الجمعة، يوليو ٢٧، ٢٠١٢

إعادة رسملة البنوك

نشر في صحيفة الاقتصادية يوم الثلاثاء 24/7/2012

لم يحدث أن شهد العالم عمليات إعادة رسملة للبنوك كتلك التي حدثت في الأزمة المالية الحالية، فلقد كان من المفترض أن يشهد العالم سقوط عشرات الآلاف من البنوك والمؤسسات المالية في خضم هذه الأزمة. بصفة خاصة كان من الممكن أن تشهد الولايات المتحدة إفلاس آلاف البنوك مثلما حدث في أثناء الكساد العالمي الكبير، حيث أفلس حوالي 9000 بنكا ومؤسسة مالية خلال الفترة من 1929–1933، وفي عام 1933 وحده، أفلس حوالي 4 آلاف بنك ومؤسسة مالية نتيجة للأزمة، وهو ما دعا الحكومة الأمريكية إلى إنشاء المؤسسة الفدرالية للتأمين على الودائع FDIC. شهدت الثمانينيات أيضا عمليات إفلاس عنيفة للبنوك في الولايات المتحدة بلغت أوجها في عام 1989 حيث أعلن إفلاس 534 بنكا.
عندما انطلقت الأزمة المالية العالمية الحالية كان من بين حزم التحفيز التي قامت بها معظم دول العالم تخصيص مئات المليارات من الدولارات لإعادة رسملة البنوك، حيث طبقت الدول الصناعية بعد عام 2008 برامج مكثفة لإعادة رسملة جهازها المصرفي بما فيها الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، وإيرلندا، وسويسرا، واليابان وغيرها. فقد خصصت الولايات المتحدة حوالي 700 مليار دولارا ضمن برنامج شراء الأصول المضطربة TARP، وبتطبيق البرنامج تم توجيه الاهتمام لبرنامج مشتريات رأس المال لإنقاذ القطاع المصرفي، وذلك بهدف زيادة رسملة البنوك بصورة مباشرة وغير مباشرة لتعزيز الثقة في هذه البنوك. على سبيل المثال قامت الحكومة الأمريكية في اطار برنامج المشتريات الرأسمالية بضخ أكثر من 200 مليار دولارا في مؤسساتها المالية، وقد نجح هذا البرنامج في الحد من عمليات الإفلاس على نحو كبير، فلم تتعد حالات الإفلاس بين البنوك الأمريكية في أحلك السنوات 157 بنكا في عام 2010، من بين حوالي 8300 بنكا تعمل في الولايات المتحدة، وهو ما يعكس نجاح البرنامج في تحقيق مستهدفاته في الحد من عمليات إفلاس البنوك. كذلك من بين برامج إعادة الرسملة الرئيسة في العالم ما قامت به اليابان خلال أزمتها في التسعينيات بتخصيص 30 تريليون ينا لتثبيت قطاعها المالي، منها 13 تريليونا لإعادة رسملة البنوك.
منذ عدة أيام أصدر صندوق النقد الدولي تقريرا نصح فيه إسبانيا بسرعة إعادة رسملة بنوكها، وذلك باستخدام قرض الإنقاذ الذي أقره الاتحاد الأوروبي لمساعدة القطاع المالي الإسباني والبالغ 100 مليار يورو، من خلال ضح المزيد من رأس المال في بنوكها المضطربة وذلك لمواجهة تزايد نسب الأصول المسمومة في القوائم المالية لهذه البنوك. حاليا أيضا تقوم إيطاليا بالموافقة على قانون يساعد على دعم رؤوس أموال البنوك، والذي بمقتضاه تستعد البنوك لبيع سنداتها للحكومة لرفع رسملتها، على سبيل المثال يستعد حاليا بنك Siena لبيع 1.3 مليار يورو من السندات للحكومة. كذلك تستعد اليونان لضخ 18 مليار يورو في بنوكها. من الواضح إذن أن الكثير من دول أوروبا تستعد اليوم بدرجة أو أخرى لمواجهة هذه الاحتمالات، فما هي رسملة البنوك وما هي أهميتها؟
عملية إعادة الرسملة هي عملية تتضمن تغيرا جوهريا في أسلوب تمويل البنوك، من الاعتماد على إصدار المزيد من الأسهم أو بيع السندات إلى مصادر التمويل الخاصة، إلى التمويل من خلال ضخ الحكومة للأموال في البنك، ويتم ذلك إما بصورة مباشرة من خلال قيام البنك بإصدار اسهم تشتريها الحكومة، غالبا ما تكون اسهم تفضيلية والتي قد تؤدي في بعض الأحيان إلى أن تصبح الحكومة هي صاحب أكبر حصة رأسمالية في البنك، وينظر إلى هذه العملية على أنها أحد أشكال عمليات تأميم البنوك. على سبيل المثال قامت الحكومة البريطانية بضخ 82 مليار يورو في عامي 2008-2009، وترتب على عمليات إعادة رسملة البنوك البريطانية أن أصبحت الحكومة هي المساهم الرئيس في رويال بنك أوف سكوتلاند حيث تملك 82% من رأسماله، و75% من رأس مال آنجلو أيرش بنك، و 40% من رأس مال مجموعة بنك اللويدز، كما يمكن أن تتم عملية إعادة الرسملة بصورة غير مباشرة وذلك بأن تقوم البنوك بإصدار سندات طويلة الأجل تشتريها الحكومة.
تستهدف برامج ضخ الأموال الحكومية في البنوك إلى تخفيض مخاطر المؤسسات المالية التي يتم ضخ الأموال فيها، ومن ثم زيادة قدرتها على الاستمرار ومنح الائتمان، ورفع قدرة البنوك على مواجهة مخاطر الإفلاس، ويتعرض البنك لمخاطر الإفلاس نتيجة الخلل الذي يحدث في ميزانيته، حيث تتكون ميزانية البنك من جانبين: الالتزامات، والتي تمثل مصادر الأموال التي يحصل عليها البنك وأهمها بالطبع المودعات والديون ورأس المال، والجانب الآخر وهو الأصول، والذي يمثل الطريقة التي يوظف بها البنك الأموال التي يحصل عليها وأهمها القروض والسندات الحكومية. عندما يتعرض البنك لأزمة فإن هذا الهيكل يختل في صورة تزايد الالتزامات عن الأصول نتيجة لخسارة البنك لجانب من أصوله، هذه الخسارة لا بد وان تخصم من صافي رأس مال البنك، وعندما يخسر البنك نسبة كبيرة من رأسماله يصبح هذا البنك متعثرا، ولا بد وأن يعلن إفلاسه، ولكن لماذا يتعرض البنك أكثر من غيره لمثل هذه المخاطر؟ للإجابة على هذا السؤال لابد وان نتعمق قليلا في طبيعة عمل البنوك.
المشكلة الأساسية التي تواجهها البنوك هي أن مصادر أموالها (عدا رأس المال)، غالبا ما تكون قصيرة الأجل، أو قابلة للاسترداد في أي وقت، بينما تكون عملية توظيف هذه الأموال ذات طبيعة طويلة الأجل نسبيا، وعندما يواجه البنك طلبات من عملاءه بسحب مودعاتهم يواجه البنك مشكلة تدبير المال اللازم لذلك، وهو ما يضطره إلى اللجوء إلى خيارات مختلفة لتدبير السيولة، ومن المعلوم أن كافة هذه الخيارات مكلفة بالنسبة للبنك، وقد تكون التكلفة في بعض الأحوال كبيرة، وهو ما يوقع البنك في مشكلة. من ناحية أخرى فإن سوء تقدير البنك لطبيعة الأصول التي يستثمر فيها أو تعرض هذه الأصول لمخاطر نظامية، كتوقف المقترضين من البنك عن خدمة ديونهم، مثال ذلك التوقف عن سداد أقساط الرهون العقارية، أو خسارة البنك لاستثماراته في بعض الأصول مثل التزامات الديون المرهونة CDOs، وهي أصول ذات عوائد مرتفعة، ولكنها في ذات الوقت ذات مخاطر مرتفعة أيضا لصعوبة تقييم المخاطر المحيطة بالأصول المستخدمة في ضمان هذه الالتزامات، أو تراجع أسعار الأصول المستخدمة كرهون للقروض التي قدمها البنك، مثلما حدث في أزمة قطاع المساكن في الولايات المتحدة، أو ما يحدث حاليا في إسبانيا، وهو ما يؤدي إلى تراجع قيمة الأصول التي يملكها البنك. كل هذه الأسباب سوف تؤدي إلى نتيجة واحدة هي تراجع صافي رأس مال البنك.
المأساة الحقيقية التي سيواجهها البنك الذي يواجه مثل هذه الظروف هي أنه لن يجد من هو مستعد لإقراضه لتحسين وضع ميزانيته، حيث تصبح البنوك اكثر حساسية نحو إقراض البنوك الأخرى التي تواجه أي شكل من أشكال نقص السيولة، وتنخفض الثقة بشكل كبير في البنك وتنحسر بالتالي الأموال المتاحة له للاقتراض. في ظل هذه الظروف لا بد وان تتم استعادة الثقة في البنك، وإلا فإن البديل سوف يكون الإفلاس، وتؤدي عملية إعادة رسملة البنك إلى استعادة الثقة بصورة كبيرة في البنك وترفع من قدرته على استكمال أعماله، حيث ستتوقف عمليات سحب المودعات من البنك، وسيتمكن البنك من جذب المزيد من المودعات، كما سيجد البنك من يقبل بأن يقرضه سواء من البنوك أو المؤسسات المالية الأخرى. وغالبا ما تتم عملية إعادة رسملة البنوك بعد فرض شروط محددة عليها مثل الحد من المكافآت التي تدفع للإدارات، أو فرض شروط محددة حول عمليات الإقراض التي تقوم بها.
ولكن لماذا يجب أن تتم إعادة رسملة البنوك؟ الإجابة ببساطة هي لأن عملية إفلاس البنوك سوف تحدث ذعرا ماليا وارتباكا في النظام المالي يمتد أثره بشكل كبير نحو الأسواق، لذلك لا بد من استعادة الثقة في النظام المالي من خلال سرعة انقاد البنوك المتعثرة وتعويضها عن الأصول المسمومة التي يتم إلغاؤها من قوائمها المالية، حتى لا يضعف الأساس الرأسمالي للبنوك، ويترتب على ضعف الوضع الرأسمالي للبنوك عدد من النتائج التي لها آثار ارتدادية على أسواق المال ومن ثم الاقتصاد الحقيقي.

الأحد، يوليو ٢٢، ٢٠١٢

هل نشهد موجة ثالثة من التيسير الكمي؟

نشر في صحيفة الاقتصادية يوم الجمعة  20/7/2012

التيسير الكمي Quantitative Easing هو أحد أدوات السياسة النقدية غير التقليدية التي شاعت تسميتها أثناء الأزمة بسبب لجوء العديد من البنوك المركزية في العالم وعلى رأسها الاحتياطي الفدرالي إلى استخدام هذه الأداة، بعد أن فشلت أدوات السياسة النقدية التقليدية في إحداث الأثر المتوقع منها في دفع مستويات النشاط الاقتصادي، بصفة خاصة الإنفاق الاستثماري لقطاع الأعمال الخاص.
يهدف التيسير الكمي إلى التأثير على هيكل ميزانيات البنوك التجارية بزيادة مستويات السيولة لديها، وتحفيز البنوك نتيجة لذلك على الإقراض بصورة أكبر أو الاستثمار في سندات الشركات، وتتمثل آلية التيسير الكمي في أن البنك المركزي يقوم بشراء أصول مالية، غالبا السندات الحكومية من البنوك. يترتب على شراء البنك المركزي لهذه السندات أثرين، الأول ارتفاع أسعارها السوقية وتراجع معدلات الفائدة على السندات نتيجة لذلك، وهو ما قد يشجع البنوك إلى التوجه نحو أدوات أخرى اكثر عائدا مثل سندات الشركات، أو إقراض الأفراد، الثاني هو أنه لكي يقوم البنك المركزي بشراء هذه السندات لا بد وأن يقوم بإصدار المزيد من الاحتياطيات لصالح البنوك (في صورة قيود الكترونية)، بالطبع مثل هذه الخطوة تعادل عملية إصدار المزيد من النقود، ويترتب على ذلك تزايد كمية السيولة المتاحة لدى المؤسسات المالية، وهو ما يفترض أن يشجع البنوك على الإقراض لاستثمار فوائض السيولة المتجمعة لديها نتيجة عمليات التيسير الكمي.
في الوقت الحالي يواجه التيسير الكمي الكثير من أوجه النقد أهمها بالطبع أنه يمكن أن يتسبب في رفع معدلات التضخم أو ارتفاع التوقعات التضخمية، كما أن هناك احتمال أن تكون استجابة الاقتصاد لتراجع معدلات العائد على الأوراق المالية ضعيفة، بصفة خاصة عندما تكون معدلات الفائدة منخفضة أساسا مثلما هو الوضع حاليا. كذلك ينظر إلى خفض معدلات العائد على السندات في أوقات الكساد على أنه شرط غير كافي لتشجيع البنوك وبيوت الاستثمار على تحمل المخاطرة في إقراض قطاع الأعمال الخاص، حيث تفضل المؤسسات المالية في ظل هذه الأوضاع اعتبارات الأمان والسيولة اكثر من اعتبارات الربحية.  
على الرغم من أن الاقتصاد الأمريكي يتعافى من الأزمة، إلا أن النشاط الاقتصادي يتراجع بشكل عام خلال النصف الأول من هذا العام،  حيث تراجع معدل نمو الناتج في الربع الأول من هذا العام، وكذلك تشير الشواهد إلى استمرار هذا التراجع في الربع الثاني، في الوقت الذي يشهد فيه سوق العمل تراجعا واضحا في معدلات فتح الوظائف الجديدة، ونتيجة لهذه المعدلات المتواضعة من الوظائف الجديدة يظل معدل البطالة مرتفعا ولا يتراجع. في ظل هذه الأوضاع من الطبيعي أن يزداد قلق المستهلك الأمريكي حول درجة الأمان الوظيفي واتجاهات مستوى الدخل في المستقبل، لذلك تشير التقارير حاليا إلى تراجع مستويات ثقة المستهلكين بصورة واضحة، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك سلبا على الإنفاق الاستهلاكي الخاص. كذلك يشهد الإنتاج الصناعي الأمريكي تراجعا في مستويات نموه في الأشهر الأخيرة وكذلك الإنفاق الاستثماري من جانب قطاع الأعمال، في الوقت الذي تشير فيه المسوحات المستقبلية لنوايا قطاع الأعمال حول مستويات الإنفاق الاستثماري المستقبلي إلى أن الإنفاق الاستثماري ربما يأخذ في التراجع في الأشهر القادمة بسبب القلق حول تطورات الأوضاع في أوروبا.
النتيجة الطبيعية لكل هذا هي اتساع فجوة الناتج (الفرق بين الناتج الفعلي والناتج الطبيعي)، وهو ما يعني أن أحد الأهداف الرئيسة التي يسعى الاحتياطي الفدرالي دائما إلى تحقيقها تبقى خارج نطاق السيطرة. باختصار شديد الوضع الاقتصادي الأمريكي أصبح مثيرا للقلق، وخصوصا في هذه المرحلة حيث لم تعد تفصل الرئيس الحالي باراك أوباما عن الانتخابات سوى أشهر قليلة، وربما يفقد خلالها فرصته في إعادة الانتخاب اذا ما استمر الأداء الاقتصادي الأمريكي على هذا النحو.
يوم الثلاثاء الماضي قدم بن برنانكي التقرير النصف سنوي عن السياسة النقدية أمام مجلس الشيوخ الأمريكي، من وجهة نظر برنانكي فإن معدلات النمو المتوقعة في المستقبل القريب لن تساعد على إحداث الزيادات المطلوبة في الوظائف لكي يمكن تخفيض معدل البطالة بصورة جوهرية، وسوف تظل أوضاع سوق العمل محبطة بالنسبة للجميع، فوفقا للتوقعات المستقبلية لمعدل البطالة فإنه من الواضح أن هذا المعدل ربما لن يقل عن 7% بنهاية 2014، وأنه إذا ما استمرت السياسة النقدية بشكلها الحالي، وفي ظل الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الاحتياطي الفدرالي لتعديل هيكل تواريخ استحقاق محفظته من السندات، فإن الاقتصاد الأمريكي سوف يستمر في النمو ولكن بمعدلات متواضعة في الفترة القادمة وسوف يترتب على ذلك استمرار أوضاع سوق العمل على نحو غير ملائم.
في ظل هذه الصورة القاتمة لبطء عملية استعادة النشاط الاقتصادي الأمريكي، يتزايد الحديث عن احتمال عودة الاحتياطي الفدرالي لسياسات التيسير الكمي وضخ المزيد من الاحتياطيات في النظام المصرفي لتنشيط عمليات منح الائتمان ورفع معدلات النمو. ففي رده على تساؤلات أعضاء مجلس الشيوخ عن احتمالات أن يلجأ الاحتياطي الفدرالي لتيسير كمي ثالث، لم ينف برنانكي الاحتمال، وأشار إلى أن هناك الكثير من الأدوات مازالت في جعبة الاحتياطي الفدرالي، وأنه اذا ما استدعت الحاجة إلى اللجوء إلى التيسير الكمي فإن الاحتياطي الفدرالي لن يتردد في ذلك، وأن اللجنة الفدرالية للسوق المفتوح FOMC سوف تناقش الأمر بصورة أكثر عمقا في اجتماعها القادم.
على نفس المنوال أشار دينيس لوكهارت رئيس الاحتياطي الفدرالي فرع أتلانتا في خطابه أمام المجلس الاقتصادي في ولاية الميسيسبي يوم 13/7 الماضي إلى أنه من الممكن أن يحدث تحول في اتجاه السياسة النقدية، ويتم اتخاذ إجراءات أخرى بصورة اكثر قوة للتحفيز النقدي كاستجابة للضعف الذي يعاني منها الاقتصاد حاليا، وأشار لوكهارت إلى أنه وزملاءه في اللجنة الفدرالية ربما يواجهون خيارات حرجة في الاجتماع القادم. غير أن هناك بعض المحاذير التي يشير إليها لوكهارت وأهمها أن حجم ميزانية الاحتياطي الفدرالي قد تزايد بصورة كبيرة، حيث تبلغ  ميزانية الاحتياطي الفدرالي حاليا 3 أضعاف مستوياتها قبل الأزمة في 2008، مما يعني أن عرض النقود يتجاوز حاليا المستويات الطبيعية له، وأن الاحتياطي الفدرالي لا بد وأن يقوم بخفض حجم ميزانيته لتعود إلى مستوياتها الطبيعية.
بالطبع عندما يتجاوز الأساس النقدي مستوياته الطبيعية فإن التوقعات التضخمية ترتفع، ولكن ما تواجهه الولايات المتحدة حاليا ليس بالفعل مخاطر التضخم، وإنما مخاطر الانكماش السعري بالدرجة الأولى، حيث تشير اتجاهات المستوى العام للأسعار، خصوصا في الأشهر الأخيرة، إلى أن التضخم يتحرك عند مستويات منخفضة للغاية، أو أن الأسعار لا تتغير على الإطلاق، ولذلك يرى البعض أنه على الرغم من اتساع حجم ميزانية الاحتياطي الفدرالي فإن مخاطر التضخم مازالت حتى الآن تحت السيطرة، وهو ما أكد عليه بن برنانكي أكثر من مرة من أنه عندما تبدأ مخاطر التضخم في الظهور، فإن الاحتياطي الفدرالي، باستخدام العديد من الأدوات التي اشرنا إليها اكثر من مرة هنا في الاقتصادية، سوف يطبق استراتيجية الخروج وتعديل حجم ميزانيته.
باختصار هناك وجهات نظر ضد التيسير الكمي وتشكك في إمكانية أن ينجح في تحقيق المستهدفات منه، خاصة وأن معدلات الفائدة أساسا منخفضة، وهناك فائض كبير في السيولة لدى المؤسسات المالية الأمريكية، على سبيل المثال يرى لوكهارت أن التيسير الكمي ليس هو الحل الأمثل للحالة الاقتصادية الحالية. إلا أن الحديث عن موجة قادمة من التيسير الكمي أخذ يتزايد اليوم أكثر من أي وقت مضى منذ خطة التيسير الكمي2، وأن اللجنة الفدرالية للسوق المفتوح ربما تقرر لاحقا اطلاق خطة للتيسير الكمي3. 

الأربعاء، يوليو ١٨، ٢٠١٢

فضيحة الليبور 3

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 17/7/2012.

كانت الشكوك في كيفية تحديد معدل الليبور كما سبقت الإشارة كبيرة، وفي مايو 2011 تصدت لجنة التجارة في المستقبليات السلعية في الولايات المتحدة للقضية وبدأت في طلب معلومات عن كيفية تحديد الليبور، والتي تمثل أساس حساب معدلات الفائدة لمئات التريليونات من الدولارات لقروض الرهن العقاري وكروت الائتمان وغيرها من العقود على المستوى الدولي، وبعد تحقيق مطول قامت بتسليم مكتب السلطات المالية في المملكة المتحدة بدلائل قوية على حدوث تلاعب متعمد في تحديد الليبور، أكثر من ذلك أعلنت إدارة مكافحة الاحتكار في وزارة العدل الأمريكية أنها ستقوم بعمل تحقيق فيما اذا كانت الـ 16 بنكا الرئيسة التي تقوم بتحديد معدل الليبور قد شكلت اتحادا فيما بينها فيما بين 2006 إلى 2009 كجزء من خطتها للتلاعب في الليبور أم لا؟. أثبتت التحقيقات إلى أن فضيحة الليبور لا تقتصر فقط على الليبور، وإنما أيضا امتد التلاعب إلى مثيله الأوروبي يوريبور Euribor، أي معدل الفائدة على القروض ما بين البنوك في منطقة اليورو.

وفقا لوزارة العدل الأمريكية فإن بنك باركليز البريطاني هو أول بنك يتعاون بشكل كامل مع التحقيقات، ربما في مقابل ضمانات بالاكتفاء بالحكم بطلب تعويض من البنك وعدم توجيه مسئولية جنائية عن عمليات التلاعب. بمقتضى التحقيقات أقر بنك باركليز بأنه قام بتقديم عروض أقل من الواقع حول تكاليف اقتراضه خلال الفترة من نهاية 2007 حتى مايو 2009، حيث حاول ممثلو باركليز التأثير على عروض الليبور من أجل تحويل  الأوضاع التجارية لصالح بنكهم، وهو سلوك غير مقبول، حيث يفترض أن عطاءات باركليز يجب أن تعكس التكلفة الحقيقية للقروض المتبادلة بين البنوك، وليس ما يقدمه الممثلون من مواقف ائتمانية. فقد كان أحد أهم المفاهيم السائدة لدى البنوك في ذلك الوقت هو أن القوة المالية للبنك ترتبط أساسا بما سوف يقوم بدفعه من التزامات في الأجل القصير، حيث كانت أزمة السيولة الحادة هي أهم مشكلات القطاع المصرفي في ذلك الوقت نتيجة للأزمة، وقد كانت إدارة باركليز قلقة من أن يبدو للسوق أن البنك يدفع معدلات فائدة للاقتراض أعلى من غيره من البنوك، وهو ما يمكن أن يدمر الثقة في البنك في ذلك الوقت. 

من ناحية أخرى أقر باركليز بأن البنوك قامت بالتأثير بصورة غير مناسبة على الليبور في عروضها خلال الفترة من 2005-2008 لتمويل المشتقات، وقد قدر الخفض المتعمد في المعدل بما يتراوح بين 30-40 نقطة أساس، أي ما بين 0.3-0.4%. تزايدت الضغوط على باركليز وتم تغريمه بدفع 453 مليون دولارا لتسوية القضية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. في البداية قام رئيس بنك باركليز روبرت دايموند بتقديم اعتذاره بسبب فضيحة التلاعب في الليبور التي غطت القطاع المصرفي البريطاني كله، غير أن  الضغوط السياسية وضغوط المستثمرين في البنك اضطرته إلى إعلان استقالته يوم الثلاثاء قبل الماضي. بالطبع سوف يدفع باركليز الغرامة صاغرا في محاولة لتقليل الأثار السلبية التي يمكن أن تدمر سمعته كبنك.

حاليا تقتصر الفضيحة على باركليز، باعتباره البنك الذي في الواجهة الآن، غير أن هناك 16 بنكا آخر يمكن أن يكونوا مشتركين في الفضيحة، وأن الغرامة على باركليز لن تكون الأخيرة، فمما لا شك فيه أن التحقيقات قد تسفر عن بعض التحالفات القذرة التي تمت للتلاعب في الليبور. أكثر من ذلك فإنه لن يكون هناك بالطبع ضمانة لأن تتعامل وزارة العدل الأمريكية مع باقي البنوك المشتركة في الفضيحة بهذه الدرجة من الأريحية، وأننا ربما نقرأ في المستقبل عن حالات أعنف وأكثر حرجا من حالة باركليز. حيث أن هناك قائمة من البنوك التي لم يتم الإعلان عنها بعد يتم التحقيق في حالتها بما في ذلك سيتي جروب، دويتش بنك، وإتش إس بي سي، وجي بي مورجان، وتشيز، ورويال بنك في سكوتلاند، وهذه قائمة ما أعلن عنه حتى الآن، وربما تكشف التحقيقات عن قائمة أطول من البنوك المشتركة في الفضيحة.

عندما بدأت الشواهد تشير إلى انحراف عملية تحديد معدل الليبور، اقترح بعض المحللين اللجوء إلى معدلات أخرى بديلة لليبور أكثر اعتمادية في انعكاس أوضاع السوق عليها، مثل معدل أذون الخزانة الأمريكية، ومعدل اتفاقيات إعادة الشراء Reop، ومعدل الفائدة على الأوراق التجارية Commercial papers، وغيرها من معدلات الفائدة الفعالة، وبحيث يكون الاختيار ناتجا عن اختبارات تطبيقية وواقعية لمدى اعتمادية وكفاءة هذه البدائل في أن تحل محل الليبور، غير أن هذه الدعوات لم تجد في ذلك الوقت آذانا صاغية، نظرا للوضع المتميز الذي يحتله سوق لندن النقدي على المستوى الدولي، غير أن تطورات الفضيحة الأخيرة ربما تحمل بعض الخطورة على مركز سوق لندن.

وأخيرا مما لا شك فيه أن جمعية المصرفيين البريطانية تواجه أزمة حقيقية اليوم، وأنه ربما قد يكون من الأفضل أن تراجع آليات تحديد الليبور بحيث تتجنب إمكانيات حدوث تكتل بين المحددين له للتأثير عليه في المستقبل، فمن المؤكد أنه كان من الممكن تلافي التلاعب في الليبور إذا كانت عملية طرح المعدلات تتم بصورة مختلفة، بدلا من الأسلوب الحالي الذي يمكن مجموعة البنوك المحددة للمعدل من أن تتكتل فيما بينها لطرح معدلات تختلف على المعدلات السوقية ولو بصورة هامشية.

حتى وقت قريب كان العالم ينظر إلى الليبور على أنه أفضل أساس مرجعي للعقود المالية للأغراض المختلفة، سواء للمضاربة أو التغطية أو المقايضات أو المستقبليات.. الخ. اليوم أصبحت آليات السوق والمنافسة في تحديد معدل الليبور يحوم حولها قدر كبير من الشك، كما أن سمعة المركز المالي للندن اليوم في الحضيض، بحث أصبحت الفضيحة لا يقتصر أثرها على بنك أو عدة بنوك، وإنما تهدد المركز النقدي الدولي للعالم، وأن المدينة سوف تحتاج إلى مجهود استثنائي لكي تستمر في الحفاظ على سمعتها كأكبر مركز نقدي، وأن النظام المصرفي في حاجة إلى فعل شيء من جانب المراقبين لتنظيم عمل القطاع على نحو يضمن عدم تكرار مثل هذه الممارسات، وحتى الآن لم يتم تحويل أحد للمسئولية الجنائية عن الحالة وكل ما تم حتى الآن هو فرض غرامات مالية، وبما أن التحقيقات ما زالت جارية مع البقية الباقية من البنوك فإن الفضيحة الحقيقية لليبور في رأيي لم يكشف عن أبعادها الكاملة بعد.


فضيحة الليبور 2

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 13/7/2012.

في الحلقة السابقة من هذا المقال انتهينا إلى أنه خلال أزمة سوق المساكن وكذلك الأزمة المالية العالمية تصاعدت الشكوك حول أسلوب تحديد معدل الفائدة الليبور، حيث أكد المراقبون إلى أن الشواهد المتراكمة تشير إلى أن الليبور يتحدد عند مستويات تقل عن مستوياته التي يجب أن يكون عليها. بالطبع لا يمكن لبنك واحد أن يحدث هذا التأثير المفترض على الليبور، مما يعني أن هناك تكتل ما غير معلن بين مجموعة من البنوك البريطانية مثل بنك باركليز، وكذلك البنوك العالمية المشتركة في تحديد الليبور لعرض معدلات فائدة تقل عن المعدلات الفعلية التي يجب أن تتحدد وفقا لقوى السوق، ولكن ما الذي يدفع هذه البنوك أن تقوم بذلك؟ وما الذي يمكن أن يترتب على تحديد معدل الفائدة بما يعكس التكلفة الحقيقية التي يجب أن تقترض على أساسها بنوك مثل بنك باركليز؟

الإجابة هي أنه في أوقات الأزمة المالية العالمية انعدمت الثقة في الملاءة المالية لبنوك العالم قاطبة، وحرصت كافة البنوك على أن تقوم إما بالاحتفاظ باحتياطياتها في صورة سائلة، ربما لدى البنك المركزي إذا كان النظام يسمح، أو في أصول آمنة مثل الدين العام الأمريكي، وكانت معدلات الفائدة التي تقترض على أساسها البنوك هي أهم المحددات للملاءة المالية للبنك، إلى الحد الذي كان ينظر فيه إلى ارتفاع معدل الفائدة التي يقترض على أساسها البنك، ولو بعدة نقاط أساس، على أنه مؤشر لتراجع الملاءة المالية لهذا البنك وارتفاع مخاطر تخلفه عن السداد. معنى ذلك أنه لو سمح لمعدل الليبور بالارتفاع في أوقات الأزمة كان سيترتب على ذلك أن تتوقف البنوك عن ضخ السيولة لسوق القروض ما بين البنوك، الأمر الذي كان من الممكن أن يؤدي إلى توقف نشاط سوق ما بين البنوك في لندن وارتفاع مخاطر السيولة، ومن ثم انطلاق ازمه في الاقتصاد الحقيقي نتيجة تشديد القيود على/أو حدوث أزمة في  الائتمان، أو أن يواجه البنك ذاته أزمة سيولة نتيجة تدافع المودعين على سحب مودعاتهم من البنك.

كيف إذن تم التلاعب بالليبور؟ لكي ندرك بدقة الذي كان يحدث دعونا نستخدم الكلمات التي صرح بها من حوالي أسبوعين "شاهد من أهلها"، حيث قام أحد الممثلين للبنوك البريطانية المشتركة في عملية تحديد الليبور بوصف كيف كان يتم التلاعب بالليبور، وذلك في مقال منشور بصحيفة التليجراف، إذ أقر بأنه شعر أن البنك كان يتلاعب بالليبور، ولكنه لم ير العملية على هذا النحو في ذلك الوقت، يقول "لقد قال لنا ممثل البنك، دون أن يحدد اسمه، أن البنك لا يمكنه أن يقترض عند هذه المستويات المرتفعة للفائدة، وبالتالي نحن نعرض معدلات اقل لليبور، مثلنا مثل الآخرين"، ولكن كيف يمكن أن يتم ذلك؟ يشير القائل إن ذلك أمر سهل،  إن جمعية المصرفيين البريطانية التي تقوم بحساب المعدل تطلب من البنوك الرئيسة أن تعرض معدلات الفائدة الخاصة بالأموال التي يمكن أن تقترض أو تقرض على أساسها، غير أن النظام الحالي لتحديد معدل الليبور ليس فيه أية آليات للتأكد من أن ما يتم تقديمه من معلومات يتم على الوجه الصحيح، وما حدث أنه كان هناك قبول عام بأن يقوم بنك ما بعرض معدلات للفائدة أقل بعدة نقاط كل يوم، ولقد كان الجميع يعلم ذلك لأن الجميع كان يمارس هذه اللعبة، كما أنه لم يكن ينظر إلى العملية على أنها عملية غير قانونية. 

معنى ذلك أنه طوال الفترة من 2007-2009 كانت البنوك تتعمد أن تعرض معدلات زائفة لليبور لكي تتجنب أن ينظر إلى القروض التي يمكن أن تحصل عليها على أنها ائتمان ذو مخاطر، وحتى لا تضطر لأن تقوم بدفع علاوة مخاطرة وهو ما يمكن أن يرسل إشارات سيئة في سوق المال حول القوة المالية للبنك ودرجة استقراره، وأن البنوك المضطربة كانت ببساطة تكذب حول معدلاتها، إما لكي تحقق أرباحا أو لكي توفر في التكاليف التي يمكن أن تتحملها عندما تقوم بالاقتراض، حتى تبقي معدلات الفائدة الليبور منخفضة بشكل غير واقعي.

ولكن دعونا نتساءل مرة أخرى، ما هو الضرر الذي يمكن أن يحدث نتيجة قيام مجموعة من البنوك بعرض معدلات فائدة أقل من الواقع؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد وان نتذكر أن الليبور هو الأساس المستخدم في معظم العقود المالية في العالم، مثل عقود مقايضات معدل الفائدة Interest rate swaps، وعقود المشتقات والمستقبليات .. الخ، الأمر الذي يمكن أن يترتب عليه تحقيق عوائد/أو خسائر ضخمة للمتعاملين في حال تقلب هذا المعدل.

للتبسيط دعونا نفترض أن احدى الولايات في أمريكا ترغب في اقتراض مليار دولار، وبما أن معدل الفائدة المتقلب الذي ستدفعه على القرض يصعب التنبؤ به ومن ثم يصعب التخطيط للأعمال في ظل المعدلات المتقلبة للفائدة، لذلك قد ترغب الولاية في هذه الحالة في استبدال معدلات الفائدة التي يمكن أن تدفعها مع تقلبات السوق بمعدل فائدة ثابت، ويتم ذلك من خلال شراء عقد مقايضة معدلات الفائدة على سبيل المثال من أحد البنوك،  بحيث تدفع الولاية للبنك معدل فائدة ثابت منصوص عليه في عقد المقايضة، وليكن 5%، بينما يدفع بائع العقد (البنك) معدل الفائدة السوقي المتقلب ويتحمل هو المخاطرة التي يمكن أن تترتب عن ذلك، وهو أحد أشكال عقود التغطية في معدلات الفائدة. عندما يتم التلاعب في معدل الفائدة ويتم تخفيض المعدل عن الـ 5% التي تعاقدت عليها الولاية، على سبيل المثال إلى 3.5% فإن الولاية تتعرض لخسارة كبيرة، حيث ستستمر في دفع نسبة فائدة 5%، بينما تستلم من البنك البائع للعقد معدل الفائدة السوقي 3.5% فقط. لاحظ أن الـ 1.5% هذه من إجمالي قيمة القرض تمثل 15 مليون دولارا.

والآن تعالى نحسب تكلفة التلاعب التي حدثت في معدل الليبور والتي تقدر بما بين 30-40 نقطة أساس لكل تريليون دولارا من العقود المالية الدولية، أنها ببساطة تمثل ما بين 3 – 4 مليار دولارا للتريليون الواحد، وبما إن العقود التي يتم تقييمها أساسا باستخدام معدل الليبور تقدر بمئات التريليونات من الدولارات فإنه يتضح لنا الآن فداحة التكلفة التي يمكن أن تنشأ للمتعاقدين في هذه الأنواع من العقود على المستوى الدولي اذا ما حدث تلاعب ولو ضئيل في معدل الفائدة مثلما كان يحدث في حالة الليبور.

معنى ذلك أن البنوك لكي تحمي نفسها من احتمالات تعرضها لدفع علاوة مخاطرة على القروض المتبادلة بينها، أو من احتمال انخفاض تدفق قروض ما بين البنوك إليها، فإنها كانت تعرض المتعاملين حول العالم مثل صناديق التقاعد وصناديق الرهن العقاري والحكومات المركزية والبلديات .. الخ لخسائر هائلة.  

فضيحة الليبور 1

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 10/7/2012.

الليبور هو اختصار العبارة London Interbank Offered Rate (LIBOR)، والتي تعني معدل الفائدة المعروض لقروض ما بين البنوك في سوق لندن النقدي، وهو معدل تقوم جمعية المصرفيين البريطانية على إصداره بصورة يومية، وهو يغطي معدلات الفائدة على 10 عملات أهمها الدولار واليورو والإسترليني والين واليورو دولار ولآجال متعددة تبدأ من ليلة واحدة، ويعد الليبور أهم آلية لتحديد معدل الفائدة على المستوى الدولي ولعدد كبير من العقود المالية مثل المقايضات والخيارات والقروض والمستقبليات، وقد بدأت جمعية المصرفيين البريطانية في إصدار معدل الفائدة الليبور في عام 1986 كاستجابة للحاجة نحو وجود معدل مرجعي للفائدة على القروض بين البنوك، وفي غضون سنوات قليلة، ونظرا للأهمية الدولية لسوق لندن النقدي، أصبح أكثر معدلات الفائدة استخداما في العالم.

يتحدد معدل الليبور يوميا للعملات الدولية سواء تلك التي يتم إقراضها أو اقتراضها من جانب مجموعة من البنوك الرئيسة في سوق لندن النقدي والتي يتم اختيارها بواسطة جمعية المصرفيين البريطانية، حيث يقوم كل بنك في المجموعة بعرض معدل الفائدة الذي يدفعه على القروض التي يقترضها وكذلك معدل الفائدة الذي يمكن أن يدفعه لكي يقترض من البنوك الأخرى لكل عملة ولـ 15 تاريخ استحقاق للجمعية، ثم تقوم الجمعية بتجميع هذه البيانات وإرسالها إلى تومسون رويترز لكل تاريخ استحقاق في تمام الساعة الحادية عشر صباحا بتوقيت لندن، والتي بدورها تقوم بحذف الربع الأعلى من هذه المعدلات وكذلك الربع الأدنى منها، وما يتبقى، أو ما يطلق عليه في علم الإحصاء المدى الربيعي Inter-quartile range، يتم أخذ متوسط له والذي ينشر بالتبعية على أنه المعدل المعلن لليبور لكل عملة بتواريخ استحقاقاتها المختلفة لهذا اليوم، وذلك في تمام الساعة الحادية عشر والنصف صباحا بنفس التوقيت، وما إن يتم نشر معدلات الليبور حتى تصبح المعدلات المرجعية التي يمكن أن تقوم البنوك بالاقتراض أو الإقراض على أساسها في مختلف العقود في العالم، كما تمثل الأساس الذي تعمل عليه معظم أسواق السيولة في العالم.

هنا أود أن ألفت نظر القارئ إلى نقطة في غاية الأهمية. لاحظ أن الليبور هو "معدل مقترح Offered" والذي يشير إلى معدلات الفائدة التي يتوقع أن تقوم البنوك بالاقتراض على أساسها، أما عندما يتعلق الأمر بالإقراض فإن البنوك ليست مجبرة على أن تقوم بالإقراض على أساس هذه المعدلات، وهذه نقطة هامة جدا في فهم آلية التلاعب في الليبور ودوافعه، فعندما تقوم مجموعة من البنوك باقتراح معدلات منخفضة للفائدة فإنها في واقع الأمر تعلن أنها تتوقع، عندما تقوم بالاقتراض من البنوك الأخرى، أن تقترض على أساس هذه المعدلات المنخفضة وبالتالي سوف تدفع تكلفة منخفضة على القروض التي تقترضها، ولكن هل يعني ذلك أنها ملزمة أيضا عندما تقوم بالإقراض أن تقرض البنوك الأخرى على أساس هذه المعدلات المنخفضة؟ الإجابة هي لا! أي أن البنوك المقرضة تقوم بتحميل البنوك المقترضة بمعدلات فائدة أعلى مما هو منشور من معدلات للإقراض.

غالبا ما يتحجج البنك المقرض في رفع معدل الفائدة عن المعدلات  المعلنة إما بأنه لا يوجد لديه سيولة كافية فائضة لكي يقوم بإقراضها، أو أن البنك لا يرغب في أن يقوم بالإقراض عند معدلات الفائدة الحالية للبنك الآخر لأنه يخشى أن يكون هذا البنك يواجه احتمالات مخاطر التخلف عن خدمة القرض، إما بسبب وجود أصول مسمومة لدى البنك المقترض أو رهون عقارية مضطربة والتي يمكن أن تؤثر على رأس مال البنك أو أن تهدد بإفلاسه. ما يحدث من الناحية الفعلية إذن هو أن البنوك تستخدم ما يسمى بمعدل الليبور+، أي معدل الليبور بالإضافة إلى هامش فائدة، لاحظ مرة أخرى أنه في حال تعمد البنوك التي تشترك في عملية تحديد معدل الفائدة بالتخفيض فإن البنوك تحقق بهذا الشكل أرباحا من كلا طرفي السوق (الاقتراض والإقراض).

ولكن لماذا يحتل الليبور هذه الأهمية الدولية كأهم معدل فائدة عالمي؟ الإجابة تكمن في حجم العمليات المالية التي تتم على أساسه، والتي تتسم بالضخامة، فالليبور هو أساس عمليات تسعير قروض تصل إلى حوالي 10 تريليون دولارا سنويا وفقا لتقديرات لجنة التجارة في المستقبليات السلعية في الولايات المتحدة CFTC  Commodity Futures Trading Commission، من ناحية أخرى فإن معدل الفائدة الليبور على الدولار الأمريكي هو أساس تسوية المعاملات المستقبلية في عقود اليورو دولار استحقاق 3 أشهر في بورصة شيكاغو، والتي قدرت المعاملات التي تمت فيها في عام 2011 بحوالي 564 تريليون دولارا. بل إن بعض التقديرات تضع هذا الرقم في حدود 800 تريليون دولارا.  

نحن إذن نتحدث عن معدل الفائدة المستخدم في تسعير أضخم العقود المالية العالمية، والذي سوف يترتب على أي تلاعب فيه ولو بعدة نقاط مئوية غير ملحوظة تحقيق عوائد/أو خسائر مالية كبيرة، ووفقا للجنة شيكاغوا لعقود التجارة المستقبلية فإن أية تحركات ولو هامشية في هذه المعدل تؤثر على عوائد الاستثمار وتكاليف الاقتراض من جانب الأفراد والشركات والمستثمرين في العالم.

بعد منتصف 2007 حتى منتصف 2008 حام الكثير من الشك حول أسلوب تحديد الليبور، وعبر الكثير من  المراقبين عن شكهم في مدى اعتمادية الأسلوب الذي يتم على أساسه الحساب. ففي نهاية 2007 لفت المراقبون الانتباه إلى الانخفاض غير العادي بين معدل الفائدة الليبور على الدولار ومعدل الفائدة لمدة ليلة واحدة في الولايات المتحدة، كذلك لوحظ اتساع الفجوة بين معدل الليبور على الدولار ومعدل الفائدة الفعال على الأموال الفدرالية، وفي مايو 2009 نشر وول ستريت جورنال مقالا ذكر فيه أن المعدل المحدد لليبور يعد منخفضا جدا، كذلك لفت الكثير من المراقبين الانتباه إلى أن المعدلات المحددة لليبور غير معبرة عن الاتجاه العام لمعدلات الفائدة على عقود مقايضات التخلف عن السداد، والتي تعتبر من المقاييس المعتمدة لحساب احتمالات التوقف عن السداد، وخلص المراقبون إلى أنه من الواضح أن البنوك في لندن تعرض معدلات منخفضة تقلل من تكلفة إعادة التمويل بالنسبة لها ولمستويات السيولة الحقيقية التي تتمتع بها حتى لا تكشف درجة ضعفها، وحتى لا تفقد سمعتها السوقية، كذلك لوحظ وجود هذه الفرق في معدلات اتفاقيات إعادة الشراء Repo. مثل هذه الملاحظات أثارت التساؤلات حول مدى دقة وسلامة معدلات الليبور بالنسبة للأوضاع السوقية للمتعاملين. ماذا يعني ذلك؟ إن ذلك يعني أنه هناك احتمال وجود تكتل محدد بين مجموعة من البنوك ذات المصالح المشتركة للتأثير على معدل الفائدة الليبور.

طوال هذه الفترة تجاهلت البنوك البريطانية كل جوانب الشك التي أثيرت حول طريقة تحديد معدل الفائدة الليبور، بل إن جمعية المصرفيين البريطانية دافعت عن اعتمادية ودقة عمليات تحديد معدل الليبور في 2008، وهو ما دفع بالباحثين في المجال إلى محاولة إثبات أن معدل الليبور لم يكن محددا بالفعل وفقا لقوى السوق الحر بما يعكس التكلفة الحقيقية للاقتراض للبنوك المساهمة في تحديده.

فوجئ العالم الأسبوع الماضي بأن الشكوك حول احتمالات التلاعب في الليبور حقيقية وبضلوع بنك باركليز في عملية التلاعب مما أدى إلى انطلاق فضيحة مالية على مستوى عالمي، وهذا هو موضوع الجزء الثاني من هذا المقال بإذن الله تعالى.

السبت، يوليو ٠٧، ٢٠١٢

عملية لي منحنى العوائد على السندات


نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 6/7/2012

تشير التطورات الحالية للاقتصاد الأمريكي إلى تواضع معدلات النمو بشكل عام، وتدهور أوضاع سوق العمل مع ميل معدلات البطالة نحو الارتفاع بعد التحسن النسبي الذي شهدناه في الأشهر الماضية، كذلك استمر سوق المساكن يشهد تراجعا في الوقت الذي يتراجع فيه معدل نمو الإنفاق الاستهلاكي على نحو مثير للقلق، وفي ظل هذه التطورات تراجع معدل التضخم مدفوعا بتراجع أسعار الوقود، هذه هي أشد جوانب القلق في الأداء الاقتصادي الأمريكي حاليا.
في ظل هذه الأوضاع تتوقع لجنة السوق المفتوح للاحتياطي الفدرالي FOMC أن يظل النمو متواضعا خلال الفترة القصيرة القادمة قبل أن يأخذ في التصاعد بعد ذلك، غير أنه من الواضح أن الضغوط في السوق المالي العالمي ظلت تمارس ضغوطا حادة على الاتجاه العام للنمو المتوقع. لهذا استمرت اللجنة في تبني سياسات نقدية ميسرة من خلال التأكيد على تبني استمرار بقاء معدل الفائدة على الأموال الفدرالية (معدل الفائدة على احتياطيات البنوك) عند مستوياته المستهدفة ما بين 0 – 0.25% حتى أواخر 2014.
الجديد في اتجاهات السياسة النقدية الأمريكية هو ما قررته اللجنة مؤخرا من أن تستمر حتى نهاية العام في برنامجها الخاص بتوسيع المدى الزمني لاستحقاقات الأوراق المالية التي تحتفظ بها في محفظتها المالية، وهي العملية التي يطلق عليها Operation Twist، أو "لي معدلات العائد على السندات". حيث تنوي اللجنة أن تقوم بتوسيع نطاق شراء سندات خزانة ذات آجال استحقاق بين 6-30 عاما، في مقابل قيامها ببيع أو استبدال كميات مماثلة لهذه العمليات لسندات ذات آجال استحقاق 3 سنوات أو أقل. تبلغ الميزانية المخصصة للعملية 667 مليار دولارا، والتي تتمثل في إعادة استثمار المدفوعات المستحقة عن الأوراق المالية المغطاة بالقروض العقارية التي تقدمها المؤسسات العقارية التي تستحق في نهاية يونيو الجاري والتي تبلغ قيمتها 400 مليار دولارا والتي اشتراها الاحتياطي الفدرالي في أعقاب أزمة سوق المساكن، فضلا عن 267 مليار دولارا إضافية من السندات التي سيتم بيعها أو تحصيل قيمتها من سندات الخزانة حتى نهاية 2012.
من الواضح أن العملية في جوهرها هي عملية استبدال سندات ذات فترات استحقاق اقصر إلى سندات ذات فترات استحقاق أطول، وذلك من خلال بيع أو استرداد السندات ذات فترات الاستحقاق الأقصر واستخدام الحصيلة في شراء سندات ذات فترات استحقاق أطول، وذلك في اطار سياسة الاحتياطي الفدرالي بتوسيع نطاق تواريخ الاستحقاق للسندات التي يحتفظ بها في محفظته المالية، غير أن هذه العملية سوف تؤدي إلى مزيد من الضغوط التنازلية على معدلات الفائدة طويلة الأجل، وهو ما يساعد السياسة النقدية الأمريكية على أن تلعب دورا أكثر فاعلية في دعم عمليات استعادة النشاط الاقتصادي الحالية.
يتمثل التوزيع النسبي الحالي لمحفظة الأوراق المالية للاحتياطي الفدرالي نتيجة عمليات شراء السندات التي تمت في اطار برامج التيسير الكمي في 32% سندات استحقاق 6-8 سنوات، و32% سندات استحقاق 8-10 سنوات، و4% سندات استحقاق 10-20 سنة، و29% سندات استحقاق 20-30 سنة. هذا التوزيع سوف يتم تعديله من خلال العمليات التي سوف يقوم بها الاحتياطي الفدرالي، حتى يعدل متوسط آجال استحقاق السندات. وفقا للاحتياطي الفدرالي كان متوسط معدل استحقاق سندات الخزانة للاحتياطي الفدرالي حوالي 75 شهرا حتى نهاية سبتمبر 2011، وعندما يتم إضافة الـ 267 مليار دولارا في برنامج توسيع نطاق تواريخ الاستحقاق سوف يرتفع متوسط تواريخ استحقاق السندات الحكومية التي يحتفظ بها الاحتياطي الفدرالي إلى 120 شهرا بنهاية 2012.
ولكن ما هو الهدف من هذه العمليات التي يقوم بها الاحتياطي الفدرالي؟ للإجابة على هذا السؤال دعنا نحلل الآثار المتوقع أن تترتب على ذلك. عندما يقوم الاحتياطي الفدرالي بشراء سندات حكومية طويلة الأجل، وتمويل عمليات الشراء من خلال بيع السندات قصيرة الأجل، سوف يترتب على عمليات شراء السندات طويلة الأجل ارتفاع أسعارها في سوق السندات ومن ثم انخفاض معدلات العائد عليها، وعلى العكس ذلك من المتوقع أن يترتب على بيع السندات قصيرة الأجل أن تنخفض أسعار هذه السندات ومن ثم ترتفع معدلات العائد عليها، وهو ما يؤدي إلى لي معدل العائد على السندات، وجعل معدل العائد اقل حدة، مع تغير معدلات العائد سوف يميل معدل الفائدة طويل الأجل نحو الانخفاض، وهذا هو ما يستهدفه الاحتياطي الفدرالي من العملية، حيث يؤدي تراجع معدلات الفائدة طويلة الأجل إلى تشجيع الإنفاق الاستثماري وتحسين شروط الاستثمار بالنسبة لقطاع الأعمال الخاص، بما يؤدي إلى إعطاء تحفيز إضافي لدعم عمليات استعادة النشاط الاقتصادي.
في جوهرة سوف يؤدي هذا اللي في معدلات العائد إلى زيادة الضغوط على معدلات الفائدة طويل الأجل على السندات الحكومية نحو الهبوط، والتي ينظر إليها المستثمرون على أنها تمثل أفضل سبل الاستثمار طويل الأجل، الأمر الذي يؤدي إلى خفض جاذبية السندات الحكومية طويلة الأجل، وهو ما يدفع المقرضون إلى التحول نحو أدوات استثمارية أخرى أكثر جاذبية، مثل سندات الشركات التي ستعطي عائدا أعلى نسبيا، وهو ما يحسن ظروف التمويل لشركات قطاع الأعمال ويخفض من تكلفته، ولا شك أن هذا الانخفاض في معدلات الفائدة طويلة الأجل سوف يؤدي إلى تخفيف الضغوط في سوق المال الأمر الذي يساعد على تحسين فرص التعافي واستعادة النشاط الاقتصادي.
من ناحية أخرى على الرغم من أنه من المتوقع أن يترتب على البرنامج ارتفاع معدلات الفائدة قصيرة الأجل، إلا أن الأثر المتوقع لهذا الارتفاع سوف يكون محدودا أخذا في الاعتبار المستويات المتدنية لهذه المعدلات حاليا، حيث لا تتوقع اللجنة أن يحدث ارتفاع في معدلات الفائدة قصيرة الأجل بصورة استثنائية، خصوصا بالنسبة لمعدل الأموال الفدرالية حتى نهاية 2014، وهو ما يعني أن معدلات العائد على السندات قصيرة الأجل قد لا تتأثر نتيجة البرنامج. 
من ناحية أخرى فإن لجنة السوق المفتوح ترى أن برنامج التوسيع في آجال الاستحقاق لن يترتب عليه تعقيد استراتيجية خروج الاحتياطي الفدرالي من سياساته التكيفية الحالية، أي التحول من السياسة النقدية التوسعية الحالية إلى سياسة أكثر تقييدا للسيطرة على اتجاهات التضخم إذا ما انعكست أوضاع الاقتصاد الأمريكي في ظل السيولة الضخمة جدا المتداولة حاليا فيه. حيث تشير اللجنة إلى أنه في حال حدوث تحول في اتجاهات النشاط فإن الاحتياطي الفدرالي يمكن أن يستخدم عدة أدوات لتسريع عملية الخروج من السياسة النقدية الميسرة حاليا، مثل تسريع عمليات تحصيل قيمة السندات، وتغيير معدلات الفائدة المدفوعة على الاحتياطيات الإضافية التي تحتفظ بها البنوك الأمريكية حاليا لدى الاحتياطي الفدرالي، واستخدام أدوات استنزاف احتياطيات البنوك، وعمليات بيع الأصول وذلك لوقف السياسة النقدية التوسعية وامتصاص السيولة الزائدة في الوقت المناسب وإعادة القوائم المالية للاحتياطي الفدرالي إلى وضعها الطبيعي.
ولكن ما هو الفرق بين هذه العملية وعمليات التيسير الكمي التي قام بها الاحتياطي الفدرالي مسبقا؟ الإجابة هي أنه في خطة التيسير الكمي 1 لجأ الاحتياطي الفدرالي أساسا إلى شراء الأوراق المالية المغطاة بالرهون العقارية التي تصدرها المؤسسات العقارية (مؤسستي فريدي ماك وفاني ماي) وقد كان الهدف الأساسي من العملية هو تخفيض معدلات الفائدة على القروض العقارية وتشجيع عمليات إعادة تمويل المساكن وزيادة الاستهلاك. أما في خطة التيسير الكمي 2 فقد اقتصرت مشتريات الاحتياطي الفدرالي على شراء سندات الخزانة الأمريكية طويلة المدى، بهدف تخفيض معدلات الفائدة طويلة الأجل. عمليات لي معدلات العائد على السندات تهدف أساسا إلى تعديل هيكل معدلات الفائدة طويلة الأجل وقصيرة الأجل لتعديل أوضاع سوق المال وتشجيع الاستثمار من جانب قطاع الأعمال الخاص.   
بعض المراقبين يرى أن لجوء الاحتياطي الفدرالي إلى عملية لي معدلات العائد يعطي إشارات قوية على أنه ربما يستعد لاتخاذ إجراءات  اكثر كثافة وعمقا في حالة تدهور الأزمة الأوروبية حتى يحصن الاقتصاد الأمريكي من آثار العدوى التي يمكن أن تلحق بالنمو نتيجة لتدهور أوضاع أوروبا.

الجمعة، يوليو ٠٦، ٢٠١٢

أوشيناريتا جونن

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 3/7/2012


المضاربة المحمومة على الأصول خطر عظيم جدا لما يمكن أن يترتب عليها من آثار اقتصادية خطيرة، حيث يترتب على ارتفاع أسعار الأصول تكون بالونات سعرية في الاقتصاد، ومع انتفاخ البالون يزداد الحافز نحو المضاربة لدى المضاربين بصورة أكبر، على الرغم من ارتفاع درجة المخاطرة المصاحبة للمضاربة على الأصل، وعندما تكون تكلفة الحصول على الأموال أقل من معدلات العائد المتوقع تحقيقه على الأصول، فإن حمى المضاربة تشتعل حتى يبلغ الضغط السعري داخل بالون أسعار الأصول مستوياته الحرجة فينفجر البالون مخلفا وراءه آثارا اقتصادية ومالية مدمرة، ولا شك أن أخطر آثار البالونات السعرية هو على اتجاهات النمو، ولعل أوضح الأمثلة على الأثار المدمرة لبالونات أسعار الأصول هو حالة اليابان، وهذا هو موضوع مقالنا اليوم.  
العقد المفقود أو ما يطلق عليه في اليابان "أوشيناريتا جونن 失われた10年" هي السنوات التي مرت على الاقتصاد الياباني دون أن يحقق فيها نموا تقريبا، فاعتبرت نتيجة لذلك سنوات مفقودة من عمر الاقتصاد الياباني، قدر عدد هذه السنوات بعشر سنوات تقريبا هي فترة التسعينيات، وهذا هو سر تسميتها بالعقد المفقود.
عندما دخلت اليابان عقد التسعينيات من القرن الماضي كانت قد أنهت عقدا من افضل عقود النمو بها خلال فترة الثمانينيات، فقد بلغ معدل النمو المتوسط في هذا العقد 4% تقريبا، وعلى الرغم من أن هذا المعدل كان اقل من المعدلات التي حققتها اليابان في العقود السابقة، إلا أنه كان أعلى من أداء كافة الدول الصناعية المتقدمة. أكثر من ذلك فقد بدأت اليابان تتحول بمعدلات سريعة من اقتصاد موجه أساسا نحو الخارج تلعب فيه الصادرات الدور الأساسي كمحرك للنمو، إلى اقتصاد يتجه نحو الداخل حيث أصبح النمو يعتمد إلى حد كبر على التوسع الداخلي، على سبيل المثال في عام 1988 بلغ معدل نمو الطلب المحلي 7.4%.
كانت  اليابان محط أنظار العالم كأنجح نموذج للنمو الاقتصادي في تلك الفترة، حيث تحولت في غضون فترة قصيرة بعد الحرب العالمية الثانية من اقتصاد شبه منهار إلى ثاني اكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وصاحبة أعلى متوسط لنصيب الفرد من الدخل في العالم. باختصار، في أواخر الثمانينيات كان الاقتصاد الياباني في غاية القوة كما كانت معدلات الفائدة منخفضة، وأخذت أسعار الأصول في الارتفاع السريع نتيجة للمضاربة المدفوعة بانخفاض تكاليف الأموال والمتمثلة في معدلات الفائدة المنخفضة، وهو ما رفع أسعار  الأصول إلى مستويات فلكية خلال عقد الثمانينيات، ففي هذا العقد تضاعفت أسعار الأسهم 6 مرات تقريبا وتضاعفت أسعار الأراضي أكثر من 4 مرات، لدرجة أنه يقال أن قطعة صغيرة من الأرض في طوكيو كانت قيمتها أكبر من قيمة ولاية كاليفورنيا بالكامل.
بات من الواضح أن بالون أسعار الأصول غير مستدام تحت أي ظرف من الظروف، وأدى التصاعد الفلكي لأسعار الأصول بالحكومة اليابانية إلى محاولة فرملة اتجاهات الأسعار نحو الصعود، فقامت برفع أسعار الفائدة للحد من المضاربة، وهو ما ترتب عليه انهيار بورصة الأوراق المالية ونشوء أزمة ديون عنيفة، وأخذ النشاط الاقتصاد في الانحسار بشكل سريع.
عندما انحسر النشاط الاقتصادي في اليابان أخذت في تحقيق معدلات نمو منخفضة وسالبة في بعض السنوات، ودخل الاقتصاد الياباني في كساد طويل المدى، فقد بلغ معدل النمو المتوسط خلال العقد المفقود 1.2%، وهو معدل اقل من متوسط معدل النمو في دول مجموعة السبع الأخرى (كندا 3.4% والولايات المتحدة 3.2%، والمملكة المتحدة 2.7%، وفرنسا 2.3%، وإيطاليا 1.8%، وألمانيا 1.4%)، كذلك كان هذا النمو اقل من باقي دول العالم الصناعي.
كان وقود بالون أسعار الأصول، مثلما هو الحال في أي تجربة أخرى، هو الديون، ونتيجة لذلك ترتب على انفجار البالون أزمة ائتمان عنيفة، وارتفعت قيمة الأصول المسمومة في ميزانيات البنوك وتحول الانفجار إلى أزمة مصرفية، حيث عانت البنوك من خسائر ضخمة مع ارتفاع معدلات التوقف عن خدمة الديون. استجابة للأزمة قامت الحكومة اليابانية بضخ أموال ضخمة في البنوك لمنع هذه البنوك من الانهيار، وهي السياسية التي اختلفت وجهات النظر حولها بين المراقبين. كانت عملية إنقاذ البنوك تستند إلى أن هذه البنوك اكبر من أن تسقط، وأن السماح بإفلاس هذه البنوك سوف يترتب عليه آثار ضخمة على الاقتصاد الوطني، غير أن المنتقدون لمثل هذه السياسة رأوا أن عملية إنقاذ البنوك ترتب عليها ولادة بنوك زومبي (أي مؤسسات مالية لا يمكن أن تعيش بدون المساعدة الحكومية المستمرة لها)، وأن أزمة الائتمان سوف تستمر طالما لم يسمح لهذه البنوك بالإفلاس.
كما هو الحال في أغلب الأزمات المالية العنيفة، انتقلت الأزمة من القطاع المالي إلى الاقتصاد الحقيقي في اليابان، ودخل الاقتصاد الياباني في حالة كساد وتراجع النمو بصورة كبيرة من اكثر من 6% في 1990 إلى 1% فقط في 1992. لجأت الحكومة اليابانية إلى تشكيلة كبيرة جدا من السياسات، منها تخفيض معدلات الفائدة إلى مستويات قريبة من الصفر، وخفض تكلفة الائتمان إلى أدنى درجة، والى جرعات مكثفة من التيسير الكمي.
من ناحية أخرى حاولت اليابان استخدام السياسة المالية لتحفيز الاقتصاد الياباني، فخلال الثلاث سنوات الأولى من التسعينيات تم انفاق حوالي 6% من الناتج المحلي في صورة حزم مالية مكثفة من الإنفاق على مشروعات البنية التحتية مثل الطرق والجسور لمساعدة الاقتصاد الياباني على الخروج من الأزمة، وقد واجهت هذه الحزم الكثير من النقد على أساس انه تم إنفاقها على مشروعات لا عائد منها، بينما كان من الأفضل لليابان لو تم إنفاقها في مجالات الطب والصحة والتعليم وغيرها من الخدمات العامة الأساسية، بينما رأى البعض الآخر أنه كان من الممكن أن تكون استفادة الاقتصاد افضل لو تم توجيه هذه الأموال نحو تخفيض الضرائب، لرفع مستويات الإنفاق الخاص.
في منتصف التسعينيات كانت هناك  إشارات غلى ارتفاع معدلات النمو في الناتج والتي نظر إليها على أنها استعادة للنشاط الاقتصادي والخروج من الكساد بفعل جهود الاستقرار المتعددة التي قامت بها الدولة، وقد صاحب هذا النمو تحقيق الميزانية لعجز كبير، واستجابة للعجز قامت الحكومة برفع الضرائب، مما زاد الطين بلة، فقد ثبت بعد ذلك أن هذه الإشارات كانت زائفة، وعاد الاقتصاد الياباني مرة أخرى إلى تحقيق نمو صفري في 1997، ومع تراجع معدلات النمو كانت الأسعار تتراجع ودخل الاقتصاد الياباني في موجة انكماش سعري، حيث لم تفلح معدلات الفائدة شبه الصفرية في تشجيع عمليات الاقتراض، واستمرت الإنفاق الاستثماري ضعيفا، وشهد عام 1997 إفلاس عدد من المؤسسات المالية اليابانية الكبرى مثل Hokkaido-takushoku Sanyo, Yamaichi، وهو ما جعل الحكومة تلجأ إلى ضخ حوالي 2 تريليون ينا في أكثر من 20 بنكا، وتم خفض معدلات الخصم لدى البنك المركزي إلى الصفر. فشلت كافة سياسات تحفيز الطلب التي لجأت إليها اليابان طوال فترة الأزمة في إحداث أي تطورات في النمو على النحو الذي كان متوقعا من مثل هذه الإجراءات، وظل النمو ضعيفا طوال عقد التسعينيات بأكمله.
اختلف المراقبون بصورة واضحة حولة أسباب العقد المفقود في اليابان، فالبعض أرجعه إلى تراجع الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري وزيادة الميل نحو الادخار بدلا من الإنفاق، والبعض يرجعه إلى عدم كفاءة السياسة النقدية، والبعض الآخر يرجعه إلى شيخوخة السكان في اليابان وتراجع النمو السكاني ... الخ، وهكذا تتعدد الأسباب غير أن سبب المشكلة واحد (انفجار بالون أسعار الأصول) والنتيجة واحدة (تراجع معدلات النمو إلى مستويات دنيا).
بعد نشوب الأزمة المالية العالمية في عام 2008 أخذ العديد من المراقبين يقارنون بين العقد المفقود في اليابان واحتمالات تكراره في الولايات المتحدة وأوروبا، على أساس أن هناك درجة كبيرة من التشابه في مسببات العقد المفقود وما تلاه من سياسات في اليابان وما يحدث بالفعل على أرض الواقع في هذه الدول، التي أصبحت تواجه نفس الظروف وتستخدم نفس السياسات لدفع النمو، ولكن بدون جدوى. بل إن الكثير من الكتابات عادت لتؤكد مرة أخرى أن العقد المفقود في اليابان، ليس عقدا واحدا وإنما عقدين. فهل تتكرر قصة العقد المفقود في هذه الدول؟ حتى اليوم الإشارات تؤكد أن الإجابة هي نعم، إلا أن يكشف المستقبل عن تغيرات هيكلية في اتجاهات النمو في هذه الدول.

الاثنين، يوليو ٠٢، ٢٠١٢

بانكيا: ليمان براذرز إسبانيا


نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 29/6/2012

يعد "بانكيا" أشهر أسماء البنوك الإسبانية التي تتداولها وكالات الأنباء من وقت لآخر، باعتباره أكثر البنوك حاليا المهددة بالانهيار بين لحظة وأخرى واضعا النظام المالي الإسباني بأكمله في مهب الريح. فبعد أن انطلقت الأزمة المالية العالمية في 2008 أخذت فقاعة المساكن في إسبانيا في الانفجار، ولمواجهة المشكلات الكامنة للبنوك الإسبانية طلبت الحكومة الإسبانية من البنوك رفع نسبة رأس المال إلى أصولها إلى 10%، وذلك من أجل تقليل مخاطر لجوء هذه البنوك للحكومة، الأمر الذي يترتب عليه تحويل أموال دافعي الضرائب لهذه المؤسسات، كما عملت على تشجيع عمليات الاندماج بين البنوك الإسبانية لتكوين كيانات أضخم أكثر قدرة على مواجهة تطورات قطاع المساكن.

بانكيا هو مجموعة مندمجة من 7 بنوك ادخار محلية إسبانية تم إنشاؤها في عام 2010 وذلك في محاولة لإنقاذ بنوك المجموعة من الانهيار. باندماج هذه المجموعة تحول بانكيا إلى ثالث أكبر البنوك الإسبانية من حيث حجم الأصول ورابع اكبر بنك في إسبانيا من حيث عدد العملاء (12 مليون عميلا)، ومن ثم فإنه يشكل مجموعة مالية ضخمة تملك 4000 فرعا ويعمل فيها 25 ألف موظف تقريبا، كما يستحوذ على حصة سوقية تقدر بحوالي 10% من سوق الخدمات المصرفية الإسباني، بينما بلغت أصوله حوالي 340 مليار يورو عند الإندماج. غير أنه بإنشاء البنك تم تحويل كافة الأصول المسمومة للبنوك السبعة إلى البنك الجديد، وهذا هو مكمن الخطر الذي يواجهه البنك حاليا.

في عام 2011 تمت محاولة زيادة رأس مال البنك بطرح أسهمه على المستثمرين في العالم ولكن الطرح لم يلق الترحيب المناسب من المستثمرين الدوليين، ولذلك واجهت عملية تسوق أسهم البنك في الخارج مقاومة شديدة ونتيجة لذلك تم طرح زيادة رأس المال لبانكيا على الجمهور، وهو ما عقد الأمور بشكل اكبر، حيث يرى المراقبون أنه ما كان يجب طرح اسهم على الجمهور لبنك يعاني من كل هذه المشكلات في هيكله المالي، وفي مايو 2012 أصبح من الواضح أن البنك في حالة شبه انهيار، وفي محاولة لإنقاذه قامت الحكومة بتأميم البنك بصورة جزئية من خلال تقديم 4.5 مليار يورو في صورة صندوق للإنقاذ في مقابل أسهم تفضيلية تستحق في 2015، وذلك ضمن جهود الحكومة الإسبانية لإنقاذ نظامها المالي وللحيلولة دون إفلاس البنك تحت ضغوط الأصول المسمومة من القروض العقارية.

منذ أن تم إنشاء المجموعة وبانكيا يواجه مخاطر الإفلاس، ففي العام الماضي حقق بانكيا حوالي 3 مليار يورو خسائر، وفي مايو الماضي أعلن المدير التنفيذي لبانكيا أن البنك في حاجة إلى حزمة إنقاذ تقدر بحوالي 19 مليار يورو حتى يتمكن من تنظيف قوائمه المالية من الأصول المسمومة، وهي من هذا المنطلق تعد اكبر حزمة إنقاذ في تاريخ إسبانيا. السبب الأساسي في ارتفاع مخاطر إفلاس هذا البنك هو أنه يعد أكبر بنك في إسبانيا من حيث التعرض للقروض الممنوحة للقطاع العقاري، حيث يبلغ حجم القروض العقارية المقدمة من البنك حاليا حوالي 38 مليار يورو تشكل أصولا مسمومة في قائمته المالية.

في العام الماضي بلغ سعر سهم بانكيا حوالي 4 يورو تقريبا، البيانات المتاحة اليوم تشير إلى هبوط سعر السهم إلى حوالي 0.9 يورو، أي بانخفاض نسبته 87% تقريبا، ووفقا لآخر القوائم المالية للبنك المنشورة في ديسمبر 2011، بلغ رأس مال البنك 12.5 مليار يورو، بينما بلغت أصوله في هذا التاريخ 303 مليار يورو، بالطبع سوف يترتب على إلغاء هذه الأصول المسمومة من القوائم المالية للبنك تراجع نسبة رأس مال البنك إلى أصوله إلى حافة الانهيار، الأمر الذي يقتضي ضرورة رفع رأس مال البنك لضمان سلامته، أو انهيار البنك.

سوف يترتب على حقن البنك ب 19 مليار يورو أن تصل كمية الأموال التي ضختها الحكومة في البنك منذ بداية أزمته إلى 33 مليار يورو، وهو مبلغ ضخم جدا بالمعايير الإسبانية، حيث يمثل حوالي 3% من الناتج المحلي الإسباني. كما سيؤدي ذلك إلى رفع ملكية الحكومة في أسهم البنك بصورة جوهرية تصل إلى حوالي 90%، وهو ما ينظر إليه على أنه أكبر عملية تأميم قامت بها الحكومة الإسبانية.

كما أشرنا مسبقا أن الحكومة الإسبانية ظلت تقاوم الحاجة إلى طلب المساعدة من الاتحاد الأوروبي، غير أن إعلان بانكيا أنه في حاجة إلى 19 مليار يورو لإطفاء ديونه المسمومة، اضطر الحكومة إلى اللجوء إلى طلب المساعدة الخارجية، وأعتقد أن لجوء الحكومة الإسبانية إلى طلب المساعدة يعود إلى أنه بات من الواضح عدم قدرة الخزانة الإسبانية على تسويق قروض بهذا الحجم ولمثل هذا الغرض دون أن تدفع معدلات استثنائية للعائد، خصوصا بعد أن بلغ معدل العائد السوقي على سنداتها استحقاق 10 سنوات حوالي 7% تقريبا وهو معدل غير مستدام لدولة مدينة، هذا إن وجدت من يقرضها أصلا لمثل هذا الغرض.

تنبع مشكلة بانكيا، كما ذكرنا، من مشاركته المكثفة في عمليات تمويل بناء المساكن التي انتشرت في إسبانيا أثناء فورة سوق المساكن في العقدين الأخيرين، لدرجة أنه في عام 2006 فقط نمت محفظة القروض العقارية في أعضاء المجموعة بنسبة 25%، وعلى الرغم من التحذيرات التي كانت تطلق من وقت لآخر حول ارتفاع درجة سخونة سوق المساكن الإسباني، حيث نظر بعض المراقبين إلى سوق المساكن على أنه بالون كبير يتشكل في إسبانيا، إلا أن أعضاء المجموعة تجاهلوا تلك التحذيرات واستمروا في التوسع في الإقراض العقاري مدفوعين بمعدلات الارتفاع السريع لأسعار المساكن. إنها نفس القصة التي واجهتها القطاعات المالية في الكثير من دول العالم بما فيها دبي، والتي ارتفعت فيها أسعار المساكن بأكثر من 200% خلال الفترة من 2003-2007، ومع ذلك لم يفكر أحدا من المتعاملين في قطاع المساكن أنهم يسيرون وسط فقاعة كبيرة على وشك الانفجار، وعلى العكس من ذلك ازدادت عمليات تمويل المؤسسات المالية لمشروعات المساكن مرتفعة المخاطر تحت إغراء معدلات العائد المرتفع التي تحققها المساكن في الأجل القصير دون الأخذ في الاعتبار انعكاسات مثل هذه الاستثمارات الخطرة على متانة والسلامة المالية للمؤسسات المقرضة على الأجل الطويل.

في إبريل الماضي أوصى صندوق النقد الدولي أن تقوم الحكومة الإسبانية بتدبير المزيد من رأس المال للبنوك الإسبانية بصفة خاصة للبنوك الكبرى وذلك لتأمين قوائمها المالية لضمان استقرار قطاعها المالي، وأن تقوم بتحسين إدارات هذه البنوك وزيادة درجة حوكمتها. وتحت ضغط هذه التحذيرات اضطرت الحكومة الإسبانية إلى طلب المساعدة من الاتحاد الأوروبي. غير أنه في اليوم الذي تقدمت فيه إسبانيا رسميا الأسبوع الماضي للحصول على المساعدة المالية، قامت مؤسسة موديز بتخفيض التصنيف الائتماني لـ 28 بنكا إسبانيا على رأسها مجموعة بنك بانكيا، من Baa3 إلى التصنيف Ba2، وهو التصنيف الذي يعطى للمؤسسات المقدمة على الانهيار، وذلك في أعقاب تخفيض تصنيف البنك أيضا من جانب مؤسسة ستاندرد أند بور إلى BB+. السبب الرئيس في عملية تخفيض التصنيف هو ضعف القدرات التمويلية للحكومة الإسبانية على تقديم المساعدة المالية اللازمة لإعادة رسملة هذه البنوك ووقف اتجاهها نحو الإفلاس.

اليوم تعد الحكومة الإسبانية خطة الإنقاذ المالي لبنوكها باستخدام الحزمة التي أعلن الاتحاد الأوروبي عن تقديمها لإسبانيا، غير أن المراقبين يرون أنها ربما لا تكون كافية لطمأنه الأسواق حول الوضع المالي الإسباني، كذلك يتشكك البنك المركزي الأوروبي في أن عملية حقن الحكومة الإسبانية للأموال في بانكيا هي افضل طريقة لإعادة رسملة البنك، ولذلك تدور التكهنات حاليا حول احتمال حاجة إسبانيا إلى خطة إنقاذ كاملة على نفس النمط الذي قدم لباقي دول مجموعة الـ PIIGS، وحتى يتم ذلك سوف يظل الحجم الضخم لبانكيا يحول دول السماح له بالإفلاس، ويفرض على الحكومة الإسبانية ضرورة بذل كافة جهودها للحيلولة دون سقوط البنك، ذلك أن بانكيا بالمقاييس الإسبانية يدخل ضمن قائمة ما يطلق عليه "أكبر من أن يفلس" Too big to fail، لأن السماح لبانكيا بالإفلاس سوف ينشر الدمار الشامل في القطاع المالي الإسباني بأكمله، وهو إن حدث، لا قدر الله، سوف يعيد قصة إفلاس بنك ليمان براذرز ولكن على الطريقة الإسبانية.