السبت، ديسمبر ٣١، ٢٠١١

روابط اليوم السبت 31/12/2011

هذه روابط اليوم السبت 31/12/2012، آخر أيام العام الذي مضى ولم أشعر به، كل عام وانتم بخير. مع دعواتي بعام سعيد على الجميع

أهم الأخبار عن الاقتصاد الصيني في 2011

انجيلا مركل تعلن أنها سوف تفعل أي شيء لانقاذ اليورو


خمسة توقعات مثيرة لعام 2012


على عهدة الكاتب، هذه الأسهم سوف تتضاعف في 2012، هذه ليست دعوة للاستثمار في هذه الاسهم


فيلم وثائقثي: آخر يوم في الاتحاد السوفيتي السابق

فيلم وثائقي بعنوان محبوسي ديونهم عن ازمة البنوك في 1982

أربعة أفلام وثائقية بعنوان الاقتصاد الأوروبي على حافة الهاوية




أفظع عشر عمليات لشراء السلع الفاخرة في ديسمبر 2011




الجمعة، ديسمبر ٣٠، ٢٠١١

روابط اليوم الجمعة 30/12/2011




الرئيس الفنزويلي شافيز أمريكا أصابت قادة أمريكا اللاتينية بالسرطان !!!                      
http://www.aleqt.com/2011/12/30/article_611625.html

بول كروجمان عن عبء الدين الأمريكي، "أمريكا عليها التزامات كبيرة للأجانب، ولكن الأجانب عليهم التزامات كبيرة لأمريكا أيضا "
" http://krugman.blogs.nytimes.com/2011/12/29/the-burden-of-debt-again-again/

وجهات نظر مختلفة عن مستقبل سعر الذهب في العالم
http://www.bloomberg.com/news/2011-12-29/gold-bubble-seen-by-soros-ends-bull-year-on-bear-market-brink-commodities.html

كروجمان "كينز على صواب" والتركيز على العجز بدلا من الانفاق هو الذي عقد الأزمة
http://www.nytimes.com/2011/12/30/opinion/keynes-was-right.html?_r=2&smid=tw-NytimesKrugman&seid=auto

الركود الاقتصادي العالمي القادم، اذا حدث، سوف يكون بسبب ازمة الديون.
http://www.thecomingdepressionblog.com/the-coming-economic-crash-caused-by-world-debt/

هل يتحول الربيع العربي إلى خريف اقتصادي

نشر في صحيفة الاقتصادية يوم الجمعة 30/12/2011

عندما قامت ثورات الربيع العربي، بصفة خاصة في تونس ومصر، كانت أبرز المسببات للانتفاضات الشعبية ضد الحكام في هذه الدول هي الضغوط الاقتصادية الشديدة التي يرزح تحتها السواد الأعظم من الناس في ظل مناخ سياسي يتسم بالفساد الشديد، وقد كانت السيناريوهات التي تتناول مستقبل دول الربيع العربي تؤكد على أن ما يحدث هو تحول نحو الأفضل سواء من الناحية السياسية أو من الناحية الاقتصادية، نتيجة الكفاءة المتوقعة في توجيه الموارد واستغلالها لمصلحة الجمع الأعظم من الناس في مناخ يتسم بالشفافية والمسائلة، وفي ظل توزيع أكثر عدلا للدخل وفرص أكثر تكافؤا للجميع.
هذه السيناريوهات المتوقعة يقف أمامها اليوم العديد من العقبات، والصورة في هذه الدول تبدو اليوم قاتمة بعض الشيء. فالأخبار التي تأتينا من دول الربيع العربي توحي بأن الربيع العربي قد يتحول إلى كارثة اقتصادية تلحق بالدول التي يلفها هذا الربيع حاليا. ذلك أن الضغوط تتزايد في هذه الدول على نحو واضح بسبب تراجع مؤشرات النمو في القطاعات الاقتصادية المختلفة، بصفة خاصة الرائدة منها، وانفجار العجز في المالية العامة بصورة غير مسبوقة، فضلا عن تراجع احتياطيات النقد الأجنبي إلى مستويات تثير المخاوف. على سبيل المثال يشير التدهور السريع في احتياطيات النقد الأجنبي للبنك المركزي المصري إلى أن مصر ربما تكون مقدمة على أزمة سيولة حادة في المستقبل قد تضطرها إلى التوقف عن سداد التزاماتها إلى الخارج، أو ما يعد إفلاسا من الناحية الفنية، وقد يصاحب هذه الأوضاع تدهور قيمة الجنيه المصري وذلك نتيجة استنزاف احتياطيات النقد الأجنبي؛ خط الدفاع الأول عن الجنيه.
الوضع لا يختلف في تونس بشكل كبير عن الحالة المصرية من الناحية الاقتصادية، وان كانت الأوضاع السياسية هناك أكثر هدوء أو اكثر استقرارا، ربما للفروق في الحجم السكاني، أو ربما لأن النظام السابق في تونس قد تم اقتلاعه من جذوره، بينما ما يزال على رأس السلطة في مصر بعض مخلفات النظام السابق ممثلة في المجلس العسكري، الذي ينظر إليه الثوار على أنه أكبر دليل على أن الثورة لم تنته بعد، أو ربما بسبب ما يحاك لمصر في الظلام من مؤامرات لضرب استقرارها والحيلولة دون نقل السلطة بشكل سلس إلى سلطة مدنية منتخبة، إلى آخر هذه التفسيرات للأوضاع الحالية في مصر، وبغض النظر عن تلك التفسيرات، فإن الربيع العربي لا شك له تكلفته المالية الضخمة، بسبب عدم توافق تطلعات الجماهير التي عاشت لفترات طويلة من الزمن في أوضاع اقتصادية سيئة مع إمكانيات الدولة وقدرتها على استيفاء استحقاقات هذه التطلعات في الوقت الحالي، حيث يأتي الربيع العربي في ظروف غير مناسبة تماما لهذه الدول من الناحية الاقتصادية والمالية.
المشكلات الاقتصادية لدول الربيع العربي ثلاثية الأبعاد:
ففي البعد الأول تواجه هذه الدول تراجعا واضحا في معدلات النمو ومن ثم في إيراداتها العامة، في الوقت الذي تميل فيه تكاليف المعيشة نحو الارتفاع لأسباب كثيرة، منها قيود العرض المصاحبة لظروف الثورة، وحرص الحكومات الجديدة على رفع الحد الأدنى للأجور دون أن يصاحب ذلك نمو مماثل في الناتج المحلي.
البعد الثاني هو العجز الكبير في المالية العامة لدول الربيع العربي بسبب تزايد الإنفاق العام الناجم عن حرص الحكومات على استيفاء الاحتياجات الأساسية للسكان وتحسين مستوياتها، في الوقت الذي تميل فيه الإيرادات العامة نحو الانخفاض بسبب تراجع معدلات النمو وانخفاض قدرة الممولين على دفع الضرائب، ويتسبب العجز المالي الحالي في ارتفاع الدين العام المحلي إلى مستويات غير مستدامة، والى حد ما الدين الخارجي.
البعد الثالث وهو التراجع الكبير في موارد النقد الأجنبي لهذه الدول واستنزاف احتياطياتها منه نتيجة لخروج رأس المال وتراجع موارد النقد الأجنبي التقليدية بصفة خاصة عوائد السياحة، فضلا عن توقف تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة نظرا للظروف السياسية غير الموائمة. على سبيل المثال تتعرض موارد مصر الرئيسة من النقد الأجنبي حاليا لضربات حادة، خصوصا صادراتها السلعية وإيراداتها من السياحة، نظرا للتراجع الكبير في أعداد السائحين بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني الذي تتعرض له البلاد حاليا. فمنذ بدء الثورة وحتى الآن تراجع الاحتياطي المصري من النقد الأجنبي بحوالي 19 مليار دولارا نتيجة لخروج رؤوس أموال أجنبية بمقدار 8.8 مليار دولارا، ودفع 4.9 مليار دولار لخدمة الديون الخارجية المصرية (فوائد وأقساط سداد)، وتحويل  2.6 مليارا من قطاع البترول ودفع 2.6 مليارا لاستيراد السلع التموينية.
لحسن الحظ أن موردين أساسيين للنقد الأجنبي وهما (على التوالي من حيث الأهمية) تحويلات المصريين العاملين في الخارج وإيرادات رسوم العبور في قناة السويس هي من المصادر شبه المستقرة لتدفقات النقد الأجنى والتي من المنتظر أن تشهد ارتفاعا في المرحلة القادمة. غير أن أفضل التقديرات لهذين الموردين تدور حاليا حول حوالي 17 مليار دولارا، وهو مستوى لا يتوافق مع الاحتياجات الضخمة لمصر من النقد الأجنبي في المرحلة الحالية.
بين هذه الأبعاد الثلاثة نجد أن استيفاء الاحتياجات الأساسية للجماهير من رفع في مستويات الأجور وزيادات في مستويات المعاشات التقاعدية ورفع لمخصصات الدعم الحكومي للسلع والخدمات المختلفة التي تقدمها الدولة، والرغبة في تحسين مستويات الخدمات التي تؤديها المؤسسات العامة، سواء الإنتاجية أو الخدمية، يحتل أولوية أولى لدى صانع السياسة الاقتصادية في مرحلة ما بعد الثورة، حتى يشعر المواطن بأن هناك تحسنا في أوضاعه نتيجة لها، وهو ما يرفع من الإنفاق العام لتلك الدول على نحو غير مسبوق. على سبيل المثال قدر العجز المبدئي للميزانية العامة المصرية في عام 2012 بـ 134 مليار جنيه (22 مليار دولارا تقريبا)، غير أن التقديرات الجديدة تصل بهذا العجز إلى 182 مليار جنيها (30 مليار دولارا) وهو عجز تنوء إمكانيات الدولة على تحمله على المدى الطويل.
للتعامل مع هذه الفجوة التمويلية الضخمة تفكر مصر حاليا في فرض ضرائب جديدة أو توسيع نطاق الضرائب القائمة بما في ذلك الضرائب على المستثمرين، وتعديل الضرائب الجمركية بما لا يخل بالتزامات مصر نحو منظمة  التجارة العالمية، وهي جميعها إجراءات انكماشية لا تساعد الاقتصاد الوطني في مثل هذه الظروف وسوف تؤثر سلبا على معدلات النمو المتوقعة، ناهيك عن ضعف حصيلتها المرتقبة في ظل الظروف الحالية وأخذا في الاعتبار درجة كفاءة الإدارة الضريبية في التحصيل.  
في رأيي أنه على الرغم من إعلان الحكومة المصرية بأنها سوف تقوم بتمويل جانب كبير من هذا العجز من خلال الاقتراض الخارجي لما يتراوح بين 10-12 مليار دولارا، إلا أن هذه السيناريو تحوم حوله العديد من الشكوك لعل أهمها توقف تدفقات المساعدات إلى الاقتصاد المصري بعد الثورة بصورة شبه تامة، كذلك فإن هناك نوع من التباطؤ من جانب المؤسسات الدولية والجهات المتعددة الأطراف التي وعدت بإقراض مصر في إبرام هذه القروض، من ناحية ثالثة فإن انخفاض التصنيف الائتماني لمصر من قبل مؤسسات التصنيف الائتماني العالمية عدة مرات بعد الثورة إلى مستويات متدنية نتيجة لتردي الأوضاع السياسية التي تتفاقم يوما بعد الآخر تحت دوي هدير الجماهير في الميادين الرئيسة في مصر، والتي على ما يبدو أنها غير مبالية بمآل الاقتصاد المصري وأوضاعه المتردية حاليا، يؤدي إلى ارتفاع علاوة المخاطرة على معدلات الفائدة التي ستصدر بها السندات المصرية، ويجعل من خدمة هذه الديون الجديدة مسألة ذات تكلفة عالية للاقتصاد المصري. لذلك أتوقع أن يتم تمويل الجانب الأكبر من هذه المستويات المرتفعة للعجز من خلال السندات المحلية، وهو ما سيؤدي إلى رفع الدين المحلى إلى مستويات كبيرة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ويجعل معدل خدمة هذا الدين إلى الناتج أعلى من معدل النمو الحقيقي في الناتج المحلي، الأمر الذي يجعل الدين العام غير مستدام.
الخلاصة هي أنه وحتى هذه اللحظة فإن الربيع العربي، على الرغم من أنه قضى على أنظمة ديكتاتورية ذات سمعة سيئة وفتح المجال على مصراعيه أمام الخيارات الحرة للشعوب حول طبيعة وكنهة من سيحكمونها، إلا أن تطورات الأوضاع على الأرض حتى الآن لا تبشر بالخير وأن الربيع العربي قد يمر بخريف اقتصادي طويل قبل أن تستقر الأوضاع وتتحسن قدرة تلك الدول على النمو والانطلاق نحو مستقبل جديد.

الثلاثاء، ديسمبر ٢٧، ٢٠١١

الإخلال بتوازن الميزانية العامة للدولة إخلال بمبدأ المحاسبة بين الأجيال

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ  الثلاثاء 27/12/2011.
الميزانية العامة للدولة هي أحد الحسابات القومية التي يتم فيه تسجيل الإيرادات العامة للدولة من مصادرها المختلفة وكذلك كافة نفقاتها العامة على الأوجه المختلفة للإنفاق في الدولة، وبشكل عام هناك نوعان من الميزانية العامة، الأول هو مشروع الميزانية، وهو عبارة عن تقدير (تنبؤ) لإيرادات الدولة ونفقاتها خلال فترة زمنية مقبلة، يطلق عليها السنة المالية، والثاني وهو الحساب الختامي للدولة، والذي يمثل ما تم إنفاقه بالفعل من نفقات وما تم تحصيله بالفعل من إيرادات، ومن هذا المنطلق يعد الحساب الختامي أهم، كوثيقة، من مشروع الميزانية العامة للدولة. من ناحية أخرى يساعد الحساب الختامي في عملية إعداد الميزانية الجديدة وذلك بتقييم ما تم إنجازه من الأهداف المالية في الميزانية السابقة، ومقارنة ذلك مع الأهداف التي كانت موضوع سلفا في مشروع الميزانية، ثم التعرف على كفاءة تكلفة الخدمات التي تم تقديمها من خلال مقارنة ما تم إنفاقه فعلا بإجمالي الخدمات المقدمة.

ليس هناك اتفاق على نقطة زمنية محددة لبدء الميزانية العامة للدولة، فبعض الدول تبدأ ميزانيتها المالية مع بداية السنة في شهر يناير، بينما تبدأ بعض الدول ميزانياتها من شهر أبريل، أو من شهر يوليو وذلك لاعتبارات عدة خاصة بالإدارة المالية للدولة، ويفترض بالإضافة إلى الميزانية السنوية، أن تقوم الإدارة المالية الحكومية بعمل ميزانيات شهرية وربع سنوية لكي تعكس التوقيتات الأكثر دقة للإيرادات المحصلة وكذلك النفقات للوقوف على النقاط الزمنية التي تتسع فيها الفجوة بين الإيرادات والنفقات وعمل خطة مناسبة لسد هذه الفجوات خلال السنة، بدلا من أن تتعرض الإدارة المالية لازمات سيولة خلال السنة.

لإعداد الميزانية العامة للدولة تقوم الإدارة المالية (غالبا ما يطلق عليها وزارة المالية، أو وزارة الخزانة في بعض الأحوال) بحصر احتياجات الجهات الحكومية المختلفة والتي يتم سيتم تمويلها خلال السنة المالية القادمة، والتي يفترض أن تستند أساسا إلى البرامج التي ستقوم هذه الجهات بتنفيذها (سوف نفصل في هذه النقطة لاحقا)، ثم حصر الإيرادات العامة للدولة من مصادر التمويل المختلفة، ثم القيام بعمل موائمة ما بين تلك التقديرات للنفقات والسيناريوهات المعدة للإيرادات بما يتوافق مع خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وللميزانية العامة في الدول المختلفة أهداف متعددة نذكر منها بشكل عام قياس الأداء الفعلي للبرامج والأنشطة الحكومية، وتقييم الأداء الحكومي وذلك بمقارنة الإيرادات والمصروفات التقديرية في مشروع الميزانية العامة مع تلك الفعلية في الحساب الختامي للدولة، وضبط وترشيد النفقات العامة، والرقابة على أصول وممتلكات الجهات الحكومية المختلفة، والتحقق من التزام الجهات الحكومية باللوائح والقوانين المالية للدولة.

يمكن تقسيم الميزانيات العامة للدول، بشكل عام، إلى الميزانيات العاديـة، وهي تلك الميزانيات التي تعـد فـي الظــروف العاديـة وتمول مـن الإيرادات التقليديـة، وتتضمن المصروفات المختلفة للدولة من مصروفات جارية ورأسمالية، والميزانيات غير العادية، وهي تلك الميزانيات التي تعد في الظروف الطارئة كالحروب والكساد والكوارث، ويكمن الفرق بين هذين النوعين من الميزانيات في طريقة تمويل الإنفاق العام، ففي النوع الأول يتم التمويل من المصادر الاعتيادية للدولة مثل الضرائب، أما النوع الثاني فيتم تمويله من مصادر استثنائية، على سبيل المثال سحب الدولة من احتياطياتها العامة أو بفرض ضريبة استثنائية أو من خلال الاقتراض. من ناحية أخرى تنقسم الميزانيات حسب الإنفاق إلى ميزانيات جارية، وتتضمن الإنفاق الجاري على المرافق والخدمات التي تقدمها الدولة، والميزانيات الاستثمارية وتتمثل في اعتمادات الإنفاق على المشروعات المختلفة التي تتولى الدولة القيام بها مثل البنى التحتية من طرق وجسور وموانئ أو مؤسسات تنشئها الدولة مثل المدارس والمستشفيات ..الخ. وللنوع الأخير من الميزانيات أهمية خاصة حيث تعتمد تنافسية الدولة على مقدار ما تنفقه سنويا في هذا الجانب.

غالبا ما يتم تبويب نفقات الدولة باستخدام عدة مداخل، إما من خلال التبويب إداريا، أي حسب الوزارات والإدارات الحكومية مثل وزارة الداخلية ووزارة الدفاع.. الخ، أو قد يتم التبويب من الناحية الموضوعية أي من خلال تجميع النفقات ذات الطبيعة المتجانسة في مجموعات، مثل الأجور والمرتبات، الدعم، المدفوعات التحويلية، المشروعات العامة والمرافق .. الخ. كما يمكن أن يتم التبويب من الناحية الاقتصادية بتقسيم الإنفاق إلى انفاق جاري ويشمل كافة جوانب الإنفاق اللازمة لإدارة النشاط الجاري للدولة، مثل الرواتب والمشتريات الحكومية، والإنفاق الرأسمالي ويشمل الإنفاق على تشييد المشروعات الإنشائية المختلفة، أو ما يطلق عليه رأس المالي الثابت، والإنفاق التحويلي ويشمل الإنفاق على التحويلات المختلفة التي تقوم بها الدولة (مثل الدعم) سواء كانت هذه التحويلات داخلية أو خارجية.

ولا شك أن عملية إعداد الميزانية العامة للدولة تتطلب جهدا كبيرا من الإدارة المالية في الدولة وكذلك أجهزة الدولة المختلفة، باعتبار أن مشروع الميزانية هو ترجمة لبرامج الإنفاق والإيراد لهذه الأجهزة خلال فترة زمنية قادمة، وبشكل عام تعكس الميزانية العامة للدولة السياسات العامة للدولة، وخططها التنموية وبرامجها الاجتماعية. حيث تعكس طبيعة النفقات العامة للدولة اتجاهات الإنفاق العام بها، على سبيل المثال فإن ارتفاع ميزانية الإنفاق الاستثماري يعكس الجهود التنموية للدولة واتجاهات التحول المستقبلي التي تسعى إليها في هيكل القطاعات الاقتصادية المختلفة للدولة. من ناحية أخرى فإن ارتفاع انفاق الدولة على برامج الرفاه مثل الدعم وغيرها من أشكال المساعدة الاجتماعية التي تقوم بها الدولة يعكس اهتمام الدولة برفاهية الفرد فيها. من جانب آخر فإن طبيعة الإيرادات العامة للدولة تعكس طبيعة النشاط الاقتصادي في الدولة، وما اذا كانت هذه الدولة متقدمة أم نامية، على أنه يفترض بشكل عام أن الإيرادات العامة للدولة لا تربط بإنفاق محدد للدولة، وإنما تستخدم في تمويل الإنفاق العام في مجموعه.

يفترض أن تعمل الإدارة المالية للدولة على الحفاظ على توازن الميزانية العامة للدولة، وذلك بتجنب العجز في الميزانية، لما له من آثار سلبية على المدى الطويل، والتي أهمها ارتفاع مستوى الدين العام للدولة إلى الناتج المحلي الإجمالي والذي قد يحمل مخاطر على السلامة المالية للدولة اذا ما تجاوز الحدود المأمونة، كنسبة من الناتج المحلي، نظرا لارتفاع تكلفة خدمة هذا الدين لاحقا بالنسبة للإيرادات العامة للدولة، أو قد يؤدي في أسوأ الحالات إلى عجز الدولة عن خدمة هذه الديون ومن ثم إعلان إفلاسها. كذلك فإن استمرار الفائض في الميزانية العامة للدولة قد يعكس حقيقة أن الإدارة المالية للدولة لا تستخدم الإيرادات العامة في الإنفاق الاستثماري المناسب، أو أن الإيرادات الضريبية للدولة أعلى من اللازم الأمر الذي يستدعي النظر في تخفيض معدل الضريبة الذي تحصله الدولة.  

من ناحية أخرى فإن الإخلال بتوازن الميزانية العامة للدولة يعد إخلالا بمبدأ المحاسبة بين الأجيالInter-generational accounting، حيث يفترض بشكل عام أن تتم الموازنة ما بين العوائد التي سيحصل عليها الجيل الحالي من الإنفاق العام وكذلك التكاليف التي سيتحملها في مقابل هذا الإنفاق، وذلك مقارنة بالعوائد والتكاليف المالية التي ستتحملها الأجيال القادمة من القرارات المالية التي سيتم اتخاذها حاليا. ذلك أن حدوث عجز في الميزانية العامة للدولة الآن يترتب عليه تحول هذا العجز إلى عبء على كاهل الأجيال القادمة عندما تتم خدمة أو سداد الدين العام الناجم عن هذا العجز، وذلك في صورة ضرائب أعلى تجمع من الأجيال القادمة في مقابل نفقات وخدمات تم تقديمها أساسا للجيل الحالي. وتبدو أهمية هذه النقطة أكثر وضوحا في حالة الدول النفطية، حيث تتركز الإيرادات العامة للدولة أساسا في الإيرادات الناجمة عن بيع النفط. إذ يفترض أن الثروة النفطية في باطن الأرض هي حق لكل الأجيال التي ستعيش في الدولة، وبما إن هذه الثروة النفطية تعد ناضبة وغير قابل للتجدد، فإن عملية الاستخراج لا بد وأن تضع في الاعتبار ما سيستفيده الجيل الحالي من الإنتاج الذي سيتم استخراجه، وما سوف يتم استخدامه من هذه الإيرادات لضمان مستوى مرتفع من المعيشة والرفاه للأجيال القادمة.

وقد تطورت مداخل إعداد الميزانية العامة للدولة بصورة كبيرة في دول العالم، فهناك مدخل الميزانيات الإضافية، والذي ينظر إلى ميزانية العام الماضي على أنها تجسد الخيارات التي تمت مسبقا أو التوازن السياسي حول مستويات الإنفاق على البرامج الحكومية الحالية، وعلى ذلك فبدلا من إجراء تعديلات جوهرية على الميزانية العامة كل عام، سوف ينظر إلى الميزانية الحالية على أنها الأساس الذي تجرى عليه تعديلات طفيفة في مستويات الإنفاق والتمويل للبرامج المختلفة في الميزانية وذلك لا عداد مشروع ميزانية العام القادم. ومن الواضح أن مدخل الميزانيات الإضافية هو مدخل عملي يهدف إلى تقليل الموارد التي تذهب إلى عملية إعداد الميزانيات كل سنة وجعل عملية إعداد الميزانية مسألة سهلة بالنسبة للحكومة، الأمر الذي يعطي برامج الحكومة استقرارا اكبر، ويجعلها اقل عرضة للتوقف، كما انه يقلل من الخلاف السياسي ومن احتمالات إدخال تغيرات حادة في سياسة الإنفاق العام للحكومة، غير أن أهم عيوب هذا المدخل أنه لا يصلح في الحالات التي تقدم فيها الدولة على إجراء تعديلات جوهرية في هيكلها الاقتصادي أو في هياكل الإنفاق العامل بها.

المدخل الثاني وهو مدخل إعداد الميزانيات على الأساس الصفري Zero Based Budgeting، ووفقا لهذا النظام ينبغي على كل هيئة أن تبرر برامج الإنفاق الخاصة بها بصورة سنوية والا تواجه تخفيض الاعتماد المخصصة للبرامج التي لا تستطيع الدفاع عنها إلى الصفر (أي إلغاء برامج الإنفاق الخاصة بتلك البرامج نهائيا)، وقد تم إعداد الميزانية على الأساس الصفري لأول بواسطة الرئيس السابق للولايات المتحدة جيمي كارتر عندما كان حاكما لولاية جورجيا في عام 1973، غير أن تطبيق المدخل فشل لأول مرة بسبب الجهد الكبير والوقت اللازمة لإعداد الميزانية على هذا الأساس، ثم بدأ تطبيق المدخل من الناحية الفعلية على نطاق الولايات المتحدة في عام 1977، ويلقي مدخل إعداد الميزانية عل الأساس الصفري بعبء تبرير النفقات الحكومية على البرامج المختلفة لها على الإدارات الحكومية المنفذة أو المقترحة لتلك البرامج، ويعاب على هذا المدخل أنه يتطلب جهدا كبيرا من الجهات الحكومية في جمع البيانات وتوفير الأرقام والمعلومات التي تبرر الإنفاق على كل برنامج من البرامج التي تقوم بها، الأمر الذي يترتب عليه ضياع جهد وموارد كبيرة كان من الممكن استخدامها لتقديم الخدمات العامة بدلا من تقييم هذه الخدمات. كذلك أثبتت التجربة أن عملية جمع البيانات قد تكون غير فعالة أو ربما غير ممكنة بسبب الروتين الحكومي الذي يمنع التدفق الحر والسريع للمعلومات بين الجهات الحكومية المختلفة في التوقيت المناسب. اكثر من ذلك فان تطبيق هذا المدخل في الولايات المتحدة لم يترتب عليه أي تحسن في كفاءة الحكومة، وكان من نتيجة ذلك أن التكاليف الإضافية التي تتحملها الجهات لتوفير المعلومات والأرقام وتحليلها تجاوزت العوائد المتوقعة من النظام، والتي غالبا ما تهمل عند تقييم برامج الجهات الحكومية.

المدخل الثالث هو تحليل فعالية التكاليف، وهو أسلوب يهدف إلى تحديد توليفة البرامج الحكومية التي تحقق هدف محدد بأقل التكاليف، ويتم ذلك من خلال اختيار الهدف الذي تسعى الإدارة الحكومية إلى تحقيقه، ثم حصر مجموعة البرامج الحكومية التي يمكن أن تؤدي إلى تحقيق هذا الهدف، ثم المقارنة بين تلك البرامج واختيار البرامج التي تحقق هذا الهدف بأقل تكلفة ممكنة، ويساعد مدخل تحليل فعالية التكاليف صانع السياسة على اكتشاف أوجه التعارض بين البرامج من خلال وضع الميزانيات لكافة الجهات التي تشترك في تحقيق رسالة واحدة، مثل الشرطة والإعلام والبلدية .. الخ، وحث الجهات الحكومية المختلفة على المنافسة على الأموال المحدودة المتاحة في اطار الميزانية من خلال تطوير برامج فعالة في تخفيض التكاليف للبرامج الحكومية وزيادة كفاءتها.

المدخل الرابع وهو ميزانية البرامج، ويعرف البرنامج في اطار الميزانية العامة على أنه مزيج من الأنشطة الحكومية التي تؤدي إلى الحصول على ناتج محدد، وتعد ميزانية البرامج نظام لإدارة الإنفاق الحكومي من خلال محاولة مقارنة مقترحات البرامج لكل المؤسسات الحكومية التي يعهد إليها مسئولية تحقيق أهداف متشابهة (البرنامج)، وهو ما يسمح باكتشاف أوجه الإنفاق المتكرر أو المتشابهة أو المتناقضة بين الجهات المختلفة، الأمر الذي ربما يكون من الصعب اكتشافه في برامج هيئات حكومية لها نفس الرسالة وتهدف إلى تحقيق هدف مشترك، الأمر الذي ما يؤدي إلى ترشيد التكاليف من خلال توليفة الإجراءات الحكومية التي تحقق البرنامج بأقل تكلفة ممكنة.

ومن احدث المداخل في إعداد الميزانيات العامة للدول هو استخدام إعداد الميزانيات على أساس الأداءPerformance-Based Budgeting، ويرتكز هذا المدخل على افتراض أن الإدارات الحكومية لابد وأن يكون لها استراتيجية وأهداف تسعى إلى تحقيقها في ضوء الرسالة التي تتبناها كل إدارة، حيث تقوم كل إدارة حكومية باستخدام مواردها في ضوء أهدافها والنتائج التي حققتها في هذا المجال. من الواضح من التعريف أن أسلوب ميزانيات الأداء يفرض تخصيص الموارد (الإيرادات) لتحقيق أهداف محددة للإدارة المالية للدولة، والمنبثقة عن الأهداف الفرعية لإدارات الدولة المختلفة.

 بغض النظر عن أسلوب تقدير النفقات فإن عملية إعداد الميزانية تتم بناء على الأهداف الخاصة بمشروع الميزانية المقبلة من جانب كل إدارة حكومية وعلى مستوى الحكومة المركزية، ثم حساب متطلبات تحقيق هذه الأهداف من جوانبها المختلفة بما في ذلك الطاقة البشرية اللازمة والمواد والتجهيزات وغير ذلك من الموارد. ثم تأتي مهمة تقدير الإيرادات، وتعد مهمة تقدير الإيرادات اسهل نسبيا من مهمة تقدير النفقات، كما أنها أدق نسبيا أيضا والتي تشمل تقدير الإيرادات الضريبية وغيرها من مصادر الإيرادات كالرسوم.

غير أن الوضع في الدول النفطية مثل المملكة العربية السعودية يعد أعقد نسبيا نظرا لارتفاع درجة عدم التأكد المصاحبة لتقدير للإيرادات النفطية مقارنة بمصادر الإيرادات الأكثر استقرارا مثل الضرائب. إذا عادة ما يتم حساب الإيرادات النفطية في ضوء عدة سيناريوهات متوقعة لسعر النفط يؤخذ فيها في الحسبان مستويات النشاط الاقتصادي العالمي واتجاهات النمو فيه بشكل أساسي، والاتجاهات المتوقعة لمعدل صرف الدولار الأمريكي، وغالبا ما يتم اختيار السيناريو الأكثر تحفظا من بين هذه السيناريوهات نظرا لطبيعة التقلب الشديد في سوق النفط الخام، ولذلك غالبا ما نجد أن الإيرادات النفطية الفعلية في الدول النفطية تزيد بصورة واضحة عن تقديرات تلك الإيرادات في مشروع الميزانية إلا في الأحوال التي يتعرض فيها سعر النفط العالمي لانخفاض حاد. من ناحية أخرى دائما ما تلجأ الدول النفطية، في حالة التراجع الحاد في الإيرادات النفطية، إلى إجراء تخفيضات في الإنفاق لتتوافق مع سيناريوهات الإيرادات المتوقعة للنفط، ولسوء الحظ غالبا ما يكون الإنفاق الاستثماري هو ما يسهل تخفيضه لأن جوانب الإنفاق الجاري الأخرى والتي تشكل فيها مرتبات موظفي الدولة والدعم المقدم للسكان على السلع والخدمات المختلفة نسبة كبيرة من الإنفاق العام والذي يصعب المساس به.

وأخيرا يفترض من الناحية النظرية عند إعداد الميزانية أن لا يتم إعدادها بعجز كبير أو مستمر، حتى لا يترتب على ذلك تصاعد الدين العام للدولة، الأمر الذي قد يحمل الميزانيات القادمة بأعباء أكبر لخدمتها، ومن ثم انفاق أكبر فعجز أكبر في المستقبل. من ناحية أخرى فإن الفائض الكبير في الميزانية يعكس حقيقة أن الإدارة المالية للدولة لا تخصص الأموال الكافية للاستثمار في البنى التحتية والمشروعات العامة أو لا يتم رصد الأموال اللازمة لتقديم الخدمات العامة على النحو المناسب، أو ربما يعكس حقيقة أن عبء الضرائب المفروض على المجتمع مرتفع ويحتاج إلى مراجعة. لذلك يفترض بعد إعداد سيناريو الميزانية الأول أن تتم إعادة هيكلتها بناء على النتائج الأولية للمشروع من عجز أو فائض، ومحاولة إحداث توازن بين طرفيها؛ الإيرادات العامة والنفقات العامة. 

الجمعة، ديسمبر ٢٣، ٢٠١١

هل يتكامل العرب مع تركيا

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 23/12/2011
في يوم 8 ديسمبر الماضي وجه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوجان من موقعه على تويتر عدة تغريدات أعرب فيها عن ارتياحه لزيادة حجم التبادل التجاري مع الدول العربية، والذي تزايد من 13 مليار دولار عام 2004 إلى 33,5 مليار دولارا في عام 2010، كما بلغت الاستثمار العربية في تركيا 14 مليار دولارا خلال الستة سنوات الماضية، ودعا رجال الأعمال العرب إلى الاستثمار بصورة أكبر في تركيا والانفتاح على العالم من خلالها نظرا لموقعها المتميز، حيث يمكن الوصول إلى ربع سكان العالم في 50 دولة تقريبا من تركيا في غضون أربع ساعات طيران، كما أن الاستقرار الاقتصادي الذي تتمتع به تركيا يعمل على تأمين أنشطة الأعمال للمستثمرين العرب. أما أهم دعوات أردوجان فتلك التي قال فيها بأنه يأمل بإنشاء مناطق تجارة حرة مع البلدان العربية، حيث توجد اتفاقيات للتجارة الحرة بين تركيا والمغرب وتونس مصر سوريا فلسطين والأردن، وأن تركيا ما زالت تتباحث لتوقيع اتفاقية تجارة حرة مع لبنان وليبيا ودول مجلس التعاون الخليجي، واختتم تغريداته قائلا "هدفنا أن نصل مع الدول العربية لاتفاقيات استراتيجية تساهم بالتعاون الإقليمي والتكامل الاقتصادي فيما بيننا".


نبرة أردوجان تعبر عن الإخلاص في النية التركية نحو تقارب أقوى وأكثر فائدة مع الدول العربية، على الرغم من أن تركيا لم تفقد بعد الأمل في الالتحاق بركب السوق الأوروبية المشتركة غربا، إلا إن الإهمال الأوروبي المستمر للمطالب التركية بالانضمام إلى أوروبا الموحدة يغري تركيا على الاتجاه شرقا، وذلك بالتقارب مع الدول العربية التي تجمعها بها الكثير من الصلات أهمها بالطبع التاريخ والدين فضلا عن التقارب الجغرافي، وذلك لتعميق دورها الاستراتيجي في المنطقة، بالصورة التي يتحدث بها أردوجان.


تطورات السياسة الخارجية التركية تسير بشكل أكثر يوما بعد يوم نحو المصالح العربية في صراعها مع إسرائيل، وذلك في أعقاب تراجع العلاقات التركية الإسرائيلية نتيجة أحداث الاعتداء الإسرائيلي على أسطول الحرية التي راح ضحيتها مواطنين أتراك، وإصرار تركيا على أن تقدم إسرائيل اعتذارا عما حدث وكذلك تعويضات للضحايا، وهو ما لم يحدث حتى الآن، الأمر الذي ازعج الطرف التركي وأصر على تخفيض شكل العلاقات السياسية والعسكرية مع إسرائيل.


أعتقد أن نجاح تركيا في إقامة تعاون اقتصادي مع الدول العربية سوف يؤدي إلى زيادة الوزن التركي عالميا، بصفة خاصة بالنسبة لأوروبا التي ستنظر إلى تركيا بعين مختلفة بعد هذا التقارب التركي العربي، وهو ما قد يسرع في البت في طلب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي. أردوجان يريد أيضا أن يطور هذا التقارب بحيث يأخذ طابع مؤسسي في صيغة تعاون اقتصادي مشترك ينتهي بتكامل اقتصادي بين الدول العربية وتركيا كما أشار في تغريدته الأخيرة.


في رأيي أن آفاق التكامل الاقتصادي العربي التركي تواجه العديد من القيود، بصفة خاصة من جانب الدول العربية، ولذلك يفضل أن تأخذ عملية التكامل صيغة بدائية في البداية، وفي حال نجاحها يمكن تطوير هذه الصيغة في المستقبل نحو مراحل أعلى في التكامل. صحيح أن هناك حاجة تركية للعرب، إلا أنه في رأيي، هناك حاجة أكثر إلحاحا من جانب العرب إلى تركيا. فالدول العربية تحوي تناقضات متعددة من الناحية الاقتصادية بصفة أساسية. والتي يلخصها الجدول التالي الذي يعرض المؤشرات الاقتصادية الأساسية للدول العربية مقارنة بتركيا.



فدول الخليج تمتلك ثروات مالية في إطار صناديقها السيادية تتجاوز 1.5 تريليون دولارا حاليا، غير أنها تفتقر إلى التنويع الاقتصادي الذي يضمن استدامة هذه الاحتياطيات الضخمة، في الوقت الذي تتسم باعتمادها الكبير على الخارج في استيراد ما تحتاج إليه من سلع وخدمات، ومثل هذه الخصائص تنطبق بشكل ما على الدول العربية النفطية الأخرى أي ليبيا والجزائر. أما باقي الدول العربية فتتسم بانخفاض مستويات الدخول وضعف القاعدة الإنتاجية بشكل عام وزيادة عدد السكان وارتفاع معدلات البطالة وانخفاض معدلات الادخار والاستثمار وارتفاع مستويات الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وغيرها من الأمراض الكلاسيكية للدول الفقيرة.


الاقتصاد التركي كما يتضح من الجدول يحقق ناتج محلي إجمالي ضخم نسبيا، سواء بالمقاييس العربية أو العالمية، كذلك يعد نصيب الفرد من الدخل متوسطا بالنسبة للدول الغنية في المنطقة أو في العالم. غير أنه يتصف بانخفاض معدلات الاستثمار نسبيا وكذلك بانخفاض معدل الادخار، في الوقت الذي يعد فيه التضخم حاليا من النوع المعقول، بعد أن عانى الاقتصاد التركي لفترات من التضخم المرتفع، كذلك تعد معدلات البطالة مرتفعة نسبيا في تركيا، ذلك أن تركيا تمتلك كتلة سكانية لا بأس بها، وتعد الثانية من حيث العدد في هذه المجموعة من الدول بعد مصر.


تركيا من ناحية أخرى تمتلك قاعدة اقتصادية وموارد متنوعة وثقل دولي لا يملكه العرب بحكم عضويتها في العديد من المؤسسات الدولية مثل حلف الناتو ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تضم اكبر اقتصادات العالم. هذا بالطبع لا ينفي أن تركيا تواجه بعض الاختلالات الاقتصادية، إلا أن التعاون الاقتصادي العربي التركي من الممكن أن يجلب الكثير من المصالح لكلا الطرفين.


الصيغة المقترحة حاليا من أردوجان هي أن يحدث تقارب بين تركيا والعرب في صورة مناطق للتجارة الحرة ، فما المقصود بمنطقة التجارة الحرة؟ منطقة  التجارة الحرة تعد أحد المراحل البدائية للتكامل الاقتصادي بين الدول، والتي تقوم على أساس التزام الدول الأعضاء في المنطقة بإلغاء القيود الجمركية (التعريفة الجمركية) على السلع والخدمات المتبادلة بين الأطراف المشتركة في المنطقة، وكذلك إلغاء القيود الكمية (مثل الحصص التي تفرض على الصادرات والواردات) التي قد تحد من تدفق التجارة بين الدول الأعضاء، مع احتفاظ كل دولة من الدول الأعضاء بالنظام الذي يناسبها في فرض الضرائب الجمركية على السلع التي تأتي من خارج المنطقة، وكذلك باقي السياسات التجارية والاقتصادية، ومن الواضح أن منطقة التجارة الحرة تساعد على تنمية التبادل التجاري بين الدول الأعضاء في الاتفاقية الأمر الذي يرفع مستويات الناتج، ومن ثم الدخل، وكذلك يؤدي الى خلق المزيد من الوظائف في دول المنطقة. 


الدعوة التركية للتكامل مع الدول العربية ربما تأتي في الوقت المناسب تماما لدول مجلس التعاون الخليجي، والتي يدور الحديث منذ فترة عن رغبتها في ضم الأردن والمغرب، ومؤخرا دارت بعض التسريبات عن التفكير في ضم مصر، في رأيي أنه من بين هذه الدعوات، تبدو الدعوة التركية أكثر جذبا وجدوى بالنسبة لدولة مجلس التعاون، سواء من الناحية السياسية، حيث يمكن أن تمثل تركيا حليفا ذا وزن مقارنة بباقي الدول التي تفكر في ضمها للمجلس حاليا، أو من الناحية الاقتصادية نظرا لاتساع آفاق التعاون الاقتصادي عبر المسار التركي.


فالتعاون العربي التركي يمكن أن يساعد تركيا على رفع معدلات الاستثمار، اعتمادا على رؤوس الأموال الخليجية، وذلك إلى المستويات التي تساعد الاقتصاد التركي على اللحاق بالدول الناشئة في العالم، ويرفع من معدلات النمو الاقتصادي به، بصفة خاصة في مجال الصناعة، في ظل الهيكل الحالي لقوة العمل التركية. في ذات الوقت يمكن أن تحقق هذه الاستثمارات الخليجية معدلات مناسبة من العائد وبصورة آمنة، ومثل هذا التدفق لرؤوس الأموال بين دول الخليج وتركيا يفتح قنوات واسعة للتبادل التجاري تمكن دول الخليج من استيفاء الجانب الأكبر من احتياجاتها من تركيا، وتوفير سوق ضخم للمشروعات الصناعية المشتركة، اعتمادا على القوة الشرائية المرتفعة للمستهلكين في دول الخليج، فتتعظم الفائدة من الاستثمارات الخليجية في تركيا.


من ناحية أخرى فإن هذا الاعتماد المتبادل بين دول الخليج وتركيا يمكن أن يفرز جانبا ثالثا من التدفقات التجارية والمالية بين تركيا ودول الخليج وباقي الدول العربية، وذلك من خلال اتفاقيات التجارة الحرة والمعاملة التفضيلية، والمفترض أنها قائمة بالفعل بين الدول العربية، والتي يمكن أن ترفع من مستويات التبادل التجاري بين تركيا وباقي الدول العربية الأمر الذي سيساعد على خلق سوق تجاري متسع أمام الصناعة التركية وهو ما يعظم معدلات العائد على رؤوس الأموال الخليجية، ويساعد على تطوير أشكال التعاون الاقتصادي بين الدول العربية والتي فشلت جميعها في أن تحقق المستهدفات التي تسعى إليها وظلت حبيسة التقارير على الأرفف دون أن ترى النور.

 @elsakka



الجمعة، ديسمبر ١٦، ٢٠١١

دعوة دول الخليج لإنقاذ اليورو

نشر في صحيفة الاقتصادية يوم الجمعة 16/12/2011

وجه معهد بيترسون للاقتصاد الدولي هذا الأسبوع الدعوة إلى الدول النفطية للمساهمة في إنقاذ اليورو وذلك في ورقة بقلم "فيليب فيرليجر" ضمن سلسلة Policy Brief التي يصدرها المعهد، والذي انتقد فيها بشدة الدول المصدرة للنفط بأنها تقف حاليا موقف المتفرج  على ما يحدث لليورو بدون أن تقول شيئا أو أن تفعل شيئا، على الرغم من أنها أحد المشاركين الرئيسيين في الاقتصاد العالمي، منبها الدول النفطية بأنها ستكون أكثر المجموعات الاقتصادية في العالم عرضة لمخاطر الاقتصاد العالمي إذا ما تدهورت أزمة اليورو، حيث سيترتب على أزمة اليورو دخول أوروبا والعالم في ركود طويل نتيجة لتراجع معدلات النمو في الاقتصاد العالمي، الأمر الذي سيصاحبه انخفاض كبير في الطلب على الطاقة، وبالطبع تراجع أسعار النفط ومن ثم الإيرادات النفطية.
للتدليل على صحة حجته يسوق الكاتب ما حدث في أعقاب انطلاق الأزمة المالية العالمية عندما تراجع سعر النفط من 145 دولارا في يوليو 2008 إلى 32 دولارا في ديسمبر من نفس العام، كذلك تراجعت أسعار الغاز بنسبة 30%، وقد ترتب على تراجع الأسعار انخفاض الإيرادات النفطية للدول المصدرة للنفط في عام 2008 بمقدار تريليون دولارا تقريبا، وفي عام 2009 مع تعافي أسعار النفط نسبيا، تراجعت خسائر الدول المصدرة للنفط إلى 600 مليار دولارا، ويحذرالكاتب الدول النفطية من احتمال حدوث انخفاض مستدام في صادراتها النفطية لو تطورت أزمة أوروبا وانتهت بانهيار اليورو، إذ يرى الكاتب أن انخفاض الأسعار المتوقع هذه المرة سوف يكون أكبر مما حدث في 2008 لأن استعادة النشاط الاقتصادي في هذه المرة سوف تكون أبطأ، ذلك أن ما حدث في عام 2008 هو أنه عندما تراجع استهلاك النفط، نتيجة للأزمة، قامت الولايات المتحدة والصين بتبني برامج ضخمة للتحفيز المالي وعلى نطاق واسع، وهو ما أدى إلى تشجيع الطلب على الطاقة، الأمر الذي ساعد التعافي السريع نسبيا لأسعار النفط، مثل هذه الاستجابة ليست متوقعة هذه المرة ومن ثم لن يشهد سوق النفط هذا الدعم إذا ما انطلقت أزمة 2012.
من ناحية أخرى يرى الكاتب أن كساد 2012 سوف يترتب عليه تراجعا أكبر في أسعار النفط بسبب أن البنوك لن تتدخل في أسواق النفط بشراء السلعة وتخزينها مثلما حدث في 2008-2009، لأن البنوك المركزية لن تمد البنوك التجارية بالسيولة اللازمة لذلك هذه المرة. من هذا المنطلق يؤكد الكاتب أن على الدول النفطية أن تتعاون مع صندوق النقد الدولي والصين وغيرها من الدول التي تتوافر لديها احتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي (يقصد باقي دول مجموعة البريكس) في إنشاء تسهيلات طارئة للإقراض بقيمة تزيد عن تريليون يورو (1.32 تريليون دولارا تقريبا)، يتم إدارته بواسطة صندوق النقد الدولي لشراء السندات المصدرة بواسطة دول مثل اليونان إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا، وذلك بهدف تخفيض معدلات الفائدة على هذه السندات من مستوياتها المرتفعة حاليا إلى 3%، وذلك للحيلولة دون انهيار اليورو وللمساعدة على استمرار الطلب على الصادرات النفطية، ويبرر الكاتب هذه الميزانية الضخمة قائلا بأن الوقت قد حان لمضاعفة الجهود من أجل حل المشكلات الاقتصادية للدول المضطربة واستعادة التوازن في ميزانياتها، وهذا لن يتم إلا اذا تم تخفيض معدلات الفائدة وذلك من أجل خفض أعباء خدمة الدين، ويرى الكاتب أن خفض معدلات الفائدة لا يمكن أن يتم إلا اذا قامت الدول النفطية بشراء أعدادا كبيرة من السندات الأوروبية.
وأخيرا يحاول الكاتب أن يعزز حججه بدعوة الدول العربية النفطية بالذات (يقصد دول الخليج) بأن تراجع الإيرادات النفطية سوف يأتي في وقت حرج بالنسبة لهذه الدول، حيث ينتشر الربيع العربي خارج هذه البقعة ضد حكومات الدول الأخرى في المنطقة، وأنه حتى هذه اللحظة استطاعت حكومات هذه الدول، من خلال استخدام الإيرادات النفطية، أن تنأى بنفسها عن هذا المد الثوري، إلا أن تراجع الإيرادات النفطية سوف يحرم هذه الدول من الدخل اللازم للاستمرار في اتباع مثل هذه السياسات التي تضمن الاستقرار السياسي بها.
تعليقي على الدعوة هو أنه على الرغم من بعض المنطقية الظاهرية التي يستند الهيا الكاتب في تبرير دعوته للدول النفطية للتدخل لإنقاذ اليورو إلا أن هناك الكثير من المغالطات في هذه الدعوة والتي تتمثل في الآتي:
·         أن الكاتب يريد نقل مهمة إنقاذ اليورو من على عاتق الدول التي تتعامل به أصلا دول مثل فرنسا وألمانيا وباقي دول أوروبا التي لا تعاني من مشكلة مديونية إلى الدول النفطية، لتتحمل هذه الدول مسئولية أزمة ليست مسئولة عنها لا من قريب أو بعيد. فما ذنب دول الخليج في أن تتحمل أخطاء حكومات عاشت ولفترات طويلة في حالة من الفوضى المالية انتهت بها إلى هذه المأساة الحالية، بل إن بعض حكومات هذه الدول المدينة وشعوبها تقاوم أصلا المحاولات لفرض برامج للتقشف والإصلاح المالي لكي تستمر ماليتها العامة في وضع منفلت، فكيف يطلب من الدول الأخرى مساعدتها في أن تستعيد توازن ميزانيتها، بينما هي لا تفعل أصلا ما يجب عليها أن تفعله لتحقيق ذلك.

·         لا أدري لماذا يبدو الكاتب متأكدا بأن العالم سوف يقف مكتوف الأيدي وهو يرى تراجع معدلات النمو في أعقاب انطلاق أزمة اليورو، وخصوصا مع ارتفاع معدلات البطالة، دون أن يحرك ساكنا ليترك اقتصادات العالم تغرق في ركود طويل الأمد. من ناحية أخرى، لا شك أن انطلاق أزمة كساد جديدة سوف يخفض الطلب على النفط، ولكني لا يتوقع أن تنخفض الأسعار إلى نفس مستويات ديسمبر 2008، نظرا للتطورات الحادثة في الطلب العالمي على النفط، خارج المجموعة الأورو/أمريكية، والتي كانت مسئولة عن نسبة كبيرة من الطلب العالمي على الطاقة قبل انطلاق الأزمة المالية العالمية.

·         إن القول بأن دول الخليج سوف تقع في ورطة نتيجة تراجع  إيراداتها النفطية في هذه المرة بالذات ليس سوى تحليلا سطحيا، فهذه المرة ليست هي المرة الأولى التي تتراجع فيها الإيرادات النفطية لدول الخليج، كما أن الدول الخليجية اليوم أكثر استعدادا من أي وقت مضى لمواجهة أي تراجع في إيراداتها النفطية نظرا للوضع المالي المريح الذي تعيشه منذ فترة طويلة والذي ترتب عليه تراكم قدر لا بأس به من الاحتياطيات. أكثر من ذلك فالسياسات الحالية للدول الخليجية ليست وليدة اليوم حيث تتبع تلك الدول سياسات تعزيز الرفاه لجموع السكان منذ أن تم اكتشاف النفط وليس مع انتشار الربيع العربي، وعلى الرغم من تعرض هذه الدول للعديد من الصدمات في إيراداتها النفطية، إلا أنها لم تتراجع عن سياسات الرفاه التي تتبعها، وأخيرا يبدو أن الكاتب لا يعي حقيقة أن هذه الدول تمتلك احتياطيات وأصول مالية ضخمة في اطار صناديق الثروة السيادية التي تملكها والتي تزيد حاليا عن 1.5 تريليون دولارا والتي تمكنها من التعامل براحة تامة مع تراجع إيراداتها النفطية دون أن تتأثر على النحو الذي يحاول أن يوهمنا الكاتب به.

·         إن دعوة الكاتب للدول النفطية لاستثمار احتياطياتها في شراء سندات الدول المدينة مثل اليونان وإيطاليا هي دعوة لاستثمار أموالها في سندات خردة Junk Bonds لتتحمل بذلك مستويات مرتفعة جدا من المخاطرة على استثماراتها، ومن ثم فإنه مع تعقد أزمات هذه الدول سوف تجد الدول الخليجية نفسها الحلقة الأضعف، حيث سيفرض عليها تخفيض القيمة الاسمية لهذه السندات لاحقا، مثلما حدث مؤخرا مع البنوك المقرضة لليونان والتي أجبرت على أن تتحمل 50% خفضا في القيمة الاسمية لهذه السندات، في الوقت الذي لم تكن هذه البنوك قد حصلت أصلا على عوائد تساوي هذه النسبة.

·         أن الكاتب لا يدرك طبيعة الثروة التي تتمتع بها الدول الخليجية حاليا، حيث تعتبر هذه الثروة استثنائية لأنها تستند إلى مصدر ناضب، وأن هذه الدول لديها مهمة أخرى أصعب وهي كيفية استثمار هذه الفوائض على النحو الذي يساعدها على تنويع مصادر دخولها حتى تتمكن من أن تدخل مرحلة ما بعد الوفرة النفطية بأمان، الأمر الذي يفرض على هذه الدول أن تكون اكثر حرصا عند استثمار هذه الفوائض.

·         أما سؤالي الأخير فهو هل اذا ما تعرضت دول الخليج إلى نفس الأزمة التي تتعرض لها الدول الأوربية حاليا، ترى هل ستقف دول اليورو بجانبها لمساعدتها على تخطي عثرتها على النحو الذي يطالب به الكاتب؟ أي هل هناك اعتماد متبادل بين دول منطقة اليورو ودول الخليج في هذا الجانب؟ أم أنه اعتماد متبادل من طرف واحد، من الدول النفطية إلى دول اليورو وليس العكس؟

الجمعة، ديسمبر ٠٩، ٢٠١١

ترتيبات جديدة لتبادل السيولة بين البنوك المركزية

نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية يوم الجمعة 9/12/2011
أعلن مجلس المحافظين للاحتياطي الفدرالي يوم الأربعاء الماضي، وكذلك الخمس بنوك المركزية الرئيسة في العالم وهي البنك المركزي الأوروبي، والبنك المركزي الياباني والبنك المركزي البريطاني والبنك المركزي الكندي والبنك المركزي السويسري عن عقد اتفاق فيما بينها يقضي بأن تقوم بتبادل ترتيبات السيولة المتبادلة Liquidity Swaps بالعملات المحلية للبنوك المركزية الستة لاقتراض الكميات التي تحتاج إليها من عملات هذه البنوك، بصفة خاصة الدولار الأمريكي، وذلك بمعدلات فائدة منخفضة لتمكين هذه البنوك المركزية من مواجهة احتياجات السيولة الطارئة للبنوك التجارية التي تتبعها، ووفقا للبنوك المركزية الست فإن المدة المقترحة لهذه الترتيبات ستكون على مدى الفترة من 5 ديسمبر 2011 حتى الأول من فبراير 2013.
اتفاقيات ترتيبات السيولة المتبادلة تهدف إلى تجنب حدوث هزة جديدة في الأسواق المالية العالمية وتخفيض المخاطر المحيطة بالدول الأوروبية والناجمة عن تعقد أزمة ديونها السيادية، مع تراكم المؤشرات على قرب حدوث أزمة سيولة عالمية، يمكن أن يترتب عليها انهيار بعض البنوك التجارية، بصفة خاصة في أوروبا، مما قد يؤدي إلى تكرار سيناريو إفلاس بنك ليمان براذرز الذي ترتب عليه انطلاق الأزمة المالية العالمية من الولايات المتحدة إلى كافة أنحاء العالم. ذلك أن انخفاض السيولة لدى البنوك الأوروبية يدفع بمعدلات الفائدة نحو الارتفاع، وهو ما يؤثر بصورة سلبية على الطلب الكلي ومستويات النشاط ومعدلات النمو في وقت تسعى فيه الدول إلى تحفيز النمو في اقتصاداتها. في خطوة موازية لهذا الاتفاق بين البنوك المركزية الرئيسة في العالم قام أيضا البنك المركزي الصيني باتخاذ خطوات لتشجيع عمليات الإقراض للبنوك الصينية وتخفيض تكلفته عليها وتوفير السيولة اللازمة لذلك.
اتفاقيات ترتيبات السيولة المتبادلة بين الاحتياطي الفدرالي والبنوك المركزية الأخرى في العالم ليست جديدة، وإنما مورست على نطاق واسع فيما سبق لتمكين البنوك المركزية من تدبير احتياجاتها بالدولار الأمريكي خلال فترة زمنية محددة، ولتوضيح المقصود بهذه الترتيبات وآلية عملها في حالة الدولار الأمريكي، نفترض أن هذه الترتيبات المتبادلة سوف تتم مع البنك المركزي الأوروبي. يتم تنفيذ هذه الاتفاقيات في حال تعرض البنوك التجارية في منطقة اليورو لنقص في السيولة، على النحو التالي:
-          يقوم البنك المركزي الأوروبي بحصر احتياجات السيولة الطارئة للبنوك التجارية في منطقة اليورو من الدولار الأمريكي، ثم يقوم بطلب تدبير هذه الكمية من الدولار من الاحتياطي الفدرالي، الذي بدوره يقوم بتدبير هذه الاحتياجات على نحو سريع للبنك المركزي الأوربي.
-          يقوم البنك المركزي الأوروبي بتحويل ما يوازي هذه التسهيلات الائتمانية الدولارية بعملته المحلية (اليورو) إلى الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، على أساس معدل الصرف السائد بين الدولار واليورو وقت التحويل.
-          يتولى البنك المركزي الأوروبي توفير احتياجات البنوك التجارية من الدولار الذي تم تدبيره من خلال ترتيبات السيولة المتبادلة مع الاحتياطي الفدرالي.
-          عند انتهاء مدة ترتيبات السيولة المتبادلة يقوم البنك المركزي الأوروبي بإعادة الكميات المقترضة من الدولار إلى الاحتياطي الفدرالي واسترداد ما تم تقديمه من يورو في مقابل هذه التسهيلات الائتمانية.
-          عادة ما يتم تقديم هذه الترتيبات الائتمانية بمعدلات فائدة منخفضة نسبيا وذلك لتقليل تكلفة تدبير السيولة على البنوك التجارية وتشجيع هذه البنوك على الاقتراض في اطار هذه الترتيبات لمواجهة أي مخاطر للسيولة يمكن أن تتعرض لها، ووفقا للاتفاقية الأخيرة سوف يتم حساب معدل الفائدة على هذه الترتيبات الائتمانية من خلال استخدام الرقم القياسي لمعدل الفائدة على الترتيبات الائتمانية الدولارية المتبادلة لمدة ليلة بالإضافة إلى نصف في المئة فقط، مقارنة بنسبة 1% كان يتم إضافتها على الرقم القياسي مسبقا، وبما أن الرقم القياسي لمعدل الفائدة على الترتيبات الدولارية المتبادلة يقترب حاليا من الصفر، فإن هذه المعدلات المتدنية للفائدة تعني ضمنا أن الاحتياطي الفدرالي سوف يوفر هذه التسهيلات الائتمانية للبنوك التجارية الأوروبية بتكاليف أقل من تلك التي تحصل عليها البنوك التجارية الأمريكية والتي تدفع حاليا معدل للخصم يساوي 0.75% على قروضها من نافذة الخصم لدى الاحتياطي الفدرالي، الأمر الذي يقلل من تكلفة مثل هذه الترتيبات ويساعد على حل مشكلة نقص السيولة الدولارية بتكاليف زهيدة.
-          يقوم البنك المركزي الأوروبي بتحويل مدفوعات الفائدة على هذه القروض بالكامل إلى الاحتياطي الفدرالي دون أن يحقق عوائد خاصة على مثل هذه العمليات من البنوك التجارية المقترضة.
-          لضمان عدم تعرض الاحتياطي الفدرالي، وكذلك البنك المركزي الأوروبي، لأي مخاطر ناجمة عن تقلبات معدل الصرف بين الدولار الأمريكي واليورو يتعهد البنك المركزي الأوروبي بأن يقوم بإعادة تسديد هذه التسهيلات بنفس معدل الصرف الذي تم على أساسه تحويل الدولار إلى اليورو يوم التحويل، وهو ما يعني ضمنا تثبيت معدل الصرف بين الدولار واليورو بالنسبة لهذه الترتيبات المتبادلة. من هذا المنطلق فإن المخاطر التي يتعرض لها الاحتياطي الفدرالي في هذا النوع من المعاملات تعد منعدمة، حيث سيتم تجنب مخاطر الصرف في هذه الترتيبات.
-          إذا تعرض أي بنك من البنوك التجارية المقترضة لهذه التسهيلات للإفلاس، فإن البنك المركزي الأوروبي يظل ملتزما بسداد هذه التسهيلات الائتمانية مرة أخرى للاحتياطي الفدرالي في الموعد المتفق عليه للسداد.
نفس هذه الترتيبات سوف يقوم بها البنك المركزي لأي من البنوك الست لتوفير عملته للبنوك المركزية الخمس الأخرى إذا احتاجت إلى ذلك، معنى هذا أن البنوك التجارية للدول المشتركة في الاتفاقيات سوف يتم تدبير احتياجاتها بالدولار الأمريكي واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني والفرنك السويسري والدولار الكندي إذا ما احتاجت إلى ذلك وبمعدلات فائدة مخفضة.
من الواضح أن الترتيبات الائتمانية المتبادلة سوف تؤدي إلى تكثيف سياسات النقود الرخيصة حول العالم وذلك لتسهيل عمليات البنوك وكذلك لتيسير الطلب على الأصول المالية في أسواق المال بما يساعد على الحد من تراجع مؤشرات الأسواق العالمية في ظل تصاعد المخاطر المحيطة بالديون السيادية الأوروبية. حيث يتصاعد القلق الدولي حول الصورة المالية السيئة التي تنعكس بشكل متزايد من أوروبا هذه الأيام، بصفة خاصة من اليونان وإيطاليا والتي ترتب عليها تغيير القادة السياسيين في الدولتين.
ولكن ما الذي يدفع الاحتياطي الفدرالي للإقدام على مثل الخطوة؟ ولماذا الدولار بالذات؟ الإجابة على هذا السؤال تكمن في أن البنوك التجارية في الكثير من دول العالم تواجه صعوبة في اقتراض احتياجاتها من الدولار، وذلك للوفاء بالالتزامات الدولارية المتزايدة عليها، وفي ذات الوقت مواجهة الطلبات المتزايدة من عملاءها باقتراض الدولار. من ناحية أخرى فإن الجانب الأكبر من المعاملات المالية العالمية، كما هو معلوم، تتم أساسا بالدولار الأمريكي.
الاتفاق الذي قام به الاحتياطي الفدرالي تعرض للانتقاد داخل أمريكا من منطلق أن تركيز الاتحاد الفدرالي ينبغي أن يكون موجها نحو الولايات المتحدة، وليس نحو البنوك التجارية في الخارج، ولكن المنتقدين ربما لا يدركون حقيقة أن تعرض أوروبا لمخاطر مصاحبة لنقص السيولة بها سوف ينعكس سلبا على معدلات النمو في الولايات المتحدة، ومن ثم فإن مساعدة الاحتياطي الفدرالي للبنك المركزي الأوربي في هذا الجانب يدخل أيضا ضمن جهود حماية الاقتصاد الأمريكي بالتبعية، ومن ثم فإن اشتراك الاحتياطي الفدرالي في مثل هذه الترتيبات يهدف إلى تأمين الاقتصاد الأمريكي من أية تطورات مفاجئة على الشاطئ الآخر للأطلنطي يمكن أن تجر على الولايات المتحدة الكثير من المتاعب، نتيجة انتقال العدوى المالية من أوروبا لو تعرضت أي من الدول المدينة لمخاطر التعثر، في وقت هي أحوج ما تكون فيه لتجنبها.
من ناحية أخرى فإن المؤسسات المالية الأمريكية لا تواجه في الوقت الحالي أية مشكلات في توفير السيولة اللازمة لها، في الأجل القصير، ولكن اذا تعقدت الأمور داخل الولايات المتحدة فإن الاحتياطي الفدرالي لديه العديد من الأدوات المتاحة التي تمكنه من توفير السيولة لهذه المؤسسات عند اللزوم لدعم الاستقرار المالي لهذه المؤسسات وتوفير الائتمان اللازم لها.
بقي أن نشير إلى أنه على الرغم من أهمية الخطوة في تخفيف ضغوط المخاطر التي تحيط بالاقتصاد العالمي إلا أنها مرة أخرى تتعامل مع أعراض الأزمة وليس مع مسبباتها الجوهرية والتي تهدد الوحدة النقدية الأوروبية حاليا، ومن ثم فإن التأثير المتوقع للاتفاق ربما يكون وقتيا، على سبيل المثال صرح محافظ البنك المركزي الياباني بأن حل أزمة أوروبا لا يكون بمزيد من السيولة فقط، في إشارة إلى ضرورة الاهتمام بالجوانب الاقتصادية والمالية لدول اليورو من أجل تخفيض حجم الديون السيادية، والتي تمثل مربط الفرس في التعامل مع الأزمة. المشكلة التي يواجهها العالم اليوم، بصفة خاصة الدول المدينة هي تعارض سياسات تخفيض الدين مع سياسات تحفيز النمو. فقد حظي النوع الثاني من السياسات بأولوية أولى في بداية الأزمة المالية العالمية، مما ترتب عليه تصاعد مشكلة الديون، الآن التعامل مع مشكلة الديون يتطلب بصورة أساسية انتهاج سياسات تقشفية لوضع الديون تحت السيطرة وهو ما يؤدي إلى آثار انكماشية ومن ثم تعمق تأثير الأزمة الاقتصادية الحالية.