الثلاثاء، مارس ١٨، ٢٠٠٨

لماذا لا يكون الريال السعودي هو العملة الخليجية الموحدة؟

تشترك دول مجلس التعاون في الكثير من الخصائص من حيث اللغة والدين والجغرافيا والتاريخ والثقافة. ووفقا لنموذج الجاذبية Gravity، يفترض أن تساعد هذه العوامل على التسريع بإنشاء ونجاح العملة الموحدة. غير أن نظرية منطقة العملة المثلى تشير إلى وجود شروط ينبغي أن تتوافر في الدول المرشحة لكي تكون منطقة عملة مثلى، وهي أنها دول:
1. تشترك في دورات اقتصادية متناغمة أو متشابهة بحيث يمكن أن تطبق هذه الدول سياسات نقدية واحدة وبحيث يقل الاختلاف حول اثر السياسة النقدية الموحدة على الدول الأعضاء.
2. تتعرض لصدمات اقتصادية خارجية متشابهة.
3. تتسم بمرونة في عملية تحديد الأجور والأسعار.
4. ترتفع درجة تكاملها بشكل كبير بالنسبة لتدفقات التجارة البينية وتدفقات عناصر الإنتاج، بصفة خاصة حرية انتقال عنصر العمل بين الدول الأعضاء، معبرا عنها اما بمعدلات الهجرة للأشخاص إلى الدول الأخرى، أو بتكاليف الانتقال والاستقرار بين الدول الأعضاء في التكتل النقدي.
5. تتسم بهياكل اقتصادية متشابهة. غير أن المقصود في النظرية هو تشابه الهياكل الصناعية (للسلع والخدمات) الذي يمكن من دفع مستويات التجارة البينية، حيث ستميل هذه الدول إلى مواجهة صدمات متشابهة.
6. تتسم هياكل الإنتاج فيها بالتنوع.
وللأسف فإن الجانب الاكبر من هذه المتطلبات غير متوفر حاليا لدول مجلس التعاون كتكتل الامر الذي يحد من فرصة اطلاق العملة الخليجية الموحدة.

العوائد التي تحققها الدول الأعضاء من العملة الموحدة

1. تخفيض تكاليف المعاملات ومخاطر عدم التأكد (متابعة معدلات الصرف والتنبؤ بتقلباتها، تكاليف تحويل العملات، وتكاليف إدارة الاحتياطيات لأغراض التجارة البينية) وهو ما يؤدي إلى خلق مناخ أعمال أكثر استقرارا وزيادة التجارة البينية والاستثمارات البينية. ذلك أن عمليات التغطية ضد مخاطر تقلبات معدل الصرف الأجنبي مكلفة، بصفة خاصة بالنسبة للشركات الصغيرة.
2. تسهيل المعاملات في أسواق السلع ورأس المال، حيث ينظر حاليا إلى تقلبات معدلات الصرف وارتفاع مخاطرها على أنها احد عوائق تدفقات التجارة ورؤوس الأموال. إذ تشير الدراسات التطبيقية إلى أن الدول التي تدخل كأعضاء في عملة موحدة يمكن أن تزيد حجم تجارتها البينية إلى 3 أضعاف أو أكثر. حيث ستكون فواتير التجارة بنفس العملة الموحدة. كما ترفع درجة شفافية الأسعار للسلع والخدمات. وكلما ارتفعت مستويات التجارة البينية كلما ازداد احتمال أن تكون أن ترتفع درجة الارتباط بين تقلبات مستويات الناتج في الدول الأعضاء في العملة.
3. رفع كفاءة الخدمات المالية حيث تزداد درجة تكامل أسواق رؤوس الأموال وتتعمق هذه الأسواق. إذ يصبح سوق رأس المال اكبر وأكثر سيولة عما هو الحال بالنسبة للأسواق الفردية. ويؤدي تعميق أسواق رؤوس الأموال إلى جعل تلك الدول أكثر جاذبية للأموال ليس فقط من دول الإقليم ، ولكن أيضا من الدول خارج الإقليم. كذلك ستميل البنوك إلى أن تكون لديها محافظ عبر دول الإقليم، دون أن تأخذ في الاعتبار تقلبات معدلات الصرف بين عملات الدول الأعضاء. وان كان ارتفاع حجم أسواق المال سوف يتطلب مؤسسات مالية ذات كفاءة أعلى،
4. تسهيل قرارات الاستثمار وتشجيع عملية تخصيص الموارد عبر الإقليم، وزيادة فرص النمو نتيجة تكامل أسواق السلع والخدمات ورأس المال.
5. زيادة إمكانيات التعاون السياسي بين الدول الأعضاء. تم إنشاء اليورو بعد حوالي 50 عاما من تنسيق السياسات وإنشاء مؤسسات فوق قومية (supranational). منظمة دول مجلس التعاون ليس لديها أية مؤسسات فوق قومية.
6. ربما تزيد العملة الموحدة من فعالية إدارة السياسة النقدية التي يمكن أن تكون ضعيفة في ظل البنوك المركزية الفردية للدول الأعضاء، حيث سيعهد بشئون إدارة هذه العملة إلى مؤسسة فوق قومية تتولى عملية الإصدار وتحديد معدلات الخصم (ومن ثم معدلات الفائدة) تحديد نسب الاحتياطي... الخ،.

عثرات في طريق العملة الموحدة

أصبح في حكم المؤكد أن العملة الخليجية الموحدة لن يتم إطلاقها في 2010 كما كان مخططا منذ بدأت الفكرة، وذلك لعدة أسباب أهمها:
1. قرار عمان بعدم المشاركة في إطلاق العملة الموحدة في 2010.
2. قرار الكويت بتعديل نظام معدل صرف الدينار والخروج من اتفاق المثبت المشترك.
3. حاليا تفكر الإمارات بأن تحذو حذو الكويت.

وتشير الدراسات المتاحة، خصوصا الحديث منها، إلى ان دول مجلس التعاون لا تستوفي كثير من الشروط الأساسية لإطلاق عملة الموحدة وفقا لنظرية منطقة العملة المثلى. حيث تحتاج دول المجلس إلى تنويع الهياكل الاقتصادية لدول المجلس، وتوسيع نطاق التجارة البينية، حيث أن دول مجلس التعاون تتاجر مع الدول الأخرى أكثر من تجارتها مع بعضها البعض. كذلك تحتاج إلى إزالة كافة القيود التي تحول دون التدفق الحر للتجارة والاستثمار الأجنبي، وإنشاء مؤسسات فوق قومية تتولى مهمة عملية التوزيع المالي لأغراض الاستقرار الاقتصادي، وتعزيز وتوحيد وتنميط وتسريع عمليات جمع ونشر البيانات والإحصاءات، وهذا يتطلب إنشاء الـ Gulfstat، وتنسيق السياسات الاقتصادية، بحيث يؤخذ في الاعتبار المصالح فوق القومية لتحتل أولوية أولى. على سبيل المثال قرار الإمارات بإلغاء الرسوم الجمركية على حديد التسليح والاسمنت لم يأخذ في الاعتبار التزامات الإمارات قبل دول المجلس. كما تحتاج العملة الموحدة إلى سياسات مالية متناسقة وضبط المالية العامة للدول الأعضاء، بصفة خاصة الاتفاق على سياسات للتحويلات المالية Fiscal transfers لأغراض عمليات الاستقرار الاقتصادي داخل دول المجلس، وهو ما يتطلب وجود ميزانية اتحادية لمعالجة المشكلات الخاصة برفع مستويات الطلب الكلي والتخفيف من آثار التقلبات الاقتصادية بين دول المجلس.

ومما لا شك فيه أن استيفاء هذه المتطلبات يتطلب تغيرات هيكلية في اقتصاديات دول مجلس التعاون وتغير في هيكل مؤسسات المجلس، وهي متطلبات سوف تستغرق للأسف ، من وجهة نظري، عشرات السنوات قبل أن نرى العملة الموحدة على ارض الواقع. اذا كان التحليل الفني (غير السياسي) يشير إلى عدم إمكانية تحقق الحلم في الموعد المحدد، وأنه اذا أصرت دول المجلس على إطلاق العملة في موعدها المحدد، ربما تكون الآثار كارثية على دول المجلس، حيث سيتم استبدال عملات وطنية قوية تتمتع بثبات كبير بعملة تحيط بها الكثير من المحاذير والمخاطر التي ربما تهدد مسيرة التعاون ذاتها، فلماذا لا نبحث عن حل وسط يحقق حلم دول مجلس التعاون في أن يكون لها عملة موحدة وفي ذات الوقت تتجنب الآثار السلبية لإطلاق عملة موحدة قبل تهيئة الأرضية اللازمة لعملية الإطلاق، من وجهة نظري هذا الحل الوسط هو تبني دول مجلس التعاون الريال السعودي كعملة خليجية موحدة.

الريال السعودي كعملة خليجية موحدة

من وجهة نظري فان استعمال الريال السعودي كعملة موحدة لدول المجلس أفضل من إنشاء عملة موحدة جديدة للأسباب الآتية:
1. يتفق الكثير من الدراسات التي أجريت على العملة الخليجية الموحدة على أن إصدار العملة تدور حوله عدة محاذير، وتواجهه العديد من التحديات، بصفة خاصة عدم تحقق متطلبات إنشاء منطقة عملة مثلى.
2. أن الاقتصاد السعودي هو أقوى اقتصاديات المنطقة حيث يتم فيه إنتاج أكثر من 50% من الناتج المحلي لدول مجلس التعاون في المتوسط. وهو ما يضفي قوة استقرار لهذه العملة، بدلا من إنشاء عملة جديدة يحيط بها الكثير من عوامل عدم التأكد، وتتأثر بما يدور في اقتصاديات كل دولة على حده.
3. إلغاء الحاجة إلى إنشاء بنك مركزي خليجي، حيث يمثل مصدرا محتملا للخلاف بين الدول الأعضاء، أين ينشأ، من يرأسه، ما هي حصة كل دولة في موظفيه، كيف تدار عملياته ... الخ. بينما مؤسسة النقد السعودي مؤسسة قائمة تدير شئون السياسة النقدية للمملكة منذ زمن طويل، وتتمتع بخبرة طويلة في إصدار وإدارة أحوال هذه العملة.
4. أن الريال السعودي يحميه رصيد كبير من الاحتياطيات الدولية، خصوصا هذه الأيام، تمكن المملكة من التدخل في الوقت المناسب لحماية الريال ضد مخاطر تقلب معدلات صرفها أمام العملات الرئيسية في العالم، وبما يحقق أهداف الأعضاء بأن يكون لديهم عملة موحدة تتمتع بالاستقرار.
5. أن العملة الموحدة يحيط بها الكثير من عوامل عدم التأكد، الأمر الذي يمثل مصدرا كامنا لعدم الاستقرار النقدي في دول المجلس، خصوصا وأن تلك الدول سوف تستبدل عملات قوية ومستقرة بعملة يحيط بها العديد من المخاطر.
6. أن المملكة العربية السعودية هي الدولة صاحبة النفوذ الأقوى سياسيا داخل المنطقة، وهو نفوذ يفوق تأثير ألمانيا في الاتحاد الأوروبي.

متطلبات استخدام الريال السعودي كعملة موحدة

1. الاتفاق على آلية لاقتسام إيرادات عملية إصدار الريال السعودي بين السعودية ودول المجلس. وهو إجراء تتبعه الدول التي تتفق على استخدام عملة احد الدول كعملة موحدة لها. على سبيل المثال يقتسم البنك المركزي في جنوب إفريقيا إيرادات عمليات الإصدار مع الدول التي تستخدم الراند الجنوب إفريقي، أي مع ليسوتو وسوازيلاند وناميبيا أعضاء المنطقة النقدية المشتركة في إفريقيا.
2. إعادة صياغة نظام معدل صرف الريال من خلال سلة عملات تتوافق مع شركاء التجارة في دول مجلس التعاون، بدلا من النظام الحالي القائم على الربط مع الدولار، لإحداث قدر اكبر من الاستقرار في القيمة الاسمية للريال.
3. إضافة وظائف أخرى لمؤسسة النقد السعودي منها أن تصبح الملجأ الأخير للدول الأعضاء لتوفير احتياجات الائتمان المطلوبة، وأن تتولى رسم سياسة نقدية تتناسب مع الظروف الاقتصادية السائدة في دول المجلس.
4. إعادة هيكلة إدارة المؤسسة بحيث تتكون من لجنة إدارة تضم الدول الست الأعضاء.
5. إعادة تصميم الريال بحيث لا يحمل أية صور منعا للحساسية التي يمكن أن تنشأ عن ذلك.
6. النظر بقدر كبير من النضوج السياسي والاقتصادي للفكرة، وأن ذلك لا يعني انتقاص من السيادة الوطنية للدول الاعضاء لصالح المملكة، فالعملة الخليجية الموحدة تحمل أيضا انتقاص من السيادة لكافة الدول الأعضاء.

أن عملية تبني الريال السعودي كعملة موحدة لدول المجلس يستند إلى تحليل للعوائد/التكاليف والتي تبدو من وجهة نظري في صالح الريال السعودي، أكثر من العملة المنتظرة والتي ربما لن ترى النور.

السبت، مارس ٠٨، ٢٠٠٨

فرصة الكويت الاستثنائية

تجاوزت أسعار النفط اليوم لأول مرة في التاريخ مستوى 106 دولارا، كما يقترب سعر برميل النفط الكويتي من حاجز الـ 100 دولارا، وهو ما يبشر بوفرة مالية استثنائية، اذا ما استغلت على نحو صحيح، فإنها ستكون كفيلة بفك القيود التي يفرضها الهيكل الإنتاجي شبه الأحادي الذي يهدد استقرار الكويت اقتصاديا، ويمهد السبيل نحو مستقبل أكثر إشراقا للأجيال القادمة. الكويت الآن محط أنظار المستثمرين الخليجيين، وكذلك محط اهتمام المستثمرين الأجانب، شريطة أن تتحسن بيئة الأعمال والبنى التحتية، والمدركات الوطنية لأهمية الاستثمار الأجنبي، لا كمصدر للأموال، فلدينا فائضا كبيرا منها، ولكن كمصدر للمعرفة والتقنية وأساليب الإدارة والتسويق والابتكار الحديثة، وكمنفذ نحو الأسواق الخارجية.

إذ ما زال الكثير من القطاعات في الكويت بكرا، بسبب سياسة الانغلاق الاقتصادي التي فرضتها على ارض الواقع البيروقراطية الشديدة أمام الاستثمار الأجنبي. إن نظم الأعمال العقيمة التي عفا عليها الزمن مثل نظام الكفيل وقانون الحد الأقصى لحصة الشريك الأجنبي.. الخ. والتي لم تعد تصلح لمناخ الاستثمار العولمي الذي نعيشه الآن، أو لدولة عصرية ترغب في أن تلحق بركب التقدم، يجب ان تلغى أو تستبدل بنظم اكثر انفتاحا وترحيبا بالمستثمر الاجنبي، نحتاج أن ندرك أن ما يتم هنا لا يجب أن يكون دائما من خلالنا. نحتاج إلى الانفتاح بشكل أكبر، نحتاج إلى أن نفهم قواعد اللعبة، وأنها لعبة شراكة يجب أن تكون مفيدة لكافة الإطراف.

تلك الظروف الاستثنائية تتطلب رجالا استثنائيين يتعاملون مع تحديات المرحلة، ويتحركون بديناميكية ووعي بأهمية اغتنام الفرصة الذهبية قبل ضياعها. تلك الظروف الاستثنائية تتطلب حكومة واعية قادرة على التحرك بمسئولية ودون خوف وببيروقراطية خالية من الفساد، وتمضى قدما وفق خطة محكمة لجعل الكويت محط أنظار المستثمرين في المنطقة وفي العالم أجمع. في العام قبل الماضي عقدت جمعية الصداقة الكويتية الأمريكية ندوة بعنوان "الكويت بوابة الاستثمارات إلى الخليج"، وتحدث الحضور عن إمكانيات الكويت وقدراتها على جذب المستثمرين الأجانب، وكنت احد الحضور في الندوة يراودني سؤال مهم هو كيف تكون الكويت بوابة الاستثمارات إلى المنطقة، بينما تحتل المركز الأخير عالميا في مؤشر القيود على الملكية الأجنبية وفقا لتقرير التنافسية العالمية. تحتاج الحكومة إلى تحرير الاقتصاد من القيود التي تكبله أمام القادمين من الخارج، سواء أكانوا من المنطقة أم من خارج المنطقة.

تلك الظروف الاستثنائية تتطلب نوابا على قدر من المسئولية الوطنية، تتجاوز آفاق رؤيتهم حدود دوائرهم الانتخابية، نواب يهدفون إلى التحليق بالكويت عاليا، نوابا لا يهتمون بكيفية تقسيم تلك الوفرة على الأجيال الحالية، وإنما تنمية تلك الوفرة لتعم الجيل الحالي والأجيال القادمة، واضعين الكويت، والكويت فقط، نصب أعينهم.

الجميع مطالب ببذل الجهد المناسب، حكومة ومجلس نيابي ومؤسسات المجتمع المدني وصناع الرأي العام، انه مستقبل الكويت. فهل تغتنم الفرصة، أم نضيع الوقت ونتخلف عن الركب، ثم تجلس نتحدث عن إخفاقاتنا، وننظر بالإعجاب لمن حولنا، مع أن كل ما يحدث حولنا هو جميعا من بنات أفكارنا.

الجمعة، مارس ٠٧، ٢٠٠٨

هل تصبح الكويت المركز المالي الإسلامي للعالم؟

منذ اللحظات الأولى التي تولي فيها حضرة صاحب السمو أمير البلاد مقاليد الحكم أعلن رؤيته الاستراتيجية لمستقبل الكويت في التحول إلى مركز مالي وتجاري. وتجسيدا للرغبة في تقييم الرؤية الإستراتيجية لسموه عقد مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية ندوة عن "الكويت: كيف تصبح مركزا ماليا عالميا التي عقدت في ديسمبر 2005". وقد دعيت للمشاركة في الندوة. وقد انصبت ورقتي على تحليل عناصر القوة التي تمتلكها الكويت وعناصر الضعف التي تعاني منها في مجال التحول إلى مركز مالي، وكذلك الفرص الخارجية المساعدة والتهديدات الخارجية المثبطة للتحول نحو مركز مالي، بما في ذلك مناخ الأعمال. وقد اعتمدت في ذلك على التقارير المحلية والتقارير العالمية وتقارير المؤسسات الدولية، في إطار ما يعرف بتحليل سوات SWOT. وقد توصلت من التحليل أن الكويت لا تصلح لأن تصبح مركزا ماليا تقليديا، لأنها لا تمتلك مقومات المنافسة على المستوى الدولي مع المؤسسات المالية العملاقة لكي تتحول إلى مركز مالي دولي تقليدي، ولا تقع في إقليم ذو قوة اقتصادية ضخمة أو بالقرب منه، لكي تتحول إلى مركز مالي إقليمي تقليدي. ومن ثم خلصت إلى نتيجة مؤداها أن الكويت لا تملك مقومات التحول إلى مركز مالي تقليدي، سواء كنا نتحدث عن مركز مالي دولي أو إقليمي، وأن المبادرة ربما تجهض بسبب معطيات الواقع.

مرة أخرى في مؤتمر كلية العلوم الإدارية "اتجاهات 2 الذي عقد في ديسمبر 2006" فمت بدراسة القدرة التنافسية للبنوك الكويتية في مقابل البنوك الخليجية من خلال تقدير مستويات الكفاءة النسبية لتلك البنوك، وذلك لتقييم قدرة الهيكل الحالي للمؤسسات المصرفية في الكويت على التحول إلى مركز مالي، وقد أشارت النتائج أن البنوك الكويتية لا تتمتع بالكفاءة مقارنة ببنوك دول مجلس التعاون، ومن ثم فانه في حال تحول الكويت إلى مركز مالي إقليمي وفتح أبواب المنافسة مع البنوك الخليجية، فان البنوك الكويتية ستخسر المعركة. ومرة أخرى أصل إلى خلاصة مفادها أن الكويت لا تصلح لأن تتحول إلى مركز مالي تقليدي.

وكنت من قبل قد اشتركت في دراسة ضخمة عن البنوك والخدمات المالية الإسلامية لمعهد الدراسات المصرفية (2004-2005) مكونة من ثماني أجزاء، وكنا كلما انتهينا من جزء نصل إلى نتيجة مؤداها أن قطاع الخدمات المالية الأسلامية في السوق المالي الكويتي يشهد نموا هائلا ويجد إقبالا كبيرا عليه. ولذلك كانت حجتي الأساسية في ندوة "الكويت: كيف تكون مركزا ماليا"، هي أن الكويت لا تصلح لأن تكون مركزا ماليا تقليديا، ولكنها ربما تمتلك بعض المزايا النسبية التي تؤهلها لأن تصبح مركزا ماليا إسلاميا، حيث:

- تنموا أعداد المؤسسات المالية الإسلامية (عدا البنوك) بمعدلات واضحة.
- تنمو الحصة السوقية للمؤسسات المالية الإسلامية في السوق المالي الكويتي بمعدلات كبيرة.
- تنمو أصول تلك المؤسسات من قروض واستثمارات بصورة واضحة.
- تنمو أرباح تلك المؤسسات بشكل لافت للنظر.
- أن بعض هذه المؤسسات أصبحت تمارس نشاطها على المستوى الدولي، لدرجة أنها وصفت بهارفارد المؤسسات المالية الإسلامية.
- تتراكم خبرات تلك المؤسسات بمرور الوقت في مجال يعد شبه بكر في مجال الخدمات المالية.

مثل هذه العوامل تشكل زخما كافيا لأن تعلن الكويت استعدادها لأن تكون المركز المالي الإسلامي للعالم، خصوصا وانه حتى الآن لا يوجد لدينا في العالم ما يسمى بالمركز المالي الإسلامي.

يعمل الآن في الكويت 3 بنوك إسلامية هي بيت التمويل وبنك بوبيان والبنك التجاري الدولي (البنك العقاري سابقا)، وهناك بنك جابر الإسلامي في الطريق، كما تعمل 36 شركة استثمار وفقا لأحكام الشريعة من اصل 82 شركة استثمار في الكويت، كذلك يوجد هناك 48 صندوق استثمار وفقا لأحكام الشريعة معظمها تديره مؤسسات مالية تقليدية، كذلك أخذ نشاط التأمين التكافلي في النمو بشكل حثيث، ويوجد حاليا 4 شركات تأمين تكافلي في دولة الكويت. ومن المؤكد أنه لو كانت عملية إصدار تراخيص لبنوك جديدة أكثر انفتاحا في دولة الكويت لرأينا الكثير من البنوك الإسلامية الآن تعمل في الدولة.

ومن الأمور المبشرة أنه بالأمس الأول أعلن البنك التجاري أنه مصمم على التحول إلى بنك إسلامي (القبس 5/3)، واليوم أعلن بنك الكويت الشرق الأوسط إلى رغبته في التحول إلى بنك إسلامي، أو على الأقل في تأسيس وحدة تتعامل وفقا للشريعة (الوطن 7/3)، وبالأمس تقدم مجموعة من أعضاء مجلس الأمة باقتراح بقانون للسماح للبنوك بتأسيس شركات لمزاولة نشاطها وفق أحكام الشريعة (الوطن 7/3)، كما أقر مجلس الأمة في شهر يونيو الماضي إنشاء بنك جابر الإسلامي الذي اقترح أن يتم الاكتتاب فيه 76% للمواطنين توزع كمنحة، وهكذا نرى أن الأحداث تتسارع لتصب في هذا الاتجاه. مثل هذه المجموعة من المؤسسات يمكن أن تمثل قاعدة بناء المركز المالي الإسلامي، خصوصا وأن:

1- الكويت أصبح لديها الآن خبرة في الشريحة السوقية للخدمات المالية الإسلامية، حيث تتزايد تلك الشريحة من سوق دولة الكويت بشكل واضح.
2- الكويت أصبح لديها الان قاعدة لا بأس بها من المؤسسات المالية الاسلامية يمكن ان تشكل نقطة انطلاق هذا المركز
3- المنافسة التي ستواجهها الكويت عند التحول إلى مركز مالي إسلامي تبدو اقل حدة من تلك التي ستواجهها عند التحول إلى مركز مالي تقليدي. فعندما تتحول الكويت إلى مركز مالي تقليدي ستواجه منافسة عولمية مع مراكز مالية أخرى، إقليمية أو دولية لا تملك المؤسسات المالية التقليدية حاليا في الكويت سبل مواجهتها.
4- الكويت الآن بإمكانياتها المالية والوفرة التي تتمتع بها والتوقعات التفاؤلية حول مستقبلها الاقتصادي، على الاقل في المدى المتوسط، تمثل لها فرصة استثنائية لإطلاق هذا المشروع الحيوي للدولة.

ما هو المطلوب إذن لتتحول الكويت إلى المركز المالي الإسلامي للعالم:

1- تحتاج دولة الكويت إلى مراجعة قانون البنوك الإسلامية بصفة خاصة بالنسبة للحد الأدنى لرأس المال اللازم لإنشاء بنك إسلامي وشركة استثمار إسلامية بدولة الكويت، حيث أن هذا الحد الأدنى يعد حاليا كبيرا، وقد يقف عائقا أمام عمليات جذب المؤسسات المالية الإسلامية إلى دولة الكويت.

2- تحتاج الكويت إلى تغيير موقف البنك المركزي من منح تراخيص للبنوك الإسلامية، حيث أن:

– السياسة المعلنة للبنك المركزي في هذا المجال هي التدرج في منح تراخيص للبنوك الإسلامية على أساس التطبيق التدريجي لفتح البنوك الإسلامية ثم تقييم التجربة بشكل أكثر شمولا قبل التوسع في منح تراخيص في هذا المجال.

– يرفض البنك المركزي حاليا مبدأ فتح فروع لبنوك تقليدية تعمل وفقا للشريعة الإسلامية، وذلك استنادا إلى احتمال اختلاط الأموال بين الفرع الذي يعمل وفقا للشريعة، والبنك الأصل الذي يمارس أشكال التمويل التقليدي، وهو أمر يمكن تلافيه بسهولة في إطار نظام محاسبي جيد للبنوك التقليدية.

3- تحتاج دولة الكويت إلى تطوير الأدوات المالية الإسلامية وعقود تلك الأدوات على نطاق أكبر وذلك بهدف:

– توفير تشكيلة واسعة ومتنوعة من الأدوات والعقود المالية الإسلامية التي تناسب كافة الأذواق
– تمكين مؤسسات المركز من النمو والمنافسة مع المؤسسات المالية التقليدية في السوق المالي

4- تحتاج دولة الكويت إلى توفير العمالة الماهرة والمتخصصة في مجال الأعمال المصرفية والمالية الإسلامية، ولعل أهم القيود على هذا الجانب هو غياب مؤسسات التعليم والتدريب المتخصصة في تقديم تلك التخصصات في دولة الكويت، ومن يجب أن تحظى تلك المؤسسات بأولوية في عملية إنشاء وتطوير المؤسسات التعليمية بالدولة.

5- تحتاج الكويت إلى العمل على تطوير سوق إسلامي بين البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، وتطوير قواعد وأسس العمل بهذا السوق، وذلك لمواجهة احتياجات الإقراض والاقتراض قصير الأجل لتلك المؤسسات، ولتعظيم الاستفادة من السيولة المتاحة لديها.

6- تحتاج دولة الكويت إلى تطوير أساليب الرقابة المصرفية والمالية التي تأخذ في الاعتبار طبيعة عمل المؤسسات المالية الإسلامية وخصوصية الأدوات المختلفة التي تستخدمها، خاصة فيما يتعلق بالحد الأدنى للسيولة والحد الأدنى لرأس المال، ونسب توزيعات الأرباح .. الخ.

لو سارعت دولة الكويت بتركيز كل جهودها في هذا الجانب، فإنها من الممكن أن تحقق السبق في هذا المجال ويكون لها ميزة نسبية في مقابل المراكز المالية الأخرى في هذا المجال، لتتحقق رؤية صاحب السمو أمير البلاد في أي يرى الكويت مركزا ماليا.

مصطلحات: المركز المالي
تتمثل الوظيفة الأساسية للمركز المالي في ممارسة مختلف عمليات الوساطة المالية على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي . ولهذا السبب فان المركز المالي دائما ما يضم عددا كبيرا من مؤسسات الوساطة المالية من بنوك وشركات استثمار وشركات تأمين وغيرها من مؤسسات الوساطة المالية. أما أهم المركز المالية الدولية فهو مركز المدينة في لندن يليه مركز نيويورك وأخيرا طوكيو، أما أهم المراكز الاقليمية في العالم فهي مراكز هونج كونج وسنغافورة ولوكسمبورج. ويوجد نوع من المراكز المتخصصة يطلق عليها مراكز الاوفشور، أهمها جزيرة كايمان، والبهاما.

الخميس، مارس ٠٦، ٢٠٠٨

أسعار الأراضي في الكويت الأعلى في العالم، عائق جديد أمام انطلاق المبادرات الخاصة

نشرت القبس اليوم (الأربعاء 5/3) تقريرا عن أسعار الأراضي ذات الاستخدام الاستثماري والتجاري في الكويت مقارنة بدول المنطقة، وخلص التقرير إلى أن أسعار الأراضي في الكويت أصبحت من بين الأعلى في العالم. والواقع انه خلال الخمس سنوات السابقة شهد قطاع العقار نموا ملحوظا نتيجة زيادة الطلب على الأراضي والعقارات، بصفة خاصة لأغراض الاستخدام التجاري والاستثماري. وقد ساهمت البنوك وغيرها من مؤسسات الوساطة المالية في عمليات تمويل الائتمان لقطاع العقار بشكل كبير. ويعود الارتفاع الكبير في أسعار الأراضي إلى:

1- ضعف العرض بسبب قلة المساحات المعروضة للبيع وتركز ملكية الأراضي بشكل عام، خصوصا في يد الحكومة.
2- نمو الطلب على قطاع العقار مدفوعا بالتوقعات التفاؤلية حول مستقبل النمو الاقتصادي في دولة الكويت.
3- ضعف الطاقة الاستيعابية للاقتصاد الوطني في مقابل الطاقة الادخارية الضخمة، خصوصا في اوقات الانتعاش. ومن المعلوم انه في ضوء هذه الاوضاع يبقى امام المدخرين ثلاث خيارات أساسية هي، اما توجيه المدخرات نحو سوق الأوراق المالية، والذي كما يلاحظ يواجه نموا كبيرا في الطلب ومن ثم في مؤشر السوق. والثاني هو توجيه هذه المدخرات للاستثمار في الخارج، أما الثالث وهو الأهم بالنسبة لنا هنا فهو استثمار المدخرات في قطاع العقار. ولعل الفورة الشديدة التي يشهدها قطاع العقار حاليا تعد انعكاسا لهذا الجانب.

وقد ترتب على العوامل السابقة ارتفاع أسعار الأراضي في دولة الكويت بشكل واضح، خصوصا لأغراض الاستخدام التجاري والاستثماري. فخلال الفترة من 2003-2006 ارتفع سعر المتر المربع لأغراض الاستخدام التجاري في المتوسط بحوالي 29% سنويا، كذلك سجل سعر المتر المربع لأغراض الاستثمار ارتفاعا بحوالي 23% في المتوسط سنويا. ومما لا شك فيه أن معدلات النمو هذه تعد معدلات فلكية، وتفوق معدلات النمو في معدلات الاستثمار والناتج وكذلك الدخول، مما يعكس الفورة الحالية التي يشهدها قطاع العقار.

ومن المعلوم أن ارتفاع تكاليف الاستثمار العقاري لا بد وأن ينعكس في ارتفاع أسعار الإيجارات حيث بلغ معدل النمو المتوسط لسعر الإيجار للمتر المربع في دولة الكويت للاستخدام التجاري خلال الفترة من 2003 إلى 2006 حوالي 15% سنويا، في الوقت الذي بلغ فيه معدل النمو المتوسط لسعر المتر للاستخدام الاستثماري حوالي 13% سنويا.

مثل هذه الظروف قد لا تكون مثالية لدفع مستويات الاستثمار الخاص، وتجعل مناخ الأعمال بدولة الكويت غير مناسب لانطلاق المبادرات الخاصة. تحتاج الدولة إذن إلى مزيد من الإفراج عن الأراضي وتوفيرها بصورة أرخص، من اجل تسهيل عمليات انشاء المشروعات الجدية ودفع مستويات الاستثمار ولمزيد من الدعم للقطاع الخاص.

إن الأرقام الفلكية لأسعار الاراضي في العاصمة تشير الى أنه قد آن الأوان لكي ننقل العاصمة التجارية للكويت. تحتاج الكويت الآن أكثر من أي وقت مضى إلى عاصمة تجارية أخرى غير مدينة الكويت، حيث تتوافر إمكانيات التوسع العمراني بصورة افضل، وتتوافر الأراضي بمساحات اكبر وأسعار اقل. وبذلك نبتعد عن البقعة التجارية الضيقة في المدينة، والتي انتشرت فيها ناطحات السحاب بصورة عشوائية دون اعتبار لقواعد الارتفاعات او الطاقة الاستيعابية لطرق المدينة او مواقف السيارات فيها. من المؤكد أنه بعد استكمال مشروعات البناء الضخمة في تلك البقعة الصغيرة، فان العاصمة ستواجه أزمة مرور خانقة، بدأت بوادرها تظهر الآن على السطح.

الثلاثاء، مارس ٠٤، ٢٠٠٨

مشروع لزيادة إجبارية في الرواتب، حذار من المزيد من التضخم!!

هدد بعض أعضاء مجلس الأمة بأنهم سوف يستخدمون سلطاتهم التشريعية في التأكد من أن الزيادات التي تجري على رواتب المواطنين هي زيادات معقولة وتعبر عن الارتفاع الحقيقي في تكلفة المعيشة وتحافظ على مستوى رفاهية المواطن في ظل الارتفاع المستمر في معدل التضخم الذي يجتاح البلد. لا شك أن الخبر يسر الجميع، ويرفع من شعبية المطالبين به، وربما يؤمن أصواتا أكثر في الانتخابات القادمة، مما يجعل العودة إلى كرسي البرلمان مرة أخرى مهمة أسهل.

هذه الزيادة المقترحة ترفع بند الرواتب في الميزانية بأكثر من ربع مليار دينارا سنويا (50 دينارا لحوالي 420 ألف موظف في 12 شهرا). هذا إضافة إلى الزيادة السابقة التي أقرتها الحكومة والتي ستكلف الميزانية زيادة في رواتب الكويتيين فقط أكثر من 600 مليون دينارا. يعني ذلك أن الزيادات المقترحة في الرواتب اذا تمت الموافقة على زيادة الـ 50 دينارا الإضافية سوف تكلف الميزانية ما يقارب المليار دينار سنويا، ناهيك عن تكلفة الزيادات التي حصلت عليها الكوادر الخاصة. بند الأجور والرواتب في الميزانية العامة للدولة يمر بحالة من الفوضى، ويخلف وراءه العديد من المشاكل تبعا لذلك.

المشكلة الأولى هي أن الزيادة في الباب الأول والباب الخامس (المصاريف الأخرى والتحويلات) من الميزانية هي زيادة ترفع الحد الأدنى لسعر النفط الخام اللازم لتوازن الميزانية، وبشكل أعلى مما سبق، ومن ثم تصبح ميزانية دولة الكويت أكثر المتغيرات الاقتصادية حرجا في حال تغير أسعار النفط او اتجاهها نحو النزول. ومن الواضح أن الجميع أصبح يتعامل مع المستويات الحالية لأسعار النفط على أنها مستويات دائمة، وأن النفط الرخيص أصبح من ذكريات الماضي. ومع ترحيبنا بهذا الاتجاه، إلا أنه لا يمكن، تحت أي ظرف من الظروف، الوثوق بالأسواق الدولية للسلع. فالعالم الذي نعيش فيه ترتفع فيه درجة المخاطرة بشكل واسع وتلعب فيه التوقعات دورا حيويا، إلى الحد الذي يمكن أن يحدث فيه أي شيء.

المشكلة الثانية أن هذه الزيادة هي زيادة أبدية، أي لا يمكن بأي حال من الأحوال تخفيضها مرة أخرى، حتى لو تراجعت معدلات التضخم. لأن الرواتب جزءا من الإنفاق الجاري في الميزانيات العامة للدول. ومن المعلوم أن الإنفاق الجاري عديم المرونة لتقلبات الإيرادات. بمعنى أنه من الممكن زيادته في حال إرتفاع الإيرادات، ولكن في حال انخفاض الإيرادات يستحيل تخفيضه مرة أخرى لمستوياته السابقة. لذلك ينظر إلى الرواتب على أنها من البنود الجامدة Sticky في الاقتصاد، أي أنها تصعد، أو تثبت، ولكنها لا تتجه نحو النزول أبدا مثلما يفترض الكلاسيكيون.

المشكلة الثالثة وهي الأخطر أن الذي يعتقدون أنهم يخدمون المواطن بهذه الزيادة هم في الحقيقية يضرون بالمواطن، بل ويضرون جميع فئات وقطاعات المجتمع. ذلك أن المبادئ الأساسية للتحليل الاقتصادي الكلي تخبرنا أن المستوى العام للأسعار هو نتيجة التفاعل بين مستويات الطلب الكلي والعرض الكلي في المجتمع. ويعتمد الطلب الكلي أساسا على مستويات الدخول، ومن ثم فان أي زيادة في مستويات دخل المواطن سوف يصاحبها زيادة أعلى في مستويات الطلب الكلي على السلع والخدمات المختلفة، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة الأسعار ومن ثم المزيد من التضخم، فتسوء أوضاع العاملين في الحكومة، وبصفة خاصة صغار الموظفين وذوي الدخول المحدودة، الذين يدفعون ثمنا رهيبا لارتفاع معدلات التضخم في ضوء محدودية دخولهم وتسارع الزيادات في نفقات المعيشة.

يبدو أن المطالبين بزيادة الرواتب يعيشون ما نطلق عليه في الاقتصاد حالة الوهم النقدي Money Illusion، وهي الحالة التي يسعد فيها الفرد بالزيادة التي تحدث في القيمة النقدية لدخله، بينما تشتعل الأسعار من حوله نتيجة زيادة الطلب، لتلتهم زيادات الأسعار هذه الزيادات في الدخول، أي أنه في غضون فترة بسيطة تبدأ الأسعار في الارتفاع بما يلتهم الجانب الأكبر من القوة الشرائية للدخل، بحيث ينتهي الحال بالفرد إلى أن يكون في وضع أسوأ من وضعه قبل زيادة الدخول.

نقول للذين يطالبون بزيادات إجبارية في الرواتب، رفقا بالمواطن البسيط من زيادة الأسعار التي ستخلفها تلك الزيادات التي تطالبون بها.

مرحبا بزيادة الرواتب، وداعا لإحلال العمالة الوطنية محل العمالة الوافدة!

أعلنت حكومة دولة الكويت عن خطتها لزيادة الرواتب هذا الشهر، بناءا على دراسة للبنك الدولي والتي على أساسها تم إقرار زيادة موحدة في الرواتب بواقع 120 دينارا لكل موظف كويتي في الحكومة والقطاع الخاص. ومن الواضح أن الزيادة قد تم إقرارها على أساس أنها ستكون بمثابة علاوة غلاء معيشة تضاف إلى الراتب ولا تحسب ضمن الراتب الأساسي، حرصا على ألا تضاف إلى مستحقات الأفراد عند التقاعد وبالتالي تعقيد آثار الزيادة نتيجة ارتفاع مساهمات الحكومة في التأمينات، ومن ثم زيادة العجز الاكتواري لهيئة التأمينات الاجتماعية.

من المؤكد أن قرار زيادة الرواتب له أثارا ايجابية ولكن أيضا له الكثير من التبعات والآثار السلبية المتعددة. فمما لا شك فيه أن تكلفة المعيشة في دولة الكويت قد بدأت في التزايد مع تصاعد معدلات التضخم بشكل واضح متجاوزة كل من الاتجاه العام لمعدل التضخم في الدولة وكذلك معدلات التضخم المستهدفة من قبل السلطات النقدية في دولة الكويت. وبدأ المقيمين في دولة الكويت يشعرون بآثار التضخم وتآكل القوة الشرائية لدخولهم، وبدأت الغالبية العظمى من المواطنين تشعر بآثار ارتفاع تكاليف المعيشة، ومن ثم بدأ الحديث عن زيادة الرواتب إقتداءا بما حدث في الدول المحيطة، كذلك تصاعدت مطالب النواب بضرورة أن تنعكس الفوائض الضخمة في الميزانية على مستويات معيشة المواطنين من خلال زيادات كبيرة في الرواتب تحمي القطاع العريض من السكان العاملين في القطاع الحكومي.

هل الزيادة التي أقرتها الحكومة مناسبة، ربما تكون كذلك، وربما تكون أعلى من الزيادة في تكاليف المعيشة، لا نستطيع الحكم إلا من خلال مقارنة النمو في متوسط إنفاق الأسرة مع الزيادة المقترحة، وهو أمر لا يستطيع احد أي يقيمه خصوصا في ظل غياب بيانات حديثة عن الإنفاق الأسري، من خلال بحث ميزانية الأسرة ومسوحات الإنفاق وذلك لكي تقدير حجم الزيادة في تكاليف المعيشة بصورة فعلية، ومن ثم تقييم مدى مناسبة الزيادة في الرواتب على أساس أكثر واقعية. على أية حال فان الجانب الايجابي في زيادة الرواتب هو زيادة قيد الميزانية للأفراد، الأمر الذي سيمكنهم من الإنفاق بشكل اكبر ومواجهة زيادة الأسعار وانخفاض القوة الشرائية للدينار.

أما الجوانب السلبية لزيادة الرواتب فمتعددة، فأولا زيادة الرواتب قفزت ببنود الرواتب والأجور في الميزانية العامة للدولة إلى ما يقارب الـ 3 مليار دينار، هذا فيما يتعلق بالباب الأول فقط. حيث أن هناك بنودا أخرى للرواتب لا تحسب ضمن الباب الأول، مثل مرتبات العاملين في الجهات الملحقة والمستقلة، ومرتبات العاملين بالدفاع ومساهمة الحكومة في التأمينات الاجتماعية..الخ. ربما لا تكون لتلك الأرقام الضخمة أهمية الآن في ضوء الفوائض الكبيرة التي تحققها الميزانية العامة بفضل ارتفاع أسعار النفط، إلا أن كل زيادة في باب الأجور والرواتب ورواتب الفئات الأخرى ومساهمة الحكومة في التأمينات، ترفع من الحد الأدنى لسعر النفط اللازم لموازنة الميزانية العامة. مما يعني أن أسواق النفط في العالم لا بد وأن تتوازن عند حدود دنيا لضمان الحد الأدنى اللازم من الإيرادات اللازمة لتغطية الإنفاق العام، بصفة خاصة بند الرواتب.

ثانيا أن زيادة الرواتب التي تهدف إلى تعويض العاملين عن ارتفاع تكاليف المعيشة سوف تسهم في تغذية نار التضخم، من خلال الزيادة في الطلب الكلي الناجمة عن ارتفاع الدخول، الأمر الذي سوف يؤدي إلى زيادة معدلات التضخم أكثر وأكثر، ومن ثم سوف يجد المواطنون أنفسهم مرة أخرى في حاجة إلى زيادة إضافية لمواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة، أي من المحتمل أن ندخل في دائرة خبيثة من التضخم وارتفاع الأجور ومن ثم زيادة الطلب الكلي فارتفاع الأسعار وبالتالي زيادة الأجور مرة أخرى فزيادة الطلب الكلي وارتفاع مستوى الأسعار وهكذا دواليك. صحيح أن معدلات التضخم حتى الآن تعد من قبيل معدلات التضخم المعقول إلى المنخفض، إلا أن زيادة الرواتب بما تمثله من زيادة في حجم الإنفاق لا تضمن استمرار معدلات التضخم عند هذه المستويات المعقولة من التضخم، وربما تدخل الكويت إلى مرحلة معدلات التضخم المرتفع.

ثالثا أن استمرار ارتفاع الأسعار وارتفاع تكاليف المعيشة سيواجه بمزيد من المطالبات للسيطرة على الأسعار حرصا على مستويات رفاهية المواطن، وحماية للطبقة المتوسطة التي هي أكثر الطبقات حاليا معاناة من ارتفاع الأسعار. المشكلة هنا هي أن التدخل المباشر للحكومة في الحد من زيادة الأسعار سوف يعطل آليات السوق ويشوه أنماط تحديد الأسعار وأجور عناصر الإنتاج، وهو ما لا يتوافق مع النظام الاقتصادي الحر الذي تتبعه الكويت حاليا، فضلا عن انه سيحبط المبادرات الخاصة في مجال إنتاج وتقديم السلع والخدمات.

رابعا، أن الزيادة المقترحة في الأجور كانت موحدة، وعلى جميع الدرجات والمستويات الوظيفية، يستوي في ذلك ذوي أصحاب الوظائف العليا والوظائف الدنيا، وهو أمر غير معقول. وبصفة عامة فإن أصحاب الوظائف الدنيا هم أكثر الفئات ميلا للاستهلاك، ومن ثم ستوجه كل هذه الزيادة من جانبهم نحو الاستهلاك، بعكس الطبقات العليا، وهو ما يعني أن الأثر المتوقع على الطلب الكلي سوف يكون كبيرا.

خامسا، وهو أهم الآثار السلبية من وجهة نظري، سوف يترتب على زيادة الرواتب تعميق الهوة بين هيكل أجور ورواتب القطاع الخاص وهيكل أجور ورواتب القطاع الحكومي، الأمر الذي سيعمق من ازدواجية سوق العمل Segmentation، حيث تصبح الوظيفة الحكومية ذات الأعباء الأقل والأجور الأعلى أكثر إغراءا، وأكثر طلبا من قبل كافة الداخلي الجدد لسوق العمل، ومن ثم ستجهض جهود الحكومة في إحلال العمالة الوطنية محل العمالة الوافدة في القطاع الخاص، حيث ستزداد مقاومة القطاع الخاص لتوظيف العمالة الوطنية لأنها مرتفعة التكلفة بشكل لا يتماشى مع مستويات إنتاجيتها أو مع مستويات أجور العمالة الوافدة، من ناحية أخرى سوف تزداد مقاومة الداخلين الجدد لفرص العمل التي يتيحها القطاع الخاص نظرا لارتفاع جاذبية الوظيفة الحكومية ذات الأجر الأعلى والجهد الأقل والمكانة الأفضل في المجتمع وغيرها من المزايا الأخرى. ومن المعلوم أن جهات العمل بالوزارات والإدارات الحكومية بلغت مستوى التشبع منذ فترة طويلة، وأخذت البطالة المقنعة تتراكم بصورة كبيرة الأمر الذي انعكس في مزيد من الروتين والبيروقراطية وانتشار الفساد الإداري.

هذه الزيادة لا تحمل أخبارا طيبة لجهاز إعادة هيكلة القوى العاملة، حيث سترتفع حالات رفض فرص العمل التي يوفرها القطاع الخاص، وتطول وفقا لذلك المدة التي يقضيها الخريجين الجدد انتظارا لتوفر الفرصة المناسبة للعمل في الحكومة، وهو ما سيتطلب ضرورة زيادة ميزانيات دعم العمالة الوطنية. كذلك سوف ترتفع مستويات التسرب للعمالة الوطنية من القطاع الخاص نحو القطاع الحكومي في ظل الزيادة الجديدة في الرواتب، وهو ما يجهض جهود الحكومة نحو إحلال العمالة الوطنية محل العمالة الوافدة.
مصطلحات: العجز الاكتواري
يحدث العجز الاكتواري عندما تعجز موارد هيئة التأمينات الاجتماعية عن دفع معاشات المشتركين. ويحدث ذلك بسبب الزيادات في الرواتب التي لا يجاريها زيادة في مساهمات الموظفين المدفوعة لهيئة التأمينات، بصفة خاصة بالنسبة للموظفين الذين اقتربوا من سن التقاعد، حيث سيحصل هؤلاء على معاشات مرتفعة عند التقاعد، بينما قاموا خلال حياتهم الوظيفية بسداد اشتراكات محسوبة على أساس رواتب منخفضة.