الثلاثاء، يناير ٣١، ٢٠١٢

أفضل الديون السيادية في العالم

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 21/12/2012
تناولنا في الأسبوع الماضي الحديث عن أخطر الديون السيادية في العالم  وفقا  لتقرير مؤسسة CMA عن مخاطر السيادية في الربع الرابع من العام الماضي. اليوم نتناول قائمة الدول صاحبة أكثر ديون العالم أمانا، تجدر الإشارة إلى أن دخول الدولة مثل هذا التصنيف يعزز من ثقة المستثمرين في سنداتها ويمكنها بالتالي من الاقتراض بمعدلات فائدة دنيا.
منذ ثلاث سنوات والنرويج تحتل المركز الأول عالميا كصاحبة أأمن دين سيادي في العالم، نظرا لأوضاعها المالية القوية، والمعلوم أن النرويج كدولة مصدرة للنفط لا تدخل إيراداتها النفطية إلى اقتصادها المحلي، وإنما تستثمرها في الخارج، وذلك لتحييد أثر هذه الإيرادات على اقتصادها الوطني، وحتى لا تصاب بما يسمى "المرض الهولندي Dutch Disease"، وهو الحالة التي تتراجع فيه تنافسية الدولة نتيجة لاكتشاف مورد طبيعي فيها، الأمر الذي يرفع من قيمة عملة الدولة ويؤثر سلبا على تنافسية صادراتها من السلع الأخرى، بصفة خاصة الصناعية. وفقا لآخر تقديرات المعهد الدولي لصناديق الثروة السيادية بلغت أصول الصندوق السيادي النرويجي 560 مليار دولارا، ومما لا فيه شك أن مثل هذه الثروة الهائلة تمثل ضمانا قويا ضد أي مخاطر يمكن أن تحيط بالدين السيادي النرويجي، وكما نلاحظ في الجدول فإن احتمال التوقف عن سداد الدين النرويجي يكاد يكون صفرا.

ربما يدهش القارئ حينما يرى أن الدين العام الأمريكي هو ثاني أفضل دين عام في العالم، على الرغم من كل ما نقرأه عن تراجع تصنيف وكالة ستاندارد أند بور للدين الأمريكي، نتيجة للاضطرابات التي حدثت في الكونجرس بسبب عدم التوافق على قضية رفع سقف الدين العام الأمريكي في منتصف العام الماضي، وما كان يكتب عن احتمالات توقف الولايات المتحدة عن سداد التزاماتها نظرا لعدم قدرتها على الاقتراض لسداد التزاماتها في ظل القيود التي تواجه الخزانة الأمريكية نتيجة الحد الأعلى على سقف الدين. كيف يصنف الدين الأمريكي إذن على أنه ثاني أكثر ديون العالم أمانا؟
يمكن تفسير هذه النتيجة بعدة نقاط؛ الأولى هي أن هذا التصنيف المتميز للدين الأمريكي يعكس أساسا انخفاض المخاطر المصاحبة لهذا الدين، وهو ما يعكس الثقة في قدرة الولايات المتحدة على خدمة ديونها، لأن الدين العام الأمريكي هو الدين العام لأقوى اقتصاد في العالم، كما أن هذا الدين يتم إصداره أساسا بالدولار، عملة الولايات المتحدة وعملة العالم، ومثل هذه الميزة التي تتمتع بها الولايات المتحدة تعني أن احتمالات توقف الولايات المتحدة عن خدمة ديونها تعد ضعيفة جدا لأنه في أسوأ الظروف يمكن أن تقوم أمريكا بطبع الدولار أو باتخاذ أي ترتيبات أخرى لزيادة السيولة بهدف خدمة الدين.
النقطة الثانية التي ينبغي التأكيد عليها وهي أن البنوك المركزية في العالم يهمها دائما أن تقوم الإدارة الأمريكية بإصدار المزيد من السندات الأمريكية سنويا، وذلك بهياكل مختلفة لتواريخ الاستحقاق، باعتبار أن هذا الدين وسيلة هامة لاستثمار فوائضها الدولارية حسب توقيتات احتياجاتها لهذه الفوائض، وهو ما يساعد تلك البنوك على الحصول على عوائد على تلك الفوائض والتمتع بمزايا السيولة في ذات الوقت.
 النقطة الثالثة هي أن الثقة في السندات الأمريكية تعززت على نحو غير مسبوق مع تعقد أوضاع منطقة اليورو وارتفاع حدة المخاطر المحيطة بالديون السيادية للدولة الأعضاء في المنطقة، بصفة خاصة مجموعة الـ PIIGS، لدرجة أن سعي المستثمرين نحو البحث عن ملجآ آمن للسيولة دفع بهم في بعض الأحيان إلى شراء سندات دين أمريكية (معدلة بالتضخم) بمعدلات فائدة سالبة، أي أن الدائن هو الذي يدفع فائدة للمدين، ومما لا شك فيه أن مثل هذه النتائج تعكس تصاعد المخاطر المحيطة بالاستثمار في الديون السيادية على نحو خطير عالميا.
باقي الدول صاحبة أفضل الديون السيادية هي دولتان تحسن مركزهما في القائمة وهما سويسرا وأستراليا، اللتان تحتلان المركز  الثالث والسادس على التوالي، بينما تراجع ترتيب السويد وهونج كونج بمركز واحد وهما في المركزين الرابع والسابع على التوالي، أما أسوأ أداء في القائمة فكان من نصيب المملكة المتحدة التي تراجع ترتيبها بمركزين إلى التاسع، وأتوقع خروجها من القائمة في التقرير القادم نظرا لتزايد المخاطر النسبية المحيطة بالدين البريطاني. في الوقت الذي دخلت فيه نيوزيلاندا قائمة الدول صاحبة أفضل الديون السيادية لأول مرة، وكذلك عادت ألمانيا إلى القائمة في هذا التقرير، بعد أن خرجت منه منذ ستة أشهر.
عربيا تحسن تصنيف الدين السيادي لقطر حيث احتلت المركز الحادي عشر عالميا في قائمة الدول صاحبة أفضل الديون السيادية، بينما خرجت كل من المملكة العربية السعودية وأبو ظبي من قائمة الدول العشر صاحبة أأمن الديون في التقرير الربع سنوي الماضي، حيث احتلت أبو ظبي المركز الثاني عشر وقد كانت تحتل المركز العاشر في التقرير السابق، كما احتلت المملكة العربية السعودية المركز الثالث عشر، وقد كانت تحتل المركز التاسع في التقرير السابق.
هذه هي دول العالم التي تنخفض احتمالات إفلاسها إلى درجة قريبة من الصفر تقريبا نظرا لمتانة أوضاعها المالية، والتي استطاعت أن تصدر سندات بمعدلات فائدة، منخفضة للغاية خلال الفترة الماضية.


الجمعة، يناير ٢٧، ٢٠١٢

اتجاهات النمو في الاقتصاد السعودي: قطاعات النشاط الاقتصادي


نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 27/1/2012

مر الاقتصاد السعودي بحالة تحول واضح في التركيبة القطاعية خلال الأربعة عقود الماضية. ففي عام 1970 كانت ملامح الاقتصاد التقليدي واضحة على التركيب القطاعي لهذا الاقتصاد، حيث يحتل القطاع الأولي النسبة الأكبر في مجمل الناتج المحلي الإجمالي، مع الدور الواضح الذي يلعبه القطاع النفطي. لقد كان قطاع التعدين والتحجير يمثل نسبة 50% من إجمالي الناتج، الجانب الأعظم منها لإنتاج النفط الخام والغاز الطبيعي. إذا ما أضفنا صناعة تكرير الزيت فإن نصيب القطاع النفطي إلى إجمالي الناتج المحلي الإجمالي يرتفع إلى 54%، وهي نسبة مرتفعة للغاية، تعكس هيمنة هذا القطاع على مسار الناتج في الاقتصاد السعودي بصورة واضحة في ذلك الوقت.

في هذا العام كانت الصناعة التحويلية في المملكة مرتكزة أساسا على صناعة تكرير الزيت، بينما لم يزد نصيب الصناعات التحويلية الأخرى عن 1.9% من إجمالي نصيب قطاع الصناعة التحويلية في الناتج والذي لم يزد عن 5.9%. كذلك كان نصيب القطاعات الخدمية، باستثناء القطاع الخدمات الحكومي والذي بلغت مساهمته في هذا العام 15.3%، محدودا للغاية، وكاقتصاد تقليدي اتسم الاقتصاد السعودي في هذا العام بتواضع المساهمة النسبية لقطاعات الخدمات في الناتج المحلي الإجمالي والتي لم تتجاوز 30% في عام 1970، بينما بلغت مساهمة القطاعات السلعية حوالي 69% الجانب الأكبر منها من المصادر الأحفورية.



شهد عقد السبعينيات تطورات ملحوظة في التركيب القطاعي للناتج بصفة خاصة النمو الملحوظ لقطاعات التشييد والبناء الذي ارتفعت مساهمته من 5% في عام 1970 إلى حوالي 11% في عام 1980، وقطاع العقارات من 7% إلى 11% على التوالي تقريبا، في الوقت الذي تضاعفت فيه مساهمة قطاع التجارة والمطاعم والفنادق إلى 5% تقريبا، من جانب آخر تراجعت مساهمة قطاع التعدين والتحجير والتي أخذت في التراجع بصورة بطيئة حتى بلغت حوالي 44% بنهاية العقد.

بحلول منتصف عقد الثمانينيات أخذت فورة قطاع البناء والتشييد في التراجع لعدة أسباب أهمها تراجع الإيرادات النفطية والانتهاء من تشييد معظم مشروعات البنى التحتية التي بدأتها المملكة بعد فورة أسعار النفط في أوائل السبعينيات، لدرجة أنه في عام 1990 تراجعت مساهمة هذا القطاع إلى 6.5% فقط من الناتج المحلي الإجمالي لتستقر عند هذه المستويات تقريبا بعد ذلك. كذلك استمرت مساهمة قطاع التعدين والتحجير في التراجع على نحو ملحوظ من 41.7% في عام 1981 إلى 30.7% فقط في عام 1990. في المقابل شهد قطاع الصناعات التحويلية نموا واضحا حيث تضاعفت مساهمته تقريبا خلال هذا العقد حتى بلغت 8.4% في عام 1990، منها 4.8% للصناعات التحويلية الأخرى غير صناعة تكرير الزيت، وتضاعفت مساهمة قطاع الزراعة والصيد بثلاثة أضعاف تقريبا من 2% في بداية العقد إلى 6% في عام 1990. كذلك استمرت مساهمة قطاع الخدمات الحكومي في النمو بصورة ملحوظة حتى بلغت 19.1% في عام 1990، أدت هذه التطورات إلى تراجع مساهمة القطاعات السلعية بصورة كبيرة إلى حوالي 52%، في مقابل ارتفاع مساهمة قطاع الخدمات خلال هذا العقد.

استمرت التأثيرات السلبية لتراجع النمو في القطاع النفطي خلال الثمانينيات تلقي بظلالها على الاقتصاد السعودي خلال عقد التسعينيات، وفيما عدا نمو مساهمة قطاع الصناعات التحويلية في الناتج إلى 10.4%، منها 7.5% نسبة مساهمة الصناعات التحويلية الأخرى غير صناعة تكرير الزيت، فإن المساهمة النسبية للأنشطة الاقتصادية المختلفة في الناتج ظلت كما هي تقريبا بدون تغير ملموس، واستمرت مساهمة القطاعات السلعية والخدمية على حالها تقريبا بنهاية العقد، وبدى من الواضح أن الاقتصاد السعودي يعيش حالة من الركود الاقتصادي خلال هذا العقد.

بحلول الألفية الثالثة حدثت بعض التغيرات الهامة في التركيب القطاعي للناتج المحلي أهمها استمرار مساهمة قطاع الصناعة التحويلية في النمو حتى بلغت 13.3% في عام 2011، منها 2.4% فقط لصناعة تكرير الزيت، وبالمقارنة مع عقد السبعينيات فإن مساهمة قطاع الصناعة التحويلية قد تزايدت بصورة جوهرية، وهو ما يعكس تزايد حجم القطاع الصناعي في المملكة، غير أن مساهمة هذا القطاع ما زالت أقل من المساهمة المتوسطة لمثل هذا القطاع في الاقتصادات الناشئة، وتزايدت مساهمة قطاع النقل والتخزين والاتصالات من 5.3% في بداية العقد إلى 7.6% في عام 2011، وارتفعت مساهمة قطاع التشييد والبناء بصورة محدودة إلى 7.5% في نهاية العقد. كما تراجع نصيب قطاع التعدين والتحجير إلى 22.8% في عام 2011، في الوقت الذي استمرت مساهمة قطاع الخدمات الحكومية مرتفعة عند مستوى 18.2% في عام 2011، وبنهاية العقد الأول من الألفية الثالثة تصل مساهمة قطاع الخدمات في الناتج حوالي 52%، وذلك مقارنة بنسبة 30% في 1970.



الجدول رقم 2 يلخص تطور المساهمة المتوسطة للقطاعين النفطي وغير النفطي في الناتج المحلي الإجمالي خلال الأربعة عقود الماضية في المملكة، ومن الجدول يتضح تراجع مساهمة القطاع النفطي في المتوسط من 52.6% خلال السبعينيات إلى 30.2% خلال العقد الأول من هذا القرن، في مقابل تزايد مساهمة القطاع غير النفطي من 46.2% إلى 68.6% على التوالي. كذلك يوضح الجدول أنه فيما يتعلق بملكية القطاع غير النفطي تزايدت حصة القطاع الخاص من 30.3% إلى 45.7% على التوالي، كما تزايدت حصة القطاع الحكومي من 15.9% إلى 23% على التوالي.

بالرغم من كل التحولات السابقة فيما يتعلق بمساهمة الأنشطة الاقتصادية المختلفة في تكوين الناتج إلا أنه يلاحظ أن القطاع النفطي ما زال يلعب الدور الرائد في تحديد في مستويات الناتج والدخل في المملكة، من ناحية أخرى فإنه وأخذا في الاعتبار أن القطاع النفطي مملوك بالكامل للقطاع الحكومي، فإنه من الواضح أن القطاع الحكومي ما زال يسيطر على الجانب الأكبر من مجريات النشاط الاقتصادي في الاقتصاد السعودي.

مثل هذه الخصائص للاقتصاد السعودي تفقده جانبا كبيرا من قوة الدفع الذاتي في النمو، وهي إحدى سمات الاقتصادات شبه أحادية الموارد، حيث يظل النمو رهنا بتطورات القطاع النفطي من جانب، ويعتمد أساسا على اتجاهات الإنفاق الحكومي من جانب آخر، الأمر الذي يجعل النمو تحت رحمة تطورات السوق العالمي للنفط الخام والكميات المصدرة منه، وهو، كما لاحظنا في الحلقة السابقة من هذه السلسلة، ما يؤدي إلى حدوث تقلب شديد في معدلات النمو الاقتصادي في الناتج الحقيقي للمملكة.

الثلاثاء، يناير ٢٤، ٢٠١٢

أخطر الديون السيادية في العالم


نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 24/1/2012

يمثل خطر توقف الحكومات المدينة في العالم عن الوفاء بالتزاماتها أحد أهم الهواجس التي تنتشر حاليا في أسواق المال العالمية، حيث يعني ذلك ضمنا إفلاس الدولة المدينة وعدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها نحو المقرضين لها مما يضطر الدول والمؤسسات الدائنة لهذه الدولة إلى الدخول في سلسلة طويلة من المفاوضات المرهقة لإعادة هيكلة ديون هذه الدولة بما في ذلك إلغاء جانب من، أو إعادة جدولة، ديونها، وهي عملية قد تنطوي على خسائر ضخمة تلحق بالمؤسسات المالية الدائنة، وقد تنتهي بإفلاسها أحيانا.

صدر مؤخرا التقرير الربع سنوي لمؤسسة CMA عن مخاطر الديون السيادية في العالم، والذي تضمن تصنيفا للديون السيادية لدول العالم وفقا لأخطر هذه الديون وأكثرها أمانا في ذات الوقت، ويوضح الجدول رقم (1) ترتيب أخطر الديون السيادية في العالم، واحتمال التوقف عن السداد أي احتمال أن تقوم الدولة بإعادة هيكلة ديونها، وتصنيف الدين السيادي للدولة، فضلا عن هامش معدل الفائدة للسندات السيادية للدولة استحقاق 5 سنوات.  


يوضح الجدول أن اليونان استمرت على رأس قائمة الدول صاحبة أخطر الديون السيادية في العالم، بهامش 8453.3 نقطة عن متوسط معدل الاقتراض للسندات استحقاق 5 سنوات، وهو أعلى هامش لمعدل الفائدة على سندات الديون السيادية في العالم، وذلك نظرا لارتفاع مستويات المخاطر المحيطة بالدين اليوناني واضطرار دائني اليونان إلى الدخول في مفاوضات لإعفاء اليونان من 50% من ديونها السيادية وفقا لما توصلت إليه القمة الأوروبية، غير أن اليونان تطالب دائنيها حاليا باعفاءها من 70% من ديونها، في ظل مثل هذه التطورات يصبح هامش معدل الفائدة 85% تقريبا هامشا معقولا لتعديل معدل الفائدة المتوسط بالمخاطرة التي تحيط بالسندات اليونانية.

احتلت البرتغال المركز الثاني في قائمة الدول صاحبة اخطر الديون السيادية. غير أن المقارنة بين البرتغال واليونان تبرز وجود فارق كبير بين الدولتين، سواء من حيث التصنيف أو من حيث احتمال التوقف عن السداد، حيث تقدر مؤسسة CMA  احتمال أن لا تتمكن البرتغال من الوفاء بالتزاماتها نحو ديونها السيادية بـ 60.8%، وعلى الرغم من ارتفاع هذا الاحتمال إلا أن هامش معدل الفائدة على السندات البرتغالية حوالي ثمن مستوياته في اليونان.

من جانب آخر تشاركت أربع دول نفس التصنيف الائتماني للمؤسسة، حيث تقاربت من حيث احتمال توقفها عن سداد التزاماتها وكذلك من حيث هامش معدلات الفائدة على سنداتها التي تصدرها باستحقاق 5 سنوات، وهي باكستان التي احتلت المركز الثالث عالميا بعد أن تراجعت مركزين مقارنة بترتيبها السابق، وقد قدر احتمال توقفها عن خدمة ديونها السيادية بحوالي 51%، حيث يصل هامش معدل الفائدة على سنداتها إلى 9.8% عن متوسط معدلات الفائدة على السندات استحقاق 5 سنوات. كما تحسن ترتيب فنزويلا والأرجنتين بمركز واحد لكل منهما، حيث احتلت فنزويلا المركز الرابع عالميا، بينما احتلت الأرجنتين المركز الخامس، والمعروف أن فنزويلا والأرجنتين من الناحية التقليدية تمتلك أخطر ديون العالم، ووفقا للتقرير يبلغ احتمال توقفهما عن خدمة ديونهما حوال 49% لكل منهما، بينما بلغ هامش معدل الفائدة على سنداتهما 9.2% تقريبا.

الدولة الثالثة في مجموعة دول منطقة اليورو التي تحتل موقعا في قائمة الدول صاحبة أخطر الديون السيادية في العالم  هي البرتغال، والتي احتلت المركز السادس متراجعة بمركز واحد من المركز السابع في التقرير الربع سنوي السابق. كذلك احتلت إيطاليا المركز العاشر بعد تحسن ترتيبها بمركزين في التقرير الحالي، وذلك بعد تراخي احتمالات الإفلاس نسبيا نتيجة لبرامج التقشف التي تطبقها إيطاليا حاليا وجهود البنك المركزي الأوروبي في شراء سندات دول منطقة اليورو المدينة. الدولة الوحيدة التي لم تظهر ضمن قائمة الدول صاحبة أخطر الديون السيادية في العالم من مجموعة دول الـ PIIGS هي إسبانيا، والتي خرجت من القائمة منذ حوالي 9 أشهر.

التطور المثير عربيا هو دخول مصر قائمة الدول صاحبة أخطر الديون السيادية محتلة المركز الثامن عالميا، نتيجة لتصاعد مخاطر الإقراض لمصر في ظل عدم الاستقرار السياسي الذي تعيشه حاليا، وتراجع الموارد الأساسية لمصر من النقد الأجنبي، بصفة خاصة الإيرادات السياحية، فضلا عن تدهور احتياطيات البنك المركزي المصري من النقد الأجنبي إلى أقل من النصف تقريبا منذ بداية الثورة نتيجة استنزافها في سداد التزامات مصر الخارجية والدفاع عن الجنيه المصري في سوق النقد الأجنبي للحفاظ على قيمته من التدهور. هذه التطورات أدت إلى تزايد مخاطر السندات المصرية وارتفاع هامش معدل الفائدة عليها إلى 6.2%.

من التطورات المثيرة للاهتمام عربيا أيضا أن دبي قد خرجت من قائمة أكثر دول العالم خطورة من حيث دينها السيادي، منذ ستة أشهر تقريبا، وذلك نتيجة التطورات في اتفاقياتها مع الدائنين. هذه هي أخطر الديون السيادية في العالم، فما هي أكثر ديون العالم أمانا؟ هذا ما سوف نتناوله في الأسبوع القادم إن شاء الله.

الجمعة، يناير ٢٠، ٢٠١٢

اتجاهات النمو في الاقتصاد السعودي .. الناتج الحقيقي

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 20/1/2012


إلى أين يتجه النمو في المملكة العربية السعودية؟ هل يسير النمو في المملكة في الاتجاه الصحيح؟ هل تحقق المملكة التنويع المطلوب لمستويات الدخل والناتج بما يؤهل المملكة لدخول الألفية الثالثة بأمان؟ في أي اتجاه تذهب الاستثمارات السنوية للمملكة، وهل تتمكن المملكة من التخلص من قيد المورد شبه الوحيد للناتج والدخل؟ ما هي أهم التحديات الحقيقية التي تواجه المملكة في المستقبل؟، وأخيرا ماذا يجب أن تفعل المملكة لمعالجة مشكلات النمو التي تواجهها؟ في هذه السلسلة من المقالات سوف أحاول الإجابة على هذه الأسئلة حول اتجاهات النمو في الاقتصاد السعودي.

دائما ما أبدا فصول التحليل الاقتصادي الكلي على مستوى البكالوريوس أو الدراسات العليا بالحديث عن النمو الحقيقي والناتج المحلي الحقيقي Real GDP، والتفرقة بين الناتج والنمو الاسمي Nominal والناتج والنمو الحقيقي Real، والتأكيد على أن الإحصاءات المنشورة عن كل من الناتج والنمو الاسمي قد تكون مضللة، أو تخفي تفاصيل جوهرية حول اتجاهات النمو ومعدلاته من الناحية الحقيقية.

يعرف الناتج الإسمي Nominal، بأنه القيمة السوقية للناتج، وهي حاصل ضرب كميات الناتج من السلع والخدمات في أسعارها السوقية (وغالبا ما يطلق عليه تسمية الناتج بالأسعار الجارية)، أما الناتج الحقيقي فهو كميات السلع والخدمات التي يتم إنتاجها في الاقتصاد، ومن الناحية الفعلية عادة ما يتم حساب هذا الناتج باستخدام أسعار سنة محددة يطلق عليها سنة الأساس Base Year (وغالبا ما يطلق عليه تسمية الناتج بالأسعار الثابتة). عندما يتغير الناتج الإسمي فإن هذا التغير يكون بالتبعية محصلة قوتين؛ التغير في الكميات المنتجة من السلع والخدمات (الناتج الحقيقي) والتغير في الأسعار السوقية، وتعتمد اتجاهات النمو في الناتج الإسمي على أيهما أقوى في الأثر. فمن الممكن أن تزيد كميات الناتج وكذلك الأسعار فيزيد كل من الناتج الإسمي والحقيقي، ومن الممكن أن تتراجع الكميات المنتجة من الناتج، ومع ذلك تتزايد الأسعار بمعدلات أكبر فيتزايد الناتج المحلي من الناحية الإسمية رغم أنه تراجع من الناحية الحقيقية، ومن ثم فإن الحديث عن أي نمو في الناتج في هذه الحالة يعد مضللا لأن الناتج من الناحية الحقيقية (كمية السلع والخدمات المنتجة) يكون قد تراجع بالفعل، وأن هذه الزيادة في القيمة الاسمية للناتج مردها الأساسي هو ارتفاع الأسعار، ولهذه الأسباب يقتصر التحليل الاقتصادي الكلي على الناتج والنمو الحقيقي وليس الإسمي.

تعد هذه المقدمة للموضوع في غاية الأهمية، خصوصا في حالة الاقتصاد السعودي، حيث تلعب التغيرات في الأسعار، بصفة خاصة أسعار النفط، الدور الأهم في تغيرات الناتج المحلي من الناحية الإسمية، وكما سأتناول مستقبلا، فإن التغيرات في أسعار النفط الخام يكون لها تأثيرات على المستوى العام للأسعار على المستوى العالمي، وفي حالة اقتصاد مفتوح مثل الاقتصاد السعودي، فإن تغيرات الأسعار عالميا تلعب دورا هاما في تحديد اتجاهات التضخم المحلي.

دعونا نبدأ بالسؤال الأول: إلى أين يتجه النمو في المملكة؟ تشير بيانات الناتج المحلي الإجمالي من الناحية الاسمية إلى أنه في عام 1970 كان الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية 24.2 مليار ريال، وذلك قبل الفورة الأولى لأسعار النفط والتي نتجت عن الحظر العربي لصادرات النفط الخام إلى الغرب في أعقاب الحرب العربية الإسرائيلية في 1973، حيث تضاعفت أسعار النفط، مما أدى الى زيادة الناتج المحلي الإجمالي من الناحية الإسمية إلى 161.2 مليار ريال في 1974، ونتيجة لاستمرار تصاعد أسعار النفط سجل الناتج المحلي الاجمالي بالأسعار الجارية مستويات قياسية في 1981 حيث بلغ أعلى مستوياته خلال هذه الفترة؛ 623.4 مليار ريال. غير أنه بدءا من عام 1982 أخذت أسعار النفط في التراجع وهو ما ترتب عليه تراجع مستويات الناتج بالأسعار الجارية بصورة جوهرية، ولم يسترد الاقتصاد السعودي هذه المستويات من الناتج إلا بحلول عام 2000، عندما بدأت أسعار النفط في التعافي بصورة غير مسبوقة مرة أخرى، وبدأت الوفرة النفطية الثانية، لدرجة أنه في عام 2011 قدر الناتج المحلي بالأسعار الجارية في المملكة بحوالي 2163 مليار ريال سعودي، وهو بلا شك ناتج محلي ضخم بمقاييس الدول النامية في العالم.

باستخدام أسعار 1999 كسنة أساس في تعديل قيم الناتج الإسمي فإن الناتج المحلي الحقيقي في المملكة يصبح 174.5 مليار ريالا في 1970، ويصل الناتج الحقيقي إلى أعلى مستوياته أيضا في عام 1981 بقيمة 542 مليار ريالا ليبدأ الناتج الحقيقي في التراجع بصورة محدودة نسبيا بعد ذلك. غير أنه من الناحية الحقيقية يستعيد الاقتصاد السعودي تلك المستويات من الناتج في عام 1991، حينما بلغ الناتج المحلي الحقيقي 552.6 مليار ريالا، ومنذ ذلك العام والناتج المحلي الحقيقي في نمو مستمر تقريبا، وقد شهد العقد الأول من هذا القرن أعلى معدلات النمو في الناتج الحقيقي للاقتصاد السعودي منذ سبعينيات القرن الماضي، ويقدر الناتج المحلي الحقيقي في عام 2011 بحوالي 935.2 مليار ريال (مقارنة بـ 2163 مليار ريال ناتج اسمي).

الشكل التالي يوضح اتجاهات الناتج المحلي الإسمي والحقيقي خلال الأربعين عاما الماضية. لاحظ في الشكل اتساع الفجوة بين الناتج المحلي الحقيقي والناتج الإسمي في السنوات الأخيرة، والتي تعكس بالدرجة الأولى تأثير تطورات أسعار النفط على الناتج الإسمي في المملكة، باعتباره المكون الأساسي للناتج والدخل في المملكة. ولكن ماذا يعني ذلك؟ الإجابة هي أن الجانب الأكبر من التطورات التي حدثت في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة لم تكن راجعة إلى النمو في القدرات الحقيقية للاقتصاد السعودي بالدرجة الأولى، بقدر ما ترجع إلى تأثير الزيادة الواضحة في الأسعار.


إن صورة هذا النمو تتضح بصورة أكبر عندما ننظر إلى معدلات النمو السنوي في الاقتصاد السعودي ودرجة استقرارها خلال الأربعة عقود الماضية والموضح في الشكل رقم (2). لاحظ من الشكل أن النمو في الناتج الإسمي يتسم بالتقلب الشديد (المنحنى الأزرق)، والذي يعكس تقلبات سعر النفط الخام خلال الأربعة عقود الماضية، ذلك أن معدلات النمو والناتج في المملكة تشير إلى أن الاقتصاد السعودي يتعرض من وقت لآخر بصورة كبيرة للصدمات الخارجية.

أما من الناحية الحقيقية، وهذا هو الأهم، فقد حقق الاقتصاد السعودي خلال الأربعة عقود الماضية معدل نمو حقيقي بلغ في المتوسط 4.6%، وقد كانت أعلى معدلات النمو الحقيقي التي تم تحقيقها في الاقتصاد السعودي هي تلك المحققة خلال عقد السبعينيات، حيث بلغ معدل النمو الحقيقي المتوسط 12.3%، وهو بالمقاييس الدولية يعد معدلا استثنائيا. غير أنه نظرا للاعتماد الشديد على الناتج النفطي، تراجعت معدلات النمو الحقيقي بصورة واضحة خلال الثمانينيات، حيث حقق الاقتصاد السعودي معدل نمو متوسط سالب يساوي 1.4% نتيجة تراجع الناتج الحقيقي، كما حقق الاقتصاد السعودي خلال التسعينيات معدل نمو حقيقي متواضع نسبيا بلغ 2.5%، وهو ما يعني أنه في المتوسط خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي تراجع متوسط نصيب الفرد من الناتج من الناحية الحقيقية، نظرا لانخفاض معدل النمو المتوسط للناتج الحقيقي عن معدل النمو المتوسط للسكان في المملكة. إلا أن الأوضاع انعكست في العقد الأول من هذا القرن والذي شهد تزايد الناتج ومعدلات النمو الحقيقي على نحو واضح، ففي المتوسط بلغ معدل النمو الحقيقي 4.4% خلال الفترة من 2001-2011، وتزايد الناتج الحقيقي من 633 مليار ريال تقريبا في عام 2001 إلى 935.1 مليار ريال كما سبقت الإشارة.

إن الخلاصة التي يمكن التوصل إليها من التحليل في هذه الحلقة هي أن النمو في الاقتصاد السعودي يتسم بالتقلب الواضح وهو ما يعكس حقيقة أن استراتيجيات النمو التي اتبعت حتى اليوم لم تؤمن للاقتصاد السعودي التنويع القطاعي اللازم الذي يقلل من اعتماد الاقتصاد الوطني على القطاع النفطي ويؤمن فرص النمو المستقر للناتج الحقيقي، وهو ما سأتناوله في الحلقة القادمة من هذه السلسلة إن شاء الله.

الثلاثاء، يناير ١٧، ٢٠١٢

سوق العمل الأمريكية تتحسن على نحو ملحوظ (2/2)


من ناحية أخرى بلغت أعداد العاطلين في حالة بطالة قصيرة الأجل (أقل من 26 أسبوعا) 7.566 مليون عاملا، مقارنة بـ 8.056 مليون عاملا في ديسمبر 2010، بينما بلغت أعداد العاطلين في حالة بطالة طويلة الأجل (أكثر من 26 أسبوعا) 5.588 مليون عاملا، مقارنة بـ 6.421 مليون عاملا في ديسمبر 2010، وتعد هذه المقارنة بين البطالة قصيرة الأجل وطويلة الأجل هامة، حيث يفترض أن العامل الذي يقضي اكثر من 26 أسبوعا في حالة بطالة يفقد حقه في الحصول على إعانة البطالة من الدولة ما لم تقرر الحكومة مد التغطية التأمينية له بصورة استثنائية، وأخيرا فقد بلغ عدد العمال المحبطين 945 ألف عامل في ديسمبر 2011.

أما بالنسبة للقطاعات الأساسية التي توسعت فيها فرص العمل الجديدة للعمال الأمريكيين والذين تصل أعدادهم، كما ذكرنا، إلى 200 ألف وظيفة في القطاع غير الزراعي، فتتمثل في القطاعات السلعية، حيث تم توفير 48 ألف فرصة عمل، وقطاع الخدمات الخاص، حيث تم توفير 164 ألف فرصة عمل، منهم 28 ألف وظيفة في قطاع تجارة التجزئة و 50.2 ألف وظيفة في قطاع النقل. بينما انخفضت أعداد العاملين في القطاع الحكومي بحوالي 12 ألف وظيفة. 

على الرغم من هذه التطورات الإيجابية فإن هناك ملاحظتان هامتان ينبغي أخذهما في الاعتبار، الأولى هي أن أوضاع سوق العمل الأمريكي مازالت صعبة، وأن معدل البطالة ما زال مرتفعا على نحو كبير، الأمر الذي يعكس حقيقة أن النمو الحقيقي في النشاط الاقتصادي ما زال اقل من المستوى اللازم للسيطرة على مستويات البطالة المرتفعة وإعطاء العزم الكافي لكل من الإنفاق الاستهلاكي والاستثمار الخاص على النحو الذي يخفف من ضغوط البطالة في سوق العمل، ويوفر أساسا مناسبا للنمو الذاتي للاقتصاد الأمريكي بعيدا عن جهود التحفيز التي تمارسها الحكومة الأمريكية على نحو مكثف منذ بدء الأزمة، وتسببت في تحقيق عجز مالي قياسي ساعد على ارتفاع الدين العام الأمريكي على نحو غير مسبوق، وكذلك على تزايد الضغوط على قيمة الدولار الأمريكي نحو التراجع في مقابل العملات الأخرى، بصفة خاصة اليورو.

الثانية هي أن معدل البطالة طويل المدة (نسبة العمال الذي يقضون 27 أسبوعا أو أكثر في حالة بطالة) ما زال مرتفعا جدا، وان كان يميل إلى التحسن بمرور الوقت، فعدد العمال الذين هم في حالة بطالة طويلة الأجل بلغ 5.588 مليون عاملا في ديسمبر، مازالوا يبحثون عن عمل ولا يجدون فرصة توظيف لهم، ولكن ماذا يعني ذلك الأمر؟ انه يعني حقيقة صعبة للغاية، وهي انه ما إن يفقد العامل عمله الأساسي ويصبح عاطلا، سوف يجد من الصعب جدا الحصول على عمل آخر في غضون فترة زمنية وجيزة، وسيظل لفترة طويلة من الزمن يعاني من حالة البطالة حيث يصبح من الصعب عليه أن يخرج من حالة البطالة بسرعة، في ظل ضعف قدرة قطاع الأعمال على توفير فرص عمل إضافية لاستيعاب العاطلين عن العمل.

خلاصة التحليل السابق هي أنه إذا استمر تطور سوق العمل بالسير على هذا النحو فإن فرص التراجع المزدوج Double dip، التي تحدث عنها المراقبون كثيرا سوف تتلاشى على نحو كبير، إذ يعد معدل البطالة بشكل عام أهم المؤشرات التي يمكن الحكم من خلالها على اتجاهات النمو الاقتصادي، بصفة خاصة في الولايات المتحدة. من ناحية أخرى فإن هذه التطورات تمثل مؤشرات في غاية الأهمية بالنسبة للرئيس الأمريكي أوباما  الذي يستعد لخوض انتخابات الرئاسة في القريب العاجل، حيث تشكل هذه التطورات فرصة تاريخية له لإعادة تأكيد وضعه في البيت الأبيض كرئيس قادم للولايات المتحدة لفترة رئاسة ثانية، حيث تعد هذه التطورات مؤشرا على نجاح سياسات أوباما الاقتصادية في انتشال البلاد من خطر الركود بعد تعرض البلاد لأقسى صدمة منذ الكساد العالمي العظيم في 1929.

الجمعة، يناير ١٣، ٢٠١٢

الدولار الأمريكي مازال سيد الموقف

نشر في صحيفة  الاقتصادية بتاريخ الجمعة 13/1/2012.
كثر الحديث عن فقدان الدولار الأمريكي لوضعه الدولي كعملة التبادل الأساسية للعالم وعملة الاحتياط الأساسية التي تحتفظ البنوك المركزية بها للأغراض المختلفة، وأخذنا نقرأ عن السيناريوهات البديلة لعصر الدولار الذي ولى وقارب على الأفول، كما أخذت الترشيحات للعملات البديلة في التزايد، بصفة خاصة بالنسبة لليورو أو اليوان الصيني. بل وأخذت بعض الدول مثل مجموعة البريكس في الاتفاق على ترتيبات لتسوية المدفوعات الدولية فيما بينها بهدف استخدام عملاتها الوطنية في تسوية قيمة المعاملات التجارية فيما بينها بدلا من الدولار، والذي نظر البعض إليه على أنه يمثل ضربة قاصمة للوضع الدولي للدولار، دون أن يسأل أصحاب هذا الرأي أنفسهم عن نسبة المعاملات التجارية البينية لتلك الدول إلى إجمالي الطلب اليومي في سوق النقد الأجنبي، والذي يزيد حاليا عن 4 تريليون دولار يوميا تتم أساسا بالدولار الأمريكي.

تجدر الإشارة إلى أن العالم أخذ يشهد مؤخرا تصاعد الدور الدولي لبعض العملات غير التقليدية، مثل الفرنك السويسري والدولار الأسترالي والدولار الكندي والتي يتزايد استخدامها يوما بعد يوم، غير أن الأهمية النسبية لهذه العملات ما زالت محدودة إلى حد كبير، كما أن استخدام هذه العملات على النطاق الدولي ينحصر تقريبا في تسوية المعاملات التجارية البينية والتي تمثل جانبا صغيرا من إجمالي الطلب اليومي على العملات في السوق العالمي للنقد الأجنبي.

من الناحية الواقعية فإن الأوضاع الأرض لا تسير على هذا النحو الذي توحي به تحاليل المراقبين في هذا المجال، ويوما بعد يوم تثبت التقارير أن الوضع الدولي للدولار لم يتدهور على النحو الذي يشير إليه بعض الكتاب أو يحاول الآخرون إقناعنا به، وأن العملة الخضراء ما زالت هي عملة التبادل الأساسية للعالم وعملة الاحتياط الأولى للبنوك المركزية لكافة دولة العالم.



منذ عدة أيام صدر التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي عن إجمالي احتياطيات العالم من النقد الأجنبي، والذي احتوى على أحدث إحصاءات احتياطيات البنوك المركزية لـ 139 دولة من النقد الأجنبي حتى الربع الثالث من عام 2011، وتشمل الاحتياطيات الدولية المطالبات على غير المقيمين (الأجانب) في صورة نقد (أجنبي) سائل، واحتياطيات مصارف (بالنقد الأجنبي)، وأذون خزانة وسندات حكومية قصيرة وطويلة الأجل لحكومات أخرى، والمطالبات الأخرى بالنقد الأجنبي القابلة للاستخدام في سداد احتياجات ميزان المدفوعات. الجدول رقم (1) يوضح تطور احتياطيات النقد الأجنبي خلال الخمس سنوات الماضية، والتي تنقسم إلى نوعين؛ الاحتياطيات المخصصة، ويقصد بها احتياطيات البنوك المركزية للدول التي تقدم بيانات للصندوق عن تفاصيل تخصيص احتياطياتها بالنقد الأجنبي، والاحتياطيات غير المخصصة، وتشمل احتياطيات الدول التي لا تقدم بيانات عن كيفية تخصيص احتياطياتها لصندوق النقد الدولي وأي فجوات في البيانات عن الاحتياطيات المقدمة للصندوق. يتضح من الجدول أعلاه الآتي:

-          أن احتياطيات البنوك المركزية في العالم من النقد الأجنبي قد تزايدت من 6.7 تريليون دولارا في 2007، عندما انطلقت أزمة سوق الرهن العقاري في الولايات المتحدة، إلى حوالي 10.2 تريليون دولارا في الربع الثالث من 2011، تزايدت منها الاحتياطيات المخصصة من 4.1 تريليون دولارا إلى 5.4 تريليون دولارا على التوالي، بينما تزايدت الاحتياطيات غير المخصصة من 2.6 تريليون دولارا تقريبا إلى 4.7 تريليون دولارا على التوالي.

-          من بين الاحتياطيات المخصصة تزايد الطلب على الدولار الأمريكي في إجمالي احتياطيات دول العالم من 2.6 تريليون دولارا في 2007 أي بنسبة 64.1% من إجمالي الاحتياطيات المخصصة إلى حوالي 3.4 تريليون دولارا في الربع الثالث من العام الماضي، أي بنسبة 61.7% من الاحتياطيات المخصصة. العملة الوحيدة التي يمكن القول بأنها تنافس الدولار كعملة احتياط عالمية نسبيا هي اليورو الأوروبي، والتي تزايد الطلب عليها من 1.1 تريليون دولارا في 2007، أي بنسبة 26.3% من إجمالي الاحتياطيات المخصصة، إلى 1.4 تريليون دولارا أي بنسبة 25.7% من إجمالي الاحتياطيات المخصصة في الربع الثالث من 2011.

-          وفقا لآخر البيانات المتاحة فإنه ما بين الربعين الثاني والثالث في العام الماضي تزايد طلب البنوك المركزية على الدولار الأمريكي من 3.298 تريلون دولارا إلى 3.360 تريليون دولارا على التوالي، بينما تراجع الطلب على اليورو من 1.458 تريليون دولارا إلى 1.400 تريليون دولارا  على التوالي.

-          أن طلب البنوك المركزية في العالم على العملات الأخرى (والتي تتمثل أساسا في الجنيه الإسترليني والين الياباني والفرنك السويسري وغيرها من العملات مثل الدولار الكندي والدولار الأسترالي) تزايد من 395 مليار دولارا في 2007، بنسبة 9.6% من إجمالي الاحتياطيات المخصصة إلى 684 مليار دولارا في الربع الثالث من 2011، بنسبة 12.6%. غير أنه ما بين الربعين الثاني والثالث من العام الماضي انخفض الطلب على هذه العملات من 711 مليار دولارا إلى 684 مليار دولارا.

-          أن هذه التطورات تشير إلى أن الربع الثالث من 2011 قد شهد تراجعا في الطلب على كافة العملات في الاحتياطيات الدولية للبنوك المركزية فيما عدا الدولار الأمريكي الذي استمر الطلب عليه في التزايد.

من ناحية أخرى اذا ما حاولنا تتبع الطلب على الاحتياطيات الدولية وفقا للمجموعات المختلفة من دول العام سوف نلاحظ التالي:

-          أن طلب الدول المتقدمة على الدولار الأمريكي قد تزايد من 1.423 تريليون دولارا في 2007 إلى 1.915 تريليون دولارا في الربع الثالث من 2011. كذلك تزايد طلب هذه المجموعة على اليورو من 522 مليار دولارا إلى 698 مليار دولارا على التوالي. بينما تزايد طلب الدول النامية والناشئة على الدولار من 1.218 تريليون دولارا إلى 1.446 تريليون دولارا على التوالي. في الوقت الذي تزايد فيه طلب هذه المجموعة على اليورو من 560 مليار دولارا إلى 703 مليار دولارا على التوالي.

-          ما بين الربع الثاني والربع الثالث من 2011 تزايد طلب الدول المتقدمة على الدولار من 1.791 تريليون دولارا إلى 1.915 تريليون دولارا، بينما تراجع طلب هذه المجموعة خلال نفس الفترة على اليورو بصورة محدودة من 707 مليار دولارا إلى 698 مليار دولارا على التوالي. أما بالنسبة للدول النامية والناشئة فقد تراجع طلبها على الاحتياطيات بالدولار من 1.507 تريليون دولارا إلى 1.446 تريليون دولارا، وكذلك تراجع طلبها على الاحتياطيات باليورو من 751 مليار دولارا إلى 703 مليار دولارا على التوالي.

إن خلاصة التطورات السابقة هي أن الطلب على الدولار الأمريكي في تزايد مستمر بشكل عام، وأنه ما زال، على الرغم من الصعوبات التي تعرض لها منذ بداية الألفية الثانية حتى اليوم، هو عملة العالم الأساسية سواء في مجال التبادل أو في مجال الاحتياط، وأن هناك محاولات لاستبدال الدولار الأمريكي بعملات أخرى في احتياطيات العالم من النقد الأجنبي ولكن الطلب على هذه العملات ما زال محدودا وفي نطاق ضيق بالنسبة إلى إجمالي احتياطيات العالم من النقد الأجنبي، وأن التطورات الأخيرة التي يتعرض لها اليورو الأوروبي تجعل الدولار الأمريكي سيد الموقف بلا منازع، نظرا للخصائص المتميزة التي يتمتع بها الدولار التي أهمها أنه يمثل عملة اقوى اقتصاد عالميا، وأن الولايات المتحدة تملك اكبر سوق للمال في العالم، كما أن الولايات المتحدة تملك اكبر دين في العالم من الناحية المطلقة والذي يقدر حاليا بـ 15.2 تريليون دولارا. هذا الدين الضخم، والذي يصنف على أنه من افضل الديون السيادية في العالم يوفر، بصفة خاصة القصير الأجل منه، للبنوك المركزية ميزة هامة وهي الاستفادة من احتياطياتها من النقد الأجنبي بالاستثمار في هذا الدين وفي ذات الوقت التمتع بميزة سيولة هذه الاحتياطيات.

الثلاثاء، يناير ١٠، ٢٠١٢

سوق العمل الأمريكي يتحسن على نحو ملحوظ (1/2)


نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 10/1/2012
صدر يوم الجمعة الماضي التقرير الشهري لمكتب إحصاءات العمل الأمريكي بوزارة العمل الأمريكية، والذي حمل مفاجأة غير متوقعة لجميع المراقبين لسوق العمل الأمريكي، حيث انخفض معدل البطالة على نحو غير متوقع وكذلك كان معدل خلق الوظائف الجديدة في سوق العمل كبيرا على نحو لم يشهده سوق العمل منذ فترة طويلة. فقد أشار التقرير إلى أن إحصاءات سوق العمل توضح أنه تم إضافة 200 ألف وظيفة جديدة خلال شهر ديسمبر الماضي، الأمر الذي أدى إلى تراجع معدل البطالة إلى 8.5%، وهي الظاهرة التي يشهدها سوق العمل الأمريكي منذ 4 أشهر على التوالي، حيث انخفض معدل البطالة من 9.1% في شهر أغسطس الماضي إلى 8.5% في شهر ديسمبر، كما يتضح من الشكل التالي.
شكل رقم 1 معدل البطالة في الولايات المتحدة (ديسمبر 2009 - ديسمبر 2011)
تجدر الإشارة إلى أن تقرير أوضاع سوق العمل الأمريكي يشمل ستة تعريفات لمعدل البطالة تختلف حسب التعريف المستخدم للعاطلين المشمولين بالتعريف. حيث يشمل التعريف الأول لمعدل البطالة فقط العاطلين الذين قضوا 15 أسبوعا أو أكثر في حالة بطالة، ووفقا لهذا التعريف فإن معدل البطالة في الولايات المتحدة يصل إلى 5% فقط في ديسمبر الماضي، أما التعريف الثاني لمعدل البطالة فيشمل العمال الذين فقدو وظائفهم والذين انتهوا من الوظائف ذات الطبيعة المؤقتة كنسبة من إجمالي السكان، ووفقا لهذا التعريف يصل معدل البطالة إلى 4.9%، أما التعريف الثالث فهو التعريف الرسمي لمعدل البطالة، وهو المعدل الذي يتم الإعلان عنه دائما، أي المعدل الذي نتحدث عنه هنا، ويشمل إجمالي عدد العاطلين عن العمل كنسبة من إجمالي قوة العمل المدنية، والذي بلغ 8.5% في ديسمبر الماضي. أما معدل البطالة وفقا للتعريف الرابع فيشمل بالإضافة إلى التعريف رقم 3 عدد العمال المحبطين، Discouraged workers، أي العمال الذين يئسوا من الحصول على فرصة عملة وتوقفوا عن البحث عن العمل، نظرا لأنهم قضوا فترة طويلة في البحث عنه ولكنهم لم يجدوه، وهؤلاء لا يدخلون في قوة العمل المدنية وفقا للتعريف الثالث، وقد بلغ معدل البطالة وفقا للتعريف الرابع 9.1%، أما التعريف الخامس لمعدل البطالة فيشمل بالإضافة إلى التعريف الرابع كافة العمال الذين يعملون بصورة هامشية وتم إلحاقهم بقوة العمل، ووفقا لهذا التعريف يبلغ معدل البطالة 10%، وأخيرا فإن التعريف رقم 6 لمعدل البطالة والذي يعد أوسع تعريف للبطالة، فيشمل بالإضافة إلى العمال المحددين في التعريف الخامس، كافة العمال الذي يعملون لبعض الوقت Part time، ووفقا للتقرير يرتفع معدل البطالة وفقا لهذا التعريف إلى 15.2% في ديسمبر الماضي.
وفقا للتقرير بلغ عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية في ديسمبر 2011 حوالي 240.6 مليون نسمة، وتبلغ قوة العمل المدنية بينهم 153.9 مليون عامل، أي بمعدل مساهمة يصل إلى 64% تقريبا (نسبة العمال إلى إجمالي السكان)، من بين هؤلاء 140.9 مليون عاملا يعملون، و 13.097 مليون عامل في حالة بطالة، وبذلك يصبح معدل البطالة 8.5%، وتجدر الإشارة إلى أن معدل البطالة ليس على نفس الوتيرة بين الفئات المختلفة من العمال أو الأعمار المختلفة لهم. على سبيل المثال، بينما يبلغ معدل البطالة بين العمال في سن 20 سنة أو أكثر حوالي 8%، فإن معدل البطالة بين العمال صغيري السن، أي العمال تحت العشرين (بين 16-19 عاما) يصل إلى 23.1%، بينما يبلغ معدل البطالة بين العمال البيض 7.5%، أما العمال السود وذوي الأصول الأفريقية فقد بلغ معدل البطالة بينهم 15.8%، وبين العمال ذوي الأصول اللاتينية 11%، أما اقل معدل للبطالة بين المجموعات العرقية المختلفة في الولايات المتحدة فقد كان للآسيويين، حيث بلغ معدل البطالة بينهم 6.8%، وهو اقل بكثير من المتوسط على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية.

الجمعة، يناير ٠٦، ٢٠١٢

بعد عشرة أعوام من إطلاقه .. هل يصمد اليورو؟

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 6/1/2012
منذ عشر سنوات خلت تم اطلاق اليورو كعملة موحدة لدول الاتحاد النقدي الأوروبي، والتي نظر اليها على أنها تجسيد لبلوغ هذه الدول قمة التكامل الاقتصادي باستخدام عملة واحدة في جميع أنحاء الدول الأعضاء في الاتحاد، ومع بدء استخدام اليورو تعاظمت الآمال المعلقة على العملة الموحدة بتحوله إلى عملة الاحتياط العالمية الأولى، وباحتمال أن يحل محل الدولار الذي كان يواجه متاعب منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
في خلال فترة قصيرة من إصداره استطاع اليورو أن يثبت أنه عملة قوية ومستقرة ويتزايد تفضيلها عبر أنحاء أوروبا والعالم، وأصبح المكون الثاني في احتياطيات دول العالم بعد الدولار. الجدول رقم (1) يوضح تطور احتياطيات البنوك المركزية لدول العالم خلال الفترة من 2002 حتى الربع الثالث من عام 2011، وفقا لأحدث بيانات صندوق النقد الدولي، ووفقا للجدول بلغت احتياطيات البنوك المركزية في العالم في الربع الثالث من عام 2011 حوالي 10.2 تريليون دولارا، منها 5.4 تريليون دولارا احتياطيات مخصصة، ووفقا للجدول تزايدت احتياطيات البنوك المركزية المخصصة باليورو في مختلف أنحاء العالم من 427 مليار دولارا في عام 2002، إلى 1.4 تريليون دولارا في الربع الثالث من 2011.
يعد عام 2007 هو عام الصعود العالمي لليورو، ففي قمة الفورة الاقتصادية في العالم في هذا العام تصاعدت النداءات باستخدام اليورو كعملة احتياط عالمية بدلا من الدولار، وأخذ الطلب على اليورو في التزايد على نحو واضح مع ميل الدولار نحو التراجع. غير أنه مؤخرا تراجع الطلب العالمي على اليورو كعملة احتياط كما يلاحظ من الجدول أن احتياطيات البنوك المركزية في العالم المخصصة باليورو مالت نحو التراجع في الربع الثالث من عام 2011 مقارنة بالوضع في الربع الثاني من 2011.
كنسبة من إجمالي احتياطيات البنوك المركزية المخصصة، بلغت احتياطيات البنوك المركزية باليورو إلى إجمالي الاحتياطيات المخصصة 23.8% في عام 2002، وقد مالت هذه النسبة إلى التزايد بشكل عام حتى بلغت أعلى مستوياتها في 2009، حيث بلغت 27.6%، قبل أن تميل نحو التراجع إلى 25.7% إلى إجمالي الاحتياطيات العالمية المخصصة في الربع الثالث من عام 2011.




سنة بعد أخرى تزداد المعاملات اليومية باليورو في السوق العالمي للنقد الأجنبي، فوفقا للجدول رقم (2) الذي يوضح توزيع المعاملات اليومية بعملات العالم في السوق العالمي للنقد الأجنبي كنسبة من المعاملات اليومية وفقا لآخر تقارير بنك التسويات الدولية في 2010، يلاحظ أن التعاملات اليومية في سوق النقد الأجنبي باستخدام اليورو مالت نحو التزايد على المستوى العالمي، فوفا للجدول يلاحظ أن نسبة التعامل اليومي بالدولار لليورو إلى إجمالي المعاملات في سوق النقد الأجنبي قد تزايدت من 37.9% يوميا في أبريل 2001 إلى 39.1% من المعاملات اليومية في السوق العالمي للنقد الأجنبي، لاحظ أيضا أن كل عملية تعامل في سوق النقد الأجنبي تتطلب استخدام عملتين، وبالتالي فإن إجمالي نسبة التعامل بالنقد الأجنبي لمجموع العملات لا بد وأن يساوي 200%، بدلا من 100%.




اليوم وبعد أن أكمل اليورو عامه العاشر فإن كل هذه الإنجازات لهذه العملة الدولية تدور التساؤلات حول إمكانية استمرارها كعملة موحدة وكعملة احتياط عالمية. فقد أصبح ينظر عالميا إلى تجربة إصدار اليورو على أنها تجربة مليئة بالثغرات والأخطاء، بسبب أزمة الديون الأوروبية، واليوم انعكست الصورة وأخذ الطلب العالمي على اليورو في التراجع نتيجة للمخاطر المحيطة بهذه العملة. فالوضع الدولي لليورو، يعد الآن أكثر خطورة عن اليوم الذي اصدر فيه، كما أصبحت الصدمات تلاحق اليورو من كل جانب، فما إن تم التوصل إلى حل لمشكلة سيولة اليونان، حتى انضمت إيرلندا إلى قائمة الدول الأعضاء في اليورو المضطربة ماليا، وفي عام 2011 انضمت البرتغال إلى قائمة الدول التي تتطلب إنقاذ مالي. اليوم وبعد أن انضمت إيطاليا إلى القائمة، وهي ثالث أكبر دولة مدينة في العالم وأكبر دولة مدينة أوروبا، أصبح المحللون لا يثقون في قدرة اليورو ربما على اجتياز عام 2012.

على الجانب الآخر نجد أن دولا خارج اليورو مثل أيسلندا، والتي تعرضت لضربات قوية بفعل الأزمة العالمية، تتعافى من أزمتها بعد أن سمحت لعملتها بالانخفاض، بينما تشير استفتاءات الرأي إلى أن الكثير من مواطني دول اليورو يدركون الآن أن عملاتهم القديمة ربما كانت اكثر استقرارا وأمنا من العملة الموحدة؛ اليورو.

من ناحية أخرى فإن النمو في أوروبا، ومنذ الربع الأول من العام الماضي، يواجه الكثير من المتاعب، فمعظم دول منطقة اليورو إما تنمو بمعدلات نمو سالب أو تنمو بمعدلات هامشية للغاية، أو لا تنمو على الإطلاق، واليوم تتأهب أوروبا لدخول أعتاب عام جديد سمته الأساسية هي التقشف من أجل السيطرة على عجز الميزانية ونمو الديون العامة، وهو ما يتوقع أن يتراجع معه النمو على نحو كبير، وتستند هذه السيناريوهات على أن الصادرات الأوروبية إلى الخارج تتراجع على نحو واضح، والاستثمارات الخاصة تميل نحو التراجع نتيجة لخطط التقشف القاسية التي تطبقها بعض الحكومات الأوروبية لكي تضع عجز ميزانيتها تحت السيطرة، ويلاحظ أنه ليس فقط الإنفاق الاستثماري هو الذي يتراجع، وإنما، وهذا هو الأهم، الإنفاق الاستهلاكي أيضا.

العالم الآن منقسم إذن إلى ثلاث مناطق رئيسة، فالولايات المتحدة في جانب، صورتها في 2012 تبدو أكثر استقرار واطمئنانا، خصوصا مع البيانات شبه المطمئنة التي تتدفق من سوق العمل الأمريكي والتي تشير إلى تحسن أوضاع سوق العمل، على الرغم من النمو المتواضع الذي يحققه الاقتصاد الأمريكي حاليا، كذلك تبدو الأوضاع على نحو أفضل في أسيا والدول الناشئة. منطقة واحدة تمثل حاليا مصدر القلق الأساسي في العام وهي أوروبا، وبالتحديد منطقة اليورو، والتي يتوقع أن ترى عاما صعبا في 2012.

لسوء الحظ أن برامج التقشف التي تتبناها الكثير من حكومات الدول الأوروبية هي آخر ما ينتظره الاقتصاد الأوروبي في هذه المرحلة لتحفيز النمو، غير أن الحكومات الأوروبية تريد أن ترسل رسالة مطمئنة للأسواق بأن هذه الحكومات عازمة على تحقيق الانضباط المالي المناسب الذي يمكن أن يبعث ثقة الأسواق في اقتصادات هذه الدول. أوروبا إذن تحتاج إلى مزيد من الطلب الكلي لكي تتلافى تراجع معدلات النمو فيها. للأسف الشديد فإن محفزات الطلب الكلي (بصفة أساسية معدلات الفائدة والتضخم) عند مستويات دنيا حاليا، ومن ثم فإن احتمالات تصاعد الطلب الكلي في المستقبل القريب سوف تكون مقيدة على نحو كبير، وأن عام 2012 سوف يكون مماثلا في تطوراته في أوروبا على نحو مماثل لما حدث في 2011، على أفضل الأحوال، أو ربما أسوأ. الكثير من السيناريوهات تتحدث عن أوروبا مضطربة في 2012 والسيناريوهات الحالية تدور حول أن الاقتصاد الأوروبي سوف يسقط إلى الهاوية، ولكن بالطبع هذه التنبؤات قد تكون خاطئة وقد لا تتحقق.

مع انقضاء الشهر الأخير من 2011 كان اليورو قد تراجع اليورو بالنسبة للدولار بما لا يقل عن 15% من قيمته، ولكنه مع ذلك ما زال أعلى من قيمته بالنسبة للدولار عندما تم إصداره. فهل يسير اليورو في عقده الثاني على نحو سلس؟ شخصيا أميل إلى الاعتقاد بنعم، ففي رأيي أن اليورو عملة أصدرت لتبقى وستظل قائمة، صحيح أن اليورو يواجه امتحانا صعبا وقاسيا حاليا، إلا أنه سوف يستمر كعملة موحدة.

في رأيي أن اليورو سوف ينهار في حالة واحدة وهي تفكك الوحدة النقدية الأوروبية وانهيار معاهدة ماسترخت، ولكي يحدث ذلك لا بد وأن تتعرض أوروبا لأزمة مالية خانقة على نمط ما حدث في 2008 مع انهيار بنك ليمان براذرز، وهذا بالطبع يتطلب انهيار دولة رئيسة في ديونها مثل إيطاليا، على الرغم من أنه ليس هناك ضمان لعدم حدوث مثل هذا السيناريو، إلا أنه من الواضح حتى الآن أن أوروبا تتخذ الإجراءات اللازمة لكي لا يحدث ذلك، وهذا ما صرحت به المستشارة الأمريكية أنجيلا ميركل عندما قالت بأن أوروبا سوف تفعل أي شيء لإنقاذ اليورو. بل وأزيد، أن العالم ربما يفعل أي شيء لإنقاذ اليورو.