نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 25/11/2011
مما لا شك فيه أن الدعوة الى إنشاء مناطق عملة مثلى، وإنشاء عملة موحدة لاقت صدى كبيرا في السنوات السابقة، خصوصا بعد الاطلاق الناجح لأهم عملة موحدة في العالم، بعد الدولار الأمريكي، وهي اليورو، وقد شجع النمو الثابت لليورو الدعوات في مناطق أخرى من العالم إلى السير على خطى منطقة اليورو لا طلاق عملات موحدة، في أسيا وافريقيا وفي مجلس التعاون الخليجي للاستفادة من المزايا المختلفة التي يمكن تحقيقها من الالتحاق باتحاد نقدي واستخدام عملة موحدة. غير أن أزمة اليورو الأخيرة أبرزت على السطح الوجه الآخر للعملة الموحدة والمشكلات الحقيقية التي يمكن أن تواجه الاتحاد النقدي، وذلك مع تصاعد أزمة الديون السيادية لبعض الدول الأعضاء في اليورو، مما وضع المنطقة بأكملها، سواء الدول المدينة أو الدائنة، في مأزق خطير، تناولنا الكثير من جوانبه فيما سبق. في هذا المقال نحاول استعراض المشكلات التي يمكن أن تواجه الدول الأعضاء في اتحاد نقدي وتستخدم عملة موحدة مثل اليورو.
على سبيل المثال عندما تتعرض دولة في الاتحاد لعجز في ميزان مدفوعاتها (بسبب زيادة وارداتها عن صادراتها من السلع والخدمات)، فإن هذه الدولة سوف تحتاج إلى أن ترفع من تنافسيتها الدولية للسيطرة على العجز في ميزان المدفوعات، ويمكن رفع التنافسية الدولية من خلال سبيلين؛ الأول هو محاولة الدولة تخفيض تكلفة السلع والخدمات التي تصدرها إلى الخارج من الناحية الحقيقية، على سبيل المثال من خلال خفض الأجور، وهو إجراء قد يبدو صعب التحقيق من الناحية العملية، أو أن تقوم الدولة بتخفيض قيمة عملتها لكي ترفع تنافسيتها بصورة مصطنعة حتى تتعامل مع العجز في ميزان مدفوعاتها، مثلما هو مفترض في الدول التي تملك عملات وطنية مستقلة لها.
بانضمام الدولة إلى الاتحاد النقدي سوف تفقد قدرتها على رفع درجة تنافسيتها من خلال خفض معدل صرف عملتها، لأن الدولة العضو في الاتحاد النقدي تكون عضوا بالتبعية في العملة الموحدة للاتحاد، ومن ثم يتم استبدال عملتها الوطنية بالعملة الموحدة، والتي يتم إدارة شئونها من خلال البنك المركزي الموحد والذي غالبا ما لا يقوم بتحريك معدل الصرف لمواجهة عجز الميزان التجاري لدولة ما أو لمجموعة من الدول داخل الاتحاد، وإنما يحرص البنك المركزي الموحد على الابقاء على معدل الصرف مستقرا لضمان استقرار الاوضاع النقدية في الاتحاد النقدي في مجمله. وعلى ذلك فإن الدول الأعضاء في عملة موحدة والتي تعاني من عجز في موازين مدفوعاتها لن تستطيع معالجة هذا العجز من خلال تعديل معدل الصرف لرفع درجة تنافسيتها في الأسواق الدولية، مثل هذه المشكلة تعاني من آثارها اليونان بصورة حادة، كما سبق أن اشرنا في مقالات سابقة.
قد يبدو فقدان الدولة لقدرتها على تحديد معدل الفائدة الخاص بها أقل أهمية، على أساس أنه يفترض في حال حدوث اتحاد نقدي فإن مجموعة الدول الأعضاء لا بد وأن تتصف بتماثل الصدمات الاقتصادية التي تتعرض لها، وبالتالي فإنه في حالة وجود صدمات فإن هذه الصدمات يفترض ان تعم دول الاتحاد بنفس الدرجة تقريبا، ومن ثم فإن المستويات التي سيحددها البنك المركزي لمعدلات الفائدة سوف تكون مناسبة للتعامل مع الصدمات الاقتصادية التي يواجهها عموم الدول الأعضاء في الاتحاد النقدي.
التجربة الأوربية أبرزت بعدا آخر لعملية الاتحاد النقدي، وهو أن الاتحاد النقدي لن يسير بصورة آمنة ما لم يكن هناك اتحاد مالي Fiscal. إشكالية العملة الموحدة في التطبيق الحالي لليورو تتمثل في أنه في الوقت الذي يطبق فيه البنك المركزي الأوروبي سياسة نقدية موحدة على جميع الدول الأعضاء في الاتحاد، فإنه يترك لكل دولة حرية ادارة سياساتها المالية بما يتوافق مع مستهدفاتها الوطنية وبدون النظر عما يمكن أن يتسبب فيه ذلك من مشكلات للاتحاد. حيث تستطيع كل دولة عضو في الاتحاد أن تحدد المستوى المستهدف من العجز أو الفائض في ميزانياتها العامة، باعتبار أن ذلك لن ينعكس بالتبعية على المعروض من اليورو، كون العملة الموحدة تطبع وفقا للسياسات التي يضعها البنك المركزي الموحد. على سبيل المثال تشترط اتفاقية ماستريخت في حالة اليورو ضرورة ألا تتجاوز نسبة العجز في الميزانية 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك ألا تتجاوز نسبة الدين العام للدولة إلى الناتج المحلي الإجمالي للدولة التي ترغب في الالتحاق باليورو 60% عند الانضمام فقط، ولا توجد أية قيود تلزم الدولة العضو في استمرار الحفاظ على هذه النسب بعد الانضمام، أو طوال فترة عضويتها في العملة الموحدة، والآن ما الذي يحدث عنما تتصف دول الاتحاد بعدم الانضباط المالي مثل اليونان؟
يفترض أن عدم الانضباط المالي في دولة ما لن يؤثر على باقي الدول الأعضاء، طالما أن عجز الميزانية في هذه الدولة سوف ينعكس في زيادة الدين المحلي (السيادي في هذه الحالة) للدولة العضو غير المنضبطة من الناحية المالية. ذلك أن عضوية الدولة في العملة الموحدة سوف يفتح سوق المال في منطقة الاتحاد النقدي أمامها على نطاق أوسع بحيث تتم عمليات طرح الديون في سوق الاتحاد النقدي وليس في السوق المحلي، وهو ما يعني بالتبعية أن عدد أكبر من البنوك سوف يشارك في عملية الاكتتاب في سندات الدين لهذه الدولة، مما ينعكس في وفرة عملية التمويل ومن ثم اغراء الدولة العضو على الإفراط بصورة أكبر في سياساتها المالية طالما أن التمويل لا يواجه أية قيود، وأن عملية الاكتتاب في سندات الدين لهذه الدولة أمر ميسر.
على الجانب الآخر، فإن الدول غير المنضبطة ماليا، مثل اليونان، عندما تواجه مشكلات تحد من قدرتها على خدمة ديونها، فإنها تجبر دول الاتحاد الدائنة لها على مساعدتها بتوفير ما تحتاجه من تمويل، وذلك بموجب ما يسمى ببرامج الإنفاذ لتحفيز اقتصاداتها ولمواجهة الصعوبات التي يمكن أن تواجهها في حالة تعرضها لضغوط التعثر، معنى ذلك أن مشكلة التعثر في السداد ليست فقط مشكلة الدول المدينة، وإنما أيضا، وبصورة أخطر، مشكلة الدول الدائنة، حيث تجد هذه الأخيرة نفسها في وضع في غاية الخطورة بالنسبة لسلامة نظامها المالي نتيجة ارتفاع مخاطر الديون السيادية للدول المدينة، إلى درجة أنها تضطر إلى أن تركع أمام مطالب المساعدات من الدول المدينة لإنقاذ اقتصاداتها ورفع قدرتها على خدمة ديونها، حتى لا تضطر إلى أن تواجه سلسلة من عمليات الإفلاس لمؤسساتها المالية الحاملة لسندات الدين، وما يصاحب ذلك من عواقب خطيرة، ولعل هذا ما يصف بدقة حالة ألمانيا وفرنسا اليوم.
معنى ذلك أنه بدلا من أن تدفع الدول غير المنضبطة ماليا، مثل اليونان وإيطاليا، تكلفة عدم الانضباط المالي اللتان سارتا عليه لفترات زمنية طويلة دون أن تواجه أي قيود من جانب الاتحاد النقدي، فإنها تكافئ في مقابل ذلك. بالطبع من يتحمل تكلفة ذلك هي الدول الأخرى في الاتحاد بصفة خاصة الدائنة منها، أو بالأحرى دافعي الضرائب في تلك الدول.
لقد أثبتت التجربة الأوروبية أن الاتحاد النقدي Monetary يقتضي بالتبعية أن يصاحبه ترتيبات لاتحاد مالي Fiscal، وبمقتضى هذا الاتحاد يجب أن توضع قيود صارمة على نسبة العجز في الميزانيات العامة إلى الناتج المحلي الإجمالي وضمان الانضباط المالي للحكومات الأعضاء ليس فقط عند الانضمام إلى الاتحاد، وإنما أيضا طوال فترة وجودها في الاتحاد. لأن ذلك يضمن استقرار أفضل للاتحاد في مواجهة أية عواصف مالية تنتج عن تصاعد مخاطر الدين السيادي للدول الأعضاء في الاتحاد، وغني عن البيان أن الانضباط المالي لا يقصد به فقط ضبط أداء الدول التي تحتفظ بعجز مرتفع في ميزانيتها إلى الناتج المحلي لها، وإنما أيضا الدول التي تحتفظ بفائض كبير في ميزانياتها بالنسبة لا جمالي الناتج المحلي الإجمالي بها، وهو ما يعني تخلي أكبر من جانب الدول الأعضاء عن جانب من سيادتها الوطنية لسلطة فوق قومية من اجل ضمان أمان الاتحاد النقدي.
خلاصة ما تقدم هي أن دخول الدولة لعضوية العملة الموحدة يجرد هذه الدولة من أدوات هامة لسياساتها النقدية والمالية، والتي تحتاج اليها في التعامل مع مشكلات العجز في ميزان مدفوعاتها وكذلك للتعامل مع ديونها، ونظرا لوجود قيود على قدرة وحرية الدول الأعضاء في استخدام تلك الأدوات فإن ذلك يفاقم من مشكلات الاتحاد النقدي عند تعرض واحدة أو مجموعة من الدول الأعضاء لأزمة تحد من قدرتها على خدمة ديونها، ومما لا شك فيه أن دولا مثل اليونان وإيطاليا كان يمكنها التعامل بصورة اكثر سلاسة مع مشكلاتها الحالية لو كانت خارج العملة الموحدة.