الاثنين، مارس ٣٠، ٢٠٠٩

يجب أن يخضع قادة القطاع المالي للمحاكمة

نشر في جريدة القبس بتاريخ الاثنين 30/3/2009

يختلف القطاع المالي عن أي قطاع اقتصادي آخر في الاقتصاد المحلي من عدة نواح أهمها:
· أن التعامل في هذا القطاع دائما ما يكون بأموال الغير، على سبيل المثال فإن مدير البنك عندما يتخذ قرارا بالإقراض فإنه لا يقرض أو يخاطر بماله الخاص أو أموال البنك، وإنما يقرض ويخاطر بأموال المودعين في البنك، ومن ثم فإنه في حالة حدوث أي توقف عن السداد فإن أقصى تكلفة قد يتحملها مدير البنك هو أن يفصل من عمله، وأقصى خسارة يمكن أن يتعرض لها البنك هي أن يفقد رأس ماله والذي يمثل عادة نسبة صغيرة من أصول البنك، أي حوالي 8% للدول التي تطبق قواعد اتفاقية بازل (1)، و 12% في الدول التي تلتزم باتفاقية بازل (2)، بينما يتحمل المودعون كامل النتائج والتي قد تصل إلى إفلاس البعض، أو خسارته لكامل أمواله، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
· أن تعرض القطاع المالي لهزة غالبا ما يترتب عليه آثارا عنيفة على كافة القطاعات الأخرى في الاقتصاد، لأن القطاع المالي هو بمثابة المحرك لكافة القطاعات الاقتصادية الأخرى في المجتمع، باعتباره القناة الأساسية لتحويل الأموال من المصادر المختلفة للادخار إلى المقترضين والمستثمرين على كافة أشكالهم.
· نتيجة لهاتين الخاصيتين، فان القطاع المالي غالبا ما يكون عرضة لعدد كبير من القيود التنظيمية، على سبيل المثال اشتراط حد أدنى لرأس المال بالنسبة للأصول، كما سبقت الإشارة، أو قيود على الحد الأدنى من الأصول السائلة، أو قيود على الحد الأقصى لحجم الإقراض الموجه لعميل واحد أو قطاع اقتصادي واحد، أو قيود على أنواع المودعات الممكن قبولها، أو حتى قيود على الحد الأقصى على معدلات العائد التي يمكن توزيعها.

وتشير اقتصاديات المال إلى أن هناك ثلاث مشكلات أساسية تواجه عمليات اتخاذ القرارات الائتمانية في مؤسسات القطاع المالي، وغالبا ما تكون تلك المشكلات هي المسئولة عن الأزمات المالية التي يتعرض لها القطاع.
الأولى هي لا تماثل المعلومات، وتعني تلك المشكلة أن طرفا التعاقد المالي أحدهما لديه معلومات أكثر عن طبيعة المخاطر المحيطة بالصفقة أو بالعقد المالي، وهو غالبا ما يكون المقترض، والذي يحرص على ألا يكشف كل هذه المعلومات للطرف الآخر، خوفا من عدم تمكنه من الحصول على التسهيلات الائتمانية أيا كان نوعها، لذلك يفترض في المؤسسة المالية أن تجمع مزيدا من المعلومات عن المتقدمين للتعامل معها، وان تعمل دائما على وضع هؤلاء تحت المراقبة الدقيقة وأن تتابع أعمالهم بشكل مستمر.
الثانية وهي مرتبطة بالمشكلة الأولى وهي الاختيار الخاطئ، أي أنه نتيجة لعدم توافر كافة المعلومات المحيطة بالصفقة المالية يتم اختيار العميل الخطأ ذو مستوى المخاطرة الأعلى. ولكن لماذا يتم اختيار العميل ذو المخاطرة الأعلى في أغلب الأحوال؟ جانب كبير من الإجابة يرجع إلى أن العملاء ذوي المخاطر الأعلى عادة ما يكونون الأنشط والأحرص على تأمين إتمام الصفقة المالية، فتراهم يستخدمون كافة السبل المتاحة لهم بما في ذلك شبكة العلاقات الشخصية والكروت البيضاء.. الخ لتأمين حصولهم على التسهيل المالي. على سبيل المثال فان العميل الذي يرغب في الحصول على قرض لإبرام أحد عقود المشتقات ذات المخاطر العالية، يعلم انه في حالة نجاح تلك الصفقة سوف يحقق أرباحا مرتفعة، ومن ثم فإنه، مدفوعا بالأرباح المتوقعة، يحرص على تأمين العديد من المقابلات وتقديم الكثير من المستندات .. الخ إلى البنك لتأمين الحصول على الصفقة.
الثالثة وهي المخاطر الأخلاقية، وهي أسوأ النتائج التي يمكن أن تتعرض لها المؤسسات المالية، حيث يقوم العميل في هذه الحالة باستخدام الأموال على نحو يعرض مصلحة البنك أو المودعين أو المؤسسة المالية للخطر، مرة أخري يحدث ذلك بسبب مشكلة لا تماثل المعلومات أو الاختيار الخاطئ، كافة الأزمات المالية التي حدثت في دول العالم لم تخلو من هذه المشكلات.
المشكلة الأساسية هي أن القائمين على إدارة القطاع المالي يتمتعون بدرجة عالية من الأمان فيما يتعلق بنتائج القرارات التي يتخذونها وحجم المخاطر التي يعرضون المودعين أو أصحاب رؤوس الأموال لها، حيث غالبا ما ينظر إلى قرارات قادة القطاع المالي على أنها قرارات مرتبطة بالموازنة بين العوائد والمخاطرة، ومن ثم فان احتمال تحقيق خسائر في خضم هذه العملية احتمال وارد، غير أن الأزمة المالية الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن هناك إساءة واضحة لاستخدام مديري المؤسسات المالية لسلطاتهم داخل تلك المؤسسات، بما يتجاوز حدود الاستثمار الآمن للأموال في ضوء مستويات المخاطرة التي تتعرض لها تلك الأموال. أضف إلى ذلك أن الكثير من المؤسسات قد أفرطت في استخدام الابتكارات المالية، مع حالة الفوضى التي سادت القطاع المالي، وعلى نحو أدى إلى تحمل المؤسسات المالية، ومن ثم جمهور المتعاملين لدرجة عالية جدا من المخاطر. فقد شهدت السنوات الأخيرة موجة عارمة من الابتكارات المالية أدت إلى إدخال أدوات مالية واستثمارية دون أن إدراك حقيقي من قبل مبتكري تلك الأدوات لطبيعة المخاطر المحيطة بتلك الأدوات، كما اتضح أن مؤسسات التصنيف أعطت تصنيفات ائتمانية مرتفعة لأدوات لا تفهم طبيعة المخاطرة المحيطة بها في مقابل مادي تحصل عليه تلك المؤسسات، وهي عملية خداع تصل إلى حد الاحتيال على المستوى الكلي.
على سبيل المثال تفتق ذهن عباقرة التمويل العقاري في الولايات المتحدة عن أفكار شيطانية لزيادة حجم أصول مؤسساتهم طمعا في الحافز الإضافي Bonus الذي يحصلون عليه من تضخيم أصول تلك المؤسسات، فابتكروا فكرة القروض العقارية من الدرجة الثانية Subprime mortgage، وهي قروض تمنح لمقترضين لا يستوفون شروط الاقتراض التقليدية التي تتوافر في المقترضين المؤهلين للحصول على قروض من الدرجة الأولى Prime Mortgage. فإذا ما حاول أي من هؤلاء المقترضين التقدم للحصول على قرض فان طلبه سيقابل بالرفض إما بسبب تاريخه الائتماني السيئ، أو أنه ليس لديه مقدم مالي كاف لإتمام الصفقة، أو ليس لديه أي وثائق حول دخله الذي يحصل عليه، أو مزيج من هذه الأسباب أو أسباب أخرى، وبسبب أن المؤسسة المالية تصنف عملية الإقراض لمثل هؤلاء المقترضين على أنها عملية مرتفعة المخاطر، بصفة خاصة مخاطر التوقف عن السداد، فإنها تقوم بتحميلهم معدلات فوائد أعلى مقارنة بقروض الدرجة الأولى، ولتأمين نجاح عملية الإقراض فإن مؤسسات الإقراض كانت تتعمد تخفيض معدلات الفائدة في السنوات الأولى للقرض، بل وتسمح بتأجيل دفع الفوائد على القروض وإضافتها إلى اصل القرض نفسه، باعتبار أن المقترض غير قادر أصلا على خدمة الدين الذي يحصل عليه، ولكن كيف تقدم المؤسسات المالية على صفقة مثل هذه؟ إن انتشار هذه النوع من الإقراض كان يستند إلى توقع ارتفاع أسعار المساكن في المستقبل، وهو ما سيمكن المقترض من الحصول على قرض إضافي في مقابل الزيادة في سعر العقار يمكنه من خدمة دينه. أي أن عملية تطوير هذه الأداة في التمويل تمخضت عن جعل قرض الدرجة الثانية يتكون من مرحلتين؛ مرحلة تمهيدية تكون خلالها معدلات الفائدة على القرض منخفضة جدا، ومرحلة لاحقة تعود خلالها معدلات الفائدة وأقساط خدمة الدين إلى الارتفاع إلى مستوياتها الحقيقية وذلك استنادا إلى توقع ارتفاع أسعار المساكن خلال الفترة التمهيدية للقرض بما يساعد المقترض على إعادة التمويل بشروط أفضل. في ظل هذه الأداة الخطرة تدهورت شروط الإقراض في الولايات المتحدة بشكل جوهري لدرجة أن نسبة القروض العقارية القابلة للتعديل ارتفعت من 50% تقريبا في عام 1999 إلى حوالي 80% في عام 2006. عندما أخذت أسعار المساكن في الانحسار ومن ثم لم يتمكن الجانب الأعظم من المقترضين وفقا لهذه الأداة من الحصول على قروض إضافية لخدمة ديونهم حدثت الكارثة التي دفع ثمنها بلايين الناس في كل بقعة في العالم تقريبا، دون أي ذنب أو جريرة ارتكبوها وفي أزمة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ما يحدث في المؤسسات المالية يجب أن يكون تحت مراقبة دقيقة من السلطات النقدية حتى لا تتكرر الكارثة.
في مقال للرئيس الأمريكي باراك أوباما ترجمته القبس في 26/3/2009 يقول إذا "مضينا في التغاضي عن المؤسسات المالية حول العالم والسماح لها بالتصرف الطائش اللا مسئول، فإننا سنظل عالقين"، وأضاف "كل مؤسساتنا المالية في وول ستريت وحول العالم بحاجة إلى إشراف ورقابة شديدين ولقواعد سير منطقية .. والتشدد في الشفافية والمحاسبة"، نعم إن أذرع البنك المركزي يجب أن تكون دائما على دفاتر كافة المؤسسات المالية، لتفادي حدوث أي كارثة، وتحويل أي مخالف للمحاكمة.
لا يمكن أن تترتب على قرارات قادة القطاع المالي هذه الآثار الرهيبة ويتركون أحرارا بدون أن يدفعوا ثمن أخطائهم، أو ثمن ما سببوه لغيرهم من مآس، فما ذنب الأبرياء الذين وثقوا فيهم، وما ذنب الذين يتأثرون بشكل غير مباشر بقراراتهم، لا بد من سن قوانين مناسبة لمعاقبة أمثال هؤلاء. أن يقوم مدير بنك بمنح قرض كبير، ربما يتجاوز رأس مال البنك، لكي يتم استخدامه في عمليات ذات مخاطر مرتفعة جدا تعرض رأس مال البنك للخسارة، بل وتهدد بإحداث مخاطر نظامية في النظام المصرفي بكامله، فان ذلك لا يمكن أن يدخل في إطار عملية ائتمانية عادية أو طبيعية. مدير شركة الاستثمار أو مسئول الاستثمار في الشركة عندما يستخدم أموال المستثمرين على نحو غير مناسب، لا يمكن أن ينظر إلى تلك العملية على أنها تدخل في نطاق عمليات التمويل الاعتيادية، أصحاب شركات الاستثمار الذين يعلنون للجمهور أن شركاتهم تمارس نشاط استثماري حقيقي ثم يتضح بعد ذلك أن تلك الشركات ورقية لا يمكن أن يصنف ذلك بأقل من أنه عملية نصب واحتيال. أكثر من ذلك أن تقوم شركة للتصنيف الائتماني بمنح تصنيفات مرتفعة لأدوات مالية تقدم أدوات مالية لا تفهم طبيعة المخاطر المحيطة بها، فان ذلك يجب أن يعد خرقا للقانون، أو أن تقوم شركة للتصنيف الائتماني بمنح تصنيف مرتفع لمؤسسة مالية دون أن يعكس ذلك حقيقة وضع تلك المؤسسة فان ذلك يجب أن يعد بمثابة عملية احتيال ضد الغير، أو أن يقوم مكتب للمراجعة أو التدقيق بعدم نشر بعض بنود الميزانيات الخاصة بالمؤسسات المالية، أو تعمد عدم إظهار البنود خارج الميزانية مع علمه بمدى خطورة تك البنود، فان ذلك يجب أن يعد بمثابة مؤامرة على المتعاملين مع تلك المؤسسات المالية، جميع هؤلاء لا بد وأن يخضع للمسائلة.
إذا كان أقصى ما يمكن أن يتعرض له مدير بنك أو مدير شركة استثمار هو فصله من العمل، أو إجباره على تقديم استقالته، دون النظر إلى طبيعة الخسائر التي تعرض لها المودعين أو أصحاب الحصص في صناديق الاستثمار، فان تلك العقوبة لا تتناسب إطلاقا مع طبيعة الضرر الذي تحقق لجموع المودعين أو أصحاب الحصص أو حملة الأسهم. لقد حان الوقت لمراجعة هيكل العقوبات القانونية على قادة القطاع المالي لكي يدركوا بشكل اكبر خطورة ما يتخذونه من قرارات وانعكاسات تلك القرارات على مؤسساتهم المالية وعلى النظام المالي بأكمله، بل وعلى المجتمع برمته، حان الوقت لتغليظ العقوبات على من يتولى إدارة بنك أو شركة استثمار أو أي مؤسسة مالية أخرى بحيث يتوخى المزيد من الحذر عند عقد الصفقات الائتمانية أو إبرام العقود المالية المختلفة لضمان مراعاة مصالح جموع المودعين. حان الوقت لتقديم بعض قادة القطاع المالي للمحاكمة على ما اقترفوه من جرائم بقصد أو بغير قصد في حق غيرهم من الأبرياء الذي خسروا جانبا كبيرا من قيمة محافظهم المالية، أو أصولهم الأخرى، بسبب تلك القرارات أو الممارسات الخاطئة.

السبت، مارس ٢٨، ٢٠٠٩

الخيارات المتاحة للاستفادة من الفوائض. الخيار الثاني: سداد التزامات الحكومة وتنمية صندوق الأجيال القادمة

ويتم ذلك من خلال استخدام الحكومة للفوائض المحققة في سداد ديونها المختلفة، بصفة خاصة لصندوق الأجيال القادمة. قد يكون هذا حل اسميه Second Best، أي أنه حل أفضل ولكن ليس من الدرجة الاولى، وأراه خيارا مرحليا، أي انه خيار اقل ضررا من الخيار الأول، على أساس انه إذا لم يكن الجيل الحالي قادر على استثمار موارد الدولة المالية بشكل جيد، ويسئ استغلال المال العام، فلنحتفظ بالمال العام لجيل قادم قد يكون أكثر كفاءة من الجيل الحالي في تعظيم الاستفادة من هذه الفوائض. ولكن هذا الخيار يطرح سؤالا مهما هو، هل صندوق الأجيال القادمة هو الحل الأمثل لضمان استمرار رفاهية الأجيال القادمة؟ أعيد فيما يلي ما سبق أن كتبته حول صندوق الأجيال القادمة من وجهة النظر الاقتصادية

أنشأ صندوق الأجيال القادمة بمبادرة من حضرة صاحب السمو أمير البلاد الراحل الشيخ جابر، رحمه الله، وذلك بتخصيص 10% من الإيرادات السنوية لدولة الكويت توضع في هذا الصندوق بهدف توفير ثروة كافية للأجيال القادمة بعد نضوب النفط، وكذلك لتنويع مصادر الدخل من خلال بناء هياكل للأصول الخارجية تسهم في توفير عوائد تستثمر لصالح الأجيال القادمة. وقد تبدو فكرة صندوق الأجيال القادمة جذابة للكثير من الناس، بل ويدافعون عنها استنادا إلى ما حدث للكويت أثناء فترة العدوان العراقي وتحرير البلاد، حيث كان صندوق الأجيال القادمة خيار الكويت الاستراتيجي الأول في التعامل مع الأزمة، فقد دفعت منه بعض تكاليف التحرير للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضد جيش الاحتلال، كذلك استخدم لتمويل عمليات إعادة البناء والتعمير وتوفير سبل الإعاشة خلال فترة الحرب وما بعدها.

بالنسبة لي لا أختلف في أن وجود الصندوق قد ساعد الكويت أثناء الأزمة. ولكن هل كانت ستختلف النتائج بشكل كبير إذا لم يكن الصندوق موجودا. الإجابة هي لا، على العكس لقد أدى وجود الصندوق إلى الإسراف في الإنفاق وتكريس سلوكيات استهلاكية ضارة أدت إلى نشر دعوات مدمرة اقتصاديا. لقد أدى وجود الصندوق بالحكومة في ذلك الوقت إلى استخدام حوالي 45 مليار دينار من أصول الصندوق السيادي للكويت وهو ما مثل خسارة كبيرة لأصول الصندوق في ذلك الوقت.

من وجهة النظر الاقتصادية صندوق الاستثمار السيادي هو هدية نقدمها للدول التي نستثمر فيها، بينما تقتصر استفادتنا نحن على الحدود الدنيا منها، فضلا عن ذلك تميل استفادتنا إلى التناقص بمرور الزمن، وعندما نعقد مقارنة بين عوائدنا وتكاليفنا من هذا الصندوق نجد أن صافي منافعنا يكون منخفضا، وربما يكون سالبا إذا ما أخذنا في الاعتبار تكلفة الفرصة البديلة لهذا الصندوق، أنظر مقالة "هل آن الأوان لتسييل صندوق الأجيال القادمة " للمزيد من التفصيل.

بالنسبة لي أرى أن الوقت قد أصبح مناسبا لتسييل تلك الأصول واستثمارها هنا، لصناعة مستقبل حقيقي للأجيال القادمة، يستند إلى أصول إنتاجية حقيقية، وليس مجرد أن نترك لهم وديعة مالية لدى الغير، ولسوء الحظ أنها لن تكفي لتوفير حاجاتهم في المستقبل. بل أن الأرقام المتاحة لدينا تؤكد أن صندوق الاستثمار السيادي على الرغم من ارتفاع قيمة أصوله لن يمثل شيئا ذو قيمة بالنسبة للحاجات المستقبلية الفعلية للأجيال القادمة. على سبيل المثال حسب أفضل البيانات المتاحة فان الصندوق السيادي لدولة الكويت يملك حاليا حوالي 200 مليار دولار، أي حوالي 58 مليار دينار كويتي. تم تكوينها عبر مدى زمني يتجاوز 30 عاما، ووفقا لآخر الأرقام المتاحة للإنفاق العام بدولة الكويت، حوالي 12 مليار دينار، فان صندوق الأجيال القادمة لن يكفي الأجيال القادمة سوى أقل من خمس سنوات فقط (بأرقام اليوم)، وبأرقام المستقبل ربما لن يكفيها سنتين أو ثلاث.

أما إذا تحولت تلك الأصول إلى مصانع وشركات وموانئ وأساطيل وبنى تحتية متنوعة ومدن جديدة ومؤسسات أبحاث وتطوير، فإنها ستحقق دخلا دائما لهم وتوفر وظائف كافية لهم، وبذلك نكون فعلا قد ضمنا مستقبل الأجيال القادمة. مستقبل الأجيال القادمة نصنعه اليوم، وهنا داخل ديرتنا، وليس في حدود دول أخرى. فهل آن الأوان لتسييل تلك الأصول واستثمارها في الداخل.

ما هي إذن مخاطر هذا الخيار؟

مرة أخرى سوف يترتب على هذا الخيار استمرار الاختلالات الحالية على ما هي عليه، واخطر ما فيها هو تصاعد مشكلة البطالة على المستوى المحلي، نظرا لضعف القدرة حاليا على خلق المزيد من الوظائف للداخلين الجدد سواء داخل المصالح الحكومية، أو في القطاع الخاص، كما سبقت الإشارة.

إذا كان الهدف من هذا الخيار هو تعظيم منافع الأجيال القادمة، وتحقيق العدالة بين الأجيال، فان علينا أن نطبق في هذه الحالة مبادئ المحاسبة بين الأجيال على نحو عادل فيما يتعلق بتقييمنا لعوائدنا وتكاليفنا في الوقت الحالي، وعوائد وتكاليف الاجيال القادمة في المستقبل، ومن ثم نحدد النصيب الذي يجب اقتطاعه للأجيال القادمة، وهو ما يثير التساؤل هل نسبة 10% فقط من إيراداتنا العامة تمثل نسبة عادلة تضمن حق الأجيال القادمة في الثروة الحالية لدولة الكويت، بمعنى آخر هل فعلا نحن نحقق العدالة المطلوبة بين الأجيال Intergenerational بهذا الشكل، أشك في ذلك، فهل من حقنا اقتطاع 90% من هذه الثروة التي نملكها لاستخدامنا الحالي، خصوصا وأنه في معظمها استخدام استهلاكي جاري، ونترك الباقي للأجيال القادمة. فما نقوم به هو الآتي: نقوم بتصدير النفط الخام، ثم نحسب ايراداتنا الاخرى (غير النفطية) وهو ما يمثل اجمالي الايرادات العامة، ثم نحسب 10% من هذه الايرادات ليتم تحويلها الى صندوق الاجيال القادمة. اذا ما خصمنا النفقات العامة من اجمالي الايرادات العامة فان المتبقي قد يكون عجزا، أو فائضا. ما نفعله في الفائض هو تحويله الى صندوق الاحتياطي العام للدولة، وهذا ليس للأجيال القادمة فيه أي حق. أي أن الجيل الحالي يستولي بالفعل على 90% من الثروة بشكل مباشر (صادرات النفط)، أو بشكل غير مباشر (الايرادات الاخرى).

بشكل عام أنا ضد فكرة صندوق الاستثمار السيادي. مثل هذا الصندوق ينبغي أن يستثمر، ليس في الخارج، ولكن في بناء قاعدة صناعية وخدمية تضمن تنويع مصادر الناتج، وتضمن استمرارية عملية توليد الدخل بمعدلات مرتفعة لإبقاء مستويات الرفاهية عند معدلات عالية، ومن ثم ضمان مستقبل الأجيال القادمة، يقول المثل الصيني، "لا تعطني كل يوم سمكة، ولكن علمني كيف اصطاد السمك"، وهذا ما ينبغي أن نفعله للأجيال القادمة. إذن، من وجهة نظري، صندوق الأجيال القادمة ليس حلا امثل لضمان مستقبل زاهر للأجيال القادمة على المدى الطويل. أنا متأكد أن مثل هذا التفكير سيجد معارضة لدى الكثيرين على أساس انه إذا لم يكن هذا الصندوق موجودا لذهبت أمواله هباءا حسب ما يدعي هؤلاء. ولكن تحليلي الأساسي يقوم على أساس افتراض توافر الأوضاع المثلي التي تسنح معها الفرص لنمو مستمر على المدى الطويل في ظل درجة عالية من الشفافية والمحاسبة.

الاثنين، مارس ٢٣، ٢٠٠٩

هل حان وقت العودة لربط الدينار الكويتي بالدولار الأمريكي

نشر في القبس بتاريخ الاحد 22/3م2008


تعهدت الكويت بمقتضى اتفاقية مسقط في 2002 بربط عملتها بالدولار الأمريكي بهدف تبني نظام المثبت المشترك لعملات دول مجلس التعاون (الدولار الأمريكي) وذلك لتسهيل عملية إطلاق العملة الخليجية الموحدة، وفي 5/1/2003 بدأ البنك المركزي العمل بربط معدل صرف الدينار بالدولار الأمريكي وفقا للقواعد الآتية:
· يكون معدل الصرف المركزي للدولار هو 0.29963 د.ك.
· يسمح للدينار الكويتي بالتقلب في مقابل الدولار في نطاق تذبذب يساوي 7% بين هامشي التذبذب الأعلى والأدنى أي يسمح لمعدل صرف الدولار بالارتفاع (انخفاض قيمة الدينار) بحد أقصى 3.5% عن السعر المركزي، كما يسمح للمعدل بالانخفاض (ارتفاع قيمة الدينار) بحد أقصى 3.5% عن السعر المركزي.
· لا يسمح لمعدل صرف الدولار في الكويت بان يتجاوز هامشي نطاق التذبذب وفقا للقرار الوزاري 266 لسنة 2002.
في 20/5/2007 قرر مجلس الوزراء فك ربط الدينار بالدولار والعودة مرة أخرى لنظام سلة العملات في تحديد معدل الصرف، وبذلك فتح الباب أمام تغير معدل صرف الدينار بالنسبة للدولار الأمريكي بعد أن بلغ معدل صرف الدولار حدود قاع التذبذب مع الدينار الكويتي. دوافع الكويت لفك الربط بالدولار في هذا الوقت كانت متعددة منها رغبة الكويت في الحفاظ على عملة قوية في ظل التراجع المستمر لقيمة الدولار، ورغبة الكويت في الحصول على نظام أكثر مرونة لمعدل صرف الدينار بدلا من النظام السائد في ذلك الوقت والذي يقيد فرص ارتفاع الدينار في مقابل الدولار عند 3.5% كحد أقصى، واستمرار معدل التضخم مرتفعا فوق المعدل المرغوب فيه، وارتفاع أسعار الواردات من الدول الأوروبية والآسيوية نتيجة انخفاض قيمة الدولار بالنسبة لعملات هذه الدول، واستمرار ضغوط المضاربة على الدينار الكويتي، وضغوط البرلمان للعود إلى نظام سلة العملات. وعلى الرغم من استمرار ضغوط انخفاض الدولار الأمريكي على دول مجلس التعاون الأخرى الأعضاء في اتفاقية الوحدة النقدية، فان أي من هذه الدول لم يتخذ قراره بفك الارتباط بالدولار
كان من المنتظر أن تخف ضغوط التضخم في دولة الكويت نتيجة فك ارتباط الدينار بالدولار، وذلك استنادا إلى الاعتقاد السائد في ذلك الوقت وهو أن التضخم المستورد الناجم عن ضعف الدولار هو السبب الرئيسي في ارتفاع مستويات الأسعار في دولة الكويت، ويبدو أن هذا التحليل قد تجاهل تماما ضغوط الطلب المحلي الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط وزيادة مستويات الدخول، إضافة إلى أزمة ارتفاع أسعار الغذاء في العالم، وتصاعد عرض النقود إلى مستويات قياسية خلال تلك الفترة، وفورة قطاع العقار، وفقاعة البورصة. ويوضح الشكل رقم (1) أنه خلال فترة فك ربط الدينار بالدولار الأمريكي لم يحدث تحسن في اتجاه المستوى العام للأسعار والذي استمر في التصاعد على الرغم من فك ربط الدينار الكويتي بالدولار الأمريكي، والواقع أن تاريخ التضخم في الكويت لا يوحي بأن ربط الدينار الكويتي بسلة العملات قد ساعد على الحفاظ على معدلات التضخم منخفضة كما قد يتصور البعض.


منذ بدء الأزمة المالية العالمية ارتفع معدل صرف الدولار الأمريكي بأكثر من 20% اعتبارا من يوليو الماضي. فكما يتضح من الشكل رقم (2) أنه على الرغم من أحداث الأزمة وتصاعد التوقعات بدخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة الركود، وازدياد معدلات البطالة في الاقتصاد الأمريكي إلى مستويات قياسية استمر معدل صرف الدولار بالنسبة للعملات العالمية في التصاعد. مثل هذه النتيجة المتناقضة تثبت وبوضح تام انه لا بديل عالمي متاح حاليا للدولار الأمريكي، ففي ظلال الأزمة اكتشف الباحثون عن ملاذ آمن لمدخراتهم، أنه على الرغم من المخاطر التي تحيط بالاقتصاد الأمريكي، يظل الدولار هو الملاذ الآمن الوحيد في العالم حاليا.
الشكل رقم (2) معدل الصرف المرجح للدولار الأمريكي بالنسبة لعملات الشركاء التجاريين الأساسيين للولايات المتحدة


كيف تتحول أعنف أزمة يتعرض لها الاقتصاد الأمريكي منذ الكساد العالمي الكبير إلى أن تكون في صالح الدولار، جانب من الإجابة على هذا السؤال يرجع إلى أن العملات الأخرى أصبحت الآن في موقف أسوأ من الدولار مع تحول الأزمة الأمريكية إلى أزمة عالمية، الجزء الجانب الثاني من الإجابة يرجع إلى أن الانخفاض الحاد في سعر النفط الخام كان في صالح الدولار، حيث انخفضت فاتورة واردات النفط للولايات المتحدة، أما الجانب الثالث من الإجابة وهو الأهم حاليا فيتمثل في أن الأمريكيين يبيعون استثماراتهم الأجنبية في الأصول مرتفعة المخاطر في الخارج بصورة اكبر من تلك التي يقوم بها غير الأمريكيين في الولايات المتحدة. من ناحية أخرى فان محاولة البنوك العالمية التخلص من أصولها المسمومة وتنظيف تلك الأصول نحو أصول اقل مخاطرة أدى إلى رفع الطلب العالمي على الدولار الأمريكي الأمر الذي أحدث ندرة نسبية في عرض الدولار نتيجة ارتفاع الطلب عليه. كذلك فإن الصعوبات التي تواجهها أوروبا الغربية الآن، بصفة خاصة ألمانيا، اكبر اقتصاد أوروبي، تجعل البعض يشك في أن أوروبا أيضا تحاول الضغط على اليورو نحو الانخفاض في ظل ضعف مستويات الصادرات الأوروبية، وأخيرا يتعزز هذا الطلب العالمي على الدولار في ظل تراجع تكلفة الاقتراض بالدولار بصورة واضحة مع بلوغ معدلات الفائدة الأساسية عليه إلى الصفر تقريبا.
إن استمرار ارتفاع الدولار الأمريكي عالميا يثير تساؤلا مهما على النطاق المحلي، وهو هل يجب على الكويت العودة الآن لربط معدل صرف الدينار الكويتي بالدولار الأمريكي مرة أخرى، بعد أن زالت دوافع فك الارتباط به. من وجهة نظري، على الرغم من أن نظام سلة العملات أفضل من نظام الربط بالدولار، إلا أنه من الواضح أن نظام سلة العملات لا يقدم الحماية المناسبة للاقتصاد الكويتي ضد ارتفاع معدلات التضخم، بصفة خاصة عند ميل معدل صرف الدولار نحو الارتفاع، كذلك فانه من الناحية التاريخية فان معدلات التضخم السابقة في دولة الكويت تشير إلى حدوث ارتفاع كبير في معدلات التضخم بصورة في السبعينيات والثمانينيات ومنتصف التسعينيات. أي أنه بالنسبة للاقتصاد الكويتي طالما أن هناك ضغوطا تضخمية في الخارج فان سلة العملات لن تكون أفضل من الربط بالدولار الأمريكي في السيطرة على معدلات التضخم.
لقد أدى ارتفاع قيمة الدولار عالميا إلى تدهور معدل صرف الدينار بالنسبة للدولار الأمريكي كما يتضح من الشكل رقم (3)، فبدءا من مارس 2008 حتى مارس 2009، فقد الدينار الكويتي حوالي 10% من قيمته أمام الدولار، وبما أن دول مجلس التعاون حافظت على ربط عملاتها بالدولار، فان تدهور معدلات صرف الدينار مع الدولار، يؤدي أيضا إلى تدهور معدلات صرف الدينار مع عملات دول مجلس التعاون كما يوضح الشكل البياني رقم (4)، في ظل هذه الأوضاع فان الكويت تخسر من الاستمرار في فك ربط الدينار الكويتي بالدولار الأمريكي، بصفة خاصة مع الشركاء التجاريين في المنطقة.
لقد نظر إلى فك ارتباط الدينار بالدولار على أنه يعد خروجا عن اتفاقية المثبت المشترك بين عملات دول المجلس، على الرغم من تأكيد الكويت المتكرر بأنها ملتزمة بتعهداتها تجاه مشروع الوحدة النقدية، ومثل هذا التأكيد المتكرر يعني ضمنا أن الكويت لا بد ستعود يوما ما لتنفيذ تعهداتها وفق لاتفاقية مسقط 2002، ربما آن الأوان الآن للعودة مرة أخرى لإعادة ربط الدينار الكويتي بالدولار الأمريكي، حيث أن الظروف التي دعت الكويت لفك ربط عملتها بالدولار قد انتهت بعودة الدولار كعملة قوية مرة أخرى.
اقترح إذن أن يعود البنك المركزي إلى نظام الربط بالدولار الأمريكي وفقا للقواعد الآتية:
· تعديل معدل الصرف المركزي بين الدينار الكويتي والدولار الأمريكي عند مستويات أكثر قربا من مستويات معدل الصرف التاريخي بين الدينار الكويتي والدولار الأمريكي، أخذا في الاعتبار مستويات الهبوط في قيمة الدولار خلال النصف الأول من هذا العقد.
· توسيع هامش التذبذب من 3.5% كما كان متبعا وفقا للنظام السابق للربط، إلى هامش أكثر اتساعا، على سبيل المثال 10% صعودا وهبوطا، أو نطاق تذبذب أقرب.
مثل هذا الهامش الكبير سوف يجعل نطاق التذبذب في حدود 20%، وهي مساحة كافية تسمح للكويت بالاستفادة من مزايا الربط، بصفة خاصة عند ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي، وفي ذات الوقت سيوفر الآلية اللازمة للسماح للدينار بالارتفاع عند مستويات معقولة في مقابل الدولار، وذلك عند ميل هذا الأخير نحو التراجع بحيث لا تضطر الكويت إلى فك الارتباط مرة أخرى. كذلك فان توسيع هامش التذبذب سوف يعطي البنك المركزي حرية أكبر في السماح للدينار الكويتي بأن يكون احد أدوات السيطرة على التضخم، سواء بسبب ارتفاع الدولار أو انخفاضه، فضلا عن ذلك فان العودة إلى الربط بالدولار الأمريكي، سيعيد الكويت نحو الوفاء بالتزاماتها قبل المجلس فيما يتعلق باتفاقية المثبت المشترك. فهل آن الأوان للعودة إلى الربط بالدولار الأمريكي مرة أخرى؟ اعتقد أن الظروف الحالية تشير إلى ذلك، خصوصا وان تبني العودة لنظام سلة العملات لم يخدم الكويت فيما يتعلق بالاتجاهات العامة لمعدل التضخم.

الأربعاء، مارس ١٨، ٢٠٠٩

الكويت تحتاج إلى هدنة

بعد المعارك الطاحنة التي مرت بها الحياة السياسية في الكويت في الأيام الماضية، والتي انتهت باستقالة رئيس الوزراء سمو الشيخ ناصر الأحمد، أعتقد انه من مصلحة هذا البلد أن تكون هناك هدنة ليرتاح فيها الجميع، وليقيم فيها الجميع مواقفه ولنفكر بشكل اكثر عقلانية في مستقبل كويتنا الحبيبة.
العالم كله يتقدم بخطى سريعة جدا، وليس مستعدا لأن يقف قطاره في انتظار أحد. وإذا لم نلحق بهذا القطار سوف نتخلف عن الجميع ونكون بذلك قد ضيعنا أنفسنا وأجيالنا القادمة ومستقبل وجودنا على هذه الأرض الطيبة. لا بد وأن نؤمن بأن لدينا مسؤولية نحو صغار نصنع مستقبلهم اليوم، ويجب أن نوجه لهم كل طاقاتنا، سواء أكانت مادية أو بشرية، وإلا فإنهم سوف يلعنونا إذا ما استمر البعض في معاركه العنترية متناسيا أن لديه مسؤولية ضخمة تجاه مستقبل هذا البلد. البعض لا يريد أن يفهم انه إذا استمرت الأوضاع بهذا الشكل فانه من المؤكد أن وجودنا على هذه الأرض الطيبة سوف يكون وجودا مؤقتا، ربما يكون البعض مستعد أو مهيأ لذلك، أو ربما يكون قد أمن نفسه وأعد العدة لهذا اليوم، ولكن ماذا عن جموع الناس الذين ليس لديهم الاستعداد أو القدرة أو الرغبة في مغادرة هذا البلد والبحث عن مكان آخر يتكسبون فيه رزقهم بعد زوال النفط. هؤلاء من حقهم أن نعمل لهم، أن نؤمن لهم سبل العيش الكريم على هذه الأرض بعد نضوب النفط، والذي لم يعد يفصلنا عنه النفط سوى سنوات قليلة جدا.
إذا كان الوضع كذلك فان نمط الديمقراطية التي نمارسها في الكويت ترف ثمنه غال جدا، إنه الوقت الثمين الذي يضيع من بين أيدينا، والموارد التي نهدرها، وكل ساعة تمر بنا تقربنا من هذا اليوم المخيف، بينما تحتاج التنمية إلى وقت طويل، وهي عملية شاقة جدا، فهل نعلن الهدنة ونلتفت إليها الآن.

الاثنين، مارس ١٦، ٢٠٠٩

القنبلة المالية القادمة: انهيار النظام المالي لدول شرق أوروبا

نشر في جريدة القبس بتاريخ الاثنين 16/3/2009
دول أوروبا الشرقية الآن على حافة أزمة مالية يمكن أن تنطلق في أي لحظة، في حال حدوث أي خطأ في التعامل معها. المشكلة الأساسية أن ضغوط الأزمة المالية العالمية تتراكم وتتعمق وهو ما يهدد بسرعة انفجار القنبلة المالية التالية وهي انهيار اقتصاديات شرق أوروبا في أي لحظة، مخلفة آثارا تدميرية لن تقل عن تلك التي خلفتها ازمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة، ولكن هذه المرة على الاقتصاد الأوروبي، حيث أن معظم ديون الكتلة الشرقية مملوكة لبنوك دول غرب أوروبا، بصفة خاصة بنوك النمسا والسويد واليونان وايطاليا وبلجيكا وفرنسا لتقضي بذلك على أية آمال بنهاية سريعة للازمة الاقتصادية العالمية.
أزمة شرق أوروبا أعمق بكثير من أزمة آسيا في التسعينيات، وقد أصبح من المؤكد انه ما إن تسقط واحدة من هذه الدول حتى تتساقط باقي الدول كقطع الدومينو، مما سيؤدي إلى انطلاق أزمة ضخمة ذات اثر انتشاري عبر الاتحاد الأوروبي ربما تؤدي إلى دمار النظام المصرفي الأوروبي برمته، الذي يواجه أصلا مشكلات عميقة بسبب الأزمة المالية، بشكل تجاوز كافة توقعات قادة أوروبا. لقد أصبح ينظر حاليا إلى دول شرق أوروبا على أنها الرجل المريض في الدول الناشئة، فبعد سنوات من النمو المرتفع الذي تجاوز متوسط معدلات نمو دول العالم، باتت تلك الدول على حافة الكارثة. مشكلة دول شرق أوروبا تنبع من عاملين رئيسيين، الأول هو تدهور صادراتها، والثاني هو جفاف منابع تدفقات رؤوس الأموال إليها. فقد مثلت صادرات أوروبا الشرقية مفتاح النجاح الاقتصادي للإقليم، على سبيل المثال تمثل الصادرات ما بين 80-90% من الناتج المحلي الإجمالي لجمهورية التشيك والمجر وسلوفاكيا. بينما شكلت تدفقات رؤوس الأموال إلى الإقليم الوقود الذي أدار عجلة التوسع الاقتصادي في السنوات الأخيرة في الإقليم.
عملات دول شرق أوروبا معرضة أيضا للانهيار، فقد انخفض الزولتي البولندي بحوالي 50% في مقابل اليورو، والفروينت المجري بحوالي 20%، والليو الروماني بنسبة 17%، والكرونا التشيكية بنسبة 12%، ومع كل انخفاض يحدث في عملات تلك الدول تزداد قيمة ديونها مقومة بالعملات المحلية. وهو ما دفع بحكومات أوروبا الشرقية إلى زيادة معدلات الفائدة بها في محاولة منها للدفاع عن عملاتها المحلية من الانخفاض في مقابل عملات الدول المقرضة وذلك للتخفيف من عبء خدمة ديونها الخارجية على الأسر. إذا ما مالت معدلات الصرف نحو التراجع بشكل أكبر فان ذلك سوف يرفع معدلات التوقف عن السداد بشكل درامي، وهو ما يتطلب تقديم مساعدات مالية للأسر لرفع قدراتها على استئناف عمليات السداد لديونها العقارية. إن الشواهد تشير إلى أن قدرة دول شرق أوروبا على خدمة ديونها أصبحت محدودة جدا، وجميع هذه الدول الآن عرضة للتوقف عن السداد. وقد فشلت القمة الأوروبية في الاتفاق على خطوات جدية لمعالجة مشكلة ديون أوروبا الشرقية، الأمر الذي قد يهدد بانهيار بنوك أوروبا، وقد حذر رئيس المجر بأنه في حال فشل الاتحاد الأوروبي في رصد ميزانية كافية لإنقاذ دول شرق أوروبا، فانه من المحتمل أن يحدث انحسار شديد في اقتصاديات شرق أوروبا، ومن ثم انتشار حالات الإفلاس على نطاق واسع مما يهدد الاتحاد الأوروبي بأكمله. ومما لا شك فيه أن هذه التطورات لا بد وان يصاحبها إجراءات عنيفة للتعديل الاقتصادي في تلك الدول.
ترجع أهم الأخطاء التي ارتكبتها حكومات دول شرق أوروبا والتي أدت إلى نشوء الأزمة هو السماح للأسر في تلك الدول بالحصول على قروض عقارية بالنقد الأجنبي، على سبيل المثال فان القروض العقارية في المجر أساسا عبارة عن قروض بعملات أجنبية، بصفة خاصة بالفرنك السويسري، كذلك فان 60% من القروض العقارية في بولندا بالفرنك السويسري، كذلك تواجه البلقان والبلطيق وأوكرانيا أوجها مشابهة لهذه المشكلة، ومع تراجع عملات هذه الدول فان مدخرات الأسر بالعملات المحلية قد انهارت. الخطأ الثاني هو أن أعضاء المنطقة الأوروبية يسمح لهم بالانضمام لليورو على أساس اختياري، ذلك أن وقع الأزمة على المقترضين في تلك الدول سيكون اقل لو تم السماح لها بالانضمام مباشرة إلى اليورو فور انضمامها للاتحاد الاوروبي. الخطوة الوحيدة الصحيحة التي قامت بها اقتصاديات أوروبا الشرقية في ظل هذه الأزمة هي أن بنوكها كانت مملوكة بواسطة الأجانب، بصفة خاصة البنوك النمساوية، حيث مثل الإقراض للإقليم حوالي 70% من الناتج المحلي الإجمالي للنمسا. ويعني ذلك انه في حال حدوث مشكلة توقف عن السداد في المجر، على سبيل المثال، فان المجر لن تكون الدولة التي تواجه المشكلة وإنما النمسا. كذلك فان البنوك السويدية والايطالية والفرنسية والبلجيكية واليونانية معرضة بشكل واضح في دول أوروبا الشرقية. معنى ذلك أن انطلاق الأزمة المالية لدول شرق أوروبا سيؤدي إلى حدوث مخاطر نظامية في المنطقة الأوروبية كلها.
حجم الدين القائم على لاتفيا وليثوانيا واستونيا وبلغاريا ورومانيا والمجر والمعرض للتوقف عن سداده حوالي 2 تريليون دولار، ثلثيها باليورو والثلث الباقي بالفرنك السويسري. الدلائل تشير إلى قرب بدء عمليات الإفلاس في أوروبا الشرقية، فأوكرانيا التي انخفض ناتجها المحلي بنسبة 12% بعد انهيار أسعار الصلب، تسير نحو إعلان التوقف عن سداد التزاماتها، بينما أعلن محافظ البنك المركزي للاتفيا أن اقتصاد بلاده ميت إكلينيكيا. أكثر الدول المعرضة للتأثر بأزمة الديون الشرق أوروبية هي النمسا وايطاليا والسويد وفرنسا واليونان وبلجيكا، بهذا الوضع في شرق اوروبا يصل حجم الديون المسمومة في الاتحاد الاوروبي الى حوالي 23 تريليون دولار، مقارنة بحوالي 11 تريليون دولار ديونا مسمومة في الولايات المتحدة. مما يعني ان الوضع الآن في أوروبا أكثر خطورة من أزمة الائتمان الامريكية. وهو ما يهدد بانكماش الاقتصاد الأوروبي بصورة اكبر من الاقتصاد الامريكي، وكذلك احتمال ارتفاع معدل التضخم الأمر الذي يعزز الوضع الحالي للدولار الأمريكي في مقابل اليورو الأوروبي، حيث أصبح اليورو حاليا عملة يحيط بها قدر كبير من المخاطرة، منذ تصاعدت الأزمة المالية لدول أوروبا الشرقية.
إن جانبا كبيرا من القروض التي اقترضتها دول شرق أوروبا قصيرة الأجل، ومن المقرر أن تقوم تلك الدول بإعادة سداد 400 مليار دولار من ديونها هذا العام، وهو ما يعادل حوالي ثلث الناتج المحلي للإقليم. فكيف لها أن تتمكن من سداد حوالي ثلث الناتج المحلي لها في ظل أوضاع الأزمة. كذلك فإن الأزمة المالية - في ظل تدهور العملات المحلية لتلك الدول- قد أدت إلى إثارة التساؤلات حول قدرة هذه الدول على تمويل عجوزات الحساب الجاري في تلك الدول. من ناحية أخرى فقد أصبح من رابع المستحيلات أن تستطيع تلك الدول تدبير هذا المبلغ بدون تدفق كاف لرؤوس الأموال، مثلما كان يحدث في الماضي. جميع السيناريوهات المتاحة حاليا تشير إلى أنه أصبح من المؤكد حدوث انخفاض حاد في الائتمان الممنوح لإقليم شرق أوروبا. إذ يتوقع انخفاض تدفق رؤوس الأموال في عام 2009 إلى حوالي 11% فقط من مستوياتها في عام 2008. من ناحية أخرى فان محاولة تدبير هذا المبلغ من خلال المؤسسات الدولية متعددة الأطراف مثل صندوق النقد الدولي ستواجه بحقيقة أن هذا المبلغ يتجاوز إمكانيات صندوق النقد الدولي، حيث أن إجمالي احتياطيات الصندوق لا يتجاوز حوالي 200 مليار دولار تم استخدام جانب كبير منها في مساعدة المجر وأوكرانيا ولاتفيا وروسيا البيضاء وأيسلندا وباكستان، وتركيا في الطريق. المسألة إذن مسألة وقت قبل أن يسقط النظام المالي لدول شرق أوروبا ومعه يسقط النظام المالي الأوروبي بأكمله.
غير أن برجلوف الاقتصادي في البنك الأوروبي للتعمير والتنمية يشير إلى أنه على الرغم من احتمال اتساع نطاق الأزمات المصرفية في أوروبا إذا فشلت الحكومات الغربية في التنسيق فيما بينها لمعالجة الأوضاع السيئة في شرق أوروبا، إلا أنه، وفقا لوجهة نظرة، فانه من الممكن التعامل مع الوضع من خلال تنسيق أكثر فعالية بين الحكومات الأوروبية. من الواضح إذن أن الجانب الأكبر من التمويل الذي يجب الحصول عليه ينبغي أن يأتي من دول أوروبا الغربية، غير أن هناك من الدلائل ما يشير إلى أن البنوك الأم في الاتحاد الأوروبي بدأت الآن في الحد من عمليات التمويل من خلال فروعها في دول شرق أوروبا. يبقى هناك خيار آخر وهو أن تأتي عملية إعادة التمويل التي تحتاجها دول شرق أوروبا من المؤسسات المالية الدولية مثل بنك الاستثمار الأوروبي والبنك الأوروبي للتعمير والتنمية ومجموعة البنك الدولي.
على الاتحاد الأوروبي إذن أن يتناول ضرورة معالجة هذه القضية قبل فوات الأوان. للأسف التنسيق الأوروبي الحالي، على الرغم من أهميته، غير كاف، حيث رفض قادة أوروبا مقترح أن يتم تخصيص 180 مليار دولار لإنقاذ اقتصاد أوروبا الشرقية مفضلين التعامل مع الأمر حسب كل حالة على حده. الأمر ربما يحتاج إلى تنسيق بين البنك المركزي الأوروبي وغيره من البنوك المركزية خارج المنطقة الأوروبية والتي تمتلك كميات كافية من السيولة بما يمكن أن توفر خطوط ائتمانية بالعملات الأجنبية، أما بشكل مباشر أو من خلال مؤسسات التمويل الدولي. بدون هذا التعاون فان دول شرق أوروبا معرضة لهجمات مضاربة، يمكن أن تطيح بعملاتها وبنظامها المالي برمته. إذا لم تنجح تلك الجهود فان عبئ الدين الخارجي سوف يصل إلى مستويات كبيرة تهدد بافلاس تلك الدول. المشكلة ألكبري هي أن انهيار النظام المالي لدول أوروبا الشرقية سوف يحدث آثارا مدمرة عبر الاتحاد الأوروبي بشكل خاص، يعتمد ذلك على درجة تعرض كل دولة من أعضاءه للإقراض لهذا الإقليم، ومن الواضح أن درجة التعرض كبيرة، وهو ما يجعل من انهيار النظام المالي في دول شرق أوروبا القنبلة المالية العالمية التالية.

الجمعة، مارس ١٣، ٢٠٠٩

الخيارات المتاحة للاستفادة من الفوائض. الخيار الأول: تعميق سياسات الرفاه الحالية

أي تعظيم مستويات الرفاهية للجيل الحالي (إلغاء قروض، إلغاء فواتير، إلغاء فوائد قروض المتقاعدين، زيادة الرواتب، المنح الأميرية، زيادة المعاشات، إقرار الكوادر، التوزيعات المالية ... الخ). وتستند الحجة الأساسية وراء هذا الخيار إلى أن سوء إدارة موارد الدولة والهدر الكبير الحادث بها سوف يعني أن جانبا كبيرا من هذه الفوائض سوف يذهب إلى فئات محددة، ومن ثم فإن العدالة تقتضي أن توزع هذه الفوائض على عموم الشعب ضمانا لوصولها إلى رجل الشارع، وليس لفئة المنتفعين من المال العام وحدهم. ولمثل هذا الخيار مزايا ضخمة للجيل الحالي، إلا انه يلاحظ الأتي:

* أن الحجة الأساسية لهذا المقترح مدمرة من الناحية الاقتصادية، فبدلا من أن نبحث عن موطن الداء، أي الفساد والمحسوبية وهدر المال العام، ونحلل مسبباته ونجتث جذوره، فإننا نسير في الاتجاه ذاته بهدر المال العام، ولكن على نطاق واسع، أي على المستوى الكلي.

* أن انتهاج مثل هذه السياسات سوف يعني استمرار إفرازات الأوضاع الحالية وتعميق اختلالاتها، وسوف تنتهي بنا إلى نهاية سيئة للغاية، أسوأها هو استمرار ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات مخيفة في المستقبل القريب، خصوصا في ظل ارتفاع أعداد الداخلين الجدد من المواطنين إلى سوق العمل، وضيق فرص إيجاد وظائف للداخلين الجدد في سوق العمل.

* أن انتهاج مثل هذه السياسات سوف ينمي الحس الشعبي بأن الحكومة في كافة الأحوال يجب أن تدفع عن الناس قروضهم وفواتيرهم، وكافة أعباءهم، بغض النظر عن المجالات التي أنفقت فيها هذه القروض، والكيفية التي استخدمت فيها السلع العامة من قبل الأشخاص، بحيث يصبح ذلك حق شبه مكتسب، وغني عن البيان أن مثل هذه السياسات تعمق من الآثار السلبية للأنماط الاستهلاكية للجيل الحالي.

* أن إسقاط الفواتير يعني من الناحية العملية أن الحكومة الحالية، على عكس كافة حكومات العالم، تكافئ الذي يخالف القانون بالتخفيف عن التزاماته، وتعاقب الملتزم بالقانون.

* أن عملية إلغاء الديون، وإلغاء الفواتير، وإلغاء الفوائد.... الخ، هي جريمة ترتكب في حق الأجيال القادمة، ولكن بمقتضى قانون.

* أن هذا الخيار يضر بصورة أساسية بقضية العدالة بين الأجيال وهي قضية محورية في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية. إذ يفترض في السياسات الاقتصادية المتوازنة أنها لا تهدف إلى تعظيم منافع جيل على حساب جيل آخر.

تداعي الأكلة على القصعة

منذ أن بدأت أسعار النفط في التزايد حتى انبرى البعض مطالبا بتوزيع هذه الزيادة في الفوائض المالية على الناس، وقد تعددت المقترحات في سبيل ذلك وأهمها:

* زيادة الرواتب
* إقرار عدد كبير من الكوادر
* تخفيض فواتير الكهرباء
* إقرار منحتين متتاليتين بمبلغ 200 دينار لكل مواطن
* إلغاء فوائد قروض المتقاعدين
* إنشاء صندوق للمتعثرين في سداد قروضهم
* إضافة إلى ذلك فقد تم إقرار إجراء تحويلات للتأمينات الاجتماعية 11 مليار دينار على قسطين متساويين بدأ من ميزانية 2008/2009، وذلك لسداد العجز الاكتوري لدي مؤسسة التأمينات الاجتماعية. وقد توقف دفع القسط الثاني في مشروع ميزانية 2009/2010 بسبب تطورات أسعار النفط.
* إلغاء القروض الشخصية
* اقتراح توزيع 10000 دينار لكل مواطن

كلها هذه المقترحات أقرت، ما عدا المقترحين الأخيرين، على الأقل حتى الآن. خلاصة ما سبق هو أن الفوائض النفطية الحالية تميل إلى أن تتوزع بين زيادة في الرواتب والمنح والإعفاءات وسداد العجز الاكتواري في معاشات التقاعد، بمعنى آخر فان الفوائض النفطية كانت مدمرة ماليا لدولة الكويت.

اتجاهات الإنفاق العام في دولة الكويت

يوضح الجدول التالي اتجاهات الإنفاق العام في دولة الكويت على أبواب الإنفاق الخمسة، وهي المرتبات (الباب الأول) ، والمستلزمات السلعية والخدمات (الباب الثاني)، ووسائل النقل والمعدات والتجهيزات (الباب الثالث) والمشاريع الإنشائية والصيانة والاستملاكات (الباب الرابع) المصروفات المختلفة والمدفوعات التحويلية (الباب الخامس).





وبتتبع اتجاهات الإنفاق العام في دولة الكويت يلاحظ الآتي:

* بشكل عام فإن التبويب الحالي للميزانية لا يمكننا من فصل الإنفاق الرأسمالي عن الإنفاق الجاري بسهولة. ولذلك يمكن مجازا اعتبار الإنفاق على الباب الرابع على أنه يمثل الإنفاق الاستثماري الحكومي.

* أن نسبة الإنفاق الاستثماري في الكويت متواضعة، حيث في المتوسط بلغت نسبة الإنفاق على هذا الباب حوالي 10% من إجمالي الإنفاق العام، وهي نسبة متواضعة جدا، سواء بمقاييس الدول الغنية أو الدول الفقيرة. ومما يؤسف له أنني عندما رجعت إلى تقارير الحساب الختامي للدولة في السنوات القليلة الماضية، والتي تظهر حجم الإنفاق الفعلي على الأبواب المختلفة، وجدت أن ما يتم رصده من اعتمادات للباب الرابع لا ينفذ بالكامل، أي أن الحكومة ترصد أموالا لمشروعات استثمارية، ولا يتم تنفيذها. إن المشكلة الأساسية لكافة الدول النامية هي كيف تجد مصادر التمويل اللازمة لمشروعاتها التنموية المختلفة، لذا تحرص تلك الدول على أن تجد من يوفر لها مصادر التمويل إما من خلال قروض خارجية، أو اللجوء إلى المؤسسات الدولية، أو من خلال تدفقات للاستثمار المباشر، أو في صورة مساعدات .. الخ. أما نحن فالحمد لله لدينا الأموال، ومع ذلك لا نوظفها. على سبيل المثال في عام 2003/2004 تم تخصيص 722 مليون دينارا للإنفاق على بنود الباب الرابع، تم إنفاق 569 مليون دينارا فقط منها، أي بنسبة 79%، وفي عام 2004/2005 تم تخصيص 825 مليون دينارا كاعتمادات في الباب الرابع، انفق منها فقط، 678 مليون دينارا، أي بنسبة 82%. كما تم اعتماد ما مقداره 930 مليون دينار للمشاريع الإنشائية والاستملاكات العامة في ميزانية 2005/2006، واقتصر الإنفاق الفعلي عليها على 750 مليون دينارا، أي بنسبة 80%، أما في عام 2006/2007، فقد تم تخصيص 1261 مليون دينار، تم تنفيذ 989 مليون دينارا فقط منها، أي بنسبة 78%. وهكذا تتجه اعتمادات الإنفاق الاستثماري كنسبة من الإنفاق العام نحو التراجع، والنسبة التي يتم تنفيذها منه تقل بمرور الوقت، أي أن أبواب الإنفاق الجاري للحكومة تميل نحو التزايد بشكل سريع بمرور الوقت بينما يقل إنفاق الحكومة الرأسمالي.

* أن الإنفاق على الرواتب يزداد بشكل واضح ولافت للنظر، وكل زيادة تحدث في الرواتب لا بد وان يصاحبها زيادتين أخريين، الأولى هي زيادة مساهمة الدولة في التأمينات الاجتماعية، والثانية هي في العجز الاكتواري الناجم عن ارتفاع مستويات المعاشات مع زيادة المرتبات. فقد أدت الزيادات المتتالية في باب الرواتب إلى عجزا اكتواريا متسعا نتيجة ارتفاع تكاليف معاشات التقاعد التي تحسب على أساس الرواتب المرتفعة في مقابل مساهمات للتأمينات الاجتماعية التي جمعت طوال حياة الموظف المهنية على أساس رواتب منخفضة، مما يخلق فجوة بين موارد مؤسسة التأمينات ونفقاتها، وقد قدر العجز الاكتواري بحوالي 11 مليار دينار، رصدت الحكومة له 5.5 مليار دينار في مشروع ميزانية العام السابق، أي نصف العجز الاكتواري المقدر. ومن المتوقع مع هذه الزيادات الهائلة في الرواتب اتجاه العجز الاكتواري نحو التزايد في المستقبل، بدرجة قد تهدد قدرة مؤسسة التأمينات على سداد معاشات المتقاعدين، الأمر الذي سوف يستدعي، كما حدث اليوم، تدخل الدولة بشكل متتابع لسداد هذا العجز.

* من ناحية أخرى يلاحظ أن الإنفاق الجاري يميل إلى التزايد بشكل عام، بينما يتقلب الإنفاق الاستثماري بصورة واضحة، خصوصا مع أي انخفاض في الإيرادات النفطية.



الخلاصة هي انه من الواضح أن هذا الخيار هو ما تتبعه الكويت حاليا في الاستفادة من فوائضها، ومثل هذا الخيار يعقد من أوضاع الميزانية العامة للدولة، ويترتب عليه الكثير من الأعباء التي تفوق قدرة المالية العامة للدولة على تحملها على الأجل الطويل، فضلا عن انه يؤدي إلى هدر الموارد الحالية للدولة. بمعنى آخر فان النمط الحالي لاستخدام الفوائض جعل تلك الفوائض مدمرة ماليا لدولة الكويت.

الخميس، مارس ١٢، ٢٠٠٩

الوفرة المالية الثانية: عودة الوفورات النفطية مرة أخرى


منذ بدأت الحرب على العراق، أخذت أسعار النفط في الارتفاع بصورة واضحة، وبلغت مستويات قياسية في العام الماضي، حيث تجاوز سعر البرميل من النفط الخام 147 دولارا. ويوضح الجدول رقم (1) إجمالي الفوائض المالية النفطية التي حققتها دولة الكويت خلال الفترة من 1999-2009. ويقصد بالفائض هنا الفرق بين إجمالي إيرادات الدولة إجمالي نفقاتها، قبل احتساب مخصص صندوق الأجيال القادمة، والذي يعد احد بنود المصروفات، غير انه من وجهة نظري يعد جانبا من الفوائض.

ووفقا للجدول فان الكويت حققت خلال الفترة من السنة المالية 1999/2000 إلى 2009/2010، فوائض بلغت حوالي 40.3 مليار دينار، أي ما يعادل 140 مليار دولار أمريكي، وقد تحقق الجانب الأكبر من هذه الفوائض بصورة أساسية خلال السنوات المالية الأخيرة.

وتعني هذه الأرقام أننا نواجه حاليا ما يمكن أن نطلق عليه "الوفرة الثانية" للأموال النفطية، والتي كان من الممكن أن تمثل، من وجهة نظري" فرصة ذهبية أخرى، وربما تكون الأخيرة، لإعادة ترتيب أوضاعنا لضمان استمرار الكويت كدولة لها كيان مستقل قادر على البقاء على المدى الطويل، وتتمتع في ذات الوقت بمستويات للرفاهية لا تقل عن المستويات الحالية.

غير انه، وللأسف الشديد، بدلا من أن نفكر في أفضل السبل لاستغلال هذا الفائض للدفع في هذا الجانب، فقد شجعت مستويات الفائض الحالي المحقق في الميزانية العامة للدولة على فتح شهية المطالبين برفع مستويات المرتبات، ومنح إعفاءات لفئات متعددة، وتحسين كوادر الكثير من الفئات العاملة بالدولة، أي بنفس الفلسفة "فلسفة الكنز"، وأصبح من الواضح أن الاستجابة لتلك الطلبات لا يلقى عبئا كبيرا على الميزانية العامة للدولة فقط، ولكنه سوف يعني أيضا استدامة هذا العبء في المستقبل، خصوصا في ظل صعوبة عمليات تخفيض مستويات الإنفاق الجاري بسبب جموده، وهي ظاهرة لا تقتصر على دولة الكويت، وإنما أيضا تمتد لكل دول العالم تقريبا. ومما لا شك فيه انه من غير المنطقي، فضلا عن انه يصعب التسليم، بإمكانية إلقاء أعباء دائمة على الميزانية العامة للدولة اعتمادا على فوائض، هي في أفضل أحوالها مؤقتة، خصوصا في ظل الأوضاع الحالية لهيكل الإيرادات العامة للدولة الذي يعتمد بشكل أساسي على الإيرادات النفطية.

وغني عن البيان التنبيه إلى أن التجربة الماضية لأسعار النفط تثبت انه من الممكن حدوث انعكاس، وبشكل سريع، في مستويات أسعار النفط، حيث يتسم سوق النفط الخام بالتقلب الشديد، خاصة وان المستويات المرتفعة لأسعار النفط تجعل الإنتاج من معظم المصادر اقتصاديا، كما أنها بلا شك سوف تعمل على تسارع خطوات الابتكار في مجالات الطاقة البديلة للنفط، وهو أخشى ما نخشاه في المستقبل. وعلى ذلك فإذا سلمنا بأن الوضع الحالي للمالية العامة للدولة يبدو مريحا، إلا انه ليس هناك ما يؤكد استمرار تلك الأوضاع في المستقبل. وتظل، كما سبقت الإشارة، الفوائض الحالية فرصة نادرة للتعامل بصورة أكثر جدية مع التحديات الحيوية التي تواجهنا في المستقبل.

الأربعاء، مارس ١١، ٢٠٠٩

الوفرة المالية الأولى

عندما حدثت حرب أكتوبر 1973، وما تلاها من حظر نفطي فرضته الدول العربية المصدرة للنفط على صادراتها إلى أمريكا وأوروبا، ارتفعت أسعار النفط بصورة كبيرة من حوالي 2.2 دولارا للبرميل عام 1973، إلى ما يقارب 50 دولارا في عام 1980، وترتب على ذلك تحقيق فوائض مالية ضخمة وغير مسبوقة للدول المصدرة للنفط، ومنها الكويت، ومثل غيرها من الدول العربية النفطية قامت الكويت باستخدام هذه الفوائض في:

* إقامة مشروعات ضخمة في مجال البنى التحتية من طرق وجسور ومستشفيات ومدارس.. الخ.

* رفع مستوى الخدمات العامة المختلفة المقدمة للأفراد.

* رفع مستويات الرفاه لعموم الشعب باعتبارها أحد قنوات تقسيم الثروة بين الإفراد

* تملك بعض وسائل الإنتاج للسلع والخدمات، بصفة خاصة الخدمات العامة لتسهل تطبيق فلسفة دولة الرفاه، وتوفير فرص عمل للمواطنين.

أي أن استخدام الوفورات المالية قام على فلسفة اقتسام الثروة، أو إعادة توزيع الثروة (الناضبة) على الأفراد، وعلى الرغم من منطقية مثل هذه الفلسفة في حينها، إلا النمط الذي سارت عليه عملية اقتسام الثروة قد تجاهل أهمية تنميتها، بل ومن وجهة نظري، فان سياسات اقتسام الثروة أدت إلى إهدار الثروة. وأصبحنا نتصرف وفق ما أسميه "نظرية الكنز"، أي أننا نتصرف مثل هؤلاء الذين عثروا على كنز وأصبح دورهم يتمثل في سحب جزء منه يوميا للإنفاق على حاجاتهم، دون أن يراعوا انه سوف يأتي يوم على هذا الكنز وينتهي.

لقد ترتب على هذا النمط إفرازات عديدة ايجابية وسليبة يمكن تلخيصها في الآتي:

* حدوث تحسن كبير في مستويات المعيشة، والخدمات العامة، بصفة خاصة الصحة والتعليم، وارتفاع مستويات الرفاهية بشكل عام، وهو أهم الجوانب الايجابية.

* خلق مجتمع استهلاكي، انخفضت فيه الإنتاجية بشكل واضح، وقلت فيه قيمة العمل وازداد فيه اعتماد المواطن على الدولة في كل شيء تقريبا.

* على المستوى الكلي حدث انتشار للكثير مـن الاخـتلالات الهيكليـة التي تفـاقمت حدتها بمرور الوقت، والتي باتت، في الوقت الراهن، تشكل قيدا على عملية التنمية ذاتها، وأهم هذه الافرازات ارتفاع مساهمة القطاع النفطي في الناتج المحلي الإجمالي، وتبعا لذلك هيمنة الإيرادات النفطية على هيكل الإيرادات العامة للدولة، وارتفاع نصيب القطاع العام من الناتج المحلي الإجمالي، وانخفاض نسبة السكان الكويتيين في المتوسط إلى إجمالي السكان، وانخفاض نسبة العمالة الوطنية إلى إجمالي العمالة في سوق العمل، فضلا عن تركزها في القطاعين الحكومي والعام. هذا باختصار شديد ما أفرزته الوفرة المالية الأولى.

الاثنين، مارس ٠٩، ٢٠٠٩

الوقت الحالي هو الأنسب لتنفيذ مشروعات الكويت العملاقة

نشر في جريدة القبس بتاريخ الاثنين 9/3/2009

قانون الاستقرار المالي، على الرغم من الجهد الكبير الذي بذل في سبيل إعداده، والجهد الأكبر في مناقشته، والمدة الماراثونية التي ستنقضي في سبيل إقراره، في أفضل الأحوال، سيقدم حلولا مؤقتة لسيولة المؤسسات المالية، بصفة خاصة البنوك، ويضفي بعضا من الثقة على عمليات الائتمان التي تقوم بها مؤسساتنا المالية. لكن، هل هو العلاج الشافي للأزمة؟
الإجابة ببساطة: لا. فكما أشرنا سابقا، القانون حسب أفضل التوقعات سيعمل على وقف التدهور في أداء سوق المال لفترة زمنية محدودة، ثم يعاود سوق المال التراجع مرة أخرى مع استمرار أوضاع الأزمة المرشحة للتدهور محليا وعالميا. قانون الاستقرار المالي إذًا يعالج أعراض الأزمة، لا الأسباب الحقيقية لها.

حل مشكلة القطاع المالي ليس إذًا في التوجه نحو القطاع المالي ذاته، وإنما في التوجه نحو القطاع الحقيقي من الاقتصاد المحلي، أي القطاع الإنتاجي. فالقطاع المالي هو مجرد قطاع يمارس عمليات الوساطة المالية، ومن ثم فان دوره ينحصر في عملية تعبئة المدخرات من مصادرها المختلفة، وإعادة ضخها في صور مختلفة، سواء للأفراد أو المؤسسات أو الحكومة. وعلى ذلك، فان أداء القطاع المالي يعتمد أولا وأخيرا على أداء القطاع الحقيقي الذي يخدمه بصفته وسيطا ماليا، بصفة خاصة للقطاع الحقيقي، وإذا كان القطاع المالي هو مجرد وسيط مالي، فلماذا يتدهور أداؤه بشكل مستمر على النحو الذي نراه حاليا؟

الإجابة هي ببساطة: أن الأداء السيئ للقطاع الحقيقي (الإنتاجي) من الاقتصاد، هو أساس استمرار الأزمة ومن ثم تعمق آثارها. وعلى ذلك، فان رفع مستويات الأداء في القطاع الحقيقي من الاقتصاد هو السبيل الوحيد في الأجلين القصير والطويل لمعالجة الأزمة للقطاع المالي. فإذا ارتفعت مستويات الأداء في الاقتصاد الحقيقي تتعزز قدرة القطاع المالي على القيام بدوره الأساسي في عمليات الوساطة المالية، وتزداد عمليات الإقراض بفعل ارتفاع مستويات الثقة بقدرة الاقتصاد على التعافي من الأزمة، وتنخفض تبعا لذلك درجة تأثر الاقتصاد المحلي بتطورات الأزمة العالمية.

ولكن ماذا نفعل نحن في الكويت، الذين نعتمد بشكل أساسي على صادراتنا النفطية التي تراجعت بفعل تراجع مستويات الطلب العالمي نتيجة الأزمة؟ كيف لنا إذًا أن ننشط القطاع الحقيقي في الاقتصاد المحلي؟من وجهة نظري، يجب على الكويت أن تعيد النظر مرة أخرى، وعلى وجه السرعة في قائمة مشاريعها الكبرى، حيث ان الوقت الحالي هو انسب الأوقات لتنفيذ تلك المشاريع، لعدة أسباب أهمها:

1. أن الكويت تمتلك حاليا قدرا لا بأس به من الاحتياطيات المالية، التي تراكمت خلال أعوام الوفرة القليلة الماضية. واحتفاظ الكويت بهذه الاحتياطيات يعرضها لمشكلتين أساسيتين، المشكلة الأولى أن هذه الاحتياطيات المالية يتم استثمارها عالميا في إطار صندوق الاستثمار السيادي الذي تملكه الكويت. وهذه الاستثمارات معرضة حاليا لدرجة عالية من المخاطرة والمصاحبة لاستثمارها في الخارج بفعل تراجع أسعار الأصول عالميا، وارتفاع معدلات الإفلاس بين البنوك والشركات العالمية على حد سواء. ومن ثم فان الاحتفاظ بها في صورتها الحالية سيعرضها لمخاطر عديدة، خصوصا في ظل استمرار أوضاع الأزمة. أما عملية استخدام هذه الاحتياطيات في تمويل مشاريع الكويت الضخمة فستحمي تلك الاحتياطيات من الخسارة. أما المشكلة الثانية، فهي أن احتفاظ الكويت بهذه الاحتياطيات من دون استغلال في الاقتصاد الوطني يفتح شهية المطالبين بحرق هذه الاحتياطيات من خلال توزيعها على الناس. وآخر هذه المقترحات توزيع 10 آلاف دينار على كل شخص، أي انه بجرة قلم تم تأمين حوالي 50 ألف دينار لكل أسرة من الثروة الوطنية من دون مقابل. فماذا سيكون رأي هؤلاء إذا كانت هذه الأصول الوطنية يتم تدويرها في الاقتصاد الوطني وان هناك مردودا حقيقيا مصاحبا لذلك في صورة مشاريع وأصول تبنيها الدولة؟ طبعا مثل هذه المطالب لن تجد لها مبررا.
2. أن تنفيذ المشاريع في الوقت الحالي هو أفضل علاج للازمة المالية، حيث ان مشكلة القطاع المصرفي حاليا هي انه لديه ودائع يرغب في تدويرها، لكنه يتردد بشكل كبير في عمليات الإقراض نتيجة اتباع معظم المصارف لسياسات ائتمانية تشددية، بسبب ظروف الأزمة. في ظل تنفيذ هذه المشاريع الضخمة سيزداد الطلب بشكل كبير على الائتمان المصرفي، وفي ضوء الضمان الحكومي لجانب من ذلك الائتمان، فان عملية تدوير الودائع ستشتد، مما يسهم في ضخ كميات كبيرة من السيولة في الاقتصاد الوطني، أي أن تنفيذ تلك المشاريع في الوقت الحالي سيشجع المؤسسات المالية على تحريك عمليات الائتمان وممارسة دورها التقليدي في الوساطة المالية على نحو أفضل. مما يساعد بشكل أساسي على التخفيف من آثار الأزمة.

3. أن تنفيذ المشاريع في الوقت الحالي سيضمن تنفيذها بتكاليف اقل من تلك التكاليف المتوقعة لها، حيث تميل الأسعار عالميا حاليا نحو الانخفاض بشكل واضح، مما يضمن الاقتصاد في الميزانيات التي يمكن أن تخصص لتنفيذ تلك المشاريع في الأوقات العادية.
4. أن تنفيذ المشاريع في الوقت الحالي، سيضمن تهافت أفضل الشركات العالمية، التي تعاني حاليا ضغوط الكساد، على مزادات تنفيذ هذه المشاريع. مما يمكننا من الحصول على أفضل العروض، سواء من حيث الجودة أو التكلفة، وبالشروط التي تمليها الكويت.

5. أن تنفيذ المشاريع في الوقت الحالي سيرفع من مستويات النشاط الاقتصادي في الكويت، ويعزز من مستويات الطلب الكلي محليا، مما يسهم في عكس التوقعات التشاؤمية السائدة حاليا حول مستقبل الاقتصاد المحلي، مما يساعد تحسين مستويات النشاط الاقتصادي.
6. أن تنفيذ المشاريع في الوقت الحالي يمكن أن يساعد، ولو بشكل جزئي، في تشجيع توظيف العمالة الوطنية، خصوصا إذا ما ألزمت الدولة القائمين على تلك المشاريع، ضمن عقودها، بنسبة تشغيل دنيا للعمالة الوطنية، أو أعلنت نسبا دنيا لتوظيف العمالة الوطنية في المؤسسات المحلية التي يمكن أن تتقدم أو تشارك في تنفيذ هذه المشاريع.

7.أن تنفيذ المشاريع بشكل عام يساعد على تنويع مصادر الدخل، ويقلل من اعتماد الكويت على مصدر شبه وحيد للدخل، وهو صادراتها من النفط الخام. الأمر الذي يقلل من وقع الصدمات الخارجية على الأداء الاقتصادي محليا، ويفسح المجال أمام تحريك عجلة التنمية المشلولة حاليا

الأربعاء، مارس ٠٤، ٢٠٠٩

هل آن الأوان لتسييل صندوق الأجيال القادمة

نشر في جريدة القبس بتاريخ الأربعاء 4/3/2009
أنشئ صندوق الأجيال القادمة بمبادرة من حضرة صاحب السمو أمير البلاد الراحل الشيخ جابر رحمه الله، وذلك بتخصيص 10% من الإيرادات السنوية لدولة الكويت توضع في هذا الصندوق بهدف توفير ثروة كافية للأجيال القادمة بعد نضوب النفط،، وكذلك لتنويع مصادر الدخل من خلال بناء هياكل للأصول الخارجية تسهم في توفير عوائد تستثمر لصالح الأجيال القادمة. وقد تبدو فكرة صندوق الأجيال القادمة جذابة للكثير من الناس، بل ويدافعون عنها استنادا إلى ما حدث للكويت أثناء فترة العدوان العراقي وتحرير البلاد، حيث كان صندوق الأجيال القادمة خيار الكويت الاستراتيجي الأول ل في التعامل مع الأزمة، فقد دفعت منه بعض تكاليف التحرير للدول المشاركة في العمليات العسكرية ضد جيش الاحتلال، كذلك استخدم لتمويل عمليات إعادة البناء والتعمير وتوفير سبل الإعاشة خلال فترة الحرب وما بعدها.

بالنسبة لي لا أختلف في أن وجود الصندوق قد ساعد الكويت أثناء الأزمة. ولكن هل كانت ستختلف النتائج بشكل كبير إذا لم يكن الصندوق موجودا. على العكس لقد أدى وجود الصندوق إلى الإسراف في الإنفاق وتكريس سلوكيات استهلاكية ضارة أدت إلى نشر دعوات مدمرة اقتصاديا. على سبيل المثال لم يكن هناك أي داع لإلغاء القروض بعد التحرير وإلغاء فواتير المياه والكهرباء كهدية للناس. كان من الممكن تأجيل عمليات سداد القروض حتى تتحسن أحوال المدينين ويصبحون أكثر قدرة على استئناف الدفع. ولذلك ليس من المستغرب أن نجد اليوم الدعوات ذاتها تتكرر مرة أخرى، وقد نجح بعضها في إلغاء جانب من فواتير الكهرباء (2000 دينار لكل مستهلك)، وما زال البعض بإسقاط القروض، وقد تم إلغاء فوائدها على الأقل للمتقاعدين.

لقد أدى وجود الصندوق بالحكومة في ذلك الوقت إلى استخدام حوالي 45 مليار دينار من أصول الصندوق السيادي للكويت وهو ما مثل خسارة كبيرة لأصول الصندوق في ذلك الوقت.

من وجهة النظر الاقتصادية صندوق الأجيال القادمة هو هدية نقدمها للدول التي نستثمر فيها، بينما تقتصر استفادتنا نحن على الحدود الدنيا، وتميل استفادتنا إلى التناقص بمرور الزمن، وعندما نعقد مقارنة بين عوائدنا وتكاليفنا من هذا الصندوق نجد أن صافي منافعنا يكون منخفضا، وربما يكون سالبا إذا ما أخذنا في الاعتبار تكلفة الفرصة البديلة لهذا الصندوق، فما هي فوائد الدول المستقبلة لاستثماراتنا من خلال الصندوق، إنها ببساطة تمثل في الآتي:

توفير مدخرات إضافية تسهم في رفع مستويات الاستثمار لديها وهو ما يؤدي إلى زيادة مضاعفة في مستويات الدخل والإنفاق لتلك الدول، يعتمد ذلك على قيمة مضاعف الإنفاق الاستثماري بها.
خلق فرص وظيفية مباشرة لمواطني تلك الدول مع كل دينار يتم استثماره فيها، وغير مباشرة نتيجة للحركة الانتشارية التي تحدثها تلك الاستثمارات في الاقتصاد الوطني لها.
تحقيق أرباح إضافية للأعمال بتلك الدول تسهم في رفع عوائد عناصر الإنتاج بها ومن ثم زيادة مستويات الدخل القومي الإجمالي بها.
رفع مستويات صادراتها والتقليل من مستويات وارداتها ومن ثم تحسين موقف موازين مدفوعات تلك الدول.

والآن ما هي فوائدنا من مثل هذا الصندوق، أنها على أفضل الأحوال تتمثل في:

تنويع مصادر دخولنا من خلال تكوين محافظ استثمارية خارجية.
تحقيق عوائد على تلك الاستثمارات يمكن استخدامها في تمويل الإنفاق العام أو في إعادة الاستثمار مرة أخرى لتضاف إلى رصيد تلك الأصول.
تكوين احتياطي استراتيجي يمكن استخدامه في أي وقت لمواجهة ظروف طارئة حادة (مثلما حدث أوقات العدوان العراقي على الكويت).

ولكن ما هي تكاليف مثل هذا الصندوق علينا، إنها للأسف متعددة وتتمثل في الآتي:

الفرصة الضائعة في صورة الناتج المحلي الضائع، بصفة خاصة الناتج غير النفطي، الذي كان من الممكن الحصول عليه لو تم استثمار تلك الأموال داخل الكويت.
فرص التوظف التي كان من الممكن خلقها للشباب من المواطنين، لو تم استثمار هذه الأموال هنا، حيث لا يستفيد شبابنا من الوظائف التي تخلقها تلك الاستثمارات، ومن ثم فإننا نحل مشكلة البطالة في الخارج، بينما تتعمق المشكلة لدينا هنا.
انخفاض معدلات النمو الاقتصادي وفرص الرقي التي كان من الممكن بلوغها لو تم استثمار تلك الأموال هنا.
تدني العوائد التي نحصل عليها من تلك الاستثمارات حيث نحصل على نسبة مئوية من الربح لا تتناسب مع تكلفة الفرصة البديلة لتلك الاستثمارات بالنظر إلى الفوائد الضخمة التي يمكن أن تعود علينا إذا ما تم استثمار هذه الأموال بكفاءة هنا.
المخاطر التي تصاحب استثمار تلك الأموال في الخارج والناجمة عن تعرض أصول تلك الصناديق للانهيار مع انهيار أصول المؤسسات التي يتم الاستثمار فيها، خصوصا في أوقات الأزمات الاقتصادية، مثل الأزمة الحالية.
المخاطر المصاحبة للتضخم في الدول المضيفة، حيث تميل القوة الشرائية لتلك الاستثمارات نحو التناقص بمرور الزمن، خصوصا في الدول التي ترتفع فيها تكاليف المعيشة ومن ثم المستوى العام للأسعار.
الخسائر الناجمة عن تقلبات أسعار العملات، وهو ما يطلق عليه مخاطر الصرف الأجنبي، والمتمثل في ميل عملات الدول المستقبلة لهذه الاستثمارات نحو الانخفاض ومن ثم تدهور القوة الشرائية لتلك الأصول.
المخاطر الأخلاقية، حيث ليس هناك ضمان لحسن إدارة تلك الأصول في الدول المضيفة، خصوصا وأننا في اغلب الأحوال لا نملك قوة تصويتية، ولا نمثل في مجالس إدارات تلك الأصول، وهو ما يعرض تلك الاستثمارات إلى الخطر.
المخاطر السياسية، والمتمثلة في تغير السياسات الخارجية للدول المضيفة لتلك الاستثمارات، خصوصا وأننا نعيش في منطقة ساخنة مليئة بالأحداث التي ربما تدفع الدول المضيفة في أسوأ الأحوال إلى تجميد تلك الاستثمارات وهو السيناريو الأسوأ على الاطلاق.

وفقا لبلومبرج في 15 يناير الماضي فان صندوق أبو ظبي السيادي ربما يكون قد حقق خسائر بلغت حتى هذا التاريخ حوالي 125 مليار دولارا. ومن المعلوم أن تقديرات معهد الصناديق السيادية لأصول الصندوق السيادي لأبو ظبي تبلغ 875 مليار دولار، غير أن هناك تقديرات أخرى تضع إجمالي أصول الصندوق بحدود 450 مليار دولارا. الخسائر الفعلية للصندوق في وجهة نظري ربما تكون اكبر من ذلك بكثير، حيث تقدر نسبة الخسائر التي لحقت بالصناديق السيادية من جراء الأزمة المالية الحالية بحوالي 40%. كذلك نشرت جريدة الوطن بتاريخ 11/2/2009 تصريحا للنائب وليد الطبطبائي عن مدير الهيئة العامة للاستثمار أن خسائر الصندوق السيادي للاستثمار في دولة الكويت بلغت 9 مليار دينار (31 مليار دولار أمريكي) من استثماراتنا المقدرة بحوالي 230 مليار دولار. وقد جاءت هذه التصريحات بناءا على ما تم مناقشته داخل الجلسة المغلقة للحالة المالية للدولة. مرة أخرى أعتقد أن الخسارة الفعلية ربما تكون 3 أضعاف الرقم المعلن.

لقد خلصت دراسة سعودية إلى انه من الأفضل للسعودية أن تقوم باستثمار الفوائض المالية التي تملكها داخل المملكة لا خارجها، ضاربة أمثلة على عظم عوائد عمليات الاستثمار في الداخل بحالة سابك وحالة شركات الاتصالات، وما وفرته من وظائف ودخول وأصول وثروة قومية للمملكة عندما تم استثمار تلك الأموال في داخل المملكة.

أرى أن الوقت قد أصبح مناسبا لتسييل تلك الأصول واستثمارها هنا، لصناعة مستقبل حقيقي للأجيال القادمة، يستند إلى اصول انتاجية حقيقية، وليس مجرد أن نترك لهم وديعة مالية لدى الغير، وهي بالتأكيد لن تكفي لتوفير حاجاتهم في المستقبل. بل ان الارقام المتاحة لدينا تؤكد أن صندوق الأجيال القادمة على الرغم من ارتفاع قيمة أصوله لن يمثل شيئا ذو قيمة حقيقية بالنسبة للحاجات الفعلية الأجيال القادمة. على سبيل المثال حسب أفضل البيانات المتاحة فان الصندوق السيادي لدولة الكويت يملك حاليا حوالي 200 مليار دولار، أي حوالي 58 مليار دينار كويتي. تم تكوينها عبر مدى زمني يتجاوز 30 عاما، ووفقا لآخر الأرقام المتاحة للإنفاق العام بدولة الكويت، حوالي 12 مليار دينار، فان صندوق الأجيال القادمة لن يكفي الأجيال القادمة سوى أقل من خمس سنوات فقط (بأرقام اليوم)، وبأرقام المستقبل ربما لن يكفيها سنتين أو ثلاث.

أما إذا تحولت تلك الأصول إلى مصانع وشركات وموانئ وأساطيل وبنى تحتية متنوعة ومدن جديدة ومؤسسات أبحاث وتطوير، فإنها ستحقق دخلا دائما لهم وتوفر وظائف كافية لهم، وبذلك نكون فعلا قد ضمنا مستقبل الأجيال القادمة. مستقبل الأجيال القادمة نصنعه اليوم، وهنا داخل ديرتنا، وليس في حدود دول أخرى. فهل آن الأوان لتسييل تلك الأصول واستثمارها في الداخل.

مصطلحات: مضاعف الإنفاق الاستثماري
هو العلاقة المضاعفة بين كل دينار يتم إنفاقه على الاستثمار والدخل الذي ينشا عن هذا الإنفاق. فإنفاق دينار يؤدي إلى زيادة دخول عناصر الإنتاج التي أسهمت في إنتاج الأصل الذي تم الإنفاق عليه، وهو ما يؤدي إلى زيادة إنفاق تلك العناصر، ومن ثم زيادة دخول عناصر الإنتاج التي تنتج السلع الاستهلاكية لأصحاب هذه العناصر، وهكذا، فإذا كان مضاعف الإنفاق الاستثماري 5، فان كل دينار يتم إنفاقه على الاستثمار سيؤدي إلى زيادة في الدخل بخمس دنانير.