الأربعاء، يوليو ٣٠، ٢٠٠٨

التضخم يضرب دول العالم الصناعي: مزيد من الأخبار السيئة

أشار أحدث تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، إلى ارتفاع معدل التضخم في دول المنظمة إلى 4.4% في العام المنتهي في يونيو 2008، وذلك مقارنة بمعدل 3.9% في العام المنتهي في مايو 2008. ويعد هذا المعدل أعلى معدلات التضخم الذي تواجهه دول المنظمة منذ عام 2000. ويوضح الشكل التالي تطور معدلات التضخم في تلك الدول منذ عام 2002.

ويرجع الجانب الأكبر لهذه الزيادة في معدل التضخم إلى ارتفاع أسعار الطاقة. حيث ارتفعت أسعار المستهلك للطاقة في العام المنتهي في يونيو 2008 إلى 19.3%، مقارنة بـ 14.7% في العام المنتهي في مايو 2008. من ناحية أخرى ارتفعت أسعار المواد الغذائية بمعدل 6% في العام المنتهي في يونيو 2006. وباستثناء مواد الطاقة فان معدل التضخم في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ينخفض إلى النصف من 4.4% إلى 2.2% فقط في يونيو 2008. ويوضح الشكل التالي معدلات التضخم في تلك الدول بعد استبعاد الإنفاق على الطاقة.


أما على مستوى الدول، فقد بلغ معدل التضخم في منطقة اليورو (15 دولة) 4% في يونيو 2008، وباستثناء الطاقة فان معدل التضخم ينخفض إلى 1.8%. أما في الولايات المتحدة فان معدل التضخم يرتفع إلى 5% في نفس الشهر، وفي اليابان إلى 2%، وفي المملكة المتحدة إلى 3.6%، وفي كندا إلى 3.1%. أما أعلى معدلات التضخم فقد تحققت في أيسلاند (12.8%) وتركيا (10.6%)، أما أقل معدلات التضخم فقد تحققت في هولندا (2.6%)

هذه الأرقام للأسف تحمل أخبارا سيئة بالنسبة لنا هنا في دول الخليج، لأنها سوف تصب المزيد من الزيت على نار التضخم المشتعلة أصلا لدينا هنا. وستنعكس معدلات التضخم هذه بسرعة في صورة ارتفاع لمستويات الأسعار لدينا، حيث ستأتينا في صورة تضخم نستورده مع السلع التي نستوردها من دول العالم المتقدم، بسبب ضعف وجمود هياكل الإنتاج لدينا واعتمادنا بشكل أساسي، وربما تفضيلنا في الكثير من الأحيان الاعتماد، على السلع المستوردة من الخارج. التضخم إذن سوف يستمر لفترة زمنية قادمة في المستقبل ومن ثم المزيد من المعاناة. من الواضح أيضا أن استمرار ارتفاع أسعار النقط وما صاحبة من ارتفاع لأسعار الغذاء، سواء بسبب ارتفاع أسعار النفط أو بسبب عوامل هيكلية أخرى، أصبح يشكل نقمة على رجل الشارع، الذي يدفع حاليا ثمنا باهظا لتراكم الاحتياطي العام لدول مجلس التعاون والناجم عن الفوائض النفطية، في صورة ارتفاع تكاليف المعيشة. منذ أيام أيضا أعلن صندوق النقد الدولي أن شبح التضخم العالمي قد عاود الظهور مرة أخرى، وأن أخطر مشكلة سيواجهها العالم، بصفة خاصة دول العالم النامي، خلال 2008-2009 هي مشكلة التضخم.


مصطلحات:

- مجموعة دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تضم 30 دولة هي:
Australia, Austria, Belgium, Canada, Czech Republic, Denmark, Finland, France, Germany, Greece, Hungary, Iceland, Ireland, Italy, Japan, Korea, Luxembourg, Mexico, Netherlands, New Zealand, Norway, Poland, Portugal, Slovak Republic, Spain, Sweden, Switzerland, Turkey, United Kingdom and United States.

- دول منطقة اليورو تتكون من 15 دولة وهي الدول الأعضاء في عملة اليورو وهي:
Austria, Belgium, Cyprus1, Finland, France, Germany, Greece, Italy, Ireland, Luxembourg, Malta, the Netherlands, Portugal, Slovenia and Spain
.

الثلاثاء، يوليو ٢٩، ٢٠٠٨

الكويت تواجه خطر حلزون الأجور/الاسعار

حلزون الأجور/الأسعار هو احد الدوائر الخبيثة التي تواجهها الدول في أوقات التضخم وميل الأسعار نحو الارتفاع. ويعد حلزون الأجور/الأسعار من مصادر صدمات العرض التي يتعرض لها أي اقتصاد في المناخ التضخمي. ويحدث الحلزون عندما تميل الأسعار نحو الارتفاع، فتنخفض القوة الشرائية لأجور العمال في مختلف مجالات الاقتصاد، مما يدفع نقابات العمال المختلفة إلى استخدام قوتها التفاوضية بطلب أجور أعلى لتعويض العمال عن انخفاض القوة الشرائية لدخولهم، وعندما يحصل العمال على هذه الزيادة ترتفع تكاليف الإنتاج، وهو ما يدفع الشركات إلى رفع الأسعار، فيرتفع معدل التضخم مرة أخرى، ويكتشف العمال أن ما حصلوا عليه من زيادة في أجورهم قد التهمتها الزيادات في الأسعار، فتأخذ نقابات العمال في طلب زيادة إضافية في الأجور، وعندما يحصلون عليها ترتفع التكاليف فالأسعار، وهكذا يأخذ حلزون الأجور والأسعار في التكون ويدخل الاقتصاد في دائرة خبيثة للتضخم، إلى أن تكف الحكومة عن الاستجابة لطلبات زيادة الأجور للحد من زيادات التكاليف، وفي ذات الوقت اتخاذ إجراءات لمكافحة التضخم، ومن ثم الحد من مطالبات العمال بزيادة الأجور. ويمكن التعبير عن الحلقة الخبيثة للأجور/الأسعار في الشكل الآتي:



زيادات الأجور في الكويت أخذت أشكالا متعددة، في ضوء المطالب المستمرة والمختلفة لكافة الفئات بزيادة الأجور من جانب، أو بأن تعامل ككادر خاص من جانب آخر، حيث أصبح الكادر الخاص الممر الخلفي للالتفاف على قوانين الخدمة المدنية والحصول على امتيازات إضافية، ومن ثم أجور أعلى. كل المهن تقريبا أصبحت تسعى نحو إقرار كادرها الخاص. أحدث زيادة في الأجور جاءت بناءا على تعليمات أصدرها مجلس الوزراء أمس بجعل الحد الأدنى للأجور لعمالة شركات التنظيف 50 دينارا، وهو ما يمثل زيادة في الأجر الفعلي لتلك الفئات بأكثر من الضعف. هذه الزيادة، بغض النظر عن جانبها الإنساني، ومدى عدالتها لإنصاف هذه الفئات من جشع الشركات التي تأتي الى الكويت بها معتمدة على الحاجة الماسة لهذه الفئات شبه المعدمة في دولها، ورغبة من مجلس الوزراء في توفير أجور معقولة لهذه الفئات في ظل هذا المناخ التضخمي الذي تعيشه البلاد، سوف تؤدي إلى تضاعف تكاليف العمالة بالنسبة لشركات التنظيف والأمن والحراسة وغيرها من الشركات المرتبطة بتوفير تلك الأشكال من العمالة. قريبا أيضا سنقرأ عن قرارات لزيادة أجور خدم المنازل، وكافة فئات العمالة الهامشية في الدولة. ومما لا شك فيه أن ذلك سوف يعقبه زيادات في أجور الفئات المختلفة في القطاع الخاص، ومن ثم المستوى العام للأسعار. مع تصاعد المستوى العام للاسعار حاليا فإن كافة الفئات تستعد الآن لكي تطلب زيادات إضافية في الأجور لمواجهة الزيادات المتصاعدة في معدل التضخم، أي أن الكويت تستعد الآن لدخول الدائرة الخبيثة للأجور/الأسعار، ما لم تتخذ الحكومة سياسات مناسبة لوقف الضغوط التضخمية في الاقتصاد.

الجمعة، يوليو ٢٥، ٢٠٠٨

معدل التضخم يواصل الارتفاع، ما هو التضخم؟

منذ أيام قليلة تم الإعلان عن أن معدل التضخم في الكويت قد واصل الارتفاع متجاوزا حاجز الـ 11%، ليبلغ 11.4% في ابريل 2008، وذلك بسبب استمرار ارتفاع تكلفة السكن والغذاء. وقد تزامن ذلك مع خطوات ستتخذها الحكومة في ضوء الاجتماعات التي قامت بها لجنة شكلها مجلس الوزراء لدراسة ظاهرة ارتفاع الأسعار، حيث أعلن وزير التجارة حزمة من القرارات التي تهدف إلى الحد من الارتفاع في الأسعار الذي يتزايد يوما عن يوم، والذي طال تقريبا كل شيء، وان كان بدرجات متفاوتة. وتنبغي الإشارة إلى أن التضخم الذي نعيشه حاليا، ليس ظاهرة تحدث في الكويت فقط، وإنما هو ظاهرة عالمية تعاني منها كافة دول العالم. غير أن معدل التضخم المكون من رقمين هو بالتأكيد ظاهرة جديدة على الكويت، فالكويت تستعد الآن لدخول بوابة التضخم المرتفع، بعد أن كانت جنة الله في الأرض بالنسبة لمستويات الارتفاع السنوي في الأسعار. فما هو التضخم، وما هي مسبباته وآثاره.

يعرف الاقتصاديون التضخم بأنه "الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار"، ومن هذا التعريف المقتضب نجد أن هناك شرطان للحكم على وجود التضخم، الأول هو أن يكون الارتفاع في الأسعار مستمرا، فارتفاع الأسعار خلال شهر أو شهرين مثلا لا يعد تضخما، وإنما يطلق عليه لفظ "ارتفاع أسعار"، وليس تضخما. وبشكل عام يمكن القول أن استمرار الارتفاع في الأسعار لأكثر من سنتين متتاليتين يعد دليلا على حدوث التضخم.

أما الشرط الثاني فهو أن يكون هذا الارتفاع في "المستوى العام للأسعار" (أي أسعار معظم السلع والخدمات التي يشتريها المستهلكون المقيمون في المناطق الحضرية) مستمرا. وليس شرطا أن ترتفع كافة الأسعار أثناء التضخم، فمن الممكن أن تنخفض بعض الأسعار، ومع ذلك نقول بأن هناك تضخما. فما هو المستوى العام للأسعار؟. عندما يتم حساب المستوى العام للأسعار فانه يكون على شكل رقم قياسي Index، لسله من السلع والخدمات التي يشتريها المستهلكون المقيمون في الحضر. وتقسم هذه السلع والخدمات إلى مجموعات، على سبيل المثال مجموعة الأغذية والمشروبات، ومجموعة الملابس والأحذية، ومجموعة الخدمات الصحية... الخ. ويحسب المستوى العام للأسعار في سنة الأساس (أي سنة تكوين الرقم القياسي) من خلال ضرب كمية السلع التي يشتريها المستهلكون من السلع في كل مجموعة في أسعارها في سنة الأساس. ثم يحسب الرقم القياسي من خلال قسمة الإنفاق على السلة في السنة الحالية على الإنفاق على السلة بأسعار سنة الأساس وضرب الناتج في 100. وبما أن السنة الحالية هي نفس السنة في سنة الأساس فان الرقم القياسي للأسعار يكون 100 في سنة الأساس.

وبمرور الوقت تتغير أسعار السلع والخدمات ارتفاعا وانخفاضا، الأمر الذي يترتب عليه تغير مستويات الإنفاق للمستهلكين على السلة عن سنة الأساس. فنقوم بحساب الإنفاق على السلة مرة بضرب كميات السلع والخدمات التي يتم شراءها حاليا في الأسعار الحالية لتلك السلع والخدمات، ومرة أخرى بالضرب في أسعار سنة الأساس، ثم نقوم بإعادة حساب الرقم القياسي للأسعار بنفس الطريقة السابقة. ومن ثم فان ارتفاع الرقم القياسي للأسعار يعني وجود ارتفاع في الأسعار، اذا استمر فإننا نطلق عليه تضخما.

مشكلة الرقم القياسي للأسعار أنه يحتوي على مجموعات من السلع تختلف نسبة إنفاق الأفراد عليها من شخص لآخر، على سبيل المثال فان مجموعة خدمات السكن يختلف الإنفاق عليها بشكل جوهري بين مؤجري المساكن ومالكي المساكن التي يقيمون بها. ففي أوقات التضخم ترتفع أسعار المساكن ومن ثم إيجاراتها بشكل واضح، فيشعر مؤجري المساكن يعبئ هذا المصدر من مصادر التضخم، بينما لا يشعر مالكي المساكن بهذا المصدر من مصادر ارتفاع الأسعار. وكمثال آخر فانه في أوقات التضخم ترتفع رسوم التعليم في المدارس الخاصة، فيشعر آباء التلاميذ في تلك المدارس بهذا المصدر، بينما لا يشعر به آباء التلاميذ في المدارس العامة، أو الأفراد الذين ليس لديهم أولادا في المدارس. ولذلك يميل الاقتصاديون إلى حساب ما يسمى بـ "التضخم الجوهري Core inflation"، أي الارتفاع في أسعار السلع والخدمات التي يستهلكها عموم الناس، على سبيل المثال أسعار الأغذية والمشروبات، وأسعار الطاقة، وأسعار البنزين.. الخ. كبديل أفضل للتعبير عن حالة التضخم.

ولكن ما الذي يسبب التضخم، ويدفع بالمستوى العام للأسعار نحو هذا الارتفاع المستمر؟. بشكل عام هناك تفسيران للتضخم، الأول هو التضخم الناجم عن ضغوط الطلب على السلع والخدمات، ويطلق على هذا النوع من التضخم "تضخم جذب الطلب". ويحدث ذلك عندما يميل الطلب الكلي (طلب المستهلكين على السلع والخدمات الاستهلاكية، وطلب قطاع الأعمال على السلع والخدمات الرأسمالية، ومشتريات الحكومة من السلع والخدمات، وصافي صادرات الدولة أي الفرق بين الصادرات والواردات) إلى الارتفاع، بصورة أكبر من قدرة الإنتاج على مواجهة هذه الزيادات في الطلب، فتحدث ضغوط على الموارد المستخدمة في إنتاج السلع والخدمات (مثل العمال والمواد الخام.. )، وترتفع أسعار عناصر الإنتاج مما يؤدي إلى زيادة التكاليف ومن ثم الأسعار. وفي هذا النوع من التضخم "يطارد إنفاق كبير للمستهلكين عرضا محدودا من السلع والخدمات".

أما التفسير الثاني للتضخم فهو التضخم الناجم عن صدمات العرض، ويطلق على هذا التضخم "التضخم المدفوع بالتكاليف"، ويحدث ذلك عندما تحدث صدمة لجهاز عرض السلع والخدمات نتيجة ارتفاع أجور العمال مثلا أو ارتفاع أسعار النفط .. الخ، فتميل التكاليف نحو الارتفاع ومن ثم الأسعار، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية للأجور، أو أسعار النفط، فيطالب العمال بأجور أعلى، أو مصدري النفط بأسعار أعلى، مما يؤدي إلى استمرار ارتفاع التكاليف، فارتفاع الأسعار، وهكذا في حلقة حلزونية للارتفاع من الأجور إلى التكاليف إلى الأسعار، أو من سعر النفط إلى التكاليف إلى الأسعار، وهكذا.

وتلعب صدمات العرض الدور الأساسي حاليا في التضخم. فالتضخم الذي نعاني منه حاليا سببه ارتفاع أسعار النفط من جانب، وارتفاع أسعار الغذاء بسبب الصدمات التي يتعرض لها إنتاج الغذاء، ومنها النفط، من جانب آخر، مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف إنتاج السلع والخدمات ومن ثم الأسعار. ويمكن القول بأننا في الدول المصدرة للنفط نصدر التضخم إلى العالم، في صورة الأسعار المرتفعة للنفط، ونستورد التضخم من العالم، في صورة ارتفاع أسعار السلع التي نستوردها من الخارج.

وتشير المدرسة النقودية إلى أن التضخم في أي وقت، وفي أي مكان هو ظاهرة نقودية، أي ظاهرة تنجم عن الزيادة المستمرة في عرض النقود. وأن ارتفاع عرض النقود بنسبة ما يؤدي إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار بنفس النسبة. فعندما تقوم الحكومة بإصدار المزيد من النقود يدرك الأفراد أن القوة الشرائية لتلك النقود ستميل إلى الانخفاض، فيعمد الأفراد إلى التخلص من تلك النقود، وهو ما يؤدي إلى تغذية جانب الطلب. من ناحية أخرى فان زيادة عرض النقود يؤدي إلى انخفاض معدلات الفائدة (ثمن النقود)، وهو ما يساعد على تشجيع الطلب. ولذلك يطلق على الزيادة في عرض النقود في المجتمع على أنها ضريبة التضخم، أي أنها بمثابة ضريبة تحصلها الحكومة من الأفراد في المجتمع في صورة انخفاض القوة الشرائية للنقود التي يحتفظون بها بفعل زيادة الكميات المصدرة منها. ويحدث التضخم الجامح Hyper-inflation، وهو أخطر أنواع التضخم، عندما يحدث إفراط شديد في عرض النقود، بصفة خاصة في أوقات الحروب، او أوقات عدم الاستقرار السياسي، فتحدث زيادات هائلة في الأسعار، قد تكون بشكل يومي. على سبيل المثال التضخم الذي ساد بعض دول أوروبا في أعقاب الحربين العالميتين الأولى والثانية. أو التضخم الذي ساد في بعض دول أمريكا اللاتينية في فترة الثمانينيات من القرن الماضي. وعلى ذلك تلعب السياسة النقدية، او البنك المركزي دورا محوريا في ارتفاع المستوى العام للأسعار. حيث أن ارتفاع مستويات الطلب الكلي أو صدمات العرض بحد ذاتها لن تؤدي إلى التضخم ما لم يكن ذلك مصحوبا بسياسات نقدية لملائمة الأوضاع Accommodating، والتي تلجأ إليها الحكومة لمعالجة النتائج الناجمة عن دفع الطلب او صدمات العرض، بدلا من الانتظار حتى تلعب قوى السوق دورها في الحد من آثار تلك النتائج.

أما أصحاب مدرسة الطبيعة Naturalists، فيقسمون التضخم إلى نوعين تضخم ناتج من الطبيعة Natural، والذي يعد دالة مباشرة في الأرض كعنصر نادر. حيث يؤدي ارتفاع ريع الأرض (بما في ذلك أسعار الموارد الطبيعية كالنفط)، إلى ارتفاع الأجور لمواجهة ارتفاع الريع مما يؤدي إلى ارتفاع التكاليف ومن ثم الأسعار. وهكذا فان التضخم الراجع إلى الطبيعة يعود إلى ارتفاع ريع الأرض (أو الريع بشكل عام)، ومن ثم ارتفاع أسعار الغذاء، وارتفاع أسعار الموارد الطبيعية مثل النفط وغيره من المعادن. والتضخم الذي لا يرجع إلى الطبيعة، والناتج عن تدخل البنك المركزي من خلال ضخ المزيد من عرض النقود، وتعديل معدلات الفائدة. ومن هذا المنطلق فان التضخم الذي نعيشه اليوم هو تضخم يعود إلى الطبيعة حيث ترتفع أسعار الغذاء والنفط، وتضخم لا يعود إلى الطبيعة بسبب إفراط البنوك المركزية في عرض النقود. ومن ثم فان علاج التضخم حاليا يتركز أساسا في البحث عن موارد طبيعية متجددة بحيث يثبت عنصر الريع ومن ثم تتم السيطرة على التضخم الذي يعود إلى الطبيعة.

وبالنسبة لتوقعات الأفراد حول التضخم، هناك نوعان من التضخم: التضخم المتوقع، وأثر هذا التضخم على الأفراد محدود، لان الأفراد عندما يتوقعون معدلا معينا للتضخم فإنهم يأخذون هذا المعدل في الحسبان في خطط إنفاقهم أو في أية عقود يبرمونها، مثل عقود العمل، عقود التأجير.. الخ. ومن ثم فانه يسهل على الأفراد مواجهة هذا النوع من التضخم لأنهم يأخذونه في الاعتبار. أما النوع الثاني فهو التضخم غير المتوقع، أي الذي لم يأخذه الأفراد في الحسبان عند إبرام عقودهم المختلفة، وهو أخطر أنواع التضخم لصعوبة مواجهة آثاره. على سبيل المثال اذا كنت تعيش علي إيجار عقار تملكه، وكان معدل التضخم المتوقع هو 5%، فانك ستحرص على أن تبرم عقود الإيجار الخاصة بالعقار الذي تملكه بإضافة نسبة 5% إلى معدل الإيجار السائد حاليا، وذلك لمواجهة أثر التضخم المتوقع. فإذا حدث وكان التضخم الفعلي بعد ذلك هو 15%، فان ذلك يعني أن معدل التضخم غير المتوقع يساوي 10%، وأنت لم تأخذه في الاعتبار عند إبرام عقود تأجير عقارك. فتكون النتيجة انك تخسر 10% من القوة الشرائية لإيجار عقارك (دخلك)، ولا تستطيع مواجهة ذلك لأنك أبرمت عقد التأجير، وعليك الانتظار حتى ينتهي العقد لرفع الإيجار مرة أخرى.

ولكن هل يتضرر عموم الأفراد من التضخم؟ الإجابة هي لا، لأن هناك فئات تضار من التضخم، وفئات تستفيد من التضخم، ولذلك غالبا ما نقول أن التضخم يحدث آثارا توزيعية، أي يعيد توزيع الدخل من فئات معينة لصالح فئات أخرى. فعندما يرتفع معدل التضخم تنخفض القوة الشرائية للدخل (قدرة الدخل الذي يحصل عليه الفرد على شراء السلع والخدمات المختلفة)، أو ما يطلق عليه الدخل الحقيقي، ولكن ذلك لا يعني انخفاض الدخل الحقيقي للاقتصاد ككل، فما ندفعه في صورة أسعار مرتفعة، يذهب إلى طرف آخر في الاقتصاد، هو المنتجين او بائعي السلع ومقدمي الخدمات. وبشكل عام ينقسم الأفراد في المجتمع إلى مجموعتين، مجموعة لا تستطيع أن تعدل مستويات دخولها، بسبب ثبات مصادر دخلها، مثل الموظفين وأصحاب العقارات والمتقاعدين الذين يعيشون على المعاشات التي تدفعها الدولة.. الخ. وهذه المجموعة من الأفراد هي أكثر المجموعات تضررا من التضخم، لأن القوة الشرائية لدخولها الثابتة تميل إلى الانخفاض مع ارتفاع الأسعار، في الوقت الذي لا تستطيع أن ترفع من دخولها الثابتة لمواجهة آثار التضخم. أما أصحاب الدخول المتغيرة، مثل التجار وأصحاب المهن الحرة.. الخ، فيستطيعون بسهولة تعديل مستويات دخولهم لمواجهة آثار التضخم. كذلك فان أصحاب المدخرات في البنوك يتعرضون للخسارة في أوقات التضخم، حيث تميل القوة الشرائية لمدخراتهم في البنوك إلى الانخفاض بمرور الوقت بفعل التضخم. كذلك يتضرر المقرضون للأموال من التضخم غير المتوقع (حيث يفترض أنهم يأخذون في الاعتبار التضخم المتوقع في حساب معدلات الفائدة على قروضهم. ويطلق على زيادة معدل الفائدة نتيجة التضخم المتوقع "علاوة التضخم")، بينما يستفيد المقترضون للأموال في أوقات التضخم، حيث سيقترضون أموالا ذات قوة شرائية مرتفعة، ويعيدون سدادها بقوة شرائية منخفضة.

بقي أن نشير إلى أنه في الأوقات التي يرتفع فيها الطلب تميل فيها معظم الأسعار نحو الارتفاع ويحدث التضخم، فماذا عن الأوقات التي يقل فيها الطلب على السلع والخدمات، هل تنخفض فيها الأسعار، الإجابة هي بشكل عام لا، لأن الأسعار والأجور في مجملها تتسم بعدم القابلية للانخفاض Sticky ، أي أنها ترتفع في أوقات زيادة الطلب، بينما تثبت ولا تنخفض في أوقات انخفاض الطلب.

والآن هل فعلا مستوى التضخم الذي نعيشه في الكويت هو 11.4%، لو سألت المقيمين في الكويت فستكون إجابتهم هي بالطبع لا، حيث يشعر هؤلاء بان معدل التضخم السائد أعلى بكثير من 11.4%. معنى ذلك أن هناك فرقا بين ما تعلنه وسائل الإعلام عن التضخم وبين ما يشعر به الفرد فعلا حول معدل التضخم. ويرجع ذلك إلى أن هناك فرقا بين سلة السلع التي تكون الرقم القياسي المعلن للأسعار، وسلة السلع التي تكون التضخم الجوهري، على النحو السابق الإشارة إليه. وعلى ذلك فان مدى صدق معدل التضخم يعتمد على مدى اعتمادية سلة السلع والخدمات التي يتم استخدامها في سلة السلع التي يحسب على أساسها المستوى العام للأسعار. ولكي تكون هذه السلة ذات مصداقية لا بد وان يجرى عليها دراسات مكثفة وبشكل دوري، بحيث تضم معظم السلع والخدمات التي يشتريها المستهلكون، وفقا للأوزان الفعلية لكل مجموعة سلعية تكونها السلة.

وأخيرا هل سيستمر معدل التضخم في الارتفاع في المستقبل، الإجابة هي للأسف نعم، أخذا في الاعتبار معطيات التحولات الجوهرية في السوق العالمي للنفط الخام، والعوامل الجوهرية المؤثرة على إنتاج وعرض الغذاء، وتفاعلات قوى العرض والطلب محليا وعالميا، فان التضخم سوف يستمر معنا ولفترة زمنية قادمة.

السبت، يوليو ١٢، ٢٠٠٨

كيف سيتحدد معدل صرف العملة الخليجية الموحدة

إن مسألة كيفية تحديد معدل صرف العملة الخليجية الموحدة تعد من المسائل الحرجة في نجاح مشروع العملة الخليجية الموحدة. بصفة خاصة فان إنشاء عملة موحدة وتقييمها بعملة معومة يمكن أن يحمل الكثير من المخاطر. وهناك العديد من المقترحات في هذا المجال ولكل مقترح مزاياه وعيوبه. وفيما يلي نتناول هذه المقترحات.

ربط العملة الخليجية الموحدة بالدولار الأمريكي

تتمثل الميزة الأساسية لهذا المقترح في أنه يتناسب مع النظام الحالي الذي تتبعه دول المجلس، ومن ثم فان ربط العملة الخليجية الموحدة بالدولار يضمن استقرارا اكبر لسوق الصرف الأجنبي لأنه يعد امتدادا للنظام الحالي. أضف إلى ذلك أن هذه النظام قد طبقته دول المجلس لسنوات وكان أداءها فيه جيدا، وقد اعتادته البنوك المركزية لدول المجلس.

من ناحية أخرى فان هناك عدة مزايا إضافية لربط العملة الخليجية الموحدة بالدولار وهي:
1 أن النفط الخام، سلعة التصدير الرئيسية لدول المجلس، يسعر عالميا بالدولار الأمريكي.
2 من المعلوم من الناحية النظرية انه يفضل للدول التي تقوم بإنتاج وتصدير سلع تعدينية او زراعية أن تقوم بربط عملتها بالعملة التي يتم استخدامها في تقييم أسعار تلك الصادرات. حيث أن هذه الدول تتمتع بميزة كامنة في سياسة معدل الصرف وفقا لهذا الربط، ففي الأوقات التي يميل فيها الدولار نحو الهبوط، فان صادرات هذه الدول سوف تتزايد نتيجة لذلك (بفعل انخفاض قيمة الدولار)، مما يؤدي إلى زيادة إيراداتها من النقد الأجنبي ليعوض أثر النقص في القيمة الشرائية للدولار على واردات هذه الدول، من ناحية أخرى فان ارتفاع قيمة الدولار سوف يؤدي إلى هبوط صادرات تلك الدول، إلا أن قيمة وارداتها سوف تنخفض بالتبعية (نتيجة ارتفاع قيمة الدولار) ومن ثم ارتفاع القوة الشرائية لصادراتها، مما يعوض اثر النقص في إيرادات الصادرات. ويعني ذلك أن الربط بعملة التصدير يساعد على استقرار شروط التجارة (أسعار الصادرات إلى أسعار الواردات) لهذه الدول. غير انه التجربة الحالية التي تمر بها دول المجلس تشير إلى أن ربط عملاتها المحلية بالدولار كان أمرا مكلفا بالنسبة لتحمل هذه الدول معدلات مرتفعة من التضخم نتيجة ضعف الدولار الأمريكي عملة التثبيت المشترك إضافة إلى مجموعة من العوامل الأخرى الخارجية والداخلية.
3 أن الجانب الأكبر من واردات المنطقة يتم بالدولار الأمريكي، عملة الربط المقترحة للعملة الخليجية الموحدة.
4 أن الجانب الأكبر من الاستثمارات الخارجية للمنطقة والذي يتم في إطار صناديقها السيادية للاستثمار، يتم أيضا بالدولار الأمريكي.
5 أن الجانب الأكبر من احتياطيات تلك الدول بالنقد الأجنبي يتمثل في الدولار الأمريكي.

مثل هذه العوامل تعد مشجعة لتبني ربط العملة الخليجية بالدولار الأمريكي. إلا أن العيب الأساسي في الربط بالدولار الأمريكي، يتمثل في أنه في الأوقات التي يميل فيها الدولار الأمريكي نحو الهبوط فان ذلك سوف يعني هبوط قيمة العملة الخليجية الموحدة بالتبعية، ومن ثم تعاني تلك الدول من ارتفاع في الأسعار نتيجة ارتفاع أسعار الواردات من الخارج، وانخفاض القوة الشرائية لاحتياطياتها من النقد الأجنبي وكذلك انخفاض القيمة الحقيقية لاستثماراتها الخارجية.

ربط العملة الخليجية الموحدة باليورو

أصبح اليورو كعملة دولية أكثر استقرارا من الدولار الأمريكي، أو هكذا تبدو الأمور حاليا، حيث يدعمه عدد اكبر من الاقتصاديات القوية، كما تنخفض هجمات المضاربة عليه بشكل واضح، كذلك فان الدور الذي يلعبه اليورو في السوق النقدي العالمي وكذلك في الاحتياطيات العالمية من النقد الأجنبي آخذ في التزايد بصورة واضحة. غير أن عيوب الربط باليورو هي نفس العيوب المصاحبة للربط بعملة واحدة مثل الدولار الأمريكي، والتي تم ذكرها آنفا.

ربط العملة الخليجية الموحدة بسلة من الدولار الأمريكي واليورو

وذلك من خلال إعطاء وزن متساو لكل من الدولار الأمريكي واليورو في السلة المكونة من العملتين. ويوفر هذا الربط قدرا اكبر من الاستقرار للعملة المقترحة، حيث أن ارتفاع إحدى العملتين في السلة، سوفي يعني بالتبعية انخفاض العملة الأخرى، مما يحيد الأثر الناجم عن تقلب إحدى هاتين العملتين في السلة على العملة المقترحة.

ربط العملة الخليجية الموحدة بوحدات حقوق السحب الخاصة

حقوق السحب الخاصة هي عملة احتياطي دولية يصدرها صندوق النقد الدولي، ليتم توزيعها على الأعضاء وفقا لنسبة حصص الدول الأعضاء في رأس مال الصندوق. وهي عملة حسابية، أي ليس لها وجود مادي، وإنما يصدرها صندوق النقد الدولي لزيادة حجم السيولة الدولية للدول الأعضاء، ويقتصر استخدامها على البنوك المركزية للدول. ويتم ربط حقوق السحب الخاصة حاليا بسلة من العملات هي أساسا الدولار الأمريكي واليورو الأوروبي والين الياباني والجنيه الإسترليني. ويعني ربط العملة الخليجية الموحدة بوحدات حقوق السحب الخاصة أنه هناك ربطا جزئيا لتلك العملة بسلة من العملات الدولية، وهي السلة المكونة لمعدل صرف حقوق السحب الخاصة. وتتمتع حقوق السحب الخاصة بقدر كبير من الاستقرار كعملة احتياطي دولية، مما يضفي قدرا كبيرا من الاستقرار على العملة المقترحة.

ربط العملة الخليجية الموحدة بسلة موسعة من العملات

يعد هذا النظام خطوة نحو تحقيق استقرار اكبر في معدل صرف العملة الخليجية الموحدة، حيث يعني الربط بسلة موسعة من العملات، تحديد وزن محدد لكل عملة من العملات داخل السلة، ربما يعتمد على أهمية حجم التجارة (صادرات وواردات دول مجلس التعاون مع تلك الدولة إلى إجمالي صادرات وواردات دول مجلس التعاون) والاستثمار (استثمارات دول مجلس التعاون في تلك الدولة إلى إجمالي استثمارات دولة مجلس التعاون) مع الدول المصدرة لتلك العملات، ويؤدي ذلك إلى درجة أعلى من الاستقرار في معدل الصرف. ذلك أن ارتفاع معدل صرف عملة ما داخل السلة، يعني في ذات الوقت انخفاض معدلات صرف باقي العملات في السلة بالنسبة لتلك العملة، فإذا كانت أوزان العملات داخل السلة موزعة بطريقة مناسبة، فانه من المفترض أن لا يترتب على ذلك أي تأثير على معدل صرف العملة الخليجية الموحدة. ويتميز هذا الربط بأنه ربط واقعي، كما أنه يسمح لدول المجلس بتعديل مكونات السلة من وقت لآخر وفقا لتطورات المعاملات التجارية والمالية التي تتم بين دول المجلس ودول سلة العملات.

تحرير معدل صرف العملة الخليجية الموحدة

أي ترك معدل صرف العملة المقترحة وفقا لقوى العرض والطلب. إلا أنه لا يفضل أن يتم تحرير معدل صرف العملة الخليجية الموحدة، أو على الأقل في المراحل الأولى لعملية إصدارها حتى لا تتعرض لهزات تؤثر على الاستقرار النقدي لدول مجلس التعاون وتزيد من احتمالات هجمات المضاربة عليها، الأمر الذي قد يؤدي في أسوأ الاحتمالات إلى تهديد مشروع الاتحاد النقدي برمته، خاصة بالنسبة لمجموعة دول تتعرض من آن لآخر إلى تقلبات خارجية عنيفة.

ومن العرض السابق يتضح لنا أنه ربما يكون من الأفضل لدول مجلس التعاون أن تقوم بربط عملتها الموحدة بسلة موسعة من العملات حتى تضمن قدرا اكبر من الاستقرار في معدلات صرف تلك العملة، وقدرة اكبر على تغيير مكونات السلة في حال تعرض معاملاتها مع أي من الدول المصدرة للعملات المكونة للسلة إلى التغير.

الجمعة، يوليو ١١، ٢٠٠٨

هل تتحقق نبوءة مالثاس: الأرض تنوء بسكانها

نشر روبرت مالثاس مؤلفه عن أساسيات السكان محاولا دحض وجهات النظر التفاؤلية حول النمو السكاني. ومن وجهة نظر مالثاس فان المشكلة الأساسية تتمثل في أن قدرة الإنسان على التكاثر تفوق قدرة الأرض على إنتاج الحد الأدنى الضروري من الغذاء للإنسان (حد الكفاف). ولشرح فكرته الأساسية عن اختلاف معدلات النمو، افترض مالثاس أن السكان يتزايدون على شكل متوالية هندسية، بينما يتزايد حد الكفاف من الغذاء على شكل متوالية عددية. ونظرا لاختلاف طبيعة عملية النمو بين السكان والغذاء تنشأ فجوة الغذاء. وبحكم قانون حياتنا الطبيعية والذي يجعل من الغذاء ضرورة لحياة الإنسان، فأن فجوة الغذاء سوف تتحكم في قدرة الإنسان على النمو. حيث يتحدد الحد الأقصى للسكان عند مستوى حد الكفاف. ذلك أن زيادة السكان عن هذا الحد سوف تؤدي إلى انتشار سوء التغذية وبالتالي ارتفاع معدلات الوفيات بالشكل الذي يكفل العودة بمستوى السكان إلى حده الأقصى الذي يسمح به مستوى حد الكفاف. على أن مالثاس كان يعي أن سوء التغذية نادرا ما يعمل بشكل مباشر على قتل البشر لان هناك عوامل أخرى تتحكم في النمو البشري. والتي قسمها إلى مجموعتين: المجموعة الأولى وتتمثل في عوامل الحد الايجابية وتضم كل مسببات الوفاة مثل الحروب والإمراض والأوبئة والمجاعات الخ، والمجموعة الثانية وتتمثل في عوامل الحد الوقائية وتضم هذه المجموعة من الناحية النظرية كافة أشكال تحديد النسل.

وقد أعتقد مالثاس أن الفقر هو الأثر الطبيعي للنمو السكاني. فقد آمن مالثاس بان الناس لديها اتجاه طبيعي نحو الإنجاب وأن الزيادة في عرض الغذاء لا يمكن أن تساير النمو السكاني. حيث يدفع التضخم السكاني (معبرا عنه بارتفاع معدل البطالة) بالأجور إلى الانخفاض. الفقر إذن يعد جزءا من القانون الطبيعي للسكان وفقا لمالثاس. وبمعنى أخر فان الزيادة في عرض الغذاء سوف تعني في النهاية مزيدا من السكان يمكن أن يعيشوا فقط في حالة من الفقر. وقد بدأت انتقادات مالثاس منذ اللحظة الأولى التي خرج فيها مؤلفة عن السكان إلى الوجود عام 1798، وتتمثل في التأكيد على أن زيادة إنتاج الغذاء لا يمكن أن تجارى الزيادة في أعداد السكان، والتي نبعت من نظرة مالثاس التشاؤمية حول النمو السكاني وعدم إيمانه بالتطور التكنولوجي، وأن نتيجته النهائية هي مستوى أعلى من المعيشة وليس مستوى متدني لها.

ومن المؤكد أن الزيادة التي حدثت في السكان في العالم في الخمسين سنة الماضية تمثل زيادة غير مسبوقة في التاريخ، كما انه من المعتقد ألا يتكرر في المستقبل هذا النمط السريع من النمو السكاني. فقد تزايد حجم السكان في العالم من حوالي 2.5 مليار نسمة عام 1950 إلى حوالي 6.7 مليار نسمة عام 2007. وقد تركزت هذه الزيادة السكانية أساسا في الدول النامية، حيث يوجد حالي 1.2 مليار نسمة في دول العالم المتقدم، بينما يوجد حوالي 5.5 مليار نسمة في الدول النامية، الجانب الأكبر منهم في آسيا. ومن المتوقع أن يستمر النمو السكاني في العالم نحو التزايد. ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة يتوقع أن يصل عدد السكان وفقا لسيناريو النمو المتوسط إلى حوالي 9.2 مليار نسمة عام 2050. هذا النمو السكاني سوف يتركز فقط في الدول النامية، حيث يتوقع أن يثبت عدد سكان الدول المتقدمة عند 1.2 مليار نسمة عام 2050، بينما يتوقع أن يتزايد عدد السكان في الدول النامية إلى حوالي 8 مليار نسمة. ومن ثم سوف يستمر النمو السكاني في المستقبل متركزا في الدول المرتفعة السكان حاليا، وفي عام 2050 سوف يكون هناك حوالي نصف سكان العالم في ثمان دول فقط هي الهند والصين وباكستان وبنجلاديش والولايات المتحدة ونيجيريا والكونغو وأثيوبيا. أكثر من ذلك من المتوقع أن يرتفع توقع الحياة عند الولادة على المستوى العالمي من 67 عاما عام 2007 إلى 75 عاما في عام 2050. وبالنسبة للدول المتقدمة يتوقع ارتفاع توقع الحياة من 77 عاما حاليا إلى 82 عاما في عام 2050. أما بالنسبة للدول النامية فمن المتوقع أن يرتفع توقع الحياة من 65 عاما حاليا إلى 74 عاما في عام 2050. أي أن كل المجتمعات السكانية في العالم سوف تميل إلى أن تكون مجتمعات سكانية كبيرة السن.

وهكذا فانه ولفترة طويلة من الزمن استطاع العالم أن يستوعب هذه الزيادات الهائلة من السكان دون أن ترتفع معدلات الوفيات على عكس ما توقع مالثاس، وبدا من الواضح أن مخاوف مالثاس حول النمو السكاني أصبحت جزء من تراث الماضي، وان النمو التكنولوجي الهائل بصفة خاصة في مجال الهندسة الوراثية قادر على فك قيد الغذاء المصاحب للنمو السكاني.

غير أن ضغوط النمو السكاني العالمي يبدو أنها كانت راكدة تحت السطح وبدأت في الانفجار مع أول أزمة موارد يتعرض لها العالم. حيث أخذت أسعار الحبوب الغذائية بصفة خاصة في الارتفاع بشكل كبير، نتيجة تغير أنماط التغذية في أكثر دول العالم سكانا، الهند والصين, وتزايد عمليات تحويل الحبوب الغذائية إلى وقود حيوي بسبب الأزمة الحالية لأسعار النفط، هذا فضلا عن عوامل أخرى خاصة العوامل المناخية وقيود نمو القطاع الزراعي في الدول النامية.

العالم الآن مهدد بشكل اكبر من أي وقت سبق بانعكاسات أزمة الغذاء العالمي على مستويات الفقر وانتشار سوء التغذية ومن ثم ارتفاع معدلات الوفيات، في دول العالم الفقير، وهي نفس توقعات مالثاس في نظريته عن النمو السكان، فهل تتحقق نبوءة مالثاس.

هل يجب أن تفك دول مجلس التعاون ربط عملاتها بالدولار؟

في رسالته عن ضرورة تحول دول مجلس التعاون من الربط بالدولار إلى الربط بسلة عملات تحتوي على أسعار النفط (انظر الرابط أدناه)، دعا جيفري فرنكل دول المجلس إلى ضرورة أن تلجأ دول الخليج إلى "ربط عملتها بسعر التصدير" لكي تتجنب الآثار السلبية للصدمات التجارية، وفي ذات الوقت تحافظ على مزايا الربط. حيث أدى الربط الحالي بالدولار إضافة إلى مجموعة العوامل الأخرى المتمثلة في ارتفاع أسعار النفط وزيادة معدلات النمو مصحوبة بزيادة في عرض النقود إلى تضخم بدأت تظهر أثاره بشكل واضح في دول الخليج، على سبيل المثال في الإمارات العربية المتحدة. ولذلك يرى فرنكل أن رفع قيمة الدرهم الإماراتي والريال السعودي قد يكون حلا واضحا لتلك المشكلة. غير أن فرنكل يشير إلى أن الربط بسلة عملات في الكويت لم يكن مصحوبا بضبط أداء السياسة النقدية في أوقات تغيرات أسعار النفط، سواء ارتفاعا (حيث يتبع البنك المركزي سياسة نقدية توسعية أكثر من اللازم) او انخفاضا (حيث اتبع البنك المركزي سياسة نقدية متشددة أكثر من اللازم مثلما حدث في التسعينيات). من ناحية أخرى يرى فرنكل أن ترك عملات دول المجلس حرة (وهي دعوة أطلقها جرينسبان منذ فترة قصيرة) لا يفيد تلك الدول باعتبارها اقتصاديات مفتوحة صغيرة الحجم. دول الخليج إذن مدعوة وبشكل واضح أن تفك ارتباط عملاتها بالدولار الأمريكي اذا أرادت أن تخفف من حدة التضخم.

المشكلة الأساسية أن فك ربط العملات الخليجية بالدولار لن يحل مشكلة التضخم، وذلك في ظل مناخ اقتصادي كافة العوامل فيه تشير إلى ضرورة تحمل قدر من التضخم المصاحب للأوضاع الحالية لتلك الدول. إن فك ربط الدينار الكويتي بالدولار الأمريكي والتحول مرة أخرى إلى سلة العملات، لم يؤد إلى السيطرة على التضخم، بل على العكس استمرت معدلات التضخم في الارتفاع بوتيرة أعلى من تلك التي كانت سائدة أثناء الربط، بسبب ضغوط الطلب الكلي التي لا يمكن تجنبها في اوقات الوفرة. المشكلة ببساطة هي أننا نواجه طلبا كليا متصاعدا في مقابل جهاز إنتاجي محدود القدرة على مواجهته، وارتفاع في اسعار السلع المستوردة نحن طرف أساسي فيه. من ناحية أخرى فانه في ظل تزايد معدلات الطلب الكلي، بصفة خاصة الإنفاق الحكومي، يصعب السيطرة على عرض النقود. التضخم إذن هو ضريبة لا بد من دفعها في مقابل الوفرة الحالية المصاحبة لارتفاع أسعار النفط، وسوف يستمر التضخم معنا لفترة من الوقت طالما استمرت الزيادة في اسعار النفط ومن ثم الطلب الكلي.

أما اقتراح إدراج سعر النفط ضمن سلة الربط فقد يكون له مبرراته من الناحية النظرية، بصفة خاصة المحافظة على القوة الشرائية لعملات تلك الدول، حيث سترتفع قيمة عملات هذه الدول في أوقات ارتفاع أسعار النفط، وتنخفض في أوقات انخفاض أسعار النفط، إلا أن المقترح لا يوفر الاستقرار المطلوب لمعدل الصرف الحقيقي، خصوصا وأننا نتحدث عن سلعة شديدة التقلب، الأمر الذي لا يساعد على تحقيق استقرار معدلات الصرف من الناحية الحقيقية، وقد يؤدي إلى انحراف شديد بين معدلات الصرف الاسمي ومعدلات الصرف الحقيقي لتلك العملات في أوقات التقلبات الشديدة لسعر النفط الخام، أخذا في الاعتبار أن استجابة معدل الصرف الاسمي سوف تكون آنية في حال تغير اسعار النفط، بينما تعتمد استجابة معدل الصرف الحقيقي على اتجاهات الارقام القياسية للاسعار، فاذا كان هناك اختلاف في أوزان سعر النفط في سلة العملات وسلة الارقام القياسية للاسعار فان ذلك سيكون مصدرا لانحراف معدلات الصرف الاسمي عن الحقيقي. أضف إلى ذلك فانه من المعلوم في دول الرفاه هذه أن دعم الاسعار والخدمات جوهري، مما يجعل الارقام القياسية للاسعار لا تعبر عن التكلفة الحقيقية للمعيشة، وهو ما يسبب مصدرا آخر لانحراف معدل الصرف.

من ناحية أخرى لا يمكن إخفاء حقيقة أن بعض الدول النفطية قد استفادت أيضا من الربط بالدولار ومن ثم انخفاض قيمة عملاتها، على سبيل المثال فإن الدرهم الضعيف يشجع السياحة في دبي، والريال الضعيف يساعد الصادرات السعودية إلى باقي دول المجلس.

وأخيرا، اذا قررت دول مجلس التعاون فك ربط عملاتها بالدولار، فعليها أن تدرس بعناية اثر ذلك على مشروع عملتها الموحدة، باعتبار أن الدولار هو المثبت المشترك لها في المرحلة الانتقالية التي تسبق إطلاق العملة الموحدة.

انظر مقالة فرنكل على الرابط التالي:

http://www.voxeu.org/index.php?q=node/1381
انظر أيضا
http://www.ft.com/cms/s/0/43b48840-4b1f-11dd-a490-000077b07658.html?nclick_check=1
http://blogs.cfr.org/setser/2008/07/08/the-ft-joins-the-chorus-arguing-against-the-gulfs-dollar-peg/

الخميس، يوليو ١٠، ٢٠٠٨

أول أزمة مالية عالمية في القرن الواحد والعشرين

كتاب "أول أزمة مالية عالمية في القرن الواحد والعشرين" صدر مؤخرا عن مركز بحوث السياسات الاقتصادية بالمملكة المتحدة:
Centre for Economic Policy Research
53-56 Great Sutton Street
London EC1V 0DG
UK
ويمكن تنزيله مجانا بالضغط على الوصلة التالية

الأربعاء، يوليو ٠٩، ٢٠٠٨

فوائض الكويت النفطية تتجه نحو الرواتب ومعاشات التقاعد

تتكون أبواب الإنفاق في الميزانية العامة لدولة الكويت من خمس أبواب؛ الباب الأول هو باب المرتبات وهي اعتمادات المرتبات التي يتم دفعها للعاملين في الوزارات والإدارات الحكومية فقط. أي أن ما ترصده الحكومة من اعتمادات لرواتب العاملين في الجهات المستقلة والتابعة ومرتبات العسكريين.. لا تدرج في هذا الباب. والباب الثاني هو باب المستلزمات السلعية والخدمات، وأهم بنود هذا الباب هي الأدوية وتكاليف الوقود المستخدم في توليد الكهرباء وتحلية المياه، والباب الثالث وهو باب الانفاق على وسائل النقل والمعدات والتجهيزات، والباب الرابع وهو باب المشاريع الإنشائية والصيانة والاستملاكات العامة، وأخير الباب الخامس وهو باب المصروفات المختلفة والمدفوعات التحويلية، وهو أهم أبواب الإنفاق من حيث الأهمية، ويشمل مخصصات الدعم والتحويلات التي ترصدها الحكومة للجهات التابعة والمستقلة، والإنفاق العسكري... الخ. ووجود هذا الباب في الميزانية يؤدي إلى ازدواجية في عمليات الإنفاق من خلال الأبواب الأربعة السابقة والباب الأخير، كما لا يؤدي إلى رقابة جيدة على بنود الإنفاق المختلفة، فضلا عن أنه لا يسمح بتبويب سليم لجوانب الإنفاق بين الإنفاق الجاري للحكومة وإنفاقها الرأسمالي، وهو بشكل عام أحد الخصائص الفريدة للميزانية العامة لدولة الكويت.

منذ فترة قصيرة تم إقرار أضخم ميزانية في تاريخ الكويت الحديث، وهي تستحق بالفعل أن يطلق عليها لفظ ميزانية الأرقام القياسية. فلأول مرة في تاريخ الكويت تتجاوز اعتمادات الباب الأول الثلاثة مليارات، نتيجة زيادات الأجور وزيادة الكوادر، حيث تزايدت اعتمادات المرتبات في الباب الأول من 2626 مليون دينار عام 2007/2008 إلى 3210 مليون دينار 2008/2009، أي بمعدل نمو يزيد عن 22% في سنة واحدة. والواقع انه منذ عام 2005 ويشهد الباب الأول في الميزانية العامة للدولة نموا متوسطا بلغ حوالي 16% خلال تلك الفترة. وإذا ما استمرت الأوضاع على ما هي عليه الآن فانه من المتوقع أن تصل اعتمادات الرواتب في الميزانية العامة للدولة إلى سبع مليارات دينار في عام 2020، وهي زيادة هائلة تدفع بالإنفاق العام إلى مستويات كبيرة، لا أعتقد أن المالية العامة لدولة الكويت سوف تكون قادرة على تحملها بما تحمله أيضا من أعباء إضافية في جانب التأمينات الاجتماعية والعجز الاكتواري.

فكل زيادة تحدث في الرواتب لا بد وان يصاحبها زيادتين أخريين، الأولى هي زيادة مساهمة الدولة في التأمينات الاجتماعية، والثانية هي في العجز الاكتواري الناجم عن ارتفاع مستويات المعاشات. فقد أدت الزيادات المتتالية في باب الرواتب إلى عجزا اكتواريا متسعا نتيجة ارتفاع تكاليف معاشات التقاعد التي تحسب على أساس الرواتب المرتفعة عند التقاعد في مقابل مساهمات للتأمينات الاجتماعية التي جمعت طوال حياة الموظف المهنية على أساس رواتب منخفضة، مما يخلق فجوة بين موارد مؤسسة التأمينات ونفقاتها، وقد قدر العجز الاكتواري بحوالي 11 مليار دينار، رصدت الحكومة هذه السنة له حوالي 5.5 مليار دينار، أي نصف العجز الاكتواري المقدر. ومن المتوقع مع هذه الزيادات الهائلة في الرواتب اتجاه العجز الاكتواري نحو التزايد في المستقبل، بدرجة قد تهدد قدرة مؤسسة التأمينات على سداد معاشات المتقاعدين، الأمر الذي سوف يستدعي، كما حدث اليوم، تدخل الدولة بشكل متتابع لسداد هذا العجز الهائل.

كذلك قفزت اعتمادات الباب الثاني من 1833 مليون دينارا عام 2007/2008 إلى 3077 مليون دينارا عام 2008/2009، أي بنسبة نمو 68%. غير أن هذه الزيادة في الإنفاق ليست في معظمها زيادة حقيقية، حيث ترجع أساسا إلى احتساب تكلفة الوقود اللازم لتوليد الكهرباء وتحلية المياه بالأسعار العالمية للنفط الكويتي الخام، فهي إذن زيادة حسابية تمثل تكلفة مبيعات النفط الخام الى وزارة الطاقة، ومن ثم فإنها تمثل نفقات للحكومة على الحكومة. ومن المنظور الاقتصادي فانها تمثل تكلفة فرصة بديلة للنفط الخام المنتج في دولة الكويت.

أما الباب الخامس المصروفات المختلفة والمدفوعات التحويلية فقد تم تخصيص 10835 مليون دينارا لهذا الباب، منها حوالي 5.5 مليار دينار قسط أول لسداد العجز الاكتواري لمؤسسات التأمينات الاجتماعية. وبدون هذا القسط، فقد ازدادت اعتمادات هذا الباب من 4566 مليون دينارا عام 2007/2008 إلى 5363 مليون دينارا في عام 2008/2009، أي بحوالي 17.5%. الباب الخامس إذن هو أكبر ابواب الميزانية العامة وأكثرها نموا على المدى الطويل لتعدد بنود التكاليف التي تدرج في هذا الباب، وازدواجيتها مع أبواب الميزانية الأخرى، مما يجعل بنود الانفاق المدرجة في الميزانية غير دقيقة، مثل بند الانفاق على المرتبات. وقد حاولنا فيما سبق حساب ما يسمى بالمرتبات الشاملة والتي تمثل مرتبات الوزارات والادارات الحكومية (الباب الاول)، ومرتبات الجهات المستقلة (تدرج ضمن اعتمادات التحويلات الى تلك الجهات في الباب الخامس)، ومرتبات الجهات التابعة (نفس البند السابق)، ومرتبات العسكريين، ومساهمة الحكومة في التأمينات الاجتماعية، فوجد ان المرتبات الشاملة تمثل أكثر من 55% من الانفاق العام للدولة، أي انها أكبر بنود الانفاق على الاطلاق في الميزانية العامة للدولة.

الأمر المثير للدهشة في الميزانية الأخيرة هو أن اعتمادات البابين الثالث والرابع قد شهدتا انخفاضا كبيرا. وتمثل اعتمادات البابين الثالث والرابع الإنفاق الاستثماري الحكومي في دولة الكويت. إذ انخفضت اعتمادات الباب الثالث (وسائل النقل والمعدات والتجهيزات) من 216 مليون دينارا عام 2007/2008 إلى 179 مليون دينارا عام 2008/2009، أي إنخفاضا بحوالي 17%، بينما انخفضت اعتمادات الباب الرابع (المشاريع الإنشائية والصيانة والاستملاكات العامة) من 2058 مليون دينارا عام 2007/2008 إلى 1664 مليون دينارا عام 2008/2009، أي إنخفاضا بحوالي 19%. إن هذه التطورات الخطيرة تستدعي لفت الانتباه إلى أمرين:

الأمر الأول هو أنه كان من المتوقع في ظل الطفرة النفطية أن تسخر الكويت كل هذه الزيادة في إيراداتها نحو إحداث التحول الهيكلي المطلوب لتحويل الكويت إلى اقتصاد يتحرر من القيد النفطي، لينطلق بإمكانات أقوى وأكثر تنوعا وبمزايا تنافسية جديدة، أما أن تقبل الحكومة في ظل هذه الوفرة على تخفيض إنفاقها الاستثماري، فانه وضع يثير قدرا كبيرا من التشويش لدى المراقب للأوضاع الاقتصادية في دولة الكويت، حيث تسير الكويت بهذا الشكل عكس التيار. إن مضمون هذه التطورات هو أن هناك تحولا من الإنفاق الاستثماري المنتج إلى الإنفاق الجاري غير المنتج، في وقت كان من المفترض فيه أن توجه الأموال الفائضة لبناء القدرات الحالية والمستقبلية للدولة.

الأمر الثاني هو كيف يتم تمرير أمر خطير كهذا في مجلس الأمة بدون مساءلة. كيف لا يسترعي هذا الانخفاض انتباه أحد، أليس من الغريب ألا نجد من يهتم بمستقبل الكويت، بتنمية الكويت، بالبني التحتية للكويت، إلا اذا كنا ننظر إلى انخفاض الإنفاق في أي باب على أنه من قبيل الشيء الحسن، ولكن المشكلة هي أن الانخفاض هنا غير مرغوب فيه، إن الانخفاض المطلوب هو في الأبواب الثلاثة الأخرى، وليس في هذين البابين، لان تخفيض هذين البابين له أثار سلبية على مستقبل عملية التنمية في الدولة، وتنافسية اقتصادها على المستوى العالمي. أين المدافعين داخل المجلس عن التنمية ومستقبلها. أليس من الغريب ان نصفق لزيادة الرواتب ولا نحرك ساكنا لخفض مستويات الاستثمار العام في الدولة، لا شك أن هناك خللا واضحا في الرؤية.

ومما يؤسف له أنني عندما رجعت إلى تقارير الحساب الختامي للدولة في السنوات القليلة الماضية، والتي تظهر حجم الإنفاق الفعلي على الأبواب المختلفة، وجدت أن ما يتم رصده من اعتمادات للباب الرابع لا ينفذ بالكامل، أي أن الحكومة ترصد أموالا لمشروعات استثمارية، ولا يتم تنفيذها. إن المشكلة الأساسية لكافة الدول النامية هي كيف تجد مصادر التمويل اللازمة لمشروعاتها التنموية المختلفة، لذا تحرص تلك الدول على أن تجد من يوفر لها مصادر التمويل اما من خلال قروض خارجية، أو اللجوء الى المؤسسات الدولية، أو من خلال تدفقات للاستثمار المباشر، أو في صورة مساعدات .. الخ. أما نحن فالحمد لله لدينا الأموال، ومع ذلك لا نوظفها. على سبيل المثال في عام 2003/2004 تم تخصيص 722 مليون دينارا للإنفاق على بنود الباب الرابع، تم إنفاق 569 مليون دينارا فقط منها، أي بنسبة 79%، وفي عام 2004/2005 تم تخصيص 825 مليون دينارا كاعتمادات في الباب الرابع، انفق منها فقط، 678 مليون دينارا، أن بنسبة 82%. كما تم اعتماد ما مقداره 930 مليون دينار للمشاريع الإنشائية والاستملاكات العامة في ميزانية 2005/2006، واقتصر الإنفاق الفعلي عليها على 750 مليون دينارا، أي بنسبة 80%، أما في عام 2006/2007، فقد تم تخصيص 1261 مليون دينار، تم تنفيذ 989 مليون دينارا فقط منها، أي بنسبة 78%. وهكذا تتجه اعتمادات الإنفاق الاستثماري كنسبة من الإنفاق العام نحو التراجع، والنسبة التي يتم تنفيذها منه تقل بمرور الوقت. أي أن أبواب الإنفاق الجاري للحكومة تميل نحو التزايد بشكل سريع بمرور الوقت بينما يقل انفاق الحكومة الراسمالي.
خلاصة ما سبق هو أن الفوائض النفطية الحالية يبدو انها ستتوزع بين زيادة في الرواتب وسداد لعجز معاشات التقاعد، أما التنمية والتنافسية، مستقبل الكويت بعد النفط، أوضاع الأجيال القادمة، فحدث ولا حرج.

الخميس، يوليو ٠٣، ٢٠٠٨

البنك المركزي الخليجي

إن عملية إصدار عملة خليجية موحدة في إطار الاتحاد النقدي المزمع لدول الخليج سوف تحتاج إلى إنشاء بنك مركزي خليجي يتولى مهمة إصدار العملة الموحدة وإدارة شئون النقد وصناعة وتطبيق السياسة النقدية الملائمة. ومما لا شك فيه أن هناك الكثير من القضايا المهمة المرتبطة بالبنك المركزي الخليجي، وهي أين سينشأ، من سيتولى إدارته، كيف ستدار عملية صناعة السياسة النقدية فيه، كيف سيتم توزيع عوائد عمليات الإصدار النقدي على الدول الأعضاء، هل على أساس عدد السكان أم حجم الناتج، أم حجم القاعدة النقدية قبل عملية إطلاق العملة الموحدة، كيف ستتم عملية تحديد معدلات الفائدة، ...الخ. هل ستتم عمليات إصدار العملة المرتقبة بصورة مركزية، أم بصورة لا مركزية. مما لاشك فيه أن النجاح في الإجابة على هذه التساؤلات المهمة يحتاج إلى درجة عالية من التكامل السياسي بين الدول الأعضاء في المجلس أولا، قبل التكامل الاقتصادي، بصفة خاصة إبداء الرغبة والاستعداد للتنازل في سبيل المصلحة العليا للمجلس.

ويعني إنشاء اتحاد نقدي وإصدار عملة موحدة، ضرورة إتباع سياسة نقدية موحدة وسياسة معدل صرف موحدة. مثل هذه المتطلبات للاتحاد النقدي تقتضي ضرورة إنشاء مؤسسة نقدية واحدة. حيث يصبح الاقتصار على تعميق التعاون النقدي بين الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي غير كاف لإنشاء عملة موحدة. ذلك أن تعميق التعاون النقدي سوف يعني أن عملية صناعة السياسة النقدية سوف تتم أخذا في الاعتبار الأوضاع الوطنية أولا ثم مصلحة الاتحاد ثانيا، وهو أمر يمكن أن يعرض العملة الموحدة للكثير من المخاطر، خصوصا عندما لا تتماثل الصدمات التي تتعرض لها الدول الأعضاء، وتتباعد الأوضاع الاقتصادية الكلية في دول الاتحاد بشكل كبير. إن عملية صناعة وتنفيذ السياسة النقدية في ظل الاتحاد النقدي ينبغي أن تتم أخذا في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية الكلية في دول الاتحاد، وليس الأوضاع الوطنية الخاصة، على الرغم من انه في حالة تباعد الأوضاع الاقتصادية لإحدى دول الاتحاد فانه من الممكن التعامل معها من خلال مجموعة السياسات الوطنية التي ما زالت تحت سيطرة الدولة العضو، مثل السياسة المالية، أو سياسات الأجور والدعم وغيرها. ويمكن أن تتم عملية تنفيذ السياسة النقدية على أساس لا مركزي من خلال المؤسسات النقدية الوطنية، ويحتاج ذلك الأمر إلى ضرورة صياغة العلاقة المؤسسية بين البنك المركزي الخليجي والمؤسسات النقدية الوطنية في دول المجلس. بصفة خاصة فيما يتعلق بقنوات الاتصال وآليات التنفيذ والمتابعة بين البنك المركزي الخليجي والمؤسسات النقدية الوطنية. ومما لا شك فيه أن هذا الإطار المؤسسي ينبغي أن يسمح للمؤسسة الوطنية بتعديل السياسات في حال تباعد الظروف الاقتصادية الكلية عن باقي دول المجلس، بعد اخذ موافقة البنك المركزي الخليجي واستيفاء شروط التصويت.

مما لا شك فيه أن اللامركزية في إصدار العملة الموحدة المرتقبة سوف تكون غير عملية، خصوصا اذا ما حاولت السلطات النقدية في كل دولة تعظيم عوائدها من عمليات الإصدار على حساب باقي الدول في الاتحاد، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تضخم نتيجة عملية الإفراط الجماعي في الإصدار.

من ناحية أخرى ينبغي أن يتم الاتفاق على كيفية توزيع الإصدار النقدي من العملة الخليجية الموحدة على الدول الأعضاء في الاتحاد، وعلى الرغم من وجود عدة قواعد لتوزيع الإصدار النقدي على الدول الأعضاء، إلا أن أفضل قاعدة توزيع للإصدار النقدي الجديد هي أن يتم على أساس مستويات الناتج المحلي في الدول الأعضاء. حيث تطلب النقود أساسا لتمويل المعاملات التي تتم داخل الاقتصاد. من ناحية أخرى فان عملية الدفاع عن العملة الخليجية الموحدة سوف تقتضي ضرورة تكوين صندوق احتياطي من العملات الأجنبية يتم الاحتفاظ به من خلال البنك المركزي الخليجي لأغراض التدخل في سوق الصرف الأجنبي في الوقت المناسب للحيلولة دون حدوث تقلبات عنيفة في قيمة العملة الموحدة المرتقبة. ولذلك لا بد من أن يكون هناك اتفاق حول آليات تكوين الاحتياطيات من النقد الأجنبي لدى البنك المركزي الخليجي، بصفة خاصة اذا كان هناك اتفاق على أن تتم عملية صناعة وتنفيذ السياسة النقدية بشكل مركزي. حتى يكون هناك اتساق في عملية الرقابة والتحكم في تلك الاحتياطيات لأغراض استقرار العملة.

وينبغي أن يتم إنشاء بنك مركزي خليجي مستقل، على الأقل من تأثير السياسيين، إذ أنه من المعلوم أن البنك المركزي المستقل من أي تأثير سياسي هو من المتطلبات الأساسية لسياسة نقدية متسقة. من ناحية أخرى تعد استقلالية البنك المركزي أحد أساسيات الاستقرار النقدي على المستوى القومي، ولقد أثبتت الدراسات أن التدخل السياسي في شئون البنك المركزي يؤدي إلى عدم تحقيق مستهدفات السياسة النقدية. لذلك ينبغي أن يمنح البنك المركزي الخليجي استقلالية تامة في عملية صناعة وتنفيذ السياسات النقدية، ومما لا شك فيه أن إنشاء هيئة فوق قومية مثل البنك المركزي الخليجي سوف يقتضي التخلي عن جزء من السيادة القومية لمصلحة الهيئة الفوق قومية، الا أن ذلك سوف يعظم من منافع جموع الدول الاعضاء في المجلس.

غير أن عملية إنشاء بنك مركزي خليجي قد تحتاج إلى معالجة إطار الهيكل المؤسسي للاتحاد، خصوصا فيما يتعلق بآليات صناعة وتنفيذ السياسة النقدية الموحدة. إذ ينبغي أن تتم عملية صناعة السياسة بشكل مركزي من خلال المؤسسة فوق القومية (البنك المركزي الخليجي). غير انه يبدو أن عملية قبول إنشاء مؤسسة فوق قومية قد تبدو مسألة صعبة في دول مجلس التعاون، وذلك في ظل الإطار المؤسسي الحالي الذي لا يبدو أنه لا يسمح بوجود تلك المؤسسات التي تستطيع أن تتخذ القرارات وتصنع السياسات وتملي تلك القرارات والسياسات على الدول الأعضاء، وفي ظل نظام التصويت الحالي الذي يعطي حصصا متساوية للأعضاء بغض النظر عن الاعتبارات التقليدية التي تحدد حصة كل عضو في التصويت.

وأخيرا لا بد من الاتفاق على كيفية إدارة البنك المركزي الخليجي، أي هل ستشكل إدارة متعددة الجنسيات للبنك، بحيث تتم عملية اتخاذ القرارات على أساس التصويت، وإذا تم ذلك فهل سيتم استخدام النظام الحالي في التصويت، حيث تتمتع كافة الدول الأعضاء، بغض النظر عن مستويات الناتج او السكان بهم، بنفس القدر من التصويت. إن المشكلة الأساسية في الكيان المؤسسي الحالي لدول المجلس في أن هناك تساوي في أصوات الأعضاء بغض النظر عن حجمه او أهميته او قوته داخل التجمع، وان عملية التصويت تتم بالإجماع. ومثل هذا النظام يحمل الكثير من المخاطر التي تهدد الكيان او تعطل تنفيذ أعماله في حالة الوصول إلى نهاية مسدودة، وعدم القدرة على تحقيق الإجماع. لذا ينبغي أن تتم إعادة صياغة نظام التصويت على سبيل المثال في ضوء المقترح الآتي:

· إعادة عملية حساب الأصوات على أساس حجم السكان، على سبيل المثال بأن يكون هناك 10 أصوات لكل مليون من إجمالي السكان (بما في ذلك السكان الوافدين). وصوت إضافي لكل مليار من الناتج المحلي الإجمالي في وقت الإنشاء. على أن تتم إعادة حساب الأصوات كل خمس سنوات تالية.

· أن تتم عملية التصويت بالأغلبية، على إلا تعني الأغلبية استبعاد أكثر من دولتين عند إجراء عملية التصويت.