الثلاثاء، مايو ٠١، ٢٠١٢

المشتقات المالية: قنبلة العالم الدائمة

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 1/5/2012

المشتقات Derivatives هي تسمية مستقاة من التعبير الرياضي الاشتقاق، والذي يرمز إلى متغير مشتق من متغير آخر، وعلى ذلك فإن هذه المشتقات ليست لها قيمة في حد ذاتها، وإنما تأخذ قيمتها من أصل آخر وهو الأصل الكامن وراء الأصل المشتق، ومن الناحية التاريخية لا تعتبر عقود المشتقات في العالم عقودا حديثة، فهناك دلائل على أن بعض مناطق العالم استخدمت عقود مثيلة في معاملاتها التجارية والمالية منذ آلاف السنين، المهم أن عقد المشتقات هو عقد يشتق قيمته من أداء العوامل السوقية، مثل معدل الفائدة، معدل الصرف، أسعار السلع، وأسعار الأسهم وعقود الائتمان، وتضم المشتقات تشكيلة واسعة من العقود المالية مثل الترتيبات المتبادلة Swaps، والمستقبليات Futures وعقود الخيارات Options، والعقود الآجلة Forwards، وبشكل عام فإن أسواق المشتقات تستند إلى خمس أنواع من الأصول المالية وهي مشتقات معدل الفائدة، ومشتقات النقد الأجنبي، ومشتقات الائتمان، ومشتقات الأسهم ومشتقات السلع.

وقد يفهم خطأ أن عقود المشتقات تستخدم فقط بواسطة المؤسسات المالية، إذ أن الواقع يشير إلى أن استخدام عقود المشتقات يتم من جانب عدد كبير من الشركات العاملة في الصناعات المختلفة، حيث يستخدمه حوالي 90% من الشركات الكبرى في العالم لإدارة مخاطر الأعمال فيها، وكذلك مخاطر الاقتصاد الكلي، مثل تجنب أثر تقلبات معدل الصرف أو معدلات الفائدة على أعمالها، أو الزيادات غير المتوقعة في تكلفة المدخلات، مثل عقود مشتقات معدل الفائدة وعقود العملات وعقود السلع. بينما تدخل المؤسسات المالية مثل البنوك وشركات التأمين في مثل هذه العقود للتعامل مع مخاطر تقلبات معدل الفائدة وتقلبات معدل الصرف، ومخاطر الائتمان الخاص بالصناعة المالية ومخاطر تقلبات أسعار الأسهم.

يمكن تداول عقود المشتقات في الأسواق العامة، على سبيل المثال أسواق المستقبليات، أو أن يتم تداولها على نحو خاص بين طرفين أو اكثر بعيدا عن الأسواق الرسمية، غير أن البيانات المتاحة تظهر أن الغالبية العظمى من هذه العقود (حوالي 95% من إجمالي هذه المعاملات) تتم بصورة خاصة ولا تسجل في الأسواق، ويقدر عدد كبير من المصادر المختلفة القيمة الإجمالية لعقود المشتقات المالية عبر العالم بحوالي 700 تريليون دولارا، أو ما يزيد عن عشرة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي في العالم، ووفقا لهذه التقديرات فإن نصيب كل فرد يعيش في العالم حاليا من السبعة مليار نسمة الذين يعيشون حاليا في العالم من إجمالي هذه المشتقات حوالي 100 ألف دولارا، وهو بكل المقاييس رقم ضخم جدا، ومصدر كامن لعدم الاستقرار المالي في العالم، ولذلك ينظر دائما إلى عقود المشتقات على أنها مرشحة لأن تكون القنبلة الموقوتة المعرضة للانفجار في أية لحظة مصيبة العالم بنتائج كارثية، ولذلك لا عجب أن يصف الملياردير الأمريكي وارن بوفيت مثل هذه العقود بأنها أسلحة دمار مالي شامل.

مؤخرا صدر تقرير عن مكتب رقابة العملة في الولايات المتحدة، والذي أشار إلى أن المشتقات المالية هي من أسرع أشكال المعاملات المالية نموا، وأن المشتقات المالية استمرت في نموها السريع حتى في ظل ظروف الأزمة المالية العالمية، وأن الجانب الأكبر من المشتقات المالية في الولايات المتحدة يتم بواسطة عدد محدود جدا من البنوك الأمريكية الكبرى والشركات التي تتبعها، ووفقا للتقرير فإنه في عام 1995 كانت المشتقات المالية في الولايات المتحدة لا تزيد عن 20 تريليون دولارا، وفي الربع الثالث من العالم الماضي قفرت المشتقات إلى 248 تريليون دولارا (لاحظ الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة حوالي 15 تريليون دولارا)، أي أن قيمة المشتقات المالية تبلغ حوالي 17 ضعف قيمة الناتج.

بالنسبة لتوزيع هذه المشتقات فإن حوالي 82% منها تمثل عقود فائدة، و حوالي 11% عقود نقد أجنبي، وحوالي 6% مشتقات ائتمان، والباقي عقود مشتقات أسهم وسلع وغيرها. من ناحية أخرى فإن توزيع المشتقات حسب طبيعة المنتج المالي تشمل عقود المشتقات في عقود المستقبليات والعقود الآجلة بنسبة 16%، وعقود الترتيبات المتبادلة Swaps بنسبة 63%، وعقود الخيارات بنسبة 15%، ومشتقات الائتمان بنسبة 6%، ومن بين الـ 248 تريليون دولارا تعتبر الخمس بنوك الرئيسية في الولايات المتحدة مسئولة عن حوالي 221.5 تريليونا من المشتقات وهذه البنوك هي بنك جي بي مورجان تشيز، وسيتي بنك، وبنك أوف أمريكا، وبنك جولدمان ساكس، وبنك اتش إس بي سي.

لقد أظهرت الأزمة المالية العالمية الأخيرة مدى القصور الذي تنطوي عليه مثل هذه العقود ومستويات المخاطر الكبيرة التي تحتويها والناجمة عن سوء إداراتها ونقص الشفافية المصاحب لها والتعقيدات المرتبطة بالمخاطر الحقيقية وراء مثل هذه العقود ومخاطر انتشار آثار هذه أثر انهيار المؤسسات العاملة في هذه العقود بين النظم المالية المختلفة، مثلما حدث مع حالة إفلاس بنك ليمان براذرز ومخاطر الإفلاس التي تعرضت لها المجموعة الأمريكية الدولية AIG عملاق التأمين في العالم، والتي أثارت الكثير من الجدل عبر مختلف أنحاء العالم حول ضرورة إدخال إصلاحات هيكلية في الأسواق المالية في العالم. لذلك تتزايد النداءات بضرورة تنظيم هذه المنتجات وتنميط عقودها لضمان استقرار أسواق المشتقات في العالم، وضمان متانة الأسواق الأكثر استقرارا من بين هذه المنتجات.

لتخفيف أثر المشتقات والحد من انتشارها هناك مقترحات بفرض ضرائب على هذه العقود على النحو الذي فصلنا فيه مسبقا هنا على الاقتصادية في مقالين بعنوان "هل يجب فرض ضريبة على المعاملات المالية"، غير أن هناك حاليا مقاومة عنيفة لفرض مثل هذه الضريبة في معظم أنحاء العالم على الرغم من الفوائد الواضحة لفرضها سواء بالنسبة للأسواق أو للمالية العامة للدول.

اتخذ الاتحاد الأوروبي مؤخرا مجموعة من الإجراءات التي تستهدف إصلاح نظام المشتقات المستوى الدولي والتي يفترض أن يتم تطبيقها في نهاية هذا العام أو أوائل العامل المقبل، والتي تشمل تشجيع لجوء البائعين والمشترين لهذه العقود إلى التعامل في الأسواق الرسمية لهذه المشتقات بدلا من الممارسات الحالية باستخدام الأسواق غير الرسمية Over the counter في تبادلها، والتي تتم فيها الغالبية العظمي من هذه المعاملات (95% كما أسلفنا)، حيث يتم حاليا تداول عقود بمليارات الدولارات لهذه المشتقات بمجرد فاكس يرسل من طرف إلى آخر دون أن تدري الأسواق الرسمية عنه شيئا. وفقا للقانون المقترح في الاتحاد الأوروبي فإن التجارة في عقود المشتقات سوف تتحول إلى تجارة تتم على أساس معياري وفي الأسواق الرسمية بما يجعل من السهل تتبع هذه المعاملات من الناحية الرسمية، ومما لاشك فيه أن عملية تتبع مثل هذه المعاملات تمكن المراقبين من التدخل، إذا كان الأمر يتطلب ذلك لضمان عدم تكرار سلسلة الأحداث التي أدت إلى انطلاق الأزمة المالية العالمية في 2008 بانهيار بنك ليمان براذرز نتيجة عدم القدرة على التعرف على درجة تعرضه لعقود المشتقات.

ولكن هل ستسهم مثل هذه الإجراءات في الحد من المخاطر المحيطة بهذه العقود، الإجابة هي أنه بلا شك فإن تعزيز مستويات الشفافية في مثل هذه العقود سوف يمنع العدد المحدود من البنوك الدولية والتي لا يتجاوز عددها 6 بنوك حاليا، والتي تسيطر على هذه المعاملات في العالم، من أن تعقد مثل هذه العقود وتبادلها فيما بينها بصورة خاصة، ويعطي الفرصة للتدخل المبكر لمواجهة احتمالات انطلاق أي أزمة يمكن أن تنجم عنها، غير أن مخاطر مثل هذه العقود سوف تستمر طالما أنها مشتقة أساسا من عقود أخرى، ومن ثم فإنها ليس لها قيمة حقيقية طالما أن الأصول التي تستند إليها تسير على نحو سيء، وهي بهذا الشكل سوف تستمر تمثل قنبلة العالم الدائمة.





هناك تعليقان (٢):