نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 2/12/2011
أنشئ صندوق النقد الدولي بهدف تحقيق استقرار النظام النقدي على المستوى العالمي، وذلك من خلال محاولة العمل على ضمان استقرار معدلات الصرف للعملات المختلفة والمحافظة على توازن موازين المدفوعات للدول الأعضاء، بهدف خلق مناخ مناسب لدفع النمو الاقتصادي المستدام في الاقتصاد العالمي، ولضمان تحقيق هذه الأهداف فإن الصندوق يعمل على تقديم المساعدات المالية في صورة تسهيلات ائتمانية للدول الأعضاء بالشكل الذي يساعدها على معالجة المشكلات المتعلقة بموازين مدفوعاتها، ويتم ذلك غالبا في اطار برامج للمساندة أو للتعديل الهيكلي تتضمن حزمة من السياسات التي ينبغي على الدولة العضو اتباعها لضمان بلوغ الأهداف المحددة سلفا في هذا المجال ضمن ما يطلق عليه عادة "خطاب النوايا"، وغالبا ما يتم ذلك من خلال اتفاق بين الصندوق والدولة العضو يضم الترتيبات والتدابير والسياسات التي ستنفذها الدولة العضو من اجل حل المشكلات الحالية التي يواجهها ميزان مدفوعاتها.
غير أنه لضمان التزام العضو بالترتيبات والسياسات المتفق عليها لتصحيح الأوضاع الاقتصادية به، دائما ما يرهن السحب من التسهيلات الائتمانية التي يمنحها الصندوق للدولة العضو بمدى التزام العضو بتنفيذ الإجراءات والسياسات المتفق عليها في اطار برنامج المساندة أو الإصلاح الاقتصادي وذلك من خلال عمليات التقييم التي تجرى بشكل دوري للتأكد مما اذا كان البرنامج المدعم من خلال موارد الصندوق يتم تنفيذه في الاطار الصحيح أم لا، وما اذا كانت هناك حاجة إلى إجراء تعديلات طفيفة أو جوهرية على البرنامج لتحقيق أهدافه المحددة سلفا وفقا الجدول الزمني المتفق عليه. غير أن بعض أنواع الاتفاقيات ما قد يتيح للدولة العضو الاستفادة من التسهيلات الائتمانية التي يمنحها الصندوق المالية مقدما.
ويتم التقييم عادة في اطار مجموعة من المعايير الكمية التي يتعين على العضو المقترض استيفاؤها وذلك لاستكمال عملية المراجعة لأوضاعه الاقتصادية والمالية، وعادة ما تشمل هذه المعايير عدة متغيرات اقتصادية مثل معدل عرض النقود وإجمالي حجم الائتمان المحلي وإجمالي الاحتياطيات الدولية للعضو ووضع الميزانية العامة للدولة العضو وحجم الدين الخارجي وصافي أصول البنك المركزي وحجم الاقتراض الحكومي.. الخ.
بالإضافة إلى التسهيلات التمويلية يقدم الصندوق أيضا المساعدات الفنية للدول الأعضاء وكذلك تسهيلات التدريب التي تساعد الأعضاء على رسم سياسات اقتصادية فعالة وتنفيذ هذه السياسات بما يضمن تحقيق مستهدفات الدولة العضو في هذا المجال، على سبيل المثال في مجال السياسات الضريبية وسياسات الإنفاق العام والسياسات النقدية وسياسات معدل الصرف وسبل الرقابة على النظامين المالي والمصرفي.
وتتعدد التسهيلات الائتمانية التي يقدمها الصندوق ما بين ترتيبات المساندة Standby arrangements وهي تسهيلات تقدم على مدى زمني قصير، والتسهيلات الائتمانية الممتدة والتي تقدم على مدى زمني أطول نسبيا لمواجهة اختلالات هيكلية تعاني منها الدولة العضو والتسهيلات الائتمانية السريعة وكذلك ما يطلق عليه خط الائتمان الوقائي Precautionary Credit Line فضلا عن نافذة مساعدات الطوارئ لمد الدول التي تعاني من آثار الكوارث الطبيعية أو مضاعفات الصراعات الداخلية أو العسكرية بالمساعدات المالية اللازمة للتعامل مع تلك الأوضاع.
منذ أن انطلقت الأزمة المالية العالمية وصندوق النقد الدولي يعمل جاهدا على تدبير الموارد المالية التي تحتاجها الدول الأعضاء للتعامل مع توابع الأزمة. فقد قام الصندوق بإجراء تعديلات كثيرة على التسهيلات الائتمانية التي يقدمها للأعضاء بهدف زيادة الموارد القابلة للإقراض لدى الصندوق لتعزيز قدرته على التعامل مع الأزمة وزيادة موارد الائتمان التي يمكن أن يقدمه للأعضاء. غير أن تدقيق النظر في طبيعة هذه التسهيلات الائتمانية الجديد يظهر لنا بجلاء أنها تسهيلات موجهة أصلا نحو فئة محددة من الدول، وهي طائفة الدول الأعضاء ذات الأداء الاقتصادي القوي والتي تواجه نقصا طارئا في السيولة بسبب الأزمة أو بسبب ظروف مشابهة.
لقد تضمنت الإصلاحات التي قام بها صندوق النقد الدولي مؤخرا، لتعزيز قدراته على الإقراض، إنشاء ما يسمى بترتيبات خط الائتمان المرن Flexible Credit Line والذي يهدف إلى توفير تسهيلات ائتمانية للدول الأعضاء التي تتمتع بسياسات ومؤشرات للأداء الاقتصادي القوي نسبيا، بحيث تقتصر الاستفادة من هذه التسهيلات على الدول الأعضاء التي تستوفي معايير صارمة يحددها الصندوق، ولا يشترط الصندوق، على غير العادة، أن يصاحب عمليات السحب من هذه التسهيلات الائتمانية ضرورة تحقيق العضو لأهداف محددة سلفا بالنسبة للسياسات التي يطبقها، وتتميز هذه التسهيلات بأنها تمتد على نطاق زمني طويل نسبيا يتراوح بين 3.5-5 سنوات، ويجوز تمديدها وفقا لاحتياجات ميزان المدفوعات في الدولة العضو، ويتم تقرير الموارد التي تتاح من خلال هذا الخط حسب الحالة، كما أنها لا تخضع لحدود الاستفادة العادية، كما تصرف التسهيلات الائتمانية المقررة من خلال هذا الخط دفعة واحدة، ولا يشترط لحصول الدولة على التسهيلات الائتمانية وفقا لهذا التسهيل تنفيذ الدولة لتفاهمات محددة مع الصندوق.
على الرغم من أن مثل هذه التسهيلات الجديدة تمثل تعديلا جوهريا في درجة المرونة التي تتصف بها التسهيلات الائتمانية المقدمة من جانب الصندوق، إلا أن مثل هذا التسهيلات، كما سبقت الإشارة، تقتصر فقط على حالة الدول ذات الأداء الاقتصادي القوي، والتي تملك مؤشرات اقتصادية كلية ملائمة، أما الاقتصاديات الضعيفة أو ذات الملاءة المالية الغير مناسبة، وهي أكثر الدول الأعضاء حاجة إلى تسهيلات الصندوق، فلا سبيل أمامها للتمتع بمثل هذه التسهيلات المرنة.
كذلك قام الصندوق بتعزيز ترتيبات تسهيلات المساندة Standby Arrangements، من خلال استخدامها كأداة للحيلولة دون وقوع الأزمات التي يمكن أن تواجه الدول الأعضاء الغير مؤهلة للحصول على التسهيلات الائتمانية في اطار خط التسهيلات المرنة، وذلك من خلال تسهيل شروط السماح بالحصول على الائتمان وتقليل عدد مرات المراجعة التي يقوم بها الصندوق لأداء العضو، ولكن ذلك، مرة أخرى، يتم استنادا إلى السياسات التي يطبقها العضو ووفق حالة ميزان مدفوعاته، من ناحية أخرى قام الصندوق بمضاعفة قدرة الدول الأعضاء على السحب من موارده حتى 200% كحد أقصى من حصه على أساس، سنوي والى 600% كحد أقصى من حصة العضو على أساس تراكمي، وذلك بهدف بعث الثقة لدى الأعضاء بأن الصندوق سوف يدبر التسهيلات الائتمانية المناسبة لكي تكون في متناول الأعضاء وبما يتوافق مع احتياجاتهم التمويلية.
من التسهيلات الهامة التي أدخلها الصندوق مؤخرا أيضا ما يطلق عليه خط الائتمان الوقائي Precautionary Credit Line وهو تسهيل ائتماني جديد يهدف إلى منع وقوع أزمة في الدول التي تتمتع بسياسات اقتصادية قوية وأداء مناسب في تنفيذ هذه السياسات، وبمؤشرات أداء اقتصادي متينة، ويستهدف هذا التسهيل أساسا الاقتصاديات التي لا تحتاج إلى إحداث تعديلات هيكلية في سياساتها الاقتصادية الكلية، على النحو المتبع في باقي التسهيلات التي يقدمها الصندوق، وتتراوح مدة استفادة العضو من هذا التسهيل ما بين 12 شهرا إلى 24 شهرا، وبمقتضى الخط يمكن للعضو، حال صدور الموافقة على منحه هذا النوع من التمويل، سحب ما يصل إلى 500% من حصته، ويمكن أن يصل إجمالي السحب إلى 1000% من الحصة بشرط أن تحقق الدولة تقدما ملحوظا في معالجة مواطن الضعف التي تعاني منها، وتمثل هذه المستويات من السحب، في غضون هذه الفترة الزمنية القصيرة نسبيا، تطورا كبيرا في شروط الإقراض لصندوق النقد الدولي.
في يوم 21 نوفمبر الماضي وافق الصندوق على إجراء تعديلات على شروط الإقراض وذلك باستبدال خط الائتمان الوقائي بخط الوقاية والسيولة Precautionary and Liquidity Line وذلك بهدف زيادة درجة المرونة في التسهيلات التي يمنحها الصندوق من خلال توسيع نطاق الظروف التي يسمح في ظلها بمنح هذا النوع من التسهيلات ليشمل الحماية ضد الصدمات المستقبلية التي يمكن أن تواجه العضو وكنافذة لتوفير السيولة اللازمة للعضو في الأجل القصير، بصفة خاصة للدولة التي تواجه ضغوط إقليمية أو عالمية نتيجة الأزمة وذلك للحيلولة دون انتشار عدوى الأزمة على النطاق الدولي، وتتمثل أهم الشروط الموضوع للحصول على التسهيلات الائتمانية من الصندوق في اطار خط الاحتياط والسيولة في ضرورة أن يتم تقييم الدولة العضو على أساس متانة سياساتها الاقتصادية، ودرجة التزامها بهذه السياسات في المستقبل. حيث يمكن للدولة أن تحصل على التسهيل اذا كان لديها القدرة على تحقيق توازن كامن في ميزان مدفوعاتها، أو توازن فعلي في الميزان وقت الموافقة على طلب الحصول على التسهيل، ويمكن في ذات الوقت استخدام هذا التسهيل كنافذة سيولة في اطار ترتيبات لمدة 6 أشهر وذلك لتوفير الاحتياجات الائتمانية قصيرة الأجل اللازمة لتحقيق توزان ميزان المدفوعات للدولة العضو، وفي ظل مثل هذا الاتفاق لا يجب أن يتجاوز السحب من الصندوق ما نسبته 250% من حصة العضو، والتي يمكن مضاعفتها إلى 500% في ظل ظروف استثنائية مثل أن يواجه العضو عجزا في ميزان مدفوعاته ذو طبيعة قصيرة الأجل والناجم عن صدمات خارجية بما في ذلك الضغوط المالية والاقتصادية الإقليمية. كذلك يمكن استخدام هذه التسهيل في اطار ترتيبات زمنية أطول لمدة 12-24 بحيث يتسع نطاق السحب من الصندوق إلى ما نسبته 500% من حصة العضو للعام الأول و 1000% من حصة العضو للعام الثاني (وذلك بعد تقييم مجلس الصندوق لحالة العضو)، وكذلك تقييم المجلس التنفيذي لحالة العضو كل 6 أشهر.
مما لا شك فيه أن هذه التطورات في شروط الائتمان التي يقدمها الصندوق للأعضاء تعد تطورا جوهريا من حيث المدى الذي يسمح فيه للعضو بالسحب من موارد الصندوق والذي قد يصل إلى عشرة أضعاف حصة العضو في رأس مال الصندوق، وهو ما يسمح بتقديم تسهيلات ائتمانية سخية للأعضاء الذين تنطبق عليهم شروط الحصول على الائتمان، غير أن تدقيق النظر في شروط الحصول على هذه التسهيلات الائتمانية الجديدة تصل بنا إلى خلاصة أن الدول الفقيرة والاقتصادات الضعيفة لن يكون لها فرصة وصول إلى مثل هذه التسهيلات التي تنطبق فقط على الاقتصاديات القوية أو التي تطبق سياسات اقتصادية سليمة، وهذه الأخيرة هي أقل الدول حاجة إلى الحصول على مثل هذه التسهيلات، مقارنة بالدول الفقيرة والضعيفة اقتصاديا والتي تعد في أمس الحاجة إلى مثل هذه التسهيلات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق