عندما تتعرض دولة ما لمخاطر التوقف عن سداد دينها السيادي "الدين العام المستحق على الحكومة بالنقد الأجنبي" أو إعلان إفلاسها فإن أسعار سنداتها تنخفض في السوق الثانوي للسندات على نحو كبير. لمثل هذا النوع من السندات تقف صناديق التحوط Hedge funds، أو ما يطلق عليها أحيانا الصناديق الانتهازية Vulture funds، على أهبة الاستعداد لشرائها من السوق الثانوي بأسعار زهيدة، ثم البدء لاحقا في معركة قضائية مع الدولة المدينة لمطالبتها بسداد القيمة بالكامل، أو التوصل لصيغة ما مع هذه الدولة تضمن لها تحقيق أرباح طائلة. ذلك أن إعلان الإفلاس لا يعني أن الدين القائم على الدولة قد ذهب هباء، حيث تظل هناك فرصة لتحصيل هذا الدين أو جزء منه من خلال عمليات إعادة الجدولة لتمكين الدولة من الوصول إلى أسواق الدين مرة أخرى.
في عام 2001 أعلنت الحكومة الأرجنتينية الإفلاس والتوقف عن خدمة دين يقدر بنحو 81 مليار دولار، وقامت مجموعةNML المحدودة وهي صندوق تحوط يتبع Elliott Management Corporation بشراء سندات أرجنتينية بسعر زهيد من السوق الثانوي، ومنذ ذلك العام والحكومة الأرجنتينية تحاول التوصل مع الدائنين لحلول تضمن إعادة جدولة الديون في مقابل شطب جانب منها، وبالفعل في عامي 2005 و2010 قامت الأرجنتين بعمل تسويتين مع نحو 92 في المائة من الدائنين على أساس استبدال كل دولار من السندات القديمة بـ 30 سنتا فقط في صورة سندات جديدة. غير أن باقي الدائنين رفض عملية الشطب، ومنهم مجموعةNML، ولم يقتصر الأمر على ذلك فقد قامت المجموعة بمقاضاة الحكومة الأرجنتينية، مطالبة إياها بسداد كامل قيمة السندات إضافة إلى الفوائد المستحقة عليها أمام محكمة في نيويورك، وقد جاء حكم المحكمة بإلزام الأرجنتين بسداد كامل قيمة السندات والفوائد عليها للمجموعة قبل أن تقوم بسداد الفوائد المستحقة عليها للدائنين الآخرين حملة السندات السارية، وهو ما اعتبر نصرا كبيرا للمجموعة.
عمليا لم يترك حكم المحكمة الأمريكية من خيار أمام الأرجنتين سوى أن تقوم بسداد كامل قيمة السندات المستحقة لها إضافة إلى الفوائد قبل الموعد المحدد لسداد فوائد مستحقة على الحكومة الأرجنتينية عن سنداتها السارية والمحدد بمنتصف ليل يوم الأربعاء 30 تموز (يونيو) هذا الأسبوع، أو التخلف عن السداد والذي سيعد بمثابة إعلان إفلاس الأرجنتين، وكانت الحكومة الأرجنتينية قد أودعت 536 مليون دولار فوائد مستحقة لحملة سنداتها السارية في مصرف نيويورك ميلون، أمين حملة السندات، كما أحرزت تقدما في تسوية النزاعات مع الحكومات الدائنة في نادي باريس حول ديونها باليورو لتتفرغ لمشكلة الرافضين لعملية استبدال السندات القديمة بسندات جديدة، غير أن حكم المحكمة كان قد حظر على المصرف تحويل هذه الأموال للدائنين قبل أن تتوصل الأرجنتين الى تسوية مع المجموعة.
ولكن لماذا ترفض الحكومة الأرجنتينية التسوية مع المجموعة وسداد 1.3 مليار دولار لكي تتجنب إعلان إفلاسها؟ الإجابة هي أن القضية ليست بهذه القدر من البساطة، ذلك أن المشكلة الأساسية هي أن السندات السارية التي تم استبدال السندات القديمة بها تحتوي على شرط تحت مسمى "الحقوق في العروض المستقبلية" Rights Upon Future Offers، والذي يلزم الحكومة الأرجنتينية بأن تمنح كل حملة السندات الأرجنتينية أي مزايا تمنحها في أية تسويات لاحقة لأي من دائنيها. معنى ذلك أنه لو خضعت الحكومة الأرجنتينية لمطالب الرافضين للتسوية المعروضة من الحكومة الأرجنتينية بشطب 70 في المائة من قيمة السندات، وقامت بسداد التزاماتها نحوهم بالكامل فإنها ستكون مطالبة بأن تقوم بنفس الإجراء مع كل حملة السندات الذين قبلوا الشطب على السندات القديمة، وسيفتح هذا الإجراء المجال أمام كافة الدائنين بالمطالبة بالمعاملة بالمثل، الأمر الذي يتسبب في تزايد قيمة الديون على نحو فلكي، قدر بنحو نصف تريليون دولار.
مثَّلَ هذا الشرط قيدا على الحكومة الأرجنتينية والذي أصبحت ملتزمة بموجبه بألا تعرض للرافضين لعمليات التسوية أي عرض أفضل من التسويات التي قدمتها لباقي الدائنين في 2005 و2010 باستبدال السندات القديمة بسندات سارية في مقابل شطب 70 في المائة من قيمة السندات القديمة، وذلك قبل انتهاء المدى الزمني المحدد لهذا النص في 31 كانون الأول (ديسمبر) القادم. لذلك تفضل الأرجنتين التخلف عن السداد بدلا من تنفيذ الحكم القضائي، كوسيلة لممارسة الضغط على المجموعة وإجبارها على القبول بالتسوية التي تعرضها مثلها مثل غيرها من الدائنين للأرجنتين بالسندات التي تخلفت الأرجنتين عن سدادها.
من الناحية العملية كان هناك أربعة خيارات على الأقل أمام الحكومة الأرجنتينية والمتمثلة في الآتي:
1. أن تسدد مستحقات مجموعة NML بالكامل وهو ما يفتح الباب أمام مطالبات جميع الدائنين بالمعاملة بالمثل بتكلفة مالية فادحة كما أشرنا أعلاه.
2. أن تحاول اقناع كافة الدائنين بالتخلي عن شرط "الحقوق في العروض المستقبلية" لتتمكن من التفاوض بقدر أكبر من الحرية مع المجموعات الرافضة لشطب جانب من الديون دون أن تتعرض للمطالبات من باقي الدائنين، غير أن هذا الخيار سيتطلب وقتا طويلا للتوصل إلى اتفاق حوله.
3. أن تتوصل إلى اتفاق مع المجموعة لتأجيل دفع مستحقاتها إلى ما بعد انتهاء شرط "الحقوق في العروض المستقبلية" حتى يمكن أن تتفاوض بحرية مع المجموعة، وهو ما رفضته المجموعة، فمن وجهة نظرها أن هذا النص لا يجب أن يكون أساسا لرفض التزام الأرجنتين بالسداد باعتبار أن هذا النص مفروض بصورة ذاتية من الحكومة الأرجنتينية.
4. أن تتوقف الأرجنتين عن خدمة المستحق من التزامات لتعلن بذلك ضمنا إفلاسها، ولكنه خيار كما هو واضح فادح التكلفة.
مساء يوم الأربعاء الماضي، وقبل إرسال هذا المقال إلى الاقتصادية أعلنت وكالة ستاندرد آند بورز للتصنيف الائتماني أنها خفضت تصنيفها الائتماني للأرجنتين إلى درجة "الإفلاس الانتقائي"، بسبب تجاوز المفاوضات بين الحكومة وصندوق التحوط لساعة الصفر المحددة لسداد الـ 539 مليون دولار الفوائد على الدين الأرجنتيني بسبب عدم قدرة المصرف على تحويل الفوائد للدائنين، نظرا لعدم التوصل إلى اتفاق مع المجموعة، وأن الوكالة ستراجع هذا التصنيف في ضوء ما ستسفر عنه الأحداث خلال الأيام المقبلة من خدمة الأرجنتين لديونها. بعد ساعة من إعلان ستاندرد آند بورز إفلاس الأرجنتين أعلن وزير الاقتصاد الأرجنتيني أنه من الصعب التصديق بإفلاس الأرجنتين على الرغم من توافر الأموال اللازمة لخدمة ديونها، بينما أعلن دانيل بولاك الوسيط الذي عينته المحكمة أنه لم يتم التوصل إلى حل للخلاف بين الأرجنتين ودائنيها، وأن الأرجنتين تعتبر وفقا لذلك دولة مفلسة، بينما أعلن وزير الاقتصاد الأرجنتيني أن بلاده ستستمر في سداد مستحقات الـ 92 في المائة من حملة السندات الذين قبلوا عمليات الشطب في موعدها، وأن الأرجنتين قد عرضت على الرافضين للشطب التسويات نفسها التي قامت بها في 2005 و2010، ولكنهم رفضوا، وأن الأرجنتين لا تستطيع أن تلبي طلباتهم.
بهذه النتيجة تدخل الأرجنتين أعتاب حالة الإفلاس الثانية في غضون 13 عاما، والتي من المتوقع أن تقتصر آثارها هذه المرة على الأرجنتين ولا تمتد عدواها إلى الدول الأخرى، ووفقا لصندوق النقد الدولي الذي لا يتوقع أن يكون هناك تأثير خارجي لعملية الإفلاس، بعكس الحال في حالة الإفلاس في 2001.
أما بالنسبة للأرجنتين فستستمر حالة عدم قدرتها على الوصول إلى أسواق رأس المال لإصدار المزيد من السندات، لكن الخطر الأكبر يكمن في سيادة حالة عدم التأكد نفسها التي سادت الأرجنتين في أزمة 2001، وهو ما يدفع الى زيادة الطلب على الدولار ورفع سعره في السوق السوداء، ووفقا لآخر البيانات المتاحة فقد ارتفع سعر الدولار إلى الضعف تقريبا بالنسبة للبيزو. من ناحية أخرى، من المتوقع أن يرتفع معدل التضخم نتيجة لذلك وتتعمق حالة الركود التضخمي التي تمر بها الأرجنتين حاليا. أما بالنسبة للرافضين لخطط التسوية فسيخسرون ورقتهم الأساسية المتمثلة في التهديد بالتسبب في إفلاس الدولة، بينما سيصبح من حق حملة السندات السارية وفقا لشروط تلك السندات طلب السداد الفوري لكامل قيمتها والتي تقدر بنحو 29 مليار دولار، ولكن الحكومة الأرجنتينية لا تتوقع قيامهم بذلك، خصوصا أن وزير الاقتصاد أعلن أن بلاده ستستمر في خدمة ديونها، كما أشير أعلاه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق