركة الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة. خطوة إدراج الرينمنبي ضمن سلة عملات حقوق السحب الخاصة هي خطوة كانت ستحدث في وقت ما آجلا أو عاجلا، نظرا لأن التطورات الاقتصادية في الصين هي التي فرضت على صندوق النقد الدولي الأخذ بهذه الخطوة. اختيار الرينمنبي ينبع أساسا من أداء الصين على الأرض، باعتبارها أكبر مصدري العالم، وصاحبة أكبر اقتصاد فيه (بتعادل القوة الشرائية)، وثاني أكبر اقتصاد بأسعار السوق، ورغم ذلك فإن الوزن الذي يحتله الرينمنبي في المدفوعات الدولية منخفض للغاية ولا يعبر عن هذا الأداء، اللهم فيما عدا الدور الذي يلعبه كعملة تسوية بين الصين وشركائها التجاريين والذي يساوي ربع تجارة الصين الخارجية تقريبا. أي أن اتساع مشاركة الرينمنبي في التسويات الدولية يتم أساسا من خلال مصارف للمقاصة التي لديها وصول إلى مصادر السيولة بالرينمنبي في الصين، الأمر الذي يساعد على توسيع استخدامه في مراكز الأوفشور.
وفي رأيي أن الإدراج في حد ذاته ليس بالأهمية ذاتها التي تتطلب مثل هذه الضجة العالمية التي أثيرت حول قرار صندوق النقد الدولي. الإدراج هو مجرد تقدير رمزي لعملة استخدامها الدولي ضعيف جدا في الأساس، وهناك مبالغة كبيرة في الحديث عن أهميتها، ولكن الأهم في هذا الموضوع هو تبعات هذا الإدراج على الصين وعلى الدولار، وهذا هو منبع هذه الضجة.
قبل انضمام الرينمنبي إلى سلة عملات حقوق السحب الخاصة، كان معدل صرفها يعتمد على الدولار والجنيه الاسترليني واليورو والين الياباني، وتتركز أوزان السلة أساسا في الدولار الأمريكي واليورو، ولذلك تم اقتطاع الوزن الخاص بالرينمنبي، والذي يقتصر في الوقت الحالي، وفقا لما أعلنه الصندوق على 10.92 في المائة من مجموع الأوزان (100)، أساسا من وزن الجنيه الإسترليني والين الياباني.
إقدام الصين على هذه الخطوة يعني أن الصين تدفع بعملتها بشكل أكبر لكي تلعب دورا يعبر عن أهمية الاقتصاد الصيني ووزنه في التجارة العالمية. غير أنه لكي يستمر الرينمنبي ضمن سلة عملات وحدة حقوق السحب الخاصة لا بد أن يتحرر نظام تحديد معدل صرفه، وهو ما أشار إليه تقرير صندوق النقد الدولي، بأن الرينمنبي سيصبح عملة حرة بحلول 2016. في رأيي أن التزام الصين بتحرير معدل صرف الرينمنبي سوف يكون مكلفا للصين، وتقلب الرينمنبي سوف يكون سياسة جديدة تماما على الصين، وربما قد يكون فخا وقعت فيه لإنهاء سياسات بخس قيمة الرينمنبي، وأشك في أن الصين قد تكون جادة في التزاماتها نحو التحرير الكامل للرينمنبي في غضون هذه الفترة القصيرة.
إذا كانت الصين جادة في أن توفي بتعهداتها بتحرير الرينمنبي، فسوف نرى الرينمنبي عملة تتحدد بقوى السوق، وأعتقد أنها سوف تدفع دفعا لذلك، لأن الصندوق لن يدرج عملة تتحدد قيمتها رسميا ضمن سلة لعملة يفترض أنها تتغير وفقا لقوى السوق من العرض والطلب. من جانب آخر، فإن تحرير قيمة العملة سوف يقتضي بالتبعية ضرورة تحرير حساب رأس المال أي تدفقات رؤوس الأموال من وإلى الصين بشكل كامل، وهو أحد المستلزمات الأساسية لكي يتحول الرينمنبي إلى عملة دولية.
المشكلة الأساسية في تحرير الرينمنبي أنه سوف يعقد أوضاع النمو على نحو أكبر، فمن المتوقع أن يصحبه ارتفاع في قيمته أمام الدولار، بما يعكس طبيعة الفوائض الكبيرة التي تحققها الصين في حسابها الجاري، وهو ما سينعكس سلبا على صادراتها إلى الخارج. هذا التطور يأتي في التوقيت الخطأ تماما بالنسبة للصين، حيث تتراجع معدلات النمو في الوقت الحالي إلى الحد الذي دفع بالرئيس الصيني إلى الإعلان عن تبني مستهدفات أكثر تواضعا للنمو عن تلك التي كانت مستهدفة سابقا، فالصين تحتاج الى أن يستمر الرينمنبي ضعيفا حتى تتمكن من تعديل اتجاهات النمو المتراجع حاليا، ولذلك ومنذ بداية هذا العام تطلب الأمر تخلي الصين عن نحو 600 مليار دولار من احتياطياتها من أجل الدفاع عن الرينمنبي أمام الدولار.
ولكن ما أهمية هذه الخطوة من جانب صندوق النقد الدولي بالنسبة للصين؟ الإجابة هي أن هذه الخطوة من المفترض أنها ستسمح للرينمنبي بأن يتحول إلى عملة احتياط دولية، مثله مثل الدولار وبقية العملات الرئيسة في العالم، ولكن الدولار حاليا يتربع على عرش العملات الاحتياطية في العالم، وبالطبع فإن دخول الرينمنبي قائمة العملات الاحتياطية سوف يعني تراجع الأوزان النسبية للعملات الرئيسة في الاحتياطيات الدولية للبنوك المركزية في العالم في الوقت الحالي، والتي بالطبع من بينها الدولار.
الخطوة التالية التي يمكن أن تؤثر في الوضع الدولي للدولار هي أن تنجح الصين في استخدام الرينمنبي في عمليات تسعير السلع الدولية، وما قد يساعد الصين في ذلك هو مركزها كأكبر مستورد لعديد من السلع التجارية في العالم مثل المعادن، وحصتها الضخمة في التجارة الدولية، لكن تسعير السلع الدولية كالذهب والنفط وغيرها بالرينمنبي سوف يعني وجود نظام مزدوج للتسعير بالدولار والرينمنبي، وهو ما قد يخلق مشكلات تجارية عندما تتقلب هاتان العملتان بصورة معاكسة في أسواق الصرف الأجنبي.
أخيرا أعود للسؤال الذي طرحته في عنوان هذا المقال، هل إدراج الرينمنبي في سلة عملات حقوق السحب الخاصة سوف يعني بالفعل أن مركز الدولار عالميا أصبح مهددا؟ وهل سنشهد بالفعل تراجعا في استخدام الدولار كعملة عالمية لمصلحة الرينمنبي؟ الإجابة في رأيي هي لا، فالرينمنبي بأوضاع الصين الحالية ونظامها المالي والمصرفي وطبيعة سوق رأس المال فيها لا يمكن أن يمنح الرينمنبي خاصية تبوؤ مركز عملة الاحتياط الأولى في العالم، فالعملة الاحتياطية العالمية تحتاج إلى أن يكون معدل صرفها حرا وهذا ما تعهدت به الصين، وأن يتم تدويل هذه العملة، أي أن يتم استخدامها على نطاق واسع عالميا كوسيط للتبادل ووحدة للحساب، وهذا ما تعمل عليه الصين حاليا، أما ثالث هذه الشروط وهو الأهم، فهو أن تكون أسواق المال فيها متسعة، وعميقة، وتتمتع بالسيولة الضخمة، وهذا الشرط لا يتوافر حاليا في العالم سوى في سوق مال واحد هو سوق المال الأمريكي، فبالنظر الى طبيعة أسواق المال الصينية في الوقت الحالي، فإن الصين أمامها عقود لكي تتمكن من توفير سوق المال الذي يساند عملة الاحتياط الأولى في العالم، وعلى ذلك فإن إدراج الرينمنبي، كما سبق أن ذكرت، ربما يظل إجراء رمزيا لوقت طويل، وسيظل الدولار يليه اليورو هما عملتا الاحتياطي العالمي الرئيستان لعقود قادمة.