نشر في صحيفة الاقتصادية يوم الجمعة 16/12/2011
وجه معهد بيترسون للاقتصاد الدولي هذا الأسبوع الدعوة إلى الدول النفطية للمساهمة في إنقاذ اليورو وذلك في ورقة بقلم "فيليب فيرليجر" ضمن سلسلة Policy Brief التي يصدرها المعهد، والذي انتقد فيها بشدة الدول المصدرة للنفط بأنها تقف حاليا موقف المتفرج على ما يحدث لليورو بدون أن تقول شيئا أو أن تفعل شيئا، على الرغم من أنها أحد المشاركين الرئيسيين في الاقتصاد العالمي، منبها الدول النفطية بأنها ستكون أكثر المجموعات الاقتصادية في العالم عرضة لمخاطر الاقتصاد العالمي إذا ما تدهورت أزمة اليورو، حيث سيترتب على أزمة اليورو دخول أوروبا والعالم في ركود طويل نتيجة لتراجع معدلات النمو في الاقتصاد العالمي، الأمر الذي سيصاحبه انخفاض كبير في الطلب على الطاقة، وبالطبع تراجع أسعار النفط ومن ثم الإيرادات النفطية.
للتدليل على صحة حجته يسوق الكاتب ما حدث في أعقاب انطلاق الأزمة المالية العالمية عندما تراجع سعر النفط من 145 دولارا في يوليو 2008 إلى 32 دولارا في ديسمبر من نفس العام، كذلك تراجعت أسعار الغاز بنسبة 30%، وقد ترتب على تراجع الأسعار انخفاض الإيرادات النفطية للدول المصدرة للنفط في عام 2008 بمقدار تريليون دولارا تقريبا، وفي عام 2009 مع تعافي أسعار النفط نسبيا، تراجعت خسائر الدول المصدرة للنفط إلى 600 مليار دولارا، ويحذرالكاتب الدول النفطية من احتمال حدوث انخفاض مستدام في صادراتها النفطية لو تطورت أزمة أوروبا وانتهت بانهيار اليورو، إذ يرى الكاتب أن انخفاض الأسعار المتوقع هذه المرة سوف يكون أكبر مما حدث في 2008 لأن استعادة النشاط الاقتصادي في هذه المرة سوف تكون أبطأ، ذلك أن ما حدث في عام 2008 هو أنه عندما تراجع استهلاك النفط، نتيجة للأزمة، قامت الولايات المتحدة والصين بتبني برامج ضخمة للتحفيز المالي وعلى نطاق واسع، وهو ما أدى إلى تشجيع الطلب على الطاقة، الأمر الذي ساعد التعافي السريع نسبيا لأسعار النفط، مثل هذه الاستجابة ليست متوقعة هذه المرة ومن ثم لن يشهد سوق النفط هذا الدعم إذا ما انطلقت أزمة 2012.
من ناحية أخرى يرى الكاتب أن كساد 2012 سوف يترتب عليه تراجعا أكبر في أسعار النفط بسبب أن البنوك لن تتدخل في أسواق النفط بشراء السلعة وتخزينها مثلما حدث في 2008-2009، لأن البنوك المركزية لن تمد البنوك التجارية بالسيولة اللازمة لذلك هذه المرة. من هذا المنطلق يؤكد الكاتب أن على الدول النفطية أن تتعاون مع صندوق النقد الدولي والصين وغيرها من الدول التي تتوافر لديها احتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي (يقصد باقي دول مجموعة البريكس) في إنشاء تسهيلات طارئة للإقراض بقيمة تزيد عن تريليون يورو (1.32 تريليون دولارا تقريبا)، يتم إدارته بواسطة صندوق النقد الدولي لشراء السندات المصدرة بواسطة دول مثل اليونان إيطاليا وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا، وذلك بهدف تخفيض معدلات الفائدة على هذه السندات من مستوياتها المرتفعة حاليا إلى 3%، وذلك للحيلولة دون انهيار اليورو وللمساعدة على استمرار الطلب على الصادرات النفطية، ويبرر الكاتب هذه الميزانية الضخمة قائلا بأن الوقت قد حان لمضاعفة الجهود من أجل حل المشكلات الاقتصادية للدول المضطربة واستعادة التوازن في ميزانياتها، وهذا لن يتم إلا اذا تم تخفيض معدلات الفائدة وذلك من أجل خفض أعباء خدمة الدين، ويرى الكاتب أن خفض معدلات الفائدة لا يمكن أن يتم إلا اذا قامت الدول النفطية بشراء أعدادا كبيرة من السندات الأوروبية.
وأخيرا يحاول الكاتب أن يعزز حججه بدعوة الدول العربية النفطية بالذات (يقصد دول الخليج) بأن تراجع الإيرادات النفطية سوف يأتي في وقت حرج بالنسبة لهذه الدول، حيث ينتشر الربيع العربي خارج هذه البقعة ضد حكومات الدول الأخرى في المنطقة، وأنه حتى هذه اللحظة استطاعت حكومات هذه الدول، من خلال استخدام الإيرادات النفطية، أن تنأى بنفسها عن هذا المد الثوري، إلا أن تراجع الإيرادات النفطية سوف يحرم هذه الدول من الدخل اللازم للاستمرار في اتباع مثل هذه السياسات التي تضمن الاستقرار السياسي بها.
تعليقي على الدعوة هو أنه على الرغم من بعض المنطقية الظاهرية التي يستند الهيا الكاتب في تبرير دعوته للدول النفطية للتدخل لإنقاذ اليورو إلا أن هناك الكثير من المغالطات في هذه الدعوة والتي تتمثل في الآتي:
· أن الكاتب يريد نقل مهمة إنقاذ اليورو من على عاتق الدول التي تتعامل به أصلا دول مثل فرنسا وألمانيا وباقي دول أوروبا التي لا تعاني من مشكلة مديونية إلى الدول النفطية، لتتحمل هذه الدول مسئولية أزمة ليست مسئولة عنها لا من قريب أو بعيد. فما ذنب دول الخليج في أن تتحمل أخطاء حكومات عاشت ولفترات طويلة في حالة من الفوضى المالية انتهت بها إلى هذه المأساة الحالية، بل إن بعض حكومات هذه الدول المدينة وشعوبها تقاوم أصلا المحاولات لفرض برامج للتقشف والإصلاح المالي لكي تستمر ماليتها العامة في وضع منفلت، فكيف يطلب من الدول الأخرى مساعدتها في أن تستعيد توازن ميزانيتها، بينما هي لا تفعل أصلا ما يجب عليها أن تفعله لتحقيق ذلك.
· لا أدري لماذا يبدو الكاتب متأكدا بأن العالم سوف يقف مكتوف الأيدي وهو يرى تراجع معدلات النمو في أعقاب انطلاق أزمة اليورو، وخصوصا مع ارتفاع معدلات البطالة، دون أن يحرك ساكنا ليترك اقتصادات العالم تغرق في ركود طويل الأمد. من ناحية أخرى، لا شك أن انطلاق أزمة كساد جديدة سوف يخفض الطلب على النفط، ولكني لا يتوقع أن تنخفض الأسعار إلى نفس مستويات ديسمبر 2008، نظرا للتطورات الحادثة في الطلب العالمي على النفط، خارج المجموعة الأورو/أمريكية، والتي كانت مسئولة عن نسبة كبيرة من الطلب العالمي على الطاقة قبل انطلاق الأزمة المالية العالمية.
· إن القول بأن دول الخليج سوف تقع في ورطة نتيجة تراجع إيراداتها النفطية في هذه المرة بالذات ليس سوى تحليلا سطحيا، فهذه المرة ليست هي المرة الأولى التي تتراجع فيها الإيرادات النفطية لدول الخليج، كما أن الدول الخليجية اليوم أكثر استعدادا من أي وقت مضى لمواجهة أي تراجع في إيراداتها النفطية نظرا للوضع المالي المريح الذي تعيشه منذ فترة طويلة والذي ترتب عليه تراكم قدر لا بأس به من الاحتياطيات. أكثر من ذلك فالسياسات الحالية للدول الخليجية ليست وليدة اليوم حيث تتبع تلك الدول سياسات تعزيز الرفاه لجموع السكان منذ أن تم اكتشاف النفط وليس مع انتشار الربيع العربي، وعلى الرغم من تعرض هذه الدول للعديد من الصدمات في إيراداتها النفطية، إلا أنها لم تتراجع عن سياسات الرفاه التي تتبعها، وأخيرا يبدو أن الكاتب لا يعي حقيقة أن هذه الدول تمتلك احتياطيات وأصول مالية ضخمة في اطار صناديق الثروة السيادية التي تملكها والتي تزيد حاليا عن 1.5 تريليون دولارا والتي تمكنها من التعامل براحة تامة مع تراجع إيراداتها النفطية دون أن تتأثر على النحو الذي يحاول أن يوهمنا الكاتب به.
· إن دعوة الكاتب للدول النفطية لاستثمار احتياطياتها في شراء سندات الدول المدينة مثل اليونان وإيطاليا هي دعوة لاستثمار أموالها في سندات خردة Junk Bonds لتتحمل بذلك مستويات مرتفعة جدا من المخاطرة على استثماراتها، ومن ثم فإنه مع تعقد أزمات هذه الدول سوف تجد الدول الخليجية نفسها الحلقة الأضعف، حيث سيفرض عليها تخفيض القيمة الاسمية لهذه السندات لاحقا، مثلما حدث مؤخرا مع البنوك المقرضة لليونان والتي أجبرت على أن تتحمل 50% خفضا في القيمة الاسمية لهذه السندات، في الوقت الذي لم تكن هذه البنوك قد حصلت أصلا على عوائد تساوي هذه النسبة.
· أن الكاتب لا يدرك طبيعة الثروة التي تتمتع بها الدول الخليجية حاليا، حيث تعتبر هذه الثروة استثنائية لأنها تستند إلى مصدر ناضب، وأن هذه الدول لديها مهمة أخرى أصعب وهي كيفية استثمار هذه الفوائض على النحو الذي يساعدها على تنويع مصادر دخولها حتى تتمكن من أن تدخل مرحلة ما بعد الوفرة النفطية بأمان، الأمر الذي يفرض على هذه الدول أن تكون اكثر حرصا عند استثمار هذه الفوائض.
· أما سؤالي الأخير فهو هل اذا ما تعرضت دول الخليج إلى نفس الأزمة التي تتعرض لها الدول الأوربية حاليا، ترى هل ستقف دول اليورو بجانبها لمساعدتها على تخطي عثرتها على النحو الذي يطالب به الكاتب؟ أي هل هناك اعتماد متبادل بين دول منطقة اليورو ودول الخليج في هذا الجانب؟ أم أنه اعتماد متبادل من طرف واحد، من الدول النفطية إلى دول اليورو وليس العكس؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق