شبح الانكماش السعري Deflation يخيم على العالم مع تراكم الشواهد التي تشير إلى انتشار هذه الظاهرة في عديد من الاقتصادات الرئيسة في العالم، ففي منطقة دول مجلس التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، انخفض التضخم في 34 دولة في تشرين الثاني (نوفمبر)، كذلك تراجع التضخم في مجموعة العشرين التي تمثل نحو 90 في المائة من الاقتصاد العالمي، وفي الولايات المتحدة جاءت بيانات سوق العمل الأمريكي الأخيرة لتشير إلى انخفاض مستويات الأجور الأمر الذي يغذي الضغوط الانكماشية السعرية، ما قد يؤخر قرارات الاحتياطي الفيدرالي برفع أسعار الفائدة نظرا لآثارها السلبية في استدامة الانتعاش الاقتصادي.
كما بلغ معدل التضخم في الصين في كانون الأول (ديسمبر) 1.5 في المائة على أساس سنوي، وهو معدل منخفض ويعكس ضغوطا انكماشية تتعرض لها الصين. فقد كان أحد العوامل التي ساعدت الصين على النمو في السابق هو معدلات الفائدة السالبة، حيث ظلت معدلات الفائدة الاسمية لفترات طويلة أقل من معدل التضخم، غير أن هذا التطور في الأسعار يعكس المعادلة ليتحول معدل الفائدة الحقيقي إلى رقم موجب، وبالتالي يؤثر سلبا في الاستثمار.
كذلك انخفض معدل التضخم في بريطانيا في كانون الأول (ديسمبر) إلى 0.5 في المائة فقط، وذلك مقارنة بـ 1 في المائة في تشرين الثاني (نوفمبر)، وهو أقل معدلات التضخم في بريطانيا منذ 15 عاما، الأمر الذي أدى إلى تصاعد المخاوف باستمرار الانكماش السعري خصوصا مع تعمق تلك المخاطر في جيرانها من منطقة اليورو، وحاليا هناك توقعات بتحول التضخم إلى النطاق السالب، وهو ما قد يحمل مخاطر للنمو في الاقتصاد البريطاني الذي حقق تقدما جيدا خلال 2014، مقارنة بنظرائه في الاتحاد الأوروبي، وقد أشير إلى أن هذا التراجع في معدل التضخم سيكون أحد نقاط اهتمام صانعي السياسة النقدية في بريطانيا.
غير أن أخطر هذه التطورات هو ما جاء بالتقرير الأخير عن معدلات التضخم في منطقة اليورو، الذي أظهر أن التضخم قد دخل حيز المؤشرات السالبة لأول مرة منذ خمس سنوات تقريبا، حيث بلغ معدل التضخم في شهر ديسمبر في منطقة اليورو -0.2 في المائة، مقارنة بنسبة 0.2 في المائة فقط في تشرين الثاني (نوفمبر).
هذا التراجع في معدلات التضخم يعكس التراجع في الأداء الاقتصادي على المستوى العالمي بالطبع، ولكنه في الوقت ذاته يتعمق بتراجع أسعار السلع وعلى رأسها النفط، فقد حذر الاحتياطي الفيدرالي من أن تراجع أسعار النفط يمكن أن يغذي الضغوط الانكماشية خارج الولايات المتحدة. الأسوأ هو أن أغلب المراقبين يميلون إلى توقع تراجع معدلات التضخم.
قد يبدو من الواضح أن الانكماش السعري له آثار إيجابية على المستهلك، حيث يعزز من قوته الشرائية ويرفع من مستويات دخوله الحقيقية، لكن هذه الفوائد تتحقق في الأجل القصير، غير أن استمرار الانكماش السعري لفترات طويلة سيكون له تأثير مختلف، حيث ستتأثر مبيعات قطاع الأعمال بفعل تراجع الطلب الناتج عن توقعات انخفاض الأسعار، وهو ما يؤثر في أرباح واستثمارات هذه المؤسسات، ففي ظل الانكماش السعري لا يميل المستهلكون إلى الإنفاق، بسبب حالة عدم التأكد حول مستويات الدخول والتوظف في المستقبل. أكثر من ذلك فإن القطاع العائلي المدين سيجد من الصعب عليه تسديد ديونه بسبب ارتفاع قيمتها الحقيقية، خصوصا مع ثبات مستويات الأجور أو تراجعها، حيث لا يميل العمال في فترات الانكماش السعري إلى المطالبة بزيادة أجورهم الاسمية، وسيقبلون نفس المستويات من الأجور على أساس أن تراجع الأسعار يعوضهم عن هذه الزيادات في الأجور الأسمية، وهو ما يساعد على استمرار حالة الانكماش السعري.
على سبيل المثال فقد دخل الاقتصادي الياباني مصيدة الانكماش السعري وفقد عقدا كاملا من النمو بسبب عدم القدرة على الخروج من حالة الكساد، على الرغم من كل الجهود التي تم بذلها في هذا الجانب. فقد تراجعت الأسعار في اليابان بسبب تراجع الطلب الكلي، وحينما يتوقع المستهلكون تراجع الأسعار في المستقبل فإنهم بالتالي يؤجلون قرارات الشراء، وهو ما يسهم في تعميق حالة الكساد،لذلك طالب رئيس الوزراء الياباني ضمن خطته لتحفيز اقتصاد اليابان رجال الأعمال برفع مستويات الأجور للعاملين لديهم حتى يساعد ذلك على رفع معدلات التضخم والخروج من حالة الانكماش السعري. بالطبع داخل قطاع الأعمال هناك من يستفيد من الانكماش السعري، بصفة خاصة الشركات التي تعتمد بكثافة على تراجع أسعار المدخلات مثل النفط، وهناك من يضار من هذا التراجع في أسعار المدخلات، حيث تتراجع أرباحهم مع تراجع مستويات الناتج الاسمي لهم بسبب تراجع الأسعار. غير أنه في ظل الرغبة للحفاظ على الأرباح قد تلجأ الشركات إلى تخفيض تكلفة المدخلات وبالطبع على رأسها تكلفة العمل، والتي بالطبع يصعب أن تتحقق من خلال خفض مستويات الأجور الاسمية، ومن ثم يكون من الأسهل إغلاق بعض الوظائف، ما يؤدي إلى تعميق أثر حالة الكساد.
لقد تبنت البنوك المركزية في دول العالم في السنوات الماضية سياسة استهداف معدل ثابت ومنخفض للتضخم، متوسطه 2 في المائة، ووضعت القواعد النقدية لتدور حول الحفاظ على هذا المعدل، على سبيل المثال من خلال تعديل معدل الفائدة ارتفاعا وانخفاضا حتى تتمكن من الوصول إلى هذا المعدل. غير أنه مع انتشار الكساد السعري يصبح من الصعب على البنك المركزي أن يحقق المعدل المستهدف للتضخم من خلال خفض معدلات الفائدة. فمن الناحية العملية عندما يقوم البنك المركزي بخفض معدلات الفائدة فإن ذلك يؤدي الى خفض معدلات الفائدة من الناحية الحقيقية، وهو من المفترض أن يؤدي إلى تشجيع الاستثمار، غير أنه مع انخفاض معدلات الفائدة إلى الصفر ومع تحول معدلات التضخم إلى مستويات سالبة فإن معدلات الفائدة الحقيقية تأخذ في الارتفاع وهو ما يؤثر سلبا في الاستثمار والنمو.
في عام 1933 كتب الاقتصادي الأمريكي إيرفنج فيشر أحد أهم أعماله بعنوان The debt deflation theory of great depressions، يقول فيشر لو تصورنا أن الانحسار في النشاط الاقتصادي دفع بالمدينين في الاقتصاد إلى محاولة التخلص من ديونهم من خلال بيع أية أصول يملكونها أو تسييل تلك الأصول أو تخفيض مستويات إنفاقهم لكي يدخروا جانبا أكبر من دخولهم لسداد الديون التي عليهم، فإن سلوكهم الكلي لتحسين وضع الديون التي عليهم ستترتب عليه نتيجة عكسية، أي ارتفاع مستويات الديون التي على عاتقهم. على سبيل المثال عندما يقوم المقترضون للقروض العقارية ببيع مساكنهم لسداد الديون التي عليهم، النتيجة الطبيعية لذلك ستكون حدوث انخفاض كبير في أسعار المساكن، وهو ما يؤدي إلى وضع الكثير من مالكي المساكن في وضع أسوأ ودفعهم أيضا إلى بيع المزيد من الأصول التي يملكونها.
كذلك عندما يحاول المستهلكون خفض إنفاقهم الاستهلاكي لسداد ما عليهم من ديون فإن النتيجة هي تراجع مستويات الإنفاق الكلي في الاقتصاد، وهو ما يؤدي إلى زيادة مستويات البطالة والدخول، وتحدث نتيجة غريبة هي بالتالي زيادة عبء الديون على المدينين، وعندما تسوء الأوضاع الاقتصادية فإن الاقتصاد يدخل في حالة كساد وتسوء الأوضاع بصورة أكبر. من هذا التحليل يخلص فيشر إلى نتيجة في غاية الأهمية، وهي أنه في ظل ظروف الانكماش السعري، كلما حاول المدينون سداد جانب من الديون التي عليهم، ارتفعت أعباء الدين على عاتقهم، وقد استخدم فيشر هذه النظرية في تفسير الكساد العظيم الذي لحق بالولايات المتحدة في نهاية العشرينيات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق