الجمعة، نوفمبر ٢١، ٢٠١٤

تناقض السياسات يوقع اليابان في الكساد

عندما تولى رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي زمام الأمور في اليابان أخذ في تبني سياسات اقتصادية جديدة ذات مستهدفات طموحة للاقتصاد الياباني أطلق عليها "اقتصاديات آبي Abinomics"، التي استهدفت إنعاش الاقتصاد الياباني ووضعه على قائمة ثاني أكبر اقتصاد في العالم مرة أخرى، بعد أن فقد هذه المرتبة أخيرا. وشملت السياسات عدة جوانب أهمها: الإصلاح الهيكلي للاقتصاد الياباني، وضمان الاستقرار الاقتصادي طويل الأجل بعد عقدين متتاليين من عدم الاستقرار في الأداء، فضلا عن إعادة توازن الاقتصاد الياباني، وذلك من خلال عدة إجراءات أهمها: التحفيز النقدي المكثف من خلال سياسات نقدية توسعية تهدف إلى الخروج من حالة الانكماش السعري وضمان مستويات مناسبة من التضخم، وتكثيف مستويات الإنفاق لدفع الطلب الكلي، فضلا عن إدخال الإصلاحات المناسبة.
مع تطبيق سياسات آبي أخذ الأداء الاقتصادي في اليابان في التحسن على نحو واضح، وبتبني السياسات النقدية التوسعية ساد الاعتقاد بأن الوقت قد أصبح مناسبا للسيطرة على الأوضاع المالية من خلال الحد من عجز الميزانية والسيطرة على نمو الدين العام، الذي أصبح يتجاوز ضعفي حجم الناتج المحلي الإجمالي، وأكبر الديون في الدول الصناعية من حيث نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي. كان أول الحلول المقترحة في هذا الجانب هو رفع ضريبة المبيعات على مرحلتين بهدف مضاعفة معدل الضريبة خلال سنتين. تجدر الإشارة إلى أن ضريبة المبيعات لم تكن ضمن برنامج آبي، ولكنه ورثها من الحكومة السابقة، غير أن خطأه الكبير كان في اختيار التوقيت المناسب لتطبيق تلك الضريبة، على الرغم من أن الاقتصاد الياباني واجه حالة مماثلة لرفع الضرائب في تسعينيات القرن الماضي تسببت في وقوع الاقتصاد في حالة الركود، ولكن على ما يبدو أن درس الماضي لم يتعلم أحد منه.
لا خلاف على أن الإصلاح المالي أمر مهم جدا للدول التي تواجه عجزا ماليا ضخما ومستويات مرتفعة للدين العام، لكن الأكثر أهمية هو اختيار التوقيت المناسب لتطبيق هذه الإصلاحات، ففي أول أبريل الماضي بدأت اليابان في رفع ضريبة المبيعات إلى 8 في المائة، بما يمثل زيادة بنسبة 3 في المائة على مستويات الضريبة السابقة، وكانت الخطة المبدئية أن يتم رفع الضريبة مرة أخرى بنسبة 2 في المائة في أكتوبر القادم، لتتضاعف بذلك نسبة ضريبة المبيعات، وكان النمو الياباني قد بدأ في استرداد عافيته الأمر الذي فسر بأنه مؤشر لنجاح سياسات آبي.
كان البنك المركزي الياباني قد بدأ في تكثيف سياساته التوسعية في أوائل 2013، وهو الأمر الذي مكّن اليابان من تحقيق معدلات نمو كبيرة خلال معظم 2013 والربع الأول من 2014، وقد كان من الواضح أن الاقتصاد الياباني قد أخذ بالفعل في التعافي من الركود طويل الأجل الذي يعيشه منذ فترة طويلة، وأن سياسات آبي الاقتصادية تعمل على نحو سليم، حتى جاء تطبيق السياسات الضريبية الجديدة.
فقد حمل الربع الثاني من هذا العام، وهو الربع الذي تم تطبيق الضريبة، مفاجأة قاسية حيث تراجع معدل النمو في الناتج على أساس سنوي بنسبة 7.3 في المائة، ومنذ أيام أعلن عن مفاجأة إضافية، وهي استمرار النمو في الناتج المحلي في التراجع في الربع الثالث من هذا العام بنسبة 1.6 في المائة، وعلى الرغم من أن ذلك يعني تحقيق اليابان نتائج أفضل مقارنة بتراجع النمو في الربع الثاني من العام، إلا أنه من المتعارف عليه أنه عند ما يحقق الاقتصاد معدلات نمو سالبة لستة أشهر على التوالي، فإن ذلك يعني أن الاقتصاد قد دخل بالفعل مرحلة الكساد.
كانت هذه هي المرة الثالثة التي يدخل فيها الاقتصاد الياباني في الكساد خلال السنوات الأربع الماضية، لكن التراجع الأخير ألقى مزيدا من الشك حول قدرة اقتصاديات آبي على إنعاش الاقتصاد الياباني على المدى الطويل. تمثلت المشكلة الأساسية في أن تركيبة السياسات التي واجه بها آبي عدم الاستقرار الاقتصادي بأنها متناقضة، فبينما كانت السياسة النقدية تواصل مسارها التوسعي، جاءت السياسات المالية على النقيض، وعلى نحو تسببت في تراجع الطلب الاستهلاكي، الذي يشكل أكبر مكونات الطلب الكلي في اليابان، حيث يمثل نحو 60 في المائة من الإنفاق الكلي.
لكي يستمر الانتعاش وتأكيد الخروج من حالة عدم الاستقرار الاقتصادي لا بد أن تكون السياسات متناغمة، بمعنى أن السياسات النقدية التوسعية لا بد أن تساندها في الوقت ذاته سياسات مالية محفزة، حتى تدفع السياستان مستويات الإنفاق نحو النمو. ما حدث هو أنه بعد تطبيق الضريبة أصبح الاقتصاد الياباني يسير بسياستين متناقضتين، فمن ناحية يفترض أن تؤدي السياسات النقدية التوسعية لبنك اليابان المركزي إلى تشجيع الطلب الكلي، غير أن السياسة المالية الجديدة القائمة على رفع معدلات ضريبة المبيعات أدت، ليس فقط إلى تثبيط الطلب الاستهلاكي، وإنما أيضا إلى تراجع الإنفاق الاستثماري، ومن الطبيعي أن تكون المحصلة النهائية لذلك هي تراجع النمو في الناتج، وهذا ما حدث بالفعل. إنه الخطأ نفسه الذي وقعت فيه أوروبا عندما تبنت سياسات تقشفية لمواجهة العجز الكبير في ميزانياتها والحد من النمو في الديون السيادية، في وقت كانت أحوج فيه لتبني سياسات مالية توسعية.
لا يمكن استخدام سياسات لتحفيز الطلب الكلي من الناحية النقدية، وفي الوقت ذاته محاولة الحد من العجز المالي والسيطرة على نمو الدين، إذا لا بد من إفساح الوقت الكافي للسياسات النقدية لإتمام الخروج من حالة الكساد أولا، والتأكد من تعافي الاقتصاد على نحو كامل، ثم البدء بعد ذلك في معالجة العجز المالي والسيطرة على نمو الدين، وعندما يقع صانع السياسة بين خياري تحفيز الاقتصاد ومواجهة العجز المالي، فإنه من الخطأ اختيار معالجة العجز في أوقات الانحسار الاقتصادي، إذ لا بد أن يعطى تحفيز الاقتصاد للخروج من الكساد الأولوية الأولى في هذه الحالة، لسبب بسيط هو أن نمو الاقتصاد هو الذي سيساعده على مواجهة العجز المالي ومن ثم رفع قدرته على خدمة ديونه.
في أول رد فعل لهذه التطورات أعلن رئيس الوزراء الياباني تأجيل المرحلة الثانية من ضريبة المبيعات لمدة سنة ونصف السنة، حيث كان من المفترض أن تطبق اليابان المرحلة الثانية من الضريبة في أكتوبر القادم لترتفع ضريبة المبيعات إلى 10 في المائة، كما أعلن عن إجراء انتخابات مبكرة في ديسمبر القادم.
الخلاصة هي أن الفترة القادمة لا بد أن تشهد ترتيبا أفضل لتحركات السياسة الاقتصادية، بحيث يتم إحداث التناغم المناسب بين السياستين النقدية والمالية في اليابان، وبحيث لا يتم تضييق السياسة المالية إلا بعد التأكد بالفعل من أن الاقتصاد الياباني قد خرج بالفعل من حالة الركود حتى يضمن صانع السياسة استدامة عمليات الانتعاش الاقتصادي وارتفاع قدرته على التعامل مع ديونه دون أي اضطرابات في النمو التي يمكن أن يترتب عليها ضياع الآثار الإيجابية المحققة من السياستين. حيث قد يضطر لمعالجة الآثار الانكماشية الناجمة عن السياسات المالية التقييدية إلى تبني سياسات مالية لتحفيز الاقتصاد ورفع معدلات النمو يترتب عليها تكاليف أكبر بكثير مما تم جمعه من ضرائب تحت سياسات ضريبة المبيعات.

الجمعة، نوفمبر ١٤، ٢٠١٤

كيف أصبح الاقتصاد الصيني أكبر اقتصادات العالم؟

نشر صندوق النقد الدولي مؤخرا تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي في 2014 والصادر في شهر أكتوبر الماضي، ووفقا لقاعدة بيانات التقرير، بلغت تقديرات الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية (الكميات المنتجة من السلع والخدمات النهائية في ذلك العام مضروبة في الأسعار السوقية لتلك السلع والخدمات) للصين في عام 2014 حوالي 9.469 تريليون دولار، في الوقت الذي يقدر فيه الناتج المحلي الاجمالي الأمريكي بالأسعار الجارية بحوالي 17.416 تريليون دولارا، أي أن الناتج المحلي الاجمالي الصيني بالأسعار الجارية يمثل حوالي 54.4% من الناتج المحلي الاجمالي الأمريكي فقط.   
من ناحية أخرى فإن الصندوق يتوقع أن يصل الناتج المحلي الإجمالي للصين في 2019 إلى 15.518 تريليون دولار، بينما يتوقع أن يزداد الناتج المحلي الاجمالي الأمريكي بالأسعار الجارية إلى 22.174 تريليون دولار في نفس السنة، أي أن الناتج المحلي الاجمالي الصيني، حتى بمعدلات النمو المرتفعة حاليا، لا يتوقع أن يتجاوز 70% من الناتج المحلي الاجمالي الأمريكي في 2019، ومن ثم فإن الحديث عن أن الاقتصاد الصيني سوف يتجاوز الاقتصاد الأمريكي في هذا العقد غير صحيح وفقا لهذه التوقعات للناتج المحلي الإجمالي في الدولتين بالأسعار الجارية.
غير أن قاعدة بيانات تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الأخيرة قد حملت مفاجأة لجميع المراقبين، وهي أنه باستخدام مدخل تعادل القوة الشرائية Purchasing Power Parity (PPP) فإن الاقتصاد الصيني يتحول إلى أكبر اقتصاد في العالم، بل ويتجاوز لأول مرة في التاريخ الحديث حجم الاقتصاد الأمريكي. ففي مقابل الناتج الأمريكي في عام 2014 والذي يساوي 17.416 تريليون دولار، بلغت تقديرات الناتج المحلي الاجمالي الصيني بتعادل القوة الشرائية 17.632 تريليون دولار، أي أن الاقتصاد الصيني أكبر من الاقتصاد الأمريكي بحوالي 1.2%. غير أنه بمرور الوقت فإن الهوة بين الاقتصادين تتسع، على سبيل المثال يتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل الناتج المحلي الإجمالي الصيني بحسابات تعادل القوة الشرائية في عام 2019 إلى 26.867، بينما يقتصر الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي على 22.174 تريليون دولار، أي أن حجم الاقتصاد الصيني يتوقع أن يفوق حجم الاقتصاد الأمريكي بحوالي 21% في ذلك العام.
فماذا يعني تعادل القوة الشرائية؟ وكيف يصبح الاقتصاد الصيني أكبر اقتصاد في العالم وفقا لهذا المدخل؟ وكيف يتم تقدير الناتج باستخدام هذا الأسلوب؟ لتبسيط الفكرة دعنا نفترض أن متوسط دخل الفرد الصيني هو 1000 دولار أمريكي سنويا، بينما متوسط دخل الفرد الأمريكي هو 10000 دولار أمريكي سنويا، أي عشر أضعاف متوسط دخل الفرد في الصين. إذا كان المستوى العام للأسعار واحدا في كلا الدولتين، وكانت القوة الشرائية للدولار في الدولتين واحدة، بمعنى أن كمية السلع والخدمات التي يمكن الحصول عليها بدولار واحد في كل من الصين والولايات المتحدة واحدة، فإن ذلك يعني أن الفرد في الصين بدخله هذا يمكنه الحصول على عشر كمية السلع والخدمات التي يمكن أن يشتريها الأمريكي بدخله في الدولتين، بينما يمكن للأمريكي أن يحصل على عشر أضعاف السلع والخدمات التي يمكن أن يشتريها الصيني في الدولتين.
دعنا الآن نفترض أن متوسط أسعار السلع والخدمات في الصين مقومة بالدولار هو نصف متوسط أسعارها في الولايات المتحدة، فإن ذلك يعني أن الفرد الصيني بمتوسط دخل 1000 دولار يمكنه الحصول على ضعف السلع والخدمات التي يحصل عليها الأمريكي في أمريكا بنفس المبلغ، أي أنه باستخدام مدخل تعادل القوة الشرائية، فإن متوسط الدخل الحقيقي للشخص الأمريكي لا يساوي 10 أضعاف دخل الفرد في الصين، وانما يساوي 5 أضعاف فقط، رغم أنه من الناحية الإسمية يصل دخل الفرد الأمريكي إلى عشر أضعاف دخل الفرد الصيني في المثال السابق، وذلك بسبب فروق الأسعار في الدولتين.
وفقا لتعادل القوة الشرائية يتم استخدام معامل للتحويل يمكننا من أن نقوم بمقارنة مجموعات السلع والخدمات التي يتكون منها الناتج المحلي الإجمالي للدول، حيث يخبرنا هذا المعامل عن عدد الدولارات التي يجب أن نحتاجها في الصين لكي نشتري سلعا ما مقارنة بالولايات المتحدة، لتبسيط طريقة الحساب افترض أن تذكرة السينما تكلف 5 دولارات في الولايات المتحدة، بينما تكلف 3 دولارات في الصين، معنى ذلك أن تعادل القوة الشرائية بين الصين والولايات المتحدة بالنسبة لأسعار هذه الخدمة هو 3/5=0.6، أي أن الصينيين ينفقون 60% مما ينفقه الأمريكيون للحصول على هذه الخدمة، وعلى العكس فإن معامل التحويل لتعادل القوة الشرائية هو 1.67، بمعنى أن الأمريكيين ينفقون 1.67 ضعف ما ينفقه الصينيون للحصول على نفس الخدمة، أي أن الأسعار في أمريكا لهذه السلعة تزيد 67% عن سعرها في الصين، إذا قمنا بإعادة حساب الناتج المحلي الصيني من هذه الخدمة أخذا في الاعتبار فروق تكاليف الحصول عليها، فإننا نصل الى تقدير أكثر واقعية للناتج المحلي الصيني لهذه الخدمة بالدولار.
لاحظ أنه باستخدام تعادل القوة الشرائية يتم مقارنة الناتج المحلي الاجمالي ومكونات الانفاق عليه بعملة موحدة بحيث يمكن المقارنة بين الدول حسب الحجم باستخدام منهج اكثر تعبيرا عن القوة التي يمثلها كل اقتصاد مقارنة بالاقتصادات الأخرى في العالم، من خلال تحويل الانفاق على المجموعات السلعية المختلفة من العملة المحلية إلى عملة موحدة وليكن مثلا الدولار، حتى تسهل عملية المقارنة بين الدول، وهكذا فإننا لو أخذنا فروق أسعار السلع والخدمات بين كل من الصين والولايات المتحدة يصبح الاقتصاد الصيني أكبر من حيث الحجم من الولايات المتحدة بتعادل القوة الشرائية، هذا بالطبع لا يعني ضمنا أن نصيب الفرد الصيني من الدخل أكبر من نصيب الفرد الأمريكية، فهناك فارق شاسع بين الاثنين لاختلاف أعداد السكان بينهما على نحو واضح.
ولكن لماذا يلجأ صندوق النقد الدولي لمثل هذا الأسلوب في المقارنة بين الناتج المحلي الاجمالي لمختلف الدول؟ المشكلة تكمن كما أوضحنا في الفروق الحقيقية في الأسعار وكذلك معدلات صرف العملات، فعندما لا تعكس معدلات الصرف القيمة الحقيقية للعملة، فإن قياسات الناتج باستخدام عملة دولية مثل الدولار لا تعكس القيمة الحقيقية للناتج لدول العالم، على سبيل المثال تحرص الصين دائما على أن تكون عملتها ضعيفة امام العملات الرئيسة، بصفة خاصة الدولار الأمريكي، وذلك لأغراض تجارية، أي حتى تحافظ على عملتها رخيصة بالنسبة للدولار، وحتى تتمكن من الحفاظ على تنافسيتها مرتفعة أمام شركاءها التجاريين مثل الولايات المتحدة. إذا افترضنا أن الرينمنبي الصيني مقيم بأقل من قيمته الحقيقية بـ 25%، فإن ذلك يعني أننا يجب أن نرفع القيمة المحسوبة للناتج المحلي الإجمالي في الصين بنسبة 25%، حتى يعكس القيمة الحقيقية للعملة الصينية، وهكذا فإن تعادل القوة الشرائية يصبح مفيدا في التعرف على القيمة الحقيقية للناتج في دول العالم إذا لم تكن معدلات الصرف بين عملات الدول غير مقيمة على نحو سليم.
بتعادل القوة الشرائية إذن تحول الاقتصاد الصيني هذا العالم إلى أكبر اقتصاد في العالم، بل وأن الهوة بينه وبين ثاني أكبر اقتصاد وهو الاقتصاد الأمريكي تتسع بمرور الوقت.

خطوة «الاحتياطي الفيدرالي» القادمة

في ضوء التحسن الواضح للأوضاع الاقتصادية المحلية سواء من حيث معدلات النمو الحقيقي التي يحققها الاقتصاد الأمريكي، أو تطورات سوق العمل التي تتراجع فيها البطالة على نحو فاق الكثير من التوقعات حول المدى الزمني الذي تستلزمه العودة إلى أوضاع سوق العمل قبل الأزمة، أعلن الاحتياطي الفيدرالي أخيرا عن الوقف الكامل لبرنامج شراء السندات والمعرف بـ "التيسير الكمي"، وكان الاحتياطي الفيدرالي قد خفض مشترياته من السندات وذلك من ذروة بلغت 85 مليار دولار شهريا إلى 15 مليارا حتى الشهر الماضي، ولكنه عاد وقرر إيقاف عمليات الشراء نهائيا.
يذكر أن كل عملية شراء للسندات يصاحبها خلق عرض مماثل بالدولارات، ولذلك يعد "التيسير الكمي" أحد سبل التوسع النقدي، ففي الثاني من يناير 2008 قبل الأزمة كانت ميزانية الاحتياطي الفيدرالي نحو 922 مليار دولار فقط. وقد ترتب على عمليات التوسع النقدي زيادة حجم ميزانية الاحتياطي الفيدرالي في نهاية أكتوبر الماضي إلى 4.487 تريليون دولار، أي ما يقرب من خمسة أضعاف مستوياتها قبل الأزمة، نتيجة السياسات النقدية التوسعية التي اتبعها الاحتياطي الفيدرالي لمعالجة آثار الأزمة.
أثارت عمليات التوسع النقدي الضخم جدلا هائلا حول العالم كله شمل أبعادا كثيرة بدءا من احتمالات التضخم الجامح، إلى انهيار الدولار كعملة دولية وحلول عملات أخرى مكانه. كما ثار جدل مواز حول جدوى السياسة من الأساس، وفيما إذا كانت تساعد الولايات المتحدة على الخروج فعلا من حالة الكساد أم لا.
بغض النظر عن هذه القضايا والتي ليست محل اهتمامنا في هذا المقال، فإن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بقوة هو، وماذا بعد؟ ما الخطوة التالية التي سيتخذها الاحتياطي الفيدرالي؟ كيف سيتم سحب هذه الجبال من النقود؟ وما تأثيراتها المختلفة في أسعار الفائدة والأصول؟ والأهم من ذلك كله الأثر في قيمة الدولار التي من المتوقع أن تستمر تشهد تصاعدا مع خفض العرض منه، وهل يمكن أن يتسبب ذلك في التأثير بصورة سلبية في مسار التعافي الاقتصادي الأمريكي، وخصوصا أن السياسات النقدية التي تتبناها البنوك المركزية للشركاء التجاريين الأساسيين لأمريكا ما زالت توسعية، بعكس الاتجاه الحالي في أمريكا، فالبنك المركزي البريطاني مستمر في برنامج شراء السندات، وكذلك تبنى البنك المركزي الأوروبي الاستراتيجية أخيرا، كما أعلن بنك اليابان المركزي الأربعاء 5 - 11 رفع قيمة عمليات الشراء من 70 تريليون ين إلى 80 تريليون ين.
وفقا لما أعلنه الاحتياطي الفيدرالي، فإنه وحتى الوقت الحالي لا ينوي بدء عملية تخفيض حجم ميزانيته، بل سيستمر في إعادة استثمار حصيلة ما يستحق من هذه السندات مرة أخرى في شراء سندات جديدة، وهو ما يعني استمرار حجم الميزانية على ما هي عليه حاليا، وذلك حتى إشعار آخر، ربما حتى منتصف 2015، ولكن ما السبب في استمرار احتفاظ الفيدرالي بميزانيته عند مستوياتها الحالية؟ هناك سببان على الأقل للاستمرار في الحفاظ على الميزانية كما هي (بمعنى استمرار الكميات المصدرة من الدولار على حالها).
الأول هو أنه لو قام الاحتياطي الفيدرالي اليوم بالتخلص من هذه السندات في غضون فترة قصيرة وذلك لاستعادة الأساس النقدي الدولاري لمستوياته قبل الأزمة مع الأخذ في الاعتبار النمو في الطلب على النقود لمواجهة النمو في الطلب على المبادلات خلال الفترة من 2008- حتى يومنا هذا، فإن ذلك سوف يترتب عليه بيع كميات هائلة من السندات لا تقل عن 3.2 تريليون دولار. وفقا لآخر البيانات المتاحة عن ميزانية الاحتياطي الفيدرالي فإن النقود خارج النظام المصرفي تبلغ نحو 1.3 تريليون دولار، هذه هي كمية الدولارات المطبوعة فعليا، وهذه هي الكمية التي سيحافظ الاحتياطي الفيدرالي عليها، أما الباقي فيمثل نقودا زائدة من الأساس النقدي والتي نتجت عن عمليات التوسع النقدي والتي ينبغي سحبها.
المشكلة الأساسية هي أنه لو حاول الاحتياطي الفيدرالي التخلص من هذه السندات في غضون فترة زمنية قصيرة، فإن ذلك سوف يترتب عليه انخفاض كبير في أسعارها، خصوصا بالنسبة لسندات المؤسسات المتخصصة في عمليات التمويل العقاري مثل "فاني ماي" و"فريدى ماك"، وهذه تمثل حاليا نسبة جوهرية من ميزانية الاحتياطي الفيدرالي، ففي يوم 29 أكتوبر الماضي بلغت قيمة هذه السندات التي يحتفظ بها الاحتياطي الفيدرالي نحو 1.7 تريليون دولار، ومن المعلوم أن هناك علاقة عكسية بين أسعار السندات ومعدلات العائد (الفائدة) عليها، وبالتالي سوف يرتب على تراجع أسعار سندات هذه المؤسسات ارتفاع كبير في معدلات العائد عليها، وهو ما يقتضي زيادة أسعار الفائدة على قروضها، وهذا بالطبع ما لا يريده الاحتياطي الفيدرالي، لأنه يرغب في استمرار الطلب على المساكن مرتفعا حتى لا يتراجع الاستثمار في هذا القطاع وهو أحد أهم بنود الإنفاق الاستثماري الخاص، الأمر الذي يؤثر سلبا في معدلات النمو وبالتالي استدامة التعافي الاقتصادي من الأزمة.
السبب الثاني أن التخلص من هذا الحجم الضخم من السندات في غضون فترة زمنية قصيرة، وإلغاء القيود النقدية المقابلة له في الميزانية سوف يتسبب بالتبعية في انخفاض كبير في عرض النقود. وفي ظل ثبات الطلب على النقود على حاله، فإن أسعار الفائدة سوف تميل نحو الارتفاع، وهو ما يمكن أن يتسبب في عودة الاقتصاد مرة أخرى إلى حالة الكساد مع تراجع مستويات الطلب الكلي.
ولكن كيف سيخفض الاحتياطي الفيدرالي من ميزانيته؟ هناك عدة طرق تمكنه من ذلك، الأولى هي أن يتوقف الاحتياطي الفيدرالي عن إعادة استثمار ما يستحق من سندات، ويلغي بالتالي القيود الخاصة بهذه السندات والنقود التي تمثلها من ميزانيته. بالطبع سرعة عمليات خفض عرض النقود سوف تعتمد في هذه الحالة على تواريخ استحقاق السندات، فإن كانت معظم السندات قصيرة الأجل، فإن الاحتياطي الفيدرالي سوف يتخلص من النقود الزائدة بسرعة، أما إن كانت السندات معظمها طويلة الأجل فإن الاعتماد على هذه السياسة في خفض عرض النقود سوف يأخذ وقتا، وستظل ميزانية الاحتياطي الفيدرالي أكبر من اللازم لفترة زمنية طويلة.
الطريقة الثانية، وهي أن يقوم الاحتياطي الفيدرالي بالتخلص من هذه السندات قبل موعد استحقاقها من خلال بيعها في سوق السندات أو ما يسمى بعمليات السوق المفتوحة، وبالتالي إلغاء القيود الكمية المقابلة لها في ميزانيته، وذلك وفقا للمعدلات الموضوعة للتخلص من هذه السندات.
الطريقة الثالثة التي يمكن أن يلجأ إليها الاحتياطي الفيدرالي، هي محاولة التأثير في قرارات المصارف بالاحتفاظ بالسيولة لديه، وذلك من خلال التوقف عن دفع معدلات للفائدة على مودعات المصارف لديه، فمن المعلوم أنه بشكل عام ليس من حق الاحتياطي الفيدرالي أن يدفع فوائد للمصارف على احتياطياتها النقدية التي تقوم بالاحتفاظ بها لديه، غير أنه ولظروف الأزمة استطاع الاحتياطي الفيدرالي أن يحصل على موافقة الكونجرس على دفع معدلات للفائدة على مودعات المصارف حتى يمكنه امتصاص فوائض السيولة في سوق النقود. الميزة الأساسية في هذا الخيار هي أنه يمكّن الاحتياطي الفيدرالي من أن يتحكم في ميزانيته وفي عرض النقود بالتبعية، ولكن دون أن يؤثر في معدلات الفائدة، غير أن جدوى هذه الطريقة محدودة نظرا لانخفاض حجم المودعات بشكل عام.

عقبات في طريق الخروج من الازمة الاقتصادية العالمية


عندما نشبت أزمة الديون السيادية الأوربية، والتي نجمت عن عدم انضباط المالية العامة للعديد من الدول الأعضاء، خصوصا في أثناء الأزمة المالية العالمية، والتي اضطرت معها منطقة اليورو الى اتباع سياسات مالية تقشفية كسبيل للخروج من الأزمة وكوسيلة للتعامل مع انخفاض مستويات الطلب الكلي ورفع مستويات النمو، ومنذ ذلك الحين والأوضاع الاقتصادية في منطقة اليورو تسير من سيء إلى أسوأ. حيث بدى من الواضح أن السياسات التقشفية التي تتبعها منطقة اليورو لا تتوافق مع طبيعة الظروف الاقتصادية التي تمر بها، وأن التقتير على الاقتصاد في اوقات انحسار الطلب هو أسوأ الوصفات التي يمكن اللجوء اليها لمعالجة تدهور الأوضاع الاقتصادية، فالمعروف أن السياسات المالية التقشفية تزيد من حدة الأزمة ولا تسهم في حلها كما روج لسياسات التقشف في منطقة اليورو. فقد جاءت بيانات النمو في منطقة اليورو منذ بداية هذا العام مخيبة للآمال، بصفة خاصة وأن بيانات التضخم تشير الى احتمال دخول المنطقة في مصيدة الكساد السعري Deflation Trap، مع بلوع معدلات الفائدة مستويات صفرية تقريبا، كما تزايد الحديث في الوقت الحالي عن عقد أوروبا الضائع Europe’s Lost Decade، نتيجة استمرار وقوع الاقتصاد الأوروبي في مصيدة الكساد دون جهود جادة لمحاصرته، وأن أوروبا في طريقها لأن تخسر عقدا من النمو على نمط ما واجهته اليابان في أعقاب الأزمة الآسيوية في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، حيث فقدت اليابان عزم النمو خلال أكثر من عقد من الزمان تقريبا.
ما أن خفت حدة مشكلة الديون السيادية لدول اليورو، حتى ضربت المنطقة مشكلتان في غاية الخطورة وهما تراجع مستويات النمو المصحوب بارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض معدلات التضخم الى مستويات قريبة من الصفر، وقد أدركت دول المنطقة أن الخروج من دائرة الكساد يتطلب مراجعة سياسات التقشف التي لجأت اليها في الفترة الماضية، والتي أصبح من الواضح للعيان أنها لا تعمل على النحو المأمول، وبأنه أصبح من الضروري اللجوء الى سياسات اقتصادية مختلفة، على الأقل في الجانب النقدي، للحيلولة دون سقوط المنطقة في مصيدة الكساد السعري مع تراجع معدلات النمو والأسعار في ظل معدلات الفائدة شبه الصفرية أو السالبة.
يشير الشكل التالي إلى اتجاهات النمو في الناتج المحلي الحقيقي في منطقة اليورو (18 دولة) مقارنة بدول المنطقة الموحدة الأوروبية (28 دولة من بينها دول منطقة اليورو) والولايات المتحدة الأمريكية، خلال الربع الأول من 2005 حتى الربع الثاني من 2014. ومن الشكل يلاحظ أن نمو الناتج الحقيقة في هذه الدول لم يزد في المتوسط عن 1% سوى في حالات نادرة خلال هذه الفترة، وهو بالفعل ما يعكس انخفاض عزم النمو في المنطقة على نحو واضح خلال العقد الماضي والذي بالفعل يمكن أن يطلق عليه وصف عقد أوروبا الضائع. يلاحظ أيضا أنه ومنذ الربع الأول من 2011 ودول منطقة اليورو لم تحقق نموا تقريبا حتى الآن.
أخطر التطورات في الفترة الأخيرة حيث أشارت أخر التقديرات حول اتجاهات النمو في منطقة اليورو أن المنطقة لم تحقق أي نمو في الربع الثاني من هذا العام، حيث بلغ متوسط معدل النمو المحقق في المنطقة (18 دولة) صفر%. الأسوأ هو أن الاقتصادات التي يمكن أن يطلق عليها اقتصادات المفتاح في منطقة اليورو أخذت تحقق إما معدلات نمو حقيقي سالبة أو صفرية مثل فرنسا وإيطاليا. على الجانب الآخر فإنه على الرغم من أن الاقتصاد الألماني قد حقق معدلا نمو موجبة، وأن كان منخفضة، فإن بيانات النمو في الربع الثاني من هذا العام جاءت مخيبة للآمال، حيث حقق الاقتصاد الألماني ولأول مرة منذ فترة طويلة معدل نمو سالب (-0.2%)، وقد تزايد الحديث عن احتمال دخول الاقتصاد الألماني الكساد مرة أخرى، خصوصا بعد أن خفضت ألمانيا رسميا من توقعات النمو في عامي 2014 و 2015، الأمر الذي يشير الى مدى عمق الأزمة، وهو ما رفع من حدة القلق حول اتجاهات النمو في المنطقة.
في الرابع عشر من هذا الشهر صدر تقرير مركز الاحصاءات الأوروبي "اليوروستات"، حول النمو في الانتاج الصناعي في منطقة اليورو، والذي أشار إلى تراجع الانتاج الصناعي في المنطقة بصورة غير متوقعة من معدل نمو 0.9% في يوليو 2014، إلى -1.8% في أغسطس 2014.
كذلك صدر مؤخرا تقرير صندوق النقد الدولي الأخير حول آفاق الاقتصاد العالمي World Economic Outlook، والذي قام فيه بتخفيض توقعاته حول اتجاهات النمو في العالم، حيث تم تخفيض توقعات النمو العالمي المتوقع في عام 2014 إلى 3.3%، بانخفاض قدره 0.4 نقطة مئوية عما ورد في تنبؤات عدد إبريل الماضي من التقرير، وهو ما عكس سوء الأداء المتوقع للنمو في الولايات المتحدة، والأسواق الصاعدة في العالم. 
الشكل رقم (1) معدلات النمو الربع سنوي في منطقة اليورو مقارنة بأوروبا الموحدة والولايات المتحدة
2005-2014




المصدر: Eurostat: “GDP stable in the euro area and up by 0.2% in the EU28” 133/2014 - 5 September 2014

     
     ب. تطورات معدلات البطالة
عندما يحقق اقتصاد ما مثل هذه المعدلات المنخفضة من النمو، فإنه من الطبيعي ان تنحسر قدرته على خلق الوظائف، وتتزايد بالتالي أعداد العاطلين في سوق العمل، في 30 سبتمبر الماضي، صدر آخر تقرير عن أسواق العمل في منطقة اليورو، وقد أشار التقرير الى استمرار معدلات البطالة مرتفعة في منطقة اليورو عند معدل متوسط 11.5%، مقارنة بمعدل متوسط 10.2% في الاتحاد الأوروبي (28 دولة)، وهي معدلات أعلى بكثير من مستوياتها التاريخية في المنطقة قبل الأزمة، وكذلك أعلى من معدلاتها في الدول المنافسة في العالم، بصفة خاصة الولايات المتحدة والتي من الواضح أن معدل البطالة يتراجع فيها على نحو جيد، وإن كان ذلك مصحوبا ببعض التطورات الهيكلية في سوق العمل الأمريكي التي تجعل من ضغوط البطالة، على الرغم من انخفاضها، مثار اهتمام الاحتياطي الفدرالي وأحد أسباب تأخير قراراته بالخروج من السياسة النقدية التوسعية التي يتبعها حاليا.
وعلى الرغم من اتجاه معدلات البطالة في المنطقة نحو التراجع، على سبيل المثال خلال العام الماضي تراجع معدل البطالة في المنطقة من 12% في اغسطس 2013 إلى 11.5% في أغسطس لهذا العام، إلا أن هذه المعدلات تعد مرتفعة للغاية بكافة المقاييس، وبشكل عام عام تختلف معدلات البطالة بصورة واضحة بين دول المنطقة، ففي الوقت الذي بلغ فيه معدل البطالة في اليونان (حسب آخر البيانات المتاحة) 27.2%، وهو الأعلى بين دول المنطقة، وكذلك بلغ معدل البطالة في إسبانيا 24.5%، نجد أن معدل البطالة قد اقتصر على 4.9% في ألمانيا.
من ناحية أخرى تشير تقارير مركز الإحصاءات الأوروبي "اليوروستات" إلى ارتفاع معدلات البطالة بين العمال صغار السن (العمال في الفئات العمرية أقل من 25 عاما) بصورة استثنائية، ففي المتوسط يبلغ معدل البطالة بين هذه الفئة من العمال 23.3% في أغسطس 2014، أما على المستوى القطري فيصل معدل البطالة بين هؤلاء إلى 53.7% في إسبانيا، و 51.5% في اليونان، و 44.2% في إيطاليا، في الوقت الذي لا يزيد فيه عن 7.6% في ألمانيا.
ولا شك أن هذه المعدلات المرتفعة تعكس مدى عمق الازمة، حيث أن هذه الفئات من العاطلين هم الأكثر تأثرا في أحرج أوقات الكساد.
لم تقتصر التطورات الخطيرة في منطقة اليورو على تراجع معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي، أو الناتج الصناعي أو ارتفاع معدلات البطالة، وإنما أتت أيضا بيانات معدل التضخم أقل بكثير من المستويات المستهدفة، وعلى نحو مثير للقلق، خصوصا وأن المنطقة تعاني من استمرار انخفاض معدلات التضخم منذ نهاية 2011 تقريبا، كما يتضح من الشكل رقم (2)، ففي أواخر 2011 بلغ معدل التضخم الشهري في المنطقة حوالي 3% تقريبا، ومنذ ذلك الوقت أخذ معدل التضخم في التراجع شبه المستمر حتى اقتصر في شهر سبتمبر  الماضي على 0.3%، وهو أقل بكثير من معدل التضخم المستهدف Target Inflation بواسطة البنك المركزي الأوروبي (2%). 
الشكل رقم (2) معدل التضخم في أوروبا ومنطقة اليورو سبتمبر 2010 - سبتمبر 2014



المصدر: Eurostat: Euro area annual inflation down to 0.3% - 154/2014 - 16 October 2014
من المعلوم من الناحية النظرية هو أنه عندم يتبنى البنك المركزي معدلا ما على أنه المعدل المستهدف للتضخم فإنه يراقب هذا المعدل بصورة لصيقة، ويقوم باتخاذا الاجراءات اللازمة للحفاظ على هذا المعدل عند مستوياته المستهدفة، على سبيل المثال من خلال استخدام معدلات الفائدة كأحد الأسلحة الأساسية لضبط الاتجاهات التضخمية في الاقتصاد، فإذا ما ارتفع معدلا التضخم عن المستويات المستهدفة فإن البنك المركزي يستهدف في هذه الحالة الضغط على الطلب الكلي بالنزول من خلال رفع معدلات الفائدة، أما إذا ما اتجه معدل التضخم نحو الانخفض عن المستويات المستهدفة، فإن البنك المركزي يخفض معدلات الفائدة بهدف تحفيز الطلب الكلي ومن ثم رفع معدلات التضخم الى المستويات المستهدفة.
الخطورة الأساسية التي تواجهها منطقة اليورو في الوقت الحالي هي المعدلات المنخفضة جدا للتضخم والتي تقترب من الصفر تقريبا، ومع بلوغ معدلات الفائدة قاعها الصفري، فإن استمرار تراجع معدلات التضخم بصفة خاصة مع تحول معدلات التضخم الى مستويات سالبة، فإن ذلك سوف يؤدي إلى بدء ارتفاع معدلات الفائدة الحقيقية وهو ما يبشر بدخول المنطقة في مصيدة الكساد حيث يصعب الخروج منها مع تراجع مستويات الاستثمار مع كل تراجع يحدث في معدلات التضخم، الأمر الذي يؤثر سلبا على النمو في الطلب الكلي، حتى على الرغم من اتباع سياسات نقدية توسعية لتحفيزه.
مما لا شك فيه أن هذه التطورات التي تحدث في منطقة اليورو تشكل الخلطة المثلى لدخول المنطقة في مرحلة الركود (الكساد العميق)، وهو ما يشكل أهم العقبات في طريق تعافي الاقتصاد العالمي من الأزمة الاقتصادية العالمية التي صاحبت الأزمة المالية في العالم، وهو الأمر الذي استدعى التدخل السريع للبنك المركزي الأوروبي من خلال الإعلان عن سياسة نقدية جديدة لمنطقة اليورو لمحاولة دفع معدلات النمو وانتشال اقتصاد المنطقة من قاع الكساد، وقد تمثلت أهم ملامح هذه السياسة في تبني إجراءات غير تقليدية، يمكن تلخيصها على النحو التالي:
أولا: فرض معدلات فائدة سالبة على مودعات البنوك لدى البنك المركزي الأوروبي، حيث قام البنك المركزي الأوروبي بخفض معدلات الفائدة التي يدفعها على مودعات البنوك لديه لمدة ليلة إلى سالب 0.10 في المائة، وهي إجراء نادر اتبعه عدد قليل جدا من دول العالم مثل السويد والدانمرك، ويعني معدل الفائدة السالب أن البنوك التي ترغب في الاحتفاظ باحتياطياتها الزائدة لدى البنك المركزي الأوروبي أصبح عليها الآن أن تقوم بدفع فائدة على هذه المودعات بنسبة 0.10 في المائة، والهدف من هذه الخطوة أن يصبح معدل الفائدة على مودعات البنوك لدى البنك المركزي الأوروبي عقابيا، بحيث تضطر هذه البنوك الى البحث عن سبل أخرى لإقراض هذه المودعات وتحقيق عوائد عليها، بدلا من خسارة جانب منها بإيداعها لدى البنك المركزي، الأمر الذي يؤدي الى زيادة حجم الائتمان وتحفيز مستويات الطلب الكلي.  
ثانيا: خفض معدلات الفائدة على قروض إعادة التمويل من البنك المركزي الأوروبي من 0.25 في المائة إلى 0.15 في المائة، لتحفيز عمليات الائتمان في الاقتصاد الأوروبي.
ثالثا: أعلن البنك المركزي الأوربي أنه سيفتح خطوط ائتمان طويلة الأجل بنحو 400 مليار يورو "أي أكثر من نصف تريليون دولار" للأسر ومؤسسات الأعمال التي في حاجة إلى تمويل (لا يشمل تمويل المساكن( لتحفيز الطلب الكلي.
رابعا: قام البنك المركزي الأوروبي بوقف عمليات التعقيمSterilization ، التي يقوم بها مع كل عملية توسع نقدي، أي وقف سحب النقود من التداول في مقابل مشترياته من السندات، الأمر الذي يضاعف الأثر التوسعي لعمليات شراء السندات على عرض النقود.
خامسا: أعلن البنك المركزي الأوروبي مؤخرا عن بدء برنامجه لشراء الأوراق المالية بقيمة 500 مليون يورو، وهو ما يعرف باستراتيجية التيسير الكمي Quantitative Easing التي اتبعها الاحتياطي الفدرالي بكثافة في السنوات الأخيرة بهدف التأثير على هيكل العوائد على الأصول المالية في سوق المال.
وتهدف هذه الإجراءات جميعا إلى رفع معدلات التضخم والضغط على معدلات الفائدة، وهو أمر مطلوب في ظل تراجع اتجاهات التضخم خلال السنوات الماضية على النحو الذي يحمل آثارا سلبية على النمو الاقتصادي، وإجبار البنوك غير الراغبة في مد خطوط الائتمان في الاقتصاد الأوروبي على القيام بذلك حتى تتجنب أن تدفع فائدة على الأموال التي لا تقرضها، وهو أمر مرغوب أيضا في ظل هذه الظروف لتغذية الطلب الكلي في الاقتصاد الأوروبي، هذا بالطبع بافتراض أن البنوك تهتم بالدرجة الأولى بالفائدة التي ستدفعها على مودعاتها.
لقد ساهمت هذه الإجراءات في تراجع اليورو على نحو واضح بالنسبة للعملات الرئيسة في العالم، خصوصا الدولار، الى الحد الذي دعا مجموعة "جولدمان ساكس" الى توقع تعادل الدولار واليورو في 2017، حسبما نشر الوول ستريت جورنال أواخر أغسطس الماضي. في العامين المقبلين يتوقع استمرار تراجع اليورو نتيجة لاستمرار النمو المنخفض وفقا للتوقعات، وكذلك للسياسات النقدية التوسعية التي يطبقها البنك المركزي الأوروبي حاليا، غير أنه أصبح من الواضح أن هذا التطور يسهم في تحفيز الطلب على السلع التي تنتجها منطقة اليورو، كما أنه يخفض الطلب على الواردات التي تأتيها من الخارج، وبالتالي يحسن من موازين مدفوعاتها، ففي أغسطس 2014 ارتفعت فوائض ميزان مدفوعات دول اليورو الى 9.2 مليار يورو، في أغسطس 2014 مقارنة بـ 7.3 مليار يورو في أغسطس 2013.
على الجانب الآخر كذلك يلاحظ أن الدولار يرتفع بالنسبة لليورو الى مستويات ما قبل الأزمة، مثل هذه التطورات تسهم في التأثير على المدفوعات الدولية للدول المنافسة  وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتي يفترض أنها تستعد للخروج من السياسة النقدية التوسعية الحالية، الأمر الذي يعني مزيدا من الارتفاع في قيمة الدولار، فهل تقف الولايات المتحدة مكتوفة اليدين أمام استمرار ارتفاع الدولار؟ أم من الممكن أن نشهد تنافسا على خفض العملات على النحو الذي يمكن أن يجر دول العالم إلى الدخول في حرب للعملات للحفاظ على مراكزها التنافسية؟  حتى الآن، وفي أحلك ظروف الأزمة، استطاع العالم تجنب هذه السيناريو المدمر، وأعتقد أن اختلاف السياسات النقدية بين المناطق الرئيسة في العالم سوف يتطلب قدرا أكبر من التنسيق لتجنب آثار هذه السياسات على المواقف التنافسية للأطراف التجارية المختلفة. 

الثلاثاء، نوفمبر ٠٤، ٢٠١٤

ماذا ستفعل حكومات العالم في جبال الديون التي تحملها؟

من الواضح أن العالم اليوم يعيش حقبة زمنية يمكن أن نطلق عليها حقبة الديون، فحكومات العالم، بصفة خاصة الدول الغنية منها، ترتفع مستويات الديون التي عليها، سواء من الناحية المطلقة أو من الناحية النسبية، أي نسبة الديون إلى ناتجها المحلي الإجمالي، إلى مستويات مرتفعة في الكثير من الدول على رأسها الولايات المتحدة. على سبيل المثال عادت الديون لتتجاوز الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة بعد تراجع نسبتها إلى الناتج من نحو 122 في المائة في وسط الأربعينيات إلى نحو ثلث الناتج في أواسط الثمانينيات، بينما تتجاوز النسبة ضعفي الناتج في اليابان حاليا، وتتجاوز حجم الناتج في الكثير من الدول الأوروبية المدينة، أما في الدول التي تقل فيها الديون عن حجم الناتج فإنها أيضا تمثل نسبة كبيرة من الناتج تتجاوز ما هو متعارف عليه على أنه الحد الآمن لنسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي والتي يجب ألا تتجاوز 60 في المائة في أي وقت من الأوقات، حتى تضمن الدولة سلامة أوضاعها المالية على المدى الطويل وعدم اضطرارها إلى إعلان توقفها عن خدمة ديونها، أو ما يطلق عليه الإفلاس من الناحية الفنية.
غير أن السؤال الملح اليوم هو ماذا ستفعل حكومات العالم في جبال الديون التي تحملها على عاتقها؟ وأنى لها أن تتحصل على الإيرادات التي تمكنها من خدمة هذه الديون على المدى الطويل؟ وذلك مع ميل معدلات العائد على سندات الديون نحو الارتفاع، خصوصا بعد أن تنتهي الأزمة حيث يتوقع أن تعود معدلات الفائدة إلى مستوياتها الطبيعية قبل الأزمة. هل بالفعل ستسبب هذه الجبال من الديون مشكلة حقيقية للمالية العامة للدول المدينة على المدى الطويل، كيف ستواجه دولة مثل الولايات المتحدة أعباء دين يصل إلى نحو 18 تريليون دولار حاليا؟ والذي يتوقع له أن يصل إلى نحو 26 تريليون دولار في غضون عشر سنوات فقط.
واقع الأمر أن الصورة الحقيقية ليست بهذا القدر من السوء، فالتاريخ يخبرنا أن ما قد ينظر إليه على أنه مرتفع بمقاييس اليوم، يصبح منخفض القيمة في المستقبل مع ارتفاع معدلات التضخم وميل القيمة الحقيقية، أو القوة الشرائية للديون نحو التراجع، وبالتالي انخفاض عبئها على الحكومات. فمع مرور الوقت وارتفاع معدلات التضخم وتراكم مستوياتها يأخذ تأثيرها في القوة الشرائية للديون في الظهور، وخصوصا أنه غالبا ما لا يتم تعويض الانخفاض في القيمة الحقيقية للديون من خلال رفع معدلات الفائدة الحقيقية على السندات، حيث تميل معدلات الفائدة الحقيقية نحو التراجع في أوقات التضخم، بسبب وجود فترات تأخير بين التغير في معدل التضخم والتغير في معدلات الفائدة الحقيقية، وتكون النتيجة هي تراجع القيمة الحقيقية للديون بسبب عدم قدرة معدلات الفائدة الحقيقية على تعويض الانخفاض الحادث في القوة الشرائية للسندات بمرور الوقت.
وبمعنى آخر فإن هذا النوع من الاستثمار لحائزي السندات، في ظل ثبات معدلات الفائدة وارتفاع معدلات التضخم، تتراجع قيمته وبشكل مستمر عبر الزمن، وبالتالي تستفيد الحكومات من تراجع القيمة الحقيقية لديونها، ومن ثم فإن ما قد ينظر إليه البعض على أنه أمر مقلق من الناحية الفعلية لهذه الدول اليوم، مع تصاعد الدين العام لمستويات فلكية، فإنه على المدى الطويل سوف تتراجع القوة الشرائية لهذه الديون، وربما لا تمثل مشكلة في المستقبل، خصوصا في أوقات التضخم المرتفع.
من المؤكد أنه إذا ما شكلت الديون أزمة حقيقية لدول مثل الولايات المتحدة، فإنه من خلال استخدام أدوات السياسة النقدية يمكن التعامل مع ارتفاع القيمة الحقيقية للديون من خلال استخدام السياسات النقدية التوسعية لتخفيض مستوياتها من الناحية الحقيقية وذلك عن طريق استهداف معدلات مرتفعة للتضخم، فتكون النتيجة الحتمية لمثل هذه السياسات هي في تراجع تكلفة الديون على المال العام.
على سبيل المثال لو افترضنا أن معدل الفائدة الاسمي على السندات هو 3 في المائة، وأن البنك المركزي تبنى معدلا مستهدفا للتضخم عند 4 في المائة، أي أعلى من معدلات الفائدة الاسمية. في هذه الحالة يتحول معدل الفائدة الحقيقي على السندات إلى سالب 1 في المائة، وهو ما يعني تراجع القوة الشرائية للسندات وعوائدها بهذه النسبة سنويا. قد يبدو للبعض أن تراجع القوة الشرائية للسندات بهذا المعدل على أنه تراجع محدود أو بسيط، ولكننا عندما نطبق قواعد معدلات النمو المركب، فإن القيمة الحقيقية لهذه السندات سوف تنخفض بصورة سريعة جدا على المدى الطويل.
على سبيل المثال فإن السند المصدر بدولار اليوم بمعدل فائدة 3 في المائة، في ظل معدل للتضخم 4 في المائة، سوف تصبح قيمته الحقيقية أقل من دولار بعد سنة، وبصورة أكبر بعد سنتين وهكذا، وذلك نظرا لأن معدلات الفائدة على السند لا تعوض الخسارة التي تحدث لقيمته الحقيقية مع مرور الوقت. في مثل هذه الحالة سوف تتعرض القيمة الحقيقية للسند للتراجع بنسبة 1 في المائة سنويا، وبالتالي فإن دولار اليوم المستثمر في مثل هذا السند ستساوي قيمته بعد عشرة سنوات، نحو 91 سنتا، وبعد 25 عاما ستساوي قيمته نحو 78 سنتا، وعلى المدى الطويل مثلا 50 عاما، فإن القيمة تتراجع إلى 61 سنتا فقط. بالطبع لو تبنت السلطات النقدية معدلا أعلى للتضخم بحيث يكون معدل الفائدة السالب هو 2 في المائة مثلا، فإن قيمة هذا الاستثمار سوف تتراجع إلى 82 سنتا بعد عشر سنوات وإلى 61 سنتا بعد 25 عاما، وإلى 38 سنتا فقط بعد 50 عاما. أي أن ما قد ينظر إليه اليوم على أنه جبال من الديون قد يتحول إلى حصوات قليلة على المدى البعيد إذا ما استهدفت الدول معدلات مرتفعة للتضخم لمجابهة النمو في تكلفة خدمة الديون.
ولكن هل يمكن أن يواجه حملة السندات هذا التطور في معدلات العائد الحقيقي على استثماراتهم في الديون العامة للدول، الإجابة هي من الناحية النظرية على الأقل نعم، وذلك أذا ما شعر المستثمرون أن التضخم المرتفع أصبح سمة دائمة في اقتصاد الدولة، فإنهم غالبا ما يطلبون معدلات مرتفعة للعائد على السندات، بحيث تغطي تكلفة التضخم، لكن هذا الأمر سوف ينطبق على السندات الجديدة فقط، أما السندات القديمة فإن قيمتها الحقيقية القائمة سوف تستمر في التراجع بمرور الوقت وتتخلص الدول من جانب كبير من تكلفتها بسبب التضخم. من الناحية الأخرى يمكن للدولة مرة أخرى أن ترفع معدلات التضخم المستهدف مع كل ارتفاع في معدلات الفائدة الاسمية بصورة أكبر بحيث تبقي معدلات الفائدة الحقيقية على السندات سالبا.
المشكلة الأساسية في هذا الحل هي أن التضخم، كما هو معلوم نظريا تترتب عليه آثار توزيعية جوهرية في الاقتصاد. بمعنى آخر فإن أصحاب الدخول الثابتة غالبا ما تسوء أوضاعهم في ظل التضخم المرتفع، بينما يستفيد أصحاب الدخول المتغيرة وملاك الأصول الحقيقية كالأراضي والعقارات، والتي غالبا ما ترتفع أسعارها مع الارتفاع في معدلات التضخم، غير أن الحكومات غالبا ما تكون مستعدة لتحمل مثل هذه التكاليف حتى لا تضطر إلى التخلف عن سداد ديونها وتواجه بالتالي شبح الإفلاس.