الجمعة، يونيو ٢٩، ٢٠١٢

الحرب والاقتصاد الأمريكي 2/2

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 26/6/2012

في المقال السابق تناولنا الآثار السلبية والإيجابية المتوقعة للإنفاق العسكري على الاقتصاد الوطني من الناحية النظرية، وتساءلنا عن نتائج الحرب على الاقتصاد الأمريكي، اليوم نحلل النتائج التي توصل إليها معهد السلام والاقتصاد في دراسة له نشرت مؤخرا بعنوان "آثار الحرب على الاقتصاد الأمريكي"، قام المعهد فيها بتحليل الآثار الكلية للإنفاق الحكومي في خمس حروب أساسية وهي الحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام والحرب الباردة وحرب العراق وأفغانستان، على الميزانية العامة وأثار عملية تمويل الإنفاق الحكومي على الحرب، والآثار على الاستهلاك والاستثمار والضرائب والتضخم.

غالبا ما يشار إلى أن الولايات المتحدة خرجت بصورة أساسية من الكساد الكبير الذي بدأ في 1929 من خلال خوض الحرب العالمية الثانية، فقد شهدت فترة الحرب العالمية الثانية واحدا من أعلى معدلات النمو قصير الأجل في تاريخ أمريكا (17% في 1942)، لكن هذا النمو الاستثنائي كان مدفوعا أساسا بالإنفاق الحكومي، فلم تشهد الولايات المتحدة في تاريخها نسبة للإنفاق الحكومي إلى الناتج كتلك التي تحققت خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حيث بلغت نسبة الإنفاق الحكومي إلى الناتج حوالي 80%، وهي نسبة مرتفعة جدا، حيث تجاوز الإنفاق الحكومي الإنفاق الاستهلاكي الخاص لأول مرة، كما تناقص الإنفاق الاستهلاكي الخاص من 65% من الناتج في بداية الحرب إلى 45% في 1944، بينما اقتصر الاستثمار على 3% فقط من الناتج، وهو بكل المقاييس أمرا استثنائيا، فقد كانت الموارد مخصصة أساسا للإنتاج العسكري.

أما عن تمويل هذا الإنفاق الحكومي فقد كان يتم أساسا من خلال الاقتراض، ولذلك بلغت نسبة الدين العام إلى الناتج أعلى مستوياتها على الإطلاق في تاريخ الولايات المتحدة بنهاية الحرب العالمية الثانية، والتي تجاوزت نسبة 120% من الناتج، لم تصل نسبة الدين إلى الناتج هذه المستويات من قبل. بالطبع من المتوقع تحقيق هذه المعدلات من النمو في مقابل هذا الحجم الضخم للإنفاق العام، لأنه حتى لو تصورنا قيام الحكومة بهذا القدر من الإنفاق في ظل غياب الحرب، فقد كان سيؤدي إلى نفس النتائج على النمو وربما إلى نتائج أفضل.

من المؤكد أن أفضل نتائج الحرب العالمية الثانية كانت على معدلات البطالة التي انخفضت من حوالي 15% عام 1940 إلى 1.9% فقط في 1945 وهو من أدنى معدل للبطالة في التاريخ الأمريكي، حيث كان يعمل حوالي 20% من السكان الأمريكيين في القوات المسلحة. غير أن معهد السلام والاقتصاد يشير إلى أن أحد أهم نتائج الحرب العالمية الثانية هي أنها مهدت الطريق لتوزيع أفضل للثروة، وهو الاتجاه الذي استمر في الولايات المتحدة حتى نهاية حرب فيتنام، الأمر الذي مهد لنشوء اقتصاديات الاستهلاك الكبير في أمريكا. فقد كان للحرب تأثيرا إيجابيا واضحا على تركز توزيع الدخل في الولايات المتحدة، وفقا للإحصاءات المتاحة فإن الـ 10% الأعلى دخلا من السكان الأمريكيين كانوا يحصلون 45% من الدخل خلال الفترة من 1920-1940، غير أنه مع قيام الحرب انخفض نصيبهم إلى 32.5%، قبل أن تعود مرة أخرى إلى 45% في 2007.

كان للحرب الكورية 1950-1953 نفس التأثير على النمو في الاقتصاد الأمريكي والذي بلع في عام 1951 حوالي 11%، والذي كان  أيضا مدفوعا بنمو الإنفاق الحكومي على الحرب، وكما حدث في الحرب العالمية الثانية، انخفضت مستويات الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري في مقابل زيادة الإنفاق الحكومي، غير أن الولايات المتحدة كانت قد استوعبت درس الحرب العالمية الثانية في تمويل الإنفاق من خلال العجز، وبدلا من ذلك تم تعديل أسلوب التمويل بالضرائب بدلا من التمويل بالعجز الذي تسبب في رفع نسبة الدين إلى الناتج إلى مستويات استثنائية خلال الحرب العالمية الثانية، وارتفع معدل التضخم نتيجة لذلك.

من حيث التكلفة كانت حرب فيتنام التي بدأت فعليا في 1965، أقل تكلفة من الحربين العالمية الثانية والحرب الكورية، ذلك أن الإنفاق العسكري الأمريكي كان مرتفعا أساسا بسبب الحرب الباردة مع المعسكر الشرقي، فلم تزد نسبة الإنفاق العسكري في أقصى مستوياتها عن 9.5% من الناتج، ومرة أخرى لم تلجأ الولايات المتحدة إلى التمويل بالعجز، وإنما بزيادة مستويات الضرائب، ونظرا لأن الإنفاق العام لم ينم بصورة جوهرية، فلم يترتب على نمو الإنفاق الحكومي تراجع الاستهلاك أو مستويات الاستثمار في الاقتصاد الأمريكي خلال فترة الحرب الكورية، وبشكل عام بلغ معدل نمو الناتج اقصى مستوياته خلال الحرب حوالي 7.3% في عام 1966.

كان الوضع مختلفا بالنسبة لحرب العراق وأفغانستان، حيث كان الاقتصاد الأمريكي يعيش مرحلة الكساد التي نتجت عن انفجار فقاعة شركات التكنولوجيا في عام 2000 وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ولعل قيام الولايات المتحدة بإعلان هذه الحرب يعد أحد أسباب الاعتقاد الذي يسود حاليا باحتمال قيام الولايات المتحدة بحرب قريبة لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي من حالة الكساد التي يعاني منها.

في أثناء حرب العراق وأفغانستان بلغ الإنفاق العسكري أوجه عند نسبة 4.3% من الناتج المحلي الإجمالي، وتجدر الإشارة إلى أن مستشاري الرئيس الأمريكي قد صوروا له حرب العراق وأفغانستان على أنها عملية جراحية دقيقة محسوبة النتائج والتكاليف، إلا أن الواقع العملي اثبت أن التزامات الولايات المتحدة في حرب أفغانستان بالذات أخذت في التزايد مع مرور الوقت، وهناك من يرى أن التكلفة الحقيقية لحرب العراق وأفغانستان كانت باهظة للغاية، على سبيل المثال يقدر الاقتصادي الأمريكي ستجلز الحاصل على جائزة نوبل، تكلفة الحرب بحوالي 3 تريليون دولارا، وفي تحديث آخر لهذه التكلفة يقدرها ستجلز بخمسة تريليونات دولارا.

على العكس من الحروب السابقة التي تم فيها تمويل الإنفاق على الحرب من خلال الضرائب، لم تمكن ضغوط الكساد والإعفاءات الضريبية التي أقرها الرئيس بوش مرتين بهدف تشجيع النشاط الاقتصادي الخاص، الولايات المتحدة من تمويل حربها من خلال الضرائب، لذلك عادت الولايات المتحدة إلى التمويل من خلال العجز مرة أخرى، فقد كانت هذه هي المرة الأولى في الولايات المتحدة التي يتم فيها إقرار خفض للضرائب وهي مقدمة على حالة حرب، وفي الحقيقة يصعب فصل أثر حرب العراق وأفغانستان على  الاقتصاد الأمريكي لتداخلها بشكل واضح مع أزمة سوق المساكن وما تلاها من أزمة مالية واقتصادية، وأعتقد أنه ما زال هناك المزيد من الوقت لكي يمكن تقييم الأثر الصافي النهائي لحرب العراق وأفغانستان على الاقتصاد الأمريكي، والذي من المؤكد أنه لن يكون مهمة سهلة.

من هذا التحليل نصل إلى خلاصة مفادها أن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة كان لها تأثير إيجابي بشكل عام على معدلات النمو،  حيث حققت الولايات المتحدة معدلات نمو استثنائية أثناء تلك الحروب، غير أنه تنبغي الإشارة إلى أن هذا النمو كان مرجعه الأساسي هو زيادة مستويات الإنفاق الحكومي، وفي كثير من الحالات على حساب الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري، وتصاعد عجز الميزانية ونسبة الدين العام إلى الناتج إلى مستويات مرتفعة، ولذلك أعتقد أنه يصعب القول بأن الأثر الصافي للحرب على اقتصاد الولايات المتحدة كان موجبا من الناحية الحقيقية.




الأحد، يونيو ٢٤، ٢٠١٢

الحرب والاقتصاد الأمريكي 1/2

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 22/6/2012

هناك اعتقاد يتداول من وقت لآخر بأن الإنفاق على الحرب والدفاع كان دوما في مصلحة الاقتصاد بشكل عام، والاقتصاد الأمريكي بشكل خاص، على سبيل المثال تشير استطلاعات الرأي التي أجريت في الولايات المتحدة أن الكثير من الناس يعتقد بأن الحرب تحسن من الأداء الاقتصادي للولايات المتحدة بشكل عالم، لذلك لم يكن من المستغرب منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية الحالية، والتي تحولت إلى كساد مصحوبا بارتفاع معدلات البطالة، أن تتداول بعض الفرضيات على الساحة بأن هناك حربا وشيكة في العالم سوف تعمل أمريكا على إشعالها بهدف إنقاذ اقتصادها من الكساد الذي تعانيه، ومن الواضح أن جوهر هذه الفرضية هو أن الإنفاق الحربي له آثار إيجابية على الاقتصاد الأمريكي باعتبار أنه يؤدي إلى تغذية الطلب الكلي من مناح عدة، مما يساعد في حل المشكلات الاقتصادية التي تواجهها أمريكا حاليا.
ولكن هل يساعد الدخول في حرب بالفعل الاقتصاد الوطني من الناحية الاقتصادية، لاشك أن الإجابة على هذا السؤال تستدعي تحليل الآثار المختلفة للإنفاق العسكري، حتى يمكن تقييم الأثر الصافي للدخول في الحرب وزيادة الإنفاق العسكري، وتنبغي الإشارة إلى أنه ليس هناك اتفاق بين الاقتصاديين حول مدى تأثير الإنفاق العسكري من حيث اثره الصافي على الاقتصاد بالإيجاب أو السلب، كما أن الدراسات التطبيقية توصلت أيضا إلى نتاج متناقضة.
فهناك من يرى أن الإنفاق العسكري يساعد على تعزيز مستويات الرفاهية المحلية من خلال زيادة الناتج من جانب وزيادة مستويات التوظف من جانب آخر، أو من خلال رفع مستوى الاستخدام للموارد المعطلة في المجتمع، ويستدل أصحاب هذا الرأي على ذلك من تجربة الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث أدى تزايد الإنفاق العسكري في هذه الفترة إلى رفع قدرة الاقتصاد الأمريكي على العمل بطاقته القصوى. مثل هذا الأثر الموجب على الطلب الكلي ينبع من مبدأ "المضاعف الكينزي" القائم على أن زيادة الإنفاق العام بكافة أشكاله تؤدي إلى رفع مستويات الطلب الكلي ومن ثم معدلات النمو في الناتج.
البعض الآخر يرى أن الإنفاق العسكري أثناء المعارك يؤدي إلى رفع معدلات التوظف، ويساعد على إدخال تقنيات وتكنولوجيا جديدة في مجال التسليح، والتي يمكن استخدامها لاحقا في الصناعات المدنية، ويستدلون على ذلك من أن العديد من الابتكارات الهامة في حياتنا تم تطويرها أساسا في المجال العسكري، منها على سبيل المثال الإنترنت. غير أن هناك من يعترض على ذلك ويرى أن نفس هذه النتائج يمكن التوصل إليها في المجال المدني من خلال توفير الإنفاق العسكري وتحويله إلى ميزانيات للبحوث والتطوير تؤدي إلى نفس الغرض وبالطبع بتكلفة أقل، على الأقل من الناحية البشرية.  
من ناحية أخرى ينظر إلى الإنفاق العسكري باعتباره سوف يؤدي إلى آثار جانبية تحسن من مستوى المعيشة لعموم السكان، حيث أن الإنفاق العام سوف يرتفع ليس فقط على الإنفاق العسكري، وإنما أيضا على الضمان الاجتماعي والمساعدات العامة والرواتب التقاعدية لأسر ضحايا الحرب والمعاقين والجرحى.. الخ.
غير أن الكتابات المتاحة في هذا المجال تشير أيضا إلى أن الإنفاق العسكري له العديد من المخاطر أهمها أنه يؤدي إلى تحويل الإنفاق الحكومي من الإنفاق المدني إلى الإنفاق العسكري، وذلك على حساب الإنفاق الموجه نحو جوانب مدنية هامة مثل مشروعات البنية التحتية، والتي لا يقتصر أثرها السلبي على فرص النمو الحالي، وإنما أيضا فرص النمو المستقبلي، ومن ثم مستويات الرفاه للأجيال القادمة. كما أن هناك وجهة نظر أخرى تفترض أن هذه الموارد المخصصة للإنفاق العسكري عبارة عن نفقات في مجالات غير منتجة وهو ما يعني أن الإنفاق العسكري يؤثر سلبا على الاقتصاد من خلال سحب الموارد من استخداماتها المنتجة.
من مخاطر الإنفاق العسكري أيضا أنه يؤدي إلى إشعال نار التضخم وذلك نتيجة لزيادة الطلب الكلي الذي لا تصاحبه زيادة في الإنتاج المدني من السلع والخدمات، الأمر الذي يعني في هذه الحالة وجود كمية كبيرة من الإنفاق تطارد كمية اقل من السلع والخدمات وهو ما يؤدي إلى رفع مستوى الأسعار أو "تضخم جذب الطلب" كما تفيد النظرية الاقتصادية. من ناحية أخرى فإن الإنتاج العسكري وما يترتب عليه من ارتفاع الطلب على موارد المجتمع، يؤدي إلى ارتفاع تكلفة تلك الموارد، وبما أن هذه الموارد تستخدم في الصناعات العسكرية والمدنية على السواء، فإن زيادة الإنفاق العسكري تؤدي إلى رفع تكاليف الإنتاج ومن ثم رفع الأسعار أو ما يعرف بالتضخم "المدفوع بالتكلفة".
مما لا شك فيه أن الإنفاق العسكري يترتب عليه زيادة مستوى العجز في الميزانية ومن ثم الدين العام للدولة لأنه انفاق غير منتج، على الأقل في عالم اليوم، مقارنة بالوضع في المراحل التاريخية السابقة، حيث كان الإنفاق العسكري يهدف أساسا إلى استعمار المناطق الخارجية في العالم ومن ثم الاستفادة من ثروات العالم المكتشف أو المستعمر، وحتى لا يؤدي الإنفاق العسكري إلى عجز مالي فإن هذا الإنفاق لا بد وان يقابله إما زيادة في الموارد العامة للدولة من خلال الضرائب التي تفرض على القطاع الخاص، ومثل هذا الخيار سوف يؤدي إلى خفض انفاق القطاع الخاص بشكل عام، أو أن يصاحب زيادة الإنفاق العسكري خفض في جوانب الإنفاق الحكومي الأخرى في المجالات المدنية، وهو ما يؤدي إلى خفض الطلب الكلي ومن ثم خفض معدلات النمو، خصوصا اذا كان هذا الخفض في الإنفاق المدني من اعتمادات الإنفاق على مشروعات البنية التحتية، مثل الطرق والجسور والموانئ والمستشفيات وتسهيلات إنتاج الكهرباء والماء وخدمات التعليم والصحة .. الخ كما سبق ذكره.
إذا لم تقم الحكومة بتدبير الموارد المالية اللازمة لتمويل إنفاقها العسكري، فسوف يكون هناك مخاطر حقيقية من أن يترتب على زيادة الإنفاق العسكري غير الممول من مصادر الإيرادات العامة للدولة أن يتم تغطية هذا الإنفاق من خلال العجز، وهو ما يمكن أن يترتب عليه تصاعد مستويات الدين العام بمعدلات لا يمكن السيطرة عليها، نظرا لأن الإنفاق العسكري في بعض الأحيان لا يمكن السيطرة عليه، خصوصا في أوقات المعارك. بالطبع ينظر إلى زيادة مستويات العجز اليوم على أنها عبء على كاهل الأفراد في المستقبل، ومن ثم وفقا "لمتكافئة ريكاردو" فإن زيادة العجز المالي اليوم سوف يترتب عليها خفض استهلاك القطاع العائلي وارتفاع معدلات ادخاره استعدادا لزيادات أعباء الضرائب في المستقبل لسداد العجز الحكومي. من ناحية أخرى فإن العجز المالي الكبير من العوامل ذات الآثار السلبية على الاقتصاد، حيث يترتب عليه تخفيض معدلات الادخار القومي، وهو ما يؤثر على مستويات الائتمان التي يمكن ضخها في الاقتصاد، وترفع معدلات الفائدة.
وأيا كان الخيار الذي تختاره الحكومة فإن تصاعد الإنفاق العسكري يصاحبه انخفاض في الإنفاق الاستثماري في الأغراض المدنية بشكل عام، وهو ما يؤدي إلى التأثير السلبي على نمو الناتج الحقيقي في المجتمع.
على الرغم من أنه من المتوقع أن يكون هناك درجة من الترابط بين القطاع المدني والقطاع العسكري، على سبيل المثال في مجال التصنيع، باعتبار أن الإنتاج الحربي معظمه عبارة عن عملية تصنيع، وهو ما يؤدي إلى رفع معدلات التوظف وخفض معدلات البطالة،  إلا أن الإنفاق العسكري من الممكن أن يخلق اختناقات في سوق العمل خصوصا في المهارات المرتبطة بالإنتاج العسكري، وهو ما قد يسهم في رفع مستويات الأجور. إذا كانت هذه هي الآثار المتوقعة للإنفاق العسكري، فماذا كانت نتائج الحرب على الاقتصاد الأمريكي؟ هذا هو موضوع مقالنا القادم إن شاء الله.

الأربعاء، يونيو ٢٠، ٢٠١٢

النمو الصيني ينحسر

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ  الثلاثاء 19/6/2012

تواجه الصين هذا العام تراجعا مستمرا في معدلات النمو الحقيقي مع تصاعد الضغوط الخارجية، بصفة خاصة تلك التي تأتي من أوروبا مع تصاعد ازمتها، وتواضع معدلات النمو في الاقتصاد الأمريكي، وكذلك من المصادر الداخلية، خصوصا مع تراجع سوق العقارات الصيني، الأمر الذي أثر على مستويات ثقة المستهلكين في الصين. فقد اقتصر معدل النمو في الربع الأول من هذا العام على 7.5%، كذلك يتوقع حاليا أن يكون النمو المحقق في الربع الثاني من هذا العام اقل من 7%، اذا لم تتحسن  الأوضاع في الصين. الاقتصاد الصيني لا ينحسر من الناحية المطلقة إذن، ولكن معدل النمو الذي يحققه يتراجع، حيث تشير التوقعات الحالية حول معدلات النمو الاقتصادي في الصين في 2012 أنها لن تتجاوز 7.5%، وهو بالفعل المعدل المستهدف حاليا من الحكومة الصينية، والذي يعد اقل من المعدل الذي كان متوقعا منذ البداية والذي يصل إلى 8.2%.

قد يرى البعض أن هذا التراجع في التوقعات حول النمو الصيني ليس جوهريا، أخذا في الاعتبار أن النمو الفعلي ينخفض عن المتوقع بحوالي نصف في المئة تقريبا، إلا أن فداحة الانحسار في النمو تصبح أكثر وضوحا عندما نأخذ في الاعتبار اتجاهات النمو العامة في الصين منذ بداية هذا العقد، حيث بلغ متوسط معدل النمو حوالي 10% تقريبا لعدة سنوات مضت، بما في ذلك أحلك سنوات الأزمة، وإذا صدقت هذه التوقعات بأن النمو سوف يقتصر على 7.5% فإن ذلك يعني أن الصين ستحقق هذا العام اقل معدلات للنمو منذ العام 2004، حيث سيتراجع النمو بشكل مستمر من 10.4% في 2010 إلى 9.2% ثم إلى 7.5% هذا العام، وهي اتجاهات تؤكد بوضوح تواضع معدلات النمو الاقتصادي الصيني المحققة خلال هذا العام.

العوامل المسئولة عن انحسار النمو تتلخص وفقا للحكومة الصينية في تراجع سوق العقار، وانخفاض الصادرات وانخفاض ثقة المستهلكين وتراجع النمو في مبيعات التجزئة. فقد بات من الواضح أن سوق العقارات الصيني ربما يستعد لتكرار نفس تجربة سوق المساكن في دول العالم الصناعي، حيث يتراجع الطلب على المساكن بصورة واضحة، ويواجه المطورون العقاريون وشركات الرهن العقاري نفس المخاطر التي تعرضت لها المؤسسات المالية المتعاملة في سوق المساكن في دول العالم الأخرى، ولذلك ليس من المستغرب أن نجد أن قطاع الإنشاءات هو أكثر القطاعات حاليا تأثرا، حيث أخذت معدلات البطالة في الارتفاع بشكل واضح بين عمال البناء، فمطورو العقارات يواجهون أزمة سيولة حادة مع تراجع مبيعات المساكن، ويواجهون مشكلة ارتفاع أعباء الفوائد على قروض البنوك. المثير للقلق أيضا أن النمو في الإنفاق الاستثماري في مجالات الآلات والمعدات والأراضي والمباني وغيرها من أشكال الاستثمار الثابت يتراجع بصورة لم تشهدها الصين هذا العقد.

بسبب التشابك الكبير الذي أصبح أحد سمات الاقتصاد الآسيوي حاليا، يتوقع أن ينحسر النمو في آسيا أيضا، فقد أشار البنك الدولي أن انحسار النمو في الاقتصاد الصيني سوف يترتب عليه أن تتأثر معدلات النمو في منطقة شرق آسيا بالكامل هذا العام، وبناء عليه يتوقع البنك أن يتراجع النمو في هذه المنطقة من 8.2% في العام السابق إلى 7.6% هذا العام.

الحل الذي يقترحه البنك الدولي على الصين لرفع معدلات النمو هو في رأيي أشبه بالسم الزعاف للاقتصاد الصيني، حيث يقترح البنك الدولي أن تخفف الصين اعتمادها على الصادرات وتتجه إلى دعم الطلب المحلي، وهي روشتة تقاومها الصين منذ فترة، فقد يبدو الحل الذي يقترحه البنك الدولي معقولا، على الأقل من الناحية النظرية، غير أن توجه الصين نحو الداخل من المؤكد سوف يفقدها تنافسيتها الحالية، والتي هي أساسا مصدر نموها الأساسي، ومن ثم سيسبب لها المزيد من التراجع في النمو.

في مواجهة تراجع النشاط الاقتصادي الصيني، قرر البنك المركزي الصيني (بنك الشعب) خفض نسبة الاحتياطي القانوني في البنوك الصينية بنصف في المئة في مارس الماضي، وهو ما يعد من الأدوات التي تيسر السياسة النقدية وترفع من قدرة البنوك على منح المزيد من الائتمان، وتساوي هذه الخطوة في تأثيرها تأثير خفض معدلات الفائدة لمحاولة رفع معدلات السيولة في الاقتصاد الصيني، لم تكف هذه الخطوة لتحقيق مستهدفات بنك الشعب، ولذلك قام البنك بتخفيض معدلات الفائدة لأول مرة منذ 2008 بمقدار ربع في المئة ليصل معدل الإقراض إلى 6.3% ومعدل الفائدة على المودعات إلى 3.25%، ووفقا لبنك الشعب الصيني سوف يسمح للبنوك الصينية بأن ترفع معدل الفائدة على المودعات بنسبة 10%، وأن تمنح القروض بمعدلات تقل بنسبة 20% عن المعدلات السابقة. هذه التطورات الكبيرة (بالمقاييس الصينية) تعكس عمق المشكلة التي يواجهها النمو في الصين، والرغبة الحكومية دفع مستويات السيولة في الاقتصاد المتراجع ودفع معدلات النمو مرة أخرى. الجدير بالذكر أن الحكومة الصينية كانت قد رفعت معدلات الفائدة خمس مرات في السنتين الماضيتين بهدف السيطرة على التضخم، ولذلك جاء خفض معدلات الفائدة الصينية مفاجئا للجميع، وهو ما يعكس عمق الضغوط التي يتعرض لها الاقتصاد الصيني حاليا.

ولكن هل تنجح عملية تيسير السياسة النقدية في استعادة عزم النمو الصيني، الإجابة هي في أغلب الظن لا، لأن الشروط الدولية غير متاحة حاليا لكي تنعكس إجراءات السياسة على الصادرات الصينية أخذا في الاعتبار تراجع النمو العالمي، خصوصا في أوروبا وبدرجة اقل في الولايات المتحدة، وفي رأيي أن الصين ربما تحتاج اليوم بصورة أكبر من أي وقت مضى لحزمة تحفيز مثل تلك التي نفذتها مع بداية الأزمة لضمان استمرار معدلات النمو على نحو مرتفع، بصفة خاصة تحتاج الصين رفع مستويات الإنفاق الاستثماري في مشروعات البنى التحتية مثل خطوط السكك الحديدية، وتحسين شبكات الطرق التي توصل القرى بالمدن، وتشجيع عمليات شراء المساكن من خلال حزم التحفيز المختلفة.

تراجع النمو الصيني يحمل أخبارا سيئة للعالم أجمع، ولنا نحن الدول المنتجة للنفط بصفة خاصة، حيث أصبح سوق النفط حاليا رهينة للتطورات التي تحدث في الاقتصاد الآسيوي وفي الصين على نحو خاص، ذلك أنه الصين هو الاقتصاد الوحيد تقريبا الذي يشكل في الوقت الحالي مولد النمو الأساسي في الاقتصاد العالمي، بعد تراجع دور الاقتصادات التقليدية بسبب الأزمة، فأوروبا ما زالت تصارع من أجل السيطرة على قنبلة الديون، والولايات المتحدة تعاني من تراجع معدلات النمو بصورة واضحة بعد نفاد تأثير حزم التحفيز المالي والنقدي للاقتصاد الأمريكي. فالإحصاءات المتاحة عن التجارة الدولية تشير إلى أن الصين هي اكبر مستهلك ومستورد في العالم للمواد الأولية مثل الحديد والنحاس، وهي كذلك مشتري رئيسي لمعدات المصانع في العالم وكذلك لسلع الاستهلاك الرفاهية، فضلا عن أنها ثاني اكبر مستهلك للنفط في العالم، ولذلك يتوقع أن يكون تأثير تراجع النمو الصيني اكبر على منتجي المواد الأولية في العالم. أما الأثر على الولايات المتحدة فسوف يكون منخفضا بسبب انخفاض نسبة صادرات الولايات المتحدة إلى الصين كنسبة من ناتجها المحل الإجمالي والتي تقل عن 1% من الناتج المحلي الأمريكي، وعلى ذلك يمكن القول بأنه إذا حدث ودخل الاقتصاد الصيني مثل غيره من الاقتصاديات الكبرى في العالم مرحلة الانحسار، فستمر الدورة الاقتصادية في العالم أجمع في مرحلة سيئة للغاية.

الأحد، يونيو ١٧، ٢٠١٢

هل تنجح عملية انقاذ بنوك الزومبي الإسبانية (2 من 2)

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 15/6/2012

غير أنه يتوقع أن تؤدي الحزمة إلى طمأنة الأسواق عن الأزمة الإسبانية، وإن كان هناك من يرى هذه الحزمة قد تبدو غير كافية لطمأنة الأسواق حول الأزمة الأوروبية بشكل عام، فالشواهد تشير إلى أن الأزمة تتسع، فبالأمس تقدمت قبرص طالبة المساعدة المالية، وهناك تخمينات بأن إيطاليا ربما تكون في الطريق في المستقبل القريب.
بالتركيز على حزمة الإنقاذ المالي لإسباني يلاحظ أن الحزمة بشكل عام لم تكن مرتبطة ببرنامج للإصلاح الاقتصادي أو التعديل الهيكلي الذي تلتزم به إسبانيا على نفس النمط الذي حدث مع أعضاء مثل اليونان، حيث ستستخدم هذه الأموال أساسا لرفع رسملة البنوك الإسبانية وزيادة قدرتها على مقاومة الأوضاع المتدهورة في سوق العقار الإسباني، واكتفت اكتفت المجموعة الأوروبية بالإعلان عن أن إسبانيا قامت بتطبيق الكثير من الإصلاحات المالية وإصلاحات سوق العمل، وكذلك اتخذت إجراءات لدعم القواعد الرأسمالية للبنوك الإسبانية، وأن المجموعة الأوروبية واثقة من أن إسبانيا سوف تفي بالتزاماتها وتصحح اختلالاتها الاقتصادية الكلية في الاطار الأوروبي، وهذا ما كانت تحرص عليه إسبانيا من الأساس. غير أن المجموعة الأوربية أعلنت أنه سوف يتم مراجعة التطورات على الأرض في شكل مواز مع المساعدة المالية، ومراقبة مدى تنفيذ الحكومة الإسبانية لتعهداتها والتي تركز على إصلاحات محددة تستهدف القطاع المالي، بما في ذلك خطط إعادة الهيكلة التي تستهدف إصلاح النظام المالي المحلي.
وفقا لرويترز، فإن المبلغ النهائي الذي سوف يتم تقديمه لإسبانيا سوف يعتمد على تقارير من مؤسسات مستقلة للمراجعة لحالة البنوك الإسبانية واحتياجاتها الحقيقية لا عادة الرسملة (Oliver Wyman and Roland Berger)، والتي يتوقع أن تقدم يوم 21 يونيو القادم. غير إن المصادر تشير إلى أن المبلغ المخصص كبير إلى الحد الذي تتلاشى معه مصادر القلق التي تلف الأسواق حاليا حول سلامة البنوك الإسبانية. للأسف البنوك الإسبانية تواجه اليوم عمليات سحب للمودعات وإرسالها خارج إسبانيا بسبب حالة عدم التأكد السائدة حاليا، وهو ما يضيف المزيد من الأعباء على السلامة المالية لهذه البنوك، ولذلك يرى المراقبون أن المبالغ المخصصة، وان كانت تفوق التقديرات الأولية للحاجة الحقيقية للبنوك الإسبانية، إلا أن تزايد الطلب على السيولة يحتاج إلى مثل هذه الميزانية الضخمة لتأمين موقف البنوك الإسبانية.
ليس هناك في رأيي من هو أكثر سعادة بهذه التطورات على الساحة الأوربية من الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي يصارع حاليا لخوض انتخابات الإعادة ويرغب في ألا يرى أية انعكاسات سلبية لأي شرارة لأزمة في أوروبا على الاقتصاد الأمريكي، على الرغم من أن الرئيس قد صرح مؤخرا بأن الاقتصاد الأمريكي يمكنه امتصاص أي تأثيرات للأزمة الأوروبية، ولكن هل بالفعل يستطيع الاقتصاد الأمريكي المترنح حاليا امتصاص تأثيرات أي أزمة أوربية؟ ربما أتناول هذا الموضوع قريبا. كذلك رحب تيم جايثنر وزير الخزانة الأمريكي بالاتفاق الأوروبي ودعا صندوق النقد الدولي لدعم عملية تنفيذ الاتفاق من خلال مراقبة المساعدات المالية من خلال تقديم التقارير الدورية عن إسبانيا، كما رحب جايثنر بجهود الحكومة الإسبانية لا عادة رسملة النظام المصرف الإسباني وبالتعهدات الأوروبية لتقديم المساندة المالية لإسبانيا.
الآن، هل تنجح عملية الإنقاذ المالي للبنوك الإسبانية؟ في رأيي أن الميزانية المقترحة، على الرغم من أن الحكومة الإسبانية تؤكد أنها كافية للتعامل مع مشكلات البنوك الإسبانية، تمثل حقنة مسكنة للاقتصاد الإسباني، لأن المشكلة الحقيقية التي تواجهها إسبانيا ليست هي المشكلة المالية لقطاعها المصرفي، وإنما هي مشكلة النمو وتصاعد معدلات البطالة على نحو مرتفع للغاية بالمقاييس الأوروبية، حيث تعاني البنوك الإسبانية من آثار عمليات فقدان الوظائف التي تتصاعد في سوق العمل الإسباني، ومن ثم فإن الإجابة على هذا السؤال سوف تعتمد، ليس جهود إعادة الرسملة، وإنما يكمن العلاج الناجع في نمو الاقتصاد الحقيقي الإسباني، وهذا على ما يبدو صعب المنال حاليا خصوصا في ضوء تطورات سوق العمل التي تضع مؤشرات البطالة في إسبانيا في أعلى المعدلات في منطقة اليورو. غير أنه من المؤكد أن إنقاذ بنوك الزومبي الإسبانية هو في حقيقة الأمر إنقاذ للنظام المصرفي الأوروبي بأكمله، وربما العالمي، والذي يمكن أن يتعرض لضربة قاصمة اذا ما انهارت بنوك الزومبي في إسبانيا.  

الخميس، يونيو ١٤، ٢٠١٢

هل تنجح عملية إنقاذ بنوك الزومبي الإسبانية؟ (1من2)

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 13/6/2012
لفترة طويلة من الزمن، ومنذ انطلاق الأزمة المالية العالمية، ادعت إسبانيا أنها لا تحتاج إلى خطة إنقاذ لاقتصادها، كتلك التي قدمتها أوروبا لليونان أو إيرلندا أو البرتغال، على أساس أن الاقتصاد الإسباني (رابع اكبر اقتصاد أوروبي) أكبر من أن يسقطToo big to fail. إسبانيا أيضا تحاول دائما أن تبقي صندوق النقد الدولي بعيدا عن الصورة، حتى لا تغذي التخمينات حول المخاطر التي يمكن أن تلحق بالاقتصاد الإسباني، إذا ما دخلت إسبانيا في خطة للإنقاذ الاقتصادي على نمط الخطط المذكورة أعلاه. غير أن الأوضاع المالية لإسبانيا قد تفاقمت في أعقاب قيام مؤسسة فيتش للتصنيف الائتماني بتخفيض التصنيف الائتماني لإسبانيا إلى BBB وهو مستوى قريب من تصنيف الاقتصادات المقدمة على الإفلاس، بسبب الأوضاع المالية لبنوكها.
تعاني البنوك الإسبانية من قدر هائل من الأصول المسمومة (الديون المشكوك في تحصيلها) والناجمة عن فقاعة سوق العقار الإسباني، وهي نفس القصة التي عاشها سوق العقار الأمريكي، والتي نجمت عن عمليات توريق الديونSecuritization، ذلك الابتكار المالي الذي يسمح للبنوك بتجميع القروض العقارية التي تمنحها لعملائها المختلفين في حزم، ثم بيع هذه الحزم في أسواق المال في صورة أوراق مالية للاستثمار، يطلق عليها والأوراق المالية المغطاة بالرهون العقارية Mortgage-backed securities ، والتي للأسف الشديد يشتريها المستثمرون دون أدنى علم بطبيعة الغطاء الذي تحتويه تلك الأوراق، ولا يمكنهم بأي حال تحديد مستويات المخاطرة التي تحملها، على نحو معقول، سوى من خلال تصنيف محدد تمنحه إحدى مؤسسات التصنيف الائتماني لهذه الأوراق، والذي أثبتت التجربة أنه يمكن شراءه بسهولة.
أدى نجاح البنوك في نقل مخاطر عمليات الإقراض إلى المستثمرين في سوق المال، والذين يسعون نحو المكاسب السريعة من خلال هذه الأدوات، إلى تشجيع البنوك على الإفراط في عمليات الإقراض بغض النظر عن الملاءة المالية التي يتمتع بها المقترضين، طالما أن هناك مستثمرين جوعى لمثل هذه الأدوات في كافة أنحاء العالم، لتنتفخ نتيجة لضخ هذه الأموال الضخمة أسعار العقار ومن ثم الغطاء المستخدم لهذه الأوراق المالية شبه الوهمية، حتى حدثت الكارثة وانفجرت فقاعة أسعار العقار.
حاولت الحكومة الإسبانية في البداية إنقاذ بنوكها الصغيرة، ووفقا للتقارير فإن الحكومة الإسبانية أنفقت حوالي 15 مليار يورو لإنقاذ البنوك الصغيرة، غير أنه أصبح من الواضح اليوم أن عملية إنقاذ بنوكها الكبرى، والتي تحولت إلى بنوك زومبي، تفوق إمكانياتها المالية، أخذا في الاعتبار طبيعة الأوضاع المالية الحالية للدولة. على سبيل المثال بنك بي إف إى بانكيا، ثالث البنوك الإسبانية من حيث الحجم، يسعى نحو الحصول على ميزانية إنقاذ بـ 19 مليار يورو (حوالي 25 مليار دولارا)، لذلك لم تجد إسبانيا بدا من طلب المساعدة من المجموعة الأوروبية لضبط الأوضاع المالية لبنوكها المترنحة حاليا.
مؤسسة فيتش تتوقع أن عملية إنقاذ البنوك الإسبانية قد تتطلب حوالي 125 مليار دولارا، وهو نفس المبلغ الذي تقدمت به الحكومة الإسبانية لطلب المساعدة، غير أن بعض المصادر الأخرى مثل جي بي مورجان تقدر التكلفة بحوالي 185 مليار دولارا. يوم السبت الماضي وفي مؤتمر لوزراء المالية الأوربيين تمت الموافقة على منح إسبانيا حزمة إنقاذ بـ 125 مليار دولارا لإنقاذ قطاعها المصرفي. بمقتضى الاتفاق سوف تتولى الحكومة الإسبانية المسئولية الكاملة عن المساعدة المالية، كما ستوقع مذكرة تفاهم بهذا الشأن، ولكن الأنباء الأولية تشير إلى أنه بموجب الاتفاق سوف يتولى صندوق إعادة الهيكلة المنظم للبنوك الإسبانية Fund for Orderly Bank Restructuring (F.R.O.B.) استلام هذه الأموال ثم إعادة تدويرها إلى البنوك الإسبانية. بهذا الاتفاق يرتفع الدين السيادي القائم على إسبانيا من 600 مليار يورو تقريبا إلى 700 مليار يورو، مضيفا بالطبع مزيد من الضغوط على ميزانيتها على الرغم من التطمينات بأن شروط الحزمة سهلة للغاية.

الأحد، يونيو ١٠، ٢٠١٢

بنوك الظل

نشر في صحيفة الاقتصادية يوم الجمعة 8/6/2012
بنوك الظل Shadow banks هو مصطلح حديث نسبيا، ويطلق على العمليات المالية التي تتم خارج نطاق القوائم المالية للبنوك التجارية وغيرها من مؤسسات الإيداع، فهي مؤسسات تمارس عمليات مصرفية بعيدا عن رقابة السلطات النقدية ودون أن تتمتع بالحق في الحصول على التسهيلات الائتمانية للبنك المركزي أو الضمانات التي تقدمها الحكومات للبنوك، والبنك التجاري التقليدي هو وسيط في المال يعمل على جمع المدخرات من المودعين، والقابلة للسحب في أي وقت في غالب الأحوال، ثم يقوم بإعادة تدويرها للمقترضين في صورة قروض، وعلى ذلك فإن عمل البنوك التقليدية من الناحية الفنية يتمثل في إعادة تكييف المدى الزمني للأموال المتاحة لها من خلال قبول مودعات قصيرة الأجل لمنح قروض لآجال زمنية أطول. فقد استقر العرف المصرفي على أن المودعين غالبا لا يسحبون إلا جانبا ضئيلا من مودعاتهم، لذلك يتم الاكتفاء بالاحتفاظ بنسبة صغيرة من المودعات في صورة سائلة أو أصول شبه سائلة يتم تسييلها بسرعة عند الحاجة لمواجهة أية طلبات طارئة لسحب السيولة. 
بما إن البنوك لا تحتفظ بالمودعات لديها في صورة سائلة فإن النظام المصرفي في أي دولة يصبح عرضة  للانهيار اذا ما قام المودعون بسحب مودعاتهم في ذات الوقت، حيث ستحتاج البنوك في هذه الحالة إلى تسييل كافة أصولها في غضون مدة زمنية قصيرة جدا، وبما انه من المستحيل أن تتم هذه العملية بدون خسارة، فمن المحتمل أن يترتب على ذلك تعثر البنك أو حتى إعلان إفلاسه، وعندما يتعرض أحد البنوك لمثل هذه المخاطر غالبا ما تنتقل العدوى للبنوك الأخرى وهو ما يعرف فنيا بالذعر المصرفي. لهذا السبب تحتاج البنوك التقليدية، طالما أنها تتلقى ودائع من الجمهور، إلى أن تعمل تحت رقابة البنك المركزي لضمان سلامة النظام المالي.  
الوضع في بنوك الظل والتي تتكون من مجموعة من الوسطاء الذين يتولون عملية إعادة ضخ الأموال في مقابل أوراق مالية ومستندات قروض في سلسلة من العمليات التي تتم كل منها من خلال مؤسسة متخصصة، مختلف نسبيا، وان كانت نتيجة عمليات النوعين من البنوك واحدة وهي تدبير الأموال اللازمة للائتمان. غير أن مصدر الأموال لبنوك الظل لا يأتي من الودائع وإنما يأتي من المستثمرين الذين لديهم سيولة ضخمة، ولذلك يطلق عليهم مستثمري الجملة، ولقد انتشرت العمليات التي تقوم بها بنوك الظل نتيجة عمليات التحرير Deregulation والتي ترتب عليها أن أصبح النشاط المصرفي التقليدي غير مربح.
عمليات بنوك الظل انتشرت إذن نتيجة الرغبة في عدم الالتزام بالقيود التي يفرضها البنك المركزي على السيولة أو على طبيعة الأدوات التي يجب أن تتعامل بها البنوك التقليدية ونسبتها إلى ميزانيتها أو توزيعاتها القطاعية أو الجغرافية إلى آخر هذه القائمة من القيود، وذلك لكي تتمكن بنوك الظل من خلق الكثير من المنتجات المالية والديون بصورة أكبر بدون أن تخضع لرقابة وسيطرة جهات التنظيم والرقابة في النظام المالي. 
بغض النظر عن التسمية فإن بنوك الظل تقدم عملا مصرفيا، حيث تتدفق الأموال من يد من لديهم فوائض إلى الذين يعانون من نقص فيها في مقابل فائدة يدفعها من يقترضون الأموال، وهذا بالضبط ما تفعله البنوك التقليدية، ومن أمثلة هذه المؤسسات صناديق التحوط، أدوات الاستثمار الخاصة، صناديق سوق النقود، صناديق المعاشات.. الخ، غير أن الفرق الأساسي بين هذه المؤسسات والبنوك التقليدية هو أن سلسلة عمليات الوساطة التي تقوم بها بنوك الظل تكون في غاية التعقيد، ومن ثم فهي تمارس أنشطة غير مسموح للبنوك التقليدية بها. كما أن بنك الظل ليس في حاجة إلى الاحتفاظ بالاحتياطيات، ولا يحصل على الأموال من خلال المودعات وإنما من خلال عمليات التوريق Securitization، وتدخل معظم الأنشطة التي تتم على النطاق الدولي لبنوك الظل في مجال صفقات التحكيم، والتي تتمثل في عمليات شراء الأوراق المالية والأسهم والسندات مع تحقيق معدلات هامش منخفضة نسبيا في هذا الصفقات، ولكن ذلك يؤدي إلى تحقيق هذه البنوك لأرباح مرتفعة، نظرا لضخامة حجم الصفقات التي يتم تنفيذها.
لقد تمكنت بنوك الظل من خلال التوريق من أن تخلق منتجات ساعدت على نشر الأعمال المصرفية الخاصة ببنوك الظل والتي تستخدم كضمان للعمليات التي تقوم بها. فبدلا من أن تقوم بنوك الظل بقبول مودعات، ومن ثم تخضع نفسها تحت القيود الرقابية والتنظيمية من جانب البنك المركزي للمؤسسات التي تقبل المودعات، فإن بنوك الظل تصل إلى هذه الأموال من خلال عمليات الاقتراض في مقابل الأصول، ومثل هذه الأصول قد تكون رهونا عقارية أو ديون بطاقات ائتمان أو سلع أو قروض سيارات .. الخ، ويتم تجميع المنتجات في حزم تباع وتتداول بين المستثمرين، وهناك أشكال مختلفة لهذه الحزم مثل التزامات الديون المضمونة Collateralized debt obligations، والأوراق المالية المدعومة بالأصول Asset-backed securities، والأوراق المالية المدعومة بالرهون العقارية Mortgage-backed securities، وعقود إعادة الرهن Re-hypothecation، حيث يتم نقل الضمان لشخص آخر يتولى الاقتراض في مقابله على الرغم من أن الرهن يظل فعليا في يد المقرض الأساسي، وهي نفسها الأدوات التي تسببت في نشوب الأزمة المالية العالمية التي يعاني العالم  من آثارها حاليا.
التوريق ادن هو طريقة لخلق منتجات لها قيمة وسبيل للحصول على الأموال لبنوك الظل، وهي أموال ضخمة إلى الحد الذي جعل قطاع بنوك الظل أكبر من حيث الحجم من قطاع البنوك التقليدية. فالتوريق وما على شاكلته من رهن وإعادة رهن تسمح للأوراق المالية التي تملكها هذه  المؤسسات من إعادة النشر عدة مرات كضمانات، ومن ثم جلب المزيد من الأموال إلى نظام بنوك الظل. للأسف الشديد مع انطلاق الأزمة المالية العالمية وجد أن الكثير من هذه الأصول التي تم توريقها لجلب المزيد من الأموال للنظام هي من قبيل الأصول الخردة Junk، أو فاقدة القيمة، ومن ثم فإنه عندما تتعرض أحد هذه الضمانات للتعثر فإن المالك الحالي لهذه الأوراق المالية يتعرض لخسائر كبيرة، أما اذا كانت هذه الأوراق المالية قدمت من قبل كضمان لعمليات إقراض لاحقة فإن هذه القروض سوف يتم السعي نحو تحصيلها، وبما أن أساس هذه العمليات هش، فمن الممكن أن يتعرض قطاع بنوك الظل للانهيار كما حدث في الأزمة، غير أن الأزمة المالية العالمية أثبتت أن مشكلات قطاع بنوك الظل لم تقتصر عليها وإنما امتدت عدواها أيضا للقطاع المصرفي التقليدي وهي العدوى التي دفع القطاع الحقيقي في الاقتصاد العالمي ثمنا باهظا لها وما زال حتى وقتنا هذا.
من الواضح أن عملية التمويل من خلال التوريق عملية خطيرة ويترتب عليها الكثير من المشاكل مما يملي ضرورة العمل على تنظيم هذا القطاع الذي يعمل في ظل غياب أي رقابة فعالة من أجهزة الرقابة المصرفية في الدول، ولذلك أصبحت عملية تنظيم أعمال هذا القطاع والرقابة علية أمرا حتميا حتى يمكن رفع درجة استقرار القطاع المالي وتجنب تعرضه لهزات من مصادر غير خاضعة لرقابة الأجهزة المعنية.
المشكلة الأساسية في هذه البنوك هي أنها قادرة على التمدد بصور سرطانية طالما أن هناك فرصة لتحقيق المزيد من الربح وتوليد الدخول من تلك العمليات، ولهذا السبب فإن بنوك الظل غالبا ما تكون مرشحة لأن تولد فقاعات كبيرة مسمومة تنتظر الانفجار. لقد قدرت بعض المصادر حجم بنوك الظل في الولايات المتحدة قبل الأزمة بحوالي 24 تريليون دولارا، وقد كان من المنتظر أن يترتب على الأزمة المالية تراجع أنشطة هذه البنوك. غير أنه قد صاحب الأزمة المالية تشديد الرقابة على البنوك التجارية وقواعد العمل بها، وهو ما أدى إلى تراجع معدلات الأداء للبنوك التقليدية، الأمر الذي دفع إلى هروب الأموال من البنوك التقليدية إلى بنوك الظل سعيا وراء الأرباح الأعلى ولتجنب القواعد الصارمة للنظم الرقابية على البنوك التقليدية، ووفقا لتقديرات مجلس الاستقرار الماليThe Financial Stability Board وهو مؤسسة دولية لمراقبة النظام المالي العالمي، فإن حجم قطاع مصارف الظل على مستوى العالم بلغ 60 تريليون دولارا في أكتوبر 2011. هذا الرقم يعادل الناتج المحلي الإجمالي للعالم كله تقريبا، وهو ما يعني أنه أصبح من الواضح أن الأزمة المالية العالمية لم تؤثر على حجم العمليات التي تتم في هذا القطاع المصرفي في العالم، بل إنه وفقا للمجلس فإن حجم عمليات بنوك الظل تزيد حاليا عن مستوياتها قبل الأزمة، الأمر الذي يعني أن هذه البنوك مازالت تحمل للعالم نفس المخاطر التي أدت إلى اشتعال الأزمة المالية العالمية الحالية، لذلك تجري محاولات حميمة في العالم حاليا لتنظيم وتقنين عمليات بنوك الظل، وذلك لتأمين النظام المالي في العالم من مخاطر انتشار المنتجات المالية لهذه البنوك والتي تتصف بأنها غير مؤمنة بشكل جيد. 

الثلاثاء، يونيو ٠٥، ٢٠١٢

اقتصاديات السل: مرض الفقراء

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 5/6/2012
عزيزي القارئ، اسمح لي أن نخرج اليوم من دائرة المشكلات الاقتصادية العالمية التي نغرق فيها جميعا حاليا، لنأخذ رحلة قصيرة إلى عالم آخر قليلا ما نسمع عنه في بلادنا، لأننا والحمد لله لسنا مصنفين ضمن الدول التي تعاني من هذا المرض اللعين، إنه عالم مرض السل. مرض السل أحد أكبر الأمراض المعدية التي تقتل البشر في العالم، فهو ثاني أكبر مسبب للموت بين المصابين بالأمراض المعدية بعد الإيدز حاليا، بصفة خاصة في الدول النامية، حيث ينتشر مرض السل بسبب انخفاض مستويات الدخول والمعيشة، وحيث تغيب نظم الرعاية الصحية المتطورة أو المناسبة. مما يعقد أوضاع المرض في الدول النامية أنه مرتبط لسوء الحظ بالأمية والبطالة والفقر وسوء التغذية، والمصابون بهذا المرض في هذه الدول غالبا ما يعانون من هذه التركيبة من الأمراض الاجتماعية/الاقتصادية بصورة جزئية أو كلية، وعندما يطلب من فقراء هذه الدول أن يتحملوا تكلفة العلاج، فإنهم غالبا ما لا يسعون نحو العلاج المناسب بسبب عدم قدرتهم على دفع التكلفة المالية المطلوبة، بالرغم من أنها قد تكون زهيدة نسبيا، إلا أنها قد تنوء بميزانية الكثير من فقراء الدول النامية.

مأساة السل تنشأ من سهولة انتشار البكتيريا المسببة له عبر الهواء الذي يتنفسه الناس وذلك عندما يقوم أحد المرضى بنشر البكتيريا عند السعال، غير أنه لحسن الحظ فإن نسبة قليلة من الأشخاص الذين يصابون بعدوى السل يتطور المرض لديهم، ولكن لوحظ مع انتشار مرض الإيدز أن نسبة الذين يصابون بالسل من مرضى الإيدز كبيرة بسبب ضعف جهاز المناعة لدى هؤلاء، وبشكل عام ينتشر المرض بين الذكور أكثر من الإناث، ويصاب به الإنسان غالبا في سن العمل حيث أن معظم الحالات المصابة بالمرض في العالم تتراوح أعمارهم بين 15-59 عاما.

الدراسات المتاحة تشير إلى أن هناك عدة مسببات رئيسية لارتفاع معدلات الوفيات الناجمة عن المرض في الدول النامية، السبب الأول هو ضعف إقبال  المصابين في الدول النامية على الحصول على العلاج المناسب بسبب سوء فهم طبيعة المرض، إما لعدم توافر المعرفة الدقيقة به، أو بسبب الأساطير المحلية المحيطة بالمرض على أنه غير قابل للعلاج. السبب الثاني وهو أنه حتى عندما يتم السعي للحصول على العلاج المناسب فإن تشخيص المرض قد يكون غير مناسب وهو ما يؤدي إلى تأخر اكتشاف الإصابات ومن ثم انخفاض فرص علاجها في التوقيت المناسب. السبب الثالث وهو أنه حتى أنه عندما يتم أجراء التشخيص المناسب للمرض قد لا يوجد التزام كامل من المريض بقواعد العلاج بسبب نقص الوعي وارتفاع مستوى الأمية، وربما لا يتناول المريض العلاج، أو قد يتناوله ولكن لا يكمله حتى النهاية لارتفاع تكلفته، هذا بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل ضعف الدعم السياسي لبرامج مكافحة المرض أو نقص التمويل اللازم لبرامج التعامل مع الحالات المصابة.

وفقا للدراسات المتاحة أيضا عن الهند فإن أهم أسباب التوقف عن العلاج يعود إلى أسباب اقتصادية، حيث وجد أن غالبية المرضى يعملون في وظائف مؤقتة ومتنقلة ومن ثم ليس لديهم الاستقرار المناسب في مصادر دخولهم، وهو ما يمكن أن يدخل المريض فيما يمكن أن نطلق عليه الحلقة الخبيثة لمرض السل، حيث يؤدي عدم استقرار الدخل إلى التوقف عن تناول الدواء، مما يؤدي إلى تطور المرض لدى المريض، وهو ما يؤدي إلى توقفه عن العمل بسبب سوء حالته، كما يؤدي إلى سوء التغذية بسبب انخفاض الكميات المتاحة من الغذاء للمريض، وهو ما يؤدي إلى ضعف القدرة على العمل، ومن ثم انخفاض، أو انقطاع، دخله وهكذا يدور المريض في هذه الحلقة الخبيثة حتى يموت في أغلب الأحوال.

أما عن إحصاءات المرض فإنه وفقا لمنظمة الصحة العالمية يعد مرض السل أحد أهم المشكلات الصحية في العالم، حيث يقدر عدد الحالات المصابة بالمرض بحوالي 9 مليون حالة، أي حوالي 125 حالة من بين كل 100 ألف شخص يعيشون في العالم، بينما يموت بسبب المرض حوالي مليوني شخص سنويا منهم نصف مليون في الهند وحدها، وينتشر مرض السل في كل دول العالم، وللأسف الشديد تشير الإحصاءات إلى تزايد أعداد المصابين بالمرض في العالم سنويا، ووفقا لتقديرات منظمة الصحة العالمية فإن 85% من المصابين في المرض يوجدون في أفريقيا وآسيا، وبالنسبة لإفريقيا يوجد بها 26% من حالات مرض السل في العالم، بينما يوجد في آسيا 59% من حالات مرض السل في العالم، وتتركز هذه الإصابات في الهند والصين، ويقدر أن الهند وحدها مسئولة عن 26% من عدد المصابين بالمرض، أي حوالي ربع المصابين بالمرض في العالم، بينما يقدر أن الهند والصين بهما حوالي 38% من الحالات المصابة عالميا. أما من عن أعداد المصابين في أكبر خمس دول مصابة في العالم فهي الهند (2-2.5 مليون مريضا) 30% منهم يعيشون تحت خط الفقر، ثم الصين (0.9-1.2 مليون مريضا)، ثم جنوب إفريقيا (0.4-0.59 مليون مريضا)، ثم إندونيسيا (0.37-0.54 مليون مريضا) ثم باكستان (0.33-0.48 مليون مريضا).

للأسف الشديد أن الجانب الأكبر من الوفيات التي تترتب على المرض غير مبرر، لأن المرض قابل للشفاء، ذلك أن الغالبية العظمى من مرضى السل يمكن شفاؤهم بنجاح، فوفقا لمنظمة الصحة العالمية فإن حوالي 90% من الحالات يمكن شفاؤها بما يسمى بأدوية الخط الأول First-line drugs أي بأدوية غير مكلفة ورخيصة نسبيا، بينما النسبة الباقية تحتاج إلى علاج أكثر تعقيدا وتكلفة أكبر ويطلق عليها أدوية الخط الثانيSecond-line drugs ، وهي أدوية ذات آثار جانبية حادة وتحتاج إلى أن يتعاطاها المريض لأكثر من عامين، كما أن نسبة الشفاء بها تعد منخفضة نسبيا وتتراوح بين 50-70%، وغالبا ما لا تقدم الحكومات في الدول الفقيرة العلاج لهذا النوع الثاني من المرض بحجة أنه مكلف لميزانيتها التي لا تكفي الاعتمادات المدرجة فيها لتوفير الدواء الكافي للعدد المصاب.

نحن بالفعل أمام مأساة حقيقية، فإذا كان لنا أن نطلق وصفا على مرض السل فإن أفضل وصف يمكن أن نطلقه عليه هو أنه "مرض الفقراء"، ففي الدول الفقيرة غالبا ما يعيش مرضى السل في الأحياء الفقيرة المزدحمة التي تفتقد إلى إمدادات مياه الشرب أو توصيلات المجاري، وحيث تقل القدرة على الحصول على التغذية المناسبة، ربما بسبب حرمان هؤلاء الأفراد من حقوق العمل والسكن والوصول إلى الغذاء المناسب فضلا عن افتقادهم للرعاية الصحية المناسبة، فالدراسات تثبت أن تحسن نوعية الغذاء المتاح للمرضى وكذلك زيادة فرص العمل تؤدي إلى خفض نسب الإصابة بالمرض بصورة كبيرة، مثلما حدث في الدول المتقدمة.

بالرغم من سهولة العلاج نسبيا فإن اهتمامات العالم الغني ليست موجهة نحو هذا المرض. على سبيل المثال لقد تمكنت أبحاث الإيدز من تخفيض تكلفة الدواء للمرض بصورة كبيرة جدا، بينما ظلت تكلفة علاج النوع الخبيث من السل مرتفعة، والسبب واضح، وهو أن الإيدز مرض يصاب به أيضا الأغنياء، بينم السل هو مرض الفقراء وحدهم في أغلب الأحوال، ويحتاج خفض تكلفة الدواء إلى ميزانيات ضخمة للبحث والتطوير وهذه لا تملكها الدول الفقيرة غالبا، أو ربما اذا وجدت الميزانيات لا تتواجد الكفاءات البشرية المناسبة للقيام بتلك التجارب لابتكار أدوية اكثر فاعلية وارخص ثمنا، ومكافحة السل ليست من أولويات الدول التي تملك تلك الإمكانيات، ووفقا لمنظمة الصحة العالمية ربما يحتاج العالم إلى أكثر من 50 مليار دولارا في الخمس سنوات القادمة للإنفاق على برامج البحث والتطوير في مجال السل، فمن يا ترى سيتولى تدبير هذه الميزانية الضخمة؟، وحتى تتم الإجابة على هذا السؤال سيظل فقراء العالم يموتون من هذا المرض.



السبت، يونيو ٠٢، ٢٠١٢

حلزون الديون

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 1/6/2012

حلزون الديون Debt Spiral هو حالة تنطبق على الأفراد أو الشركات أو الدول. سوف يكون محور اهتمامنا في هذا المقال حول مفهوم حلزون الديون وكيف ينطبق على الدول. من المعلوم أن ديون الدول تتعدد من حيث النوع، فقد يكون دين الدولة مملوكا للجمهور في الدولة، سواء المستثمرين من القطاع الخاص أو العام وهو ما يعد دينا محليا، أو مملوكا من جانب المستثمرين الأجانب في الدين العام للدولة، وهو ما يطلق عليه الدين السيادي للدولة، هذا النوع الأخير من الديون هو دائما الأكثر ترشيحا لجلب حالة حلزون الديون للدولة، لأن المستثمرين الأجانب غالبا ما ترتفع حساسيتهم لأي تطورات معاكسة في المؤشرات الخاصة بخدمة الدين الخاص بالدولة، ومن ثم ينعكس ذلك بشكل سريع على المبيعات الذي تتم من سندات الدولة في السوق، الأمر الذي يضغط على أسعار السندات ومن ثم معدلات العائد عليها، وعندما تتغير معدلات العائد على سندات الدولة فإن معدلات الفائدة المطلوب أن تدفعها الدولة على إصداراتها من السندات الجديدة تتغير.
حلزون الديون هو الحالة التي تواجه فيها الدولة تزايدا مستمرا في مستويات ديونها بحيث تصبح هذه المستويات من الدين والفوائد عليها غير مستدامة إلى الحد الذي يؤدي في النهاية بالدولة إلى التوقف عن خدمة ديونها وإعلان إفلاسها، ومن  الواضح أن حلزون الديون يتفاقم بالنسبة للدولة عندما يترتب على الأوضاع المالية الصعبة التي تمر بها ضغوطا مستمرة على معدلات الفائدة التي تدفعها على ديونها نحو الارتفاع بحيث يصبح دينها غير مستدام.
ولكن كيف يتكون حلزون الديون؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أن حلزون الديون يتكون من مجموعة من الحلقات المتصلة ببعضها البعض والتي تؤدي في النهاية إلى تزايد احتمالات التوقف عن السداد أو إعلان إفلاس الدولة. ففي الحلقة الأولى من الحلزون ترتفع مستويات الدين القائم على الدولة نتيجة مجموعة العوامل المسببة لتصاعد الدين والتي يمكن أن تكون بسبب ضعف المالية العامة للدولة نتيجة عدم كفاية الإيرادات الضريبية أو انخفاض كفاءة عملية تحصيلها او ارتفاع مستويات الإنفاق العام للدولة على نحو لا يتماشى مع قدرتها على جمع الضرائب .. الخ. ويترتب على استمرار هذه الأوضاع استمرار ارتفاع الدين كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي للدولة.
في الحلقة الثانية للحلزون ترتفع درجة القلق في الأسواق نتيجة تفاقم مستويات الدين القائم على الدولة، وهو ما يؤدي إلى اهتزاز ثقة المستثمرين في سندات الدولة نظرا لتراجع الثقة في قدرتها على خدمة ديونها الأمر الذي يدفعهم إلى طلب معدلات أعلى من العائد على سندات الدين الخاصة بالدولة لمواجهة ارتفاع مخاطر توقفها عن خدمة الديون، ويعني ذلك بالتالي ارتفاع معدلات الفائدة على إصداراتها الجديدة من السندات.
في الحلقة الثالثة ترتفع تكلفة خدمة الدين نتيجة لارتفاع مستويات الدين القائم على الدولة من ناحية وارتفاع معدلات الفائدة على السندات الجديدة من ناحية أخرى، ومن ثم تكون المحصلة النهائية لذلك هي ارتفاع مستويات الإنفاق العام للدولة على نحو أكبر ومن ثم ارتفاع العجز المالي إلى الناتج في الدولة.
في الحلقة الرابعة يترتب على ارتفاع تكلفة الاقتراض محاولة الدولة السيطرة على إنفاقها العام من خلال محاولة زيادة الضرائب أو رفع درجة كفاءة التحصيل لها، أو من خلال طلب المساعدة من المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي، أو تلجأ الدولة إلى خيار التقشف حيث تقوم الدولة بتخفيض مستويات الإنفاق بهدف السيطرة على العجز المالي ومن ثم النمو في الدين العام للدولة، غير أن تلك السياسة يترتب عليها انخفاض معدلات النمو وقد تدخل الدولة في حالة كساد، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج.
في الحلقة الخامسة ونتيجة لهذه التطورات يصبح من الصعب على الدولة أن تقوم بخدمة دينها القائم ويقل إقدام المستثمرين على شراء سندات الدولة وهو ما قد يؤدي إلى توقف الدولة عن خدمة ديونها، ومن ثم استمرار تلك الحلقات مرة أخرى بحيث ينتهي الأمر بالدولة إلى إعلان إفلاسها.
ولكن إذا كان الوضع كذلك فكيف يمكن أن تكسر الدولة حلزون الديون وتتجنب بالتالي النتيجة النهائية للحلزون وهي إعلان الإفلاس؟ لكسر حلقات الحلزون يفترض أن تتعامل مع عجزها المالي في محاولة لتخفيضه من خلال زيادة الضرائب، أو رفع كفاء عملية تحصيلها، وخفض الإنفاق الحكومي أو ما يعرف بسياسات التقشف، ولكن سياسات التقشف، كما أثبتت التجربة الأوروبية، ربما يكون لها آثار خطيرة على النمو وتؤدي بالدولة إلى الدخول في حالة كساد، لذلك فإن محاولات خفض العجز المالي للدولة لا بد وان يصاحبها سياسات مساندة تساعد على تحفيز الطلب الكلي، على سبيل المثال من خلال اللجوء إلى سياسات النقود الرخيصة إما باستخدام السياسات التقليدية مثل طباعة النقود أو زيادة عرض النقود من خلال السياسات غير التقليدية كالتيسير الكمي، كذلك يمكن للدولة العمل على خفض قيمة عملتها لرفع تنافسيتها وزيادة الطلب الخارجي على ناتجها. المهم أن سياسات كسر حلزون الدين لا بد وأن تضع في الاعتبار الآثار المحتملة على النمو. الخيار الآخر المتاح للدولة لكسر حلزون الدين هو طلب المساعدة المالية من المصادر الثنائية Bilateral مثل مؤسسات المعونة الثنائية، أو المؤسسات الدولية متعددة الأطراف Multilateral مثل صندوق النقد الدولي، غير أن مثل هذه المؤسسات غالبا ما تشترط ضرورة أن تقوم الدولة بتبني برامج للاستقرار المالي قد يؤثر بصورة سلبية على النمو.
الشكل رقم (1) يوضح دول العالم الأكثر عرضة لحلزون الديون حاليا، لاحظ أن جانبا كبيرا من هذه الدول هي الدول الأعضاء في منطقة اليورو، ولكن لماذا تكون الدول الأعضاء في اليورو هي الأكثر عرضة لحلزون الديون من بين دول العالم خلال الأزمة الحالية؟ الإجابة على هذا السؤال تتضح من طبيعة الاتحاد الذي تنتسب إليه هذه الدول، والتي تحرم هذه الدول من أن تتبنى سياسات نقدية مستقلة تمكنها من زيادة عرض النقود للامتصاص الجزئي لآثار التقشف على الطلب الكلي في الاقتصاد وذلك من خلال زيادة عرض النقود بأي صورة من الصور، كذلك فإنه بالطبع عندما تكون الدولة عضوا في اتحاد نقدي، فإن هذه الدولة تفقد سيطرتها على قيمة عملتها المحلية ولا تستطيع بالتالي إن تقوم برفع درجة تنافسيتها الدولية من خلال خفض قيمة العملة، حيث تصبح هذه السياسة خارج نطاق سيطرة الدولة. في ظل هذه القيود تنخفض قدرة هذه الدول على التحرك لمواجهة حلزون الدين، ومن ثم لا بد وان ترتفع معدلات العائد المطلوب على سنداتها وهو ما يعقد أوضاع الدين بالنسبة لها.

من أمثلة حلزون الدين في الحالة الأوروبية حالة اليونان، حيث ترتفع نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من اتباع الدولة لسياسات تقشفية لفترة طويلة نسبية بعد أزمتها، وهو ما أدى إلى كساد طويل الأمد في اليونان ترتب عليه انخفاض القاعدة الضريبية للدولة وتزايد العجز المالي إلى الحد الذي بلغ بها حد الوقوع في الإفلاس لولا المساندة الأوروبية، كذلك تتعرض إيطاليا لاحتمال إصابتها بحلزون الديون لذلك اتخذت إجراءات صارمة لخفض الإنفاق واستعادة ثقة الأسواق في سنداتها، ومن هذه الدول التي تواجه احتمال الإصابة بحلزون الدين حاليا أيضا إسبانيا حيث تميل نسبة الدين إلى الناتج نحو الارتفاع وتميل معدلات العائد المطلوبة على سنداتها نحو الارتفاع كذلك، وهكذا نجد أن الدول المدينة الأعضاء في اليورو المعرضة لحلزون الدين تشترك في ذات الخصائص، وقد حاولت دول اليورو اتباع سياسات تقشفية أدت إلى تراجع معدلات النمو على النحو الذي تناولناه في مقالين هنا في الاقتصادية بعنوان منطقة اليورو بين الحاجة إلى النمو وضرورة التقشف.
السبب الرئيس في تصاعد القلق من احتمال دخول أوروبا حلزون الدين هو تصاعد معدلات العائد المطلوب على إصداراتها الجديدة من السندات والتي تصل حاليا إلى 15% في حالة اليونان و6% في حالة إسبانيا وإيطاليا، وهي بكل المقاييس تعد مستويات مرتفعة للعائد لأنها تزيد عن معدلات النمو الحقيقي الذي تحققه هذه الدول، ولا يمكن السيطرة على معدلات العائد إلا من خلال طمأنة الأسواق إلى أن الدول قادرة على خدمة ديونها بسهولة، وهو ما فشلت أوروبا في تحقيقه حتى اليوم. الخلاصة هي أن أوروبا تحتاج إلى أن تسيطر على معدلات العائد على سندات الدول المدينة والا ستواجه حلزونا للديون لا تستطيع السيطرة عليه، بالطبع إذا بلغ الحلزون منتهاه في أوروبا فإن ذلك سوف يعني، لا قدر الله، اندلاع أزمة مالية عالمية تتجاوز في آثارها أزمة ليمان براذرز بمئات المرات.