نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 18/11/2011
هجر اليورو والعودة إلى العملة السابقة لا بد وأن يصاحبه انخفاض فوري في القيمة السوقية للدراخمة مقارنة بقيمة التعادل مع اليورو (معدل صرف الدراخمة باليورو وقت انضمام اليونان إلى الاتحاد النقدي الأوروبي) وكذلك أمام العملات الأجنبية الأخرى مثل الدولار، الأمر الذي سوف يترتب عليه خسارة كبيرة للمودعين في البنوك اليونانية. حيث يتصور من الناحية العملية أن يتم تحويل مودعات اليونانيين في البنوك اليونانية من اليورو إلى الدراخمة بالسعر الرسمي (وهو سعر سيقل بكثير عن السعر السوقي لها)، ومن ثم ستنخفض كافة المودعات في البنوك بالفرق بين سعر التعادل والسعر السوقي للدراخمة. الأثر الصافي لهذه الخسارة سوف يعتمد بالطبع على سلوك معدل صرف الدراخمة في المستقبل، ومقدار عمليات السحب التي ستتم من المودعات. فقد تتدهور أوضاع اليونان على نحو أسوأ وتميل الدراخمة نحو التراجع بصورة أكبر في المستقبل، وإزاء مثل هذه التوقعات قد يلجأ الجمهور إلى التهافت على السحب بصورة أكبر من البنوك اليونانية، فتكون خسارة المودعين أعظم.
مع تراجع قيمة العملة تتراجع القيمة السوقية للأصول، ومن الناحية النظرية يفترض أن إقبال الجمهور على الاستهلاك يقل عندما تتراجع القيمة السوقية لثرواته، حيث يشعر الناس بأنهم اصبحوا أفقر نسبيا، مقارنة بأوضاعهم السابقة، فيقل ميل الأفراد نحو الاستهلاك ويتزايد الادخار، ومثل هذا التطور يؤدي إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية على نحو أسوأ ويترتب عليه تعميق مستويات الكساد مما يؤدي إلى تعقيد وضع الدورة التي يمر بها الاقتصاد، وإذا ما قرنا ذلك بخطط التقشف الحكومي التي تمارسها الحكومة حاليا، والتي يتوقع أن يتزايد مداها عقب الخروج من اليورو، فإن معدلات النمو في اليونان من المتوقع أن تشهد انحدارا كبيرا نحو الاتجاه السالب، وبالتالي ارتفاع معدلات البطالة بصورة أكبر عما هو موجود حاليا، وتراجع مستويات الدخول على نحو واضح. أكثر من ذلك فإن تراجع قيمة العملة سوف يصحبه ارتفاع واضح في معدلات التضخم، بصفة خاصة بالنسبة لأسعار السلع المستوردة من الخارج.
الوضع بالطبع سوف يكون سيئا أيضا بالنسبة لحائزي السندات اليونانية، فعلى الرغم من الاتفاق الذي تم التوصل إليه في القمة الأوروبية الشهر الماضي مع مالكي السندات اليونانية بالتنازل عن 50% من القيمة الاسمية لسنداتهم في عملية إعادة هيكلة رسمية للدين اليوناني، فإن أوضاع حائزي هذه السندات سوف تميل إلى التطور على نحو أكثر سوءا، حيث ستتحول القوة التفاوضية في عملية إعادة هيكلة الدين اليوناني من عملية تتم بين طرفين؛ الحكومة اليونانية وحائزي السندات، إلى طرف واحد فقط هو الحكومة اليونانية، التي ستصبح بالتبعية صاحبة الكلمة العليا في مقدار الخصم الذي سيتم السماح بدفعه على القيمة الاسمية لسندات الدين اليوناني، ومن ثم يبقى على حاملي السندات إما أن يقبلوا به أو يتصرفون فيما لديهم من سندات في سوق السندات اليونانية والتي هي سوق سندات خردة Junk أصلا.
ولكن هل للإفلاس من أثر إيجابي؟ الإجابة هي نعم، هناك آثار إيجابية للإفلاس، أولها أنه يفترض من الناحية النظرية، مع تراجع القيمة السوقية للعملة الجديدة لليونان، أن ترتفع درجة تنافسية اليونان وتزيد صادراتها إلى الخارج، نظرا لتراجع أسعارها (بالنسبة للمشترين في الخارج لهذه الصادرات)، وتقل وارداتها من شركاءها في التجارة (نظرا لارتفاع أسعار هذه الواردات عندما تحول إلى العملة المحلية في اليونان)، وهو ما قد يساعد ميزان المدفوعات اليوناني، ومن ثم استعادة اليونان معدلات نموها بصورة اسرع. غير أن هذا الأثر غير مؤكد، على الأقل في الأجل القصير، إذ يعتمد الأمر على مرونات الطلب السعرية للصادرات والواردات، أو ما يعرف نظريا بشروط مارشال/ليرنر. فمن الممكن أن يترتب على تخفيض قيمة العملة اليونانية تراجع في أوضاع ميزان المدفوعات اليوناني على نحو أكثر سوءا. فالمشكلة التي يمكن أن تواجه اليونان هي أن الشروط الخارجية لتحسن معدلات النمو شبه غائبة، بمعنى آخر، أن تخفيض قيمة العملة اليونانية سوف يأتي في ظل أوضاع اقتصادية دولية بالغة السوء، حيث يواجه الاقتصاد الدولي تعقيدات تراجع معدلات النمو في العديد من الاقتصادات المفتاحية على مستوى العالم، بينما يتطلب تحسن معدلات النمو الناجم عن تخفيض قيمة العملة أوضاعا اقتصادية خارجية مناسبة حتى يمكن أن تحدث عملية التخفيض آثارها المتوقعة على النمو.
ثاني هذه الآثار هي أنه مع تراجع القيم السوقية للأصول اليونانية، بصفة خاصة الأصول العقارية والمالية، فإن ذلك يمكن أن يغري المستثمرين الأجانب، على إعادة الدخول إلى اليونان لشراء الأصول اليونانية الرخيصة، وهو ما يساعد على عودة رؤوس الأموال مرة أخرى، فضلا عن أنه قد يفتح فرصا هامة لاستثمار رؤوس الأموال، بصفة خاصة للدول التي لديها احتياطيات ضخمة، مثل الدول الخليجية.
ولكن هل إفلاس اليونان سوف يكون بمثابة طوق الإنقاذ لليورو؟ من المؤكد أن إفلاس اليونان وخروجها من اليورو لن يكون نهاية الصداع الأوروبي، فهناك نقاط ساخنة أخرى ما زالت تغلي تحت السطح، والتي يمكن أن تنفجر بين لحظة أو أخرى، فالضربات القاصمة التي تتعرض لها أوروبا الموحدة أصبحت تأتيها اليوم من كل اتجاه، وهذا موضوع مقالنا القادم بإذن الله تعالى.
رائع المقال
ردحذف