عقد هذه الأسبوع المؤتمر الاقتصادي للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في قاعة جاكسون، وهو مؤتمر سنوي ينظمه بنك الاحتياطي الفيدرالي في مدينة كنساس أحد فروع الاحتياطي الفيدرالي الـ 12 منذ 1987، ويضم المؤتمر رؤساء أهم البنوك المركزية في العالم ووزراء المالية وقادة القطاع المالي في العالم، وتتم فيه مناقشة أهم القضايا الاقتصادية التي تواجه الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي بشكل عام، ولأهمية المؤتمر فإن المؤسسات المالية والأسواق تتابع من كثب ما يدور فيه وما يتمخض عنه من نتائج، وقد اكتسب هذا المؤتمر أهمية خاصة منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية، حيث أصبح أحد أهم اللقاءات التي تتم سنويا في العالم من الناحية الاقتصادية. وقد احتل مؤتمر هذا العام أهمية خاصة، وخصوصا أن القوتين الاقتصاديتين الرئيستين في العالم أصبحتا على مفترق الطرق بالنسبة لأوضاعهما الاقتصادية، حيث من المتوقع أن نشهد تحولا في سياساتهما النقدية بحيث تسيران في اتجاه مخالف.
ألقى كل من رئيس الاحتياطي الفيدرالي البروفيسور يلين ورئيس البنك المركزي الأوروبي خطابيهما اللذان كان ينتظرهما العالم، كانت أوضاع سوق العمل الأمريكي والتحولات الجوهرية فيها هي محور حديث السيدة يلين، وكما يتضح من جوهر الخطاب أن ضغوط سوق العمل الأمريكي تتحسن على نحو واضح، ولكنها في الوقت ذاته تؤكد أن السياسات الحالية ستستمر، وقد استهلت يلين خطابها بالحديث عن مشكلة البطالة وتحديات خلق الوظائف الجديدة في سوق العمل الأمريكي الذي تعرض لأكبر وأطول أزمة بطالة في تاريخه منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي.
ففي أعقاب انطلاق الأزمة المالية العالمية أخذ نزيف فقدان الوظائف في سوق العمل في التسارع حتى بلغ معدل البطالة أعلى مستوياته في 2009، عندما تجاوز نسبة 10 في المائة، مما عني أن عددا لا بأس به من قوة العمل أصبح بلا عمل، يبحث عنه ولكنه لا يجده، غير أنه بمرور الوقت تحسنت قدرة سوق العمل عل فتح المزيد من فرص العمل الجديدة، التي بلغت في 2014 نحو 230 ألف فرصة شهريا في المتوسط، مقارنة بنحو 190 ألف فرصة في السنوات الماضية، نتيجة لهذا التطور الإيجابي أخذت معدلات البطالة في التراجع حتى بلغت 6.2 في المائة في تموز (يوليو) الماضي، ليقترب معدل البطالة الامريكي من مستوياته الطبيعية، والواقع أن سيناريوهات سوق العمل الأمريكي طوال سنوات الأزمة كان جانبا كبيرا منها متشائما، ولم يكن هناك في الحسبان توقع أن تتحسن ظروف سوق العمل على النحو الذي ينتهي بانخفاض معدلات البطالة على هذا النحو السريع.
غير أن يلين تشير إلى أنه من المبكر الحديث عن أن سوق العمل قد استعاد عافيته، وبأن مخاطر البطالة قد تلاشت من الاقتصاد الأمريكي، فالتطورات الهيكلية لسوق العمل في الوقت الحالي تجعل من الصعب تقديم تقييم صحيح للأوضاع الحقيقية لضغوط السوق ومن ثم صياغة السياسات النقدية على أساس هذه التطورات.
أهم التطورات الهيكلية تزايد نسبة العمال الذين يعملون لبعض الوقت وهم مرغمون على ذلك وفي الوقت ذاته تزايد نسبة البطالة طويلة الأجل في الوقت الذي تتراجع فيه نسبة المساهمة لقوة العمل، وعوامل هيكلة أخرى مثل شيخوخة قوة العمل وبطء معدلات نمو الأجور وغير ذلك، ومع ذلك تؤكد يلين أن اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوح ترى أنه إذا تطورت أوضاع سوق العمل على نحو أفضل من الآن أو بدأ معدل التضخم في الارتفاع فإن تعديل سياسات معدلات الفائدة الصفرية ربما يكون سريعا أيضا.
على الجانب الآخر فقد أكد ماريو دراجي رئيس البنك المركزي الأوروبي على ضرورة تحول السياسات الحالية لأوروبا بصورة معاكسة للسياسات الانكماشية التي انتهجتها أوروبا في إطار ما يسمى بالتقشف الاقتصادي لمواجهة الضغوط المالية الناجمة عن تدهور أوضاع الديون السيادية للعديد من دول المنطقة، وهو ما ترتب عليه تداعيات أخطر على المدى الطويل بتعمق انحدار اقتصادات اليورو في الكساد بما فيها الاقتصادات الرائدة مثل ألمانيا. فقد أشارت نتائج النمو عن الربع الثاني من هذا العام إلى تراجع النمو في الاقتصاد الألماني لأول مرة الذي يمثل محرك النمو الأساسي في المنطقة، في الوقت الذي تزايد فيه القلق بشأن النمو في فرنسا وإيطاليا. من ناحية أخرى، فقد أظهرت البيانات أن معدل التضخم المتوسط في المنطقة لا يتجاوز 0.4 في المائة، في الشهر الماضي، وهو مستوى منخفض جدا بالنسبة للمستويات المستهدفة، مما يبدد المخاوف حول أثر السياسات النقدية التوسعية في المستوى العام للأسعار، في الوقت الذي بلغ فيه معدل البطالة المتوسط في المنطقة 11.5 في المائة في حزيران (يونيو)، وهو مستوى مرتفع جدا مقارنة بمعدلات البطالة في الاقتصادات الصناعية المنافسة في الولايات المتحدة واليابان، في إشارة إلى أن استعادة النشاط الاقتصادي في المنطقة ما زالت بعيدة المنال. بصفة خاصة حذر دراجي من تراجع التوقعات التضخمية في أوروبا. فاليوم توحي تطورات معدل التضخم بأن منطقة اليورو تنجرف بصورة أكبر نحو الانحسار السعري، الأمر الذي يزيد من مخاطر سقوط المنطقة في دائرة الانكماش السعري، بما لها من آثار على تعميق الآثار الاقتصادية للكساد، ولذلك أكد دراجي على الدور الذي يجب أن تلعبه البنوك المركزية الأوروبية في تبني إجراءات لتحفيز النشاط الاقتصادي في المنطقة لدفع مستويات الطلب الكلي وخفض ضغوط أسواق العمل ودفع الأسعار نحو الارتفاع، مؤكدا أيضا الدور المساند الذي يمكن أن تلعبه السياسات المالية في مساندة السياسات النقدية التوسعية، وذلك في إشارة إلى قرب حدوث تحول في مستهدفات البنك المركزي الأوروبي، بتبني سياسات نقدية توسعية ربما تأخذ شكل جرعات جديدة من التيسير الكمي من خلال قيام البنك المركزي الأوروبي بشراء المزيد من السندات، بهدف التأثير في هيكل العوائد على الأصول المالية على النحو الذي يؤدي إلى تشجيع مستويات الطلب الكلي، خصوصا الاستثماري. من ناحية أخرى فإن هذه الملاحظات حول دور السياسات المالية توحي بتحول اتجاهات السياسة المالية في المنطقة وهجر المنطقة للسياسات التقشفية التي اتبعتها لفترة والتي أصبح من الواضح أنها لا تعمل على النحو الذي كان يراد منها، حيث تسببت في تعقد أوضاع سوق العمل الأوروبي.
كان البنك المركزي الأوروبي قد وافق في يونيو الماضي على حزمة من السياسات النقدية التوسعية تشمل تبني معدلات الفائدة السالبة وتوفير خطوط إضافية لإقراض البنوك لمدة أربع سنوات، فضلا عن استعداده لشراء السندات المغطاة بالأصول، وقد أكد دراجي أن خطط شراء السندات المغطاة بالأصول تسير على نحو سريع، التي يتوقع أن تسهم في تخفيف شروط الائتمان في المنطقة.
لقد أسهمت بالفعل السياسات التوسعية التي تتبعها منطقة اليورو في انخفاض اليورو في مقابل الدولار وهو ما يتوقع أن يترتب عليه ارتفاع القدرة التنافسية للاقتصاد الأوروبي في مواجهة الاقتصاد الأمريكي، على النحو الذي سيسهم في مضاعفة الآثار الإيجابية للسياسات النقدية التوسعية بزيادة الطلب الخارجي، في الوقت الذي يساعد فيه على الحد من الضغوط التضخمية في المنطقة، ويتوقع أن يستمر هذا الاتجاه لليورو بسبب اختلاف اتجاه السياسات النقدية بين المنطقة والولايات المتحدة. ومن المتوقع أن تتجه الولايات المتحدة نحو رفع معدلات الفائدة مع تحسن الأوضاع الاقتصادية، ربما في منتصف العام القادم مثلما تشير محاضر اجتماعات لجنة السوق المفتوح الفيدرالية، في الوقت الذي يتوقع أن يتبنى فيه البنك المركزي الأوروبي معدلات الفائدة منخفضة لفترة طويلة قادمة.
من الواضح إذن أننا قد نشهد سياستين نقديتين متناقضتين عبر ضفتي الأطلنطي، واحدة توسعية في أوروبا والأخرى تقييدية في أمريكا، فما هو الأثر المتوقع لمثل هذا الوضع؟ أتوقع أن هذه السياسات ستعقد من اتجاهات النشاط الاقتصادي في كل من أوروبا والولايات المتحدة، بسبب الاعتماد المتبادل الواسع بين الاقتصادين، أكثر من ذلك فإن طول فترة التباعد بين السياستين سيعقد أوضاع التعافي لكلا الاقتصادين، وأعتقد أنه ليس من مصلحة كل من الولايات المتحدة وأوروبا أن تستخدما سياستين نقديتين متناقضتين، وأن تنسيق هذه السياسات ربما يصبح ضرورة ملحة في المستقبل. فهل يؤجل الاحتياطي الفيدرالي من عملية تعديل سياساته النقدية حتى تتحسن الأوضاع في منطقة اليورو؟ هذا ما سنعرف الإجابة عنه في المستقبل.