لا أذكر أني قضيت وقتا مع كتاب آخر، مثلما فعلت مع هذا الكتاب لتيموثي جايثنر وزير الخزانة الأمريكي في فترة ولاية الرئيس باراك أوباما الأولى، أعيد فصوله من وقت لآخر، فالممتع في هذا الكتاب أنه يروي أحداث الأزمة المالية والاقتصادية التي مرت بها الولايات المتحدة والعالم منذ 2008 بفصولها المختلفة من داخل المطبخ الاقتصادي، وعلى يد الطاهي الرئيس، الذي تسلم الوزارة بعد عدة أشهر من نشوب الأزمة، وبعد أن تعامل من خلال منصبه كرئيس للاحتياطي الفيدرالي بنيويورك مع الإرهاصات الأولى للأزمة والمحاولات المستميتة للسيطرة على انهيار النظام المالي الأمريكي بالحيلولة دون إفلاس المصارف الكبرى في الولايات المتحدة وغيرها من مصارف الظل التي تدخل ضمن تصنيف المؤسسات "الأكبر من أن تسقط".
"اختبار ضغط" Stress Test هو اسم الكتاب الذي ألفه جايثنر ليضع فيه خلاصة تجاربه في التعامل مع الأزمات المالية في العالم، وبصفة خاصة الأزمة الأخيرة في الولايات المتحدة. اختبار الضغط هو نوع من الاختبارات التي تجرى في المجال المصرفي، وقد أجراه جايثنر على المصارف الأمريكية في 2009 ليخضعها لسيناريوهات مختلفة للخسائر الرأسمالية التي يمكن أن تتعرض لها، من أجل تحديد مدى حاجتها لتقوية هياكلها الرأسمالية لمواجهة أصعب السيناريوهات المحتملة للأزمة، وقد أحدث هذا الاختبار جدلا واسعا حول العالم، وأدت نتائجه بالحكومة الأمريكية إلى إجبار المصارف الكبرى على زيادة رؤوس أموالها للحد من احتمالات حدوث حالات سقوط كبرى، كتلك التي نتجت عن إفلاس بنك ليمان براذرز.
لحظة بلحظة يروي جايثنر أحداث أزمة ليمان الذي لم يفكر أحد في إنقاذه، وإنما انصب اهتمام الجميع في ذلك الوقت على تسهيل عملية بيعه لمشتر داخل الولايات المتحدة أو خارجها، لنقل مخاطره المالية للمشتري الجديد، مثلما حدث مع بيع بنك بير شتيرنز إلى جي بي مورجان، وتناول بالتفصيل أحداث الزلزال الذي تبع سقوطه، والتحول الهائل في وجهة النظر الأمريكية حول كيفية مواجهة مخاطر إفلاس المؤسسات المالية سواء المصرفية أو غير المصرفية منها وحتى الصناعية مثل جنرال موتورز.
عندما بدأت الأزمة المالية تضرب قواعد الاقتصاد الحقيقي تمحورت الأزمة المالية من مشكلة نقص في السيولة وعزوف أصحاب رؤوس الأموال عن استثمارها، إلى أزمة اقتصادية طاحنة أعادت للأذهان أحداث الكساد العالمي العظيم. فقد أخذت معدلات البطالة في التصاعد على نحو خطير، وبدأ سوق العمل الأمريكي يفقد شهريا أكثر من 750 ألف وظيفة، وبدأ الإنفاق الكلي في الانحسار على نحو خطير، وكان لا بد من تطوير آليات التعامل مع الأزمة من مجرد عملية إنقاذ للمؤسسات المالية إلى أدوات أخرى على صعيد السياسة المالية والنقدية، وقد تركت مهمة إدارة السياسة النقدية لبن برنانكي رئيس الاحتياطي الفيدرالي، بينما أدار جايثنر دفة السياسة المالية، حيث تم إقرار برنامج للتحفيز المالي للاقتصاد الأمريكي، تمثل في خطة أوباما الأولى لإنقاذ الاقتصاد من الانهيار، كلفت نحو 800 مليار دولار، وعندما لم يستجب الاقتصاد على النحو المتوقع، تمت صياغة خطة ثانية لدعم خلق الوظائف في أمريكا.
لسوء حظ أوباما أنه ورث إرثا سيئا للغاية من سلفه بوش الابن الذي غامر بدخول الولايات المتحدة حربين متتاليتين، ورفع الإنفاق العسكري إلى مستويات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، مصحوبا بصعود الدين العام الأمريكي على نحو خطير، وقبل أن يغادر البيت الأبيض سلم الرئيس الجديد اقتصادا شبه منهار. لم تكن مهمة أوباما سهلة مع تحول خصومه من الجمهوريين إلى حجر عثرة أمام أي إجراء يريد الرئيس اتخاذه. ففي غضون تعقد الأوضاع المالية وتصاعد الدين العام الأمريكي بدأ تكون ما يعرف بـ "حزب الشاي" Tea Party بين أعضاء الكونجرس من الحزب الجمهوري المناهض لأوباما، وكان صقور الحزب قد أعلنوا حربا شعواء على الرئيس برفض إقرار أي خطط يقترحها حتى ولو كانت صحيحة، وقد كان من الأمور المثيرة للشفقة أن يتحدث هؤلاء عن السيطرة على الإنفاق ومحاصرة الديون، ورفض أية دعاوى لرفع سقف الدين الأمريكي، حتى ولو ترتب عليها إعلان إفلاس الولايات المتحدة. من قاموا برفع سقف الدين العام الأمريكي لسبع مرات متتالية في عهد بوش رفضوا مقترح لرفع سقف الدين لأوباما، وترتب على تعثر المفاوضات مع الرئيس إلى إعلان مؤسسة ستاندرد آند بورز تخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة لأول مرة في تاريخها، بحيث فقدت أدوات الدين الأمريكي ما كانت تتمتع به من أمان تقليدي.
يروى جايثنر محاولات الحزب الجمهوري إغلاق الحكومة الأمريكية أكثر من مرة، وقد كان الكاتب يتمنى أن تحدث عملية إغلاق الحكومة حتى يتعرى حزب الشاي للجمهور الأمريكي، ويظهر للناخب أن الحزب في سبيل أهدافه السياسية مستعد للتضحية بالمؤسسات الحكومية التي تخدم رجل الشارع وتوظف مئات الآلاف منه، وقد حدث بالفعل أن تم إغلاق الحكومة لأسابيع قليلة قبل أن يتم التوصل إلى اتفاق لتجاوز الخلافات المالية بين الرئيس والجمهوريين وإنهاء ما عرف في ذلك الوقت بالهاوية المالية Fiscal Cliff، وإقرار خطط مالية للسيطرة الإجبارية على أوضاع المالية العامة الأمريكية أو ما عرف بعملية الـ Sequestration.
عندما تمت إعادة انتخاب أوباما وفشلت محاولات نده ميت رومني في إقناع الأمريكيين بأن أحوالهم المعيشية وقت الانتخابات أسوأ بكثير منها عندما دخل أوباما البيت الأبيض، أدار أوباما ظهره للجمهوريين وأعلن أنه لن يتفاوض معهم ولن يقدم أية تنازلات لاحقا حول قضايا خفض الإنفاق ورفع سقف الدين، في الوقت الذي لقنت فيه الانتخابات حزب الشاي درسا قاسيا في أن التطرف في استخدام الأدوات السياسية قد يكون مدمرا للحزب وأعضائه وقد يفقدهم الأغلبية في مجلس النواب، وأن الشعب الأمريكي قد أصابه الملل من هذه المناورات السياسية الرخيصة التي لا تصب في مصلحته وإنما لإرضاء من يشعلون نيران هذه الحروب التي لا طائل من ورائها.
يتناول الكتاب أيضا محاولات إصلاح النظام المالي العالمي بهدف الحد من شهية المؤسسات المالية لتحمل المخاطر المرتفعة لتحقيق مزيد من الأرباح، التي ترتب عليها تبني الخطة الأمريكية في هذا الجانب، والتي تحولت إلى ما يعرف ببازل 3 اليوم، وكان المقترح الأوروبي يدور حول فرض ضرائب على المعاملات المالية التي تجريها المؤسسات المالية، أو ما يعرف بضريبة توبن، لكن رفض الولايات المتحدة المقترح أدى إلى وأد الفكرة على الرغم من التأييد الكبير لها على المستوى الدولي، وقد كان هناك أجندة طويلة للإصلاح، غير أن جانبا كبيرا منها لم ينفذ ربما مع تحسن أوضاع الاقتصاد الأمريكي، حيث خبا صوت المنادين بالإصلاح للحد من طموحات قادة المؤسسات المالية.
وأخيرا يتناول الكتاب تحليلا متميزا لمشكلات أوروبا في أثناء الأزمة، خصوصا منطقة اليورو، والأخطاء التي وقع فيها الاتحاد الأوروبي ونفي مواجهة مشكلة الديون السيادية، وجوانب الضعف الهيكلي الحالي لمنطقة اليورو، وأخطاء أوروبا في تبني خطط للتقشف لمعالجة الأزمة والانعكاسات المستقبلية لها، والنصائح التي قدمها جايثنر للأوروبيين في اجتماع وزراء المالية للسيطرة على المخاطر المحيطة بالقارة، وردة الفعل العنيفة التي قوبلت بها تصريحاته، بأن وزير الدولة التي تسبب في الأزمة هو آخر من يستمع له، وقد أثبتت الأحداث أن جايثنر على صواب في كل جملة قالها، فها هي منطقة اليورو ما زالت ترزح تحت نير الكساد، والأوضاع الاقتصادية تنتقل فيها من سيئ إلى أسوأ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق