الخميس، سبتمبر ١٦، ٢٠١٠

إعادة فتح ملف خصخصة عمر أفندي

أنا من مؤيدي الخصخصة قلبا وقالبا، وأرى في الملكية العامة للمشروعات مشكلة كفاءة أساسية وهدر للموارد، في مقابل سلع أو خدمات سيئة الجودة، وأدعو دائما إلى الخصخصة لرفع مستوى رفاهية المستهلك ورفع جودة السلع والخدمات المقدمة له، غير أن ما حدث في حالة خصخصة عمر أفندي، هو شيء مختلف تماما، إنه بكل المقاييس كارثة اقتصادية انتهت بفقدان مصر لأحد معالمها الشهيرة التي كانت منتشرة عبر كافة أنحاءها تقريبا. عمر أفندي اسم تجاري عريق، يعمل في مصر منذ حوالي 150 سنة، ويتكون من 82 فرعا تقع في أفضل المواقع في مصر من شمالها إلى جنوبها، وهو بهذا الشكل، للعالمين ببواطن الأمور، يحمل قيمة اقتصادية هائلة جدا تتمثل في ثمن الأراضي والمباني وحقوق التأجير التي تملكها السلسلة في تلك المواقع المميزة، والتي تزداد قيمتها كل ساعة تقريبا، وليس كل يوم. ومن ثم يكفي لأي مالك للسلسلة أن يجلس في بيته، ليتابع تطورات أسعار القيمة الرأسمالية للسلسلة، حتى وان لم تفتح أبوابها، أو فتحت أبوابها بصورة صورية مثلما يحدث اليوم.

عندما استولت حركة يوليو على مقاليد الأمور في مصر، أدرجت سلسلة محلات عمر افتدى ضمن المشروعات الاقتصادية سيئة الحظ والمرشحة للتأميم، وقبل تأميمها كانت عمر أفندي تعد أحد سلسلة المحلات الفاخرة في مصر والشرق الأوسط، حيث كانت تبيع أرقى أنواع البضاعة وأحدث الموضات العالمية، وعندما تم تأميم سلسلة محلات عمر أفندي، مثلها مثل غيرها من المشروعات الخاصة، ضمن خطة الدولة الرامية إلى القضاء على القطاع الخاص، وفقا لمبدأ "القضاء على الإقطاع وسيطرة رأس المال على الحكم"، وهو أحد المبادئ الستة لحركة يوليو، حتى بدأت أوضاع السلسلة في التدهور الشديد، وبعد ان كانت السلسلة تبيع أحدث صيحات الموضة من أوروبا مباشرة، تحولت إلى محلات لبيع قماش الكستور الرديء الصنع والجودة.

من الطبيعي أن تتحول عمر أفندي بمرور الوقت إلى سلسلة غير ذات جدوى اقتصادية وتكلف الدولة ملايين الجنيهات سنويا في صورة خسائر تحققها الشركة المتخمة بالعمال، والذين لا يملكون أي حس في فن التسويق أو البيع، ومن ثم بدأ التفكير في التخلص من السلسلة بأي ثمن، وبالفعل تم بيع السلسلة بثمن زهيد جدا، لتبدأ المحنة الثانية للسلسلة، والتي يبدو أنها ستكون الأخيرة قبل أن تكتب شهادة وفاة سلسة محلات عمر أفندي، فحاليا عندما أمر على فروع السلسلة في القاهرة الكبرى أطيل النظر إليها على أساس أنني ربما في العام القادم لا أرى هذا الاسم، فمن المؤكد أن السلسلة، على يد المستثمر الجديد، سوف تتحول قريبا إلى جزء من الماضي ويافطات عمر أفندي تستعد حاليا لاستضافة أسماء أخرى كثيرة ومتعددة لتحل محل السلسلة الشهيرة. الضحية الأولى لعملية الخصخصة القذرة التي تمت لعمر أفندي هم المال العام في مصر أولا، وآلاف العمال الذين تم تسريحهم ثانيا، والمستهلك المصري والعربي ثالثا. عمليات الخصخصة لها أصول ومبادئ أولها التقييم الصحيح للقيمة الفعلية التي يمثلها الأصل الذي سيتم بيعه، وأن تجرى عمليات تأهيل للأصل قبل خصخصته لكي يكون مستعدا للتعامل مع معطيات الملكية الخاصة له، وهو ما لم يتم في حالة صفقة خصخصة عمر أفندي.

لقد تعودت كل سنة في نهاية إجازتي الصيفية أن أذهب إلى فرع سلسلة عمر أفندي المكون من ثمانية أدوار والكائن بشارع مراد في الجيزة، حيث أسكن، والذي يعد أحد لآلئ عمر أفندي، لكي اشتري بعض حاجياتي الأساسية. هذه السنة عندما ذهبت إلى المحل صعقت عندما رأيت الحال المزرية التي صار إليها الفرع، حيث وجدت الفرع تسكنه الخفافيش والأشباح، وتحول الفرع الذي كان سابقا ليس فيه موطأ لقدم من جميع الجنسيات لا توجد فيه بضاعة على الإطلاق، ليس في المحل سوى بضعة حراس في صورة عمال على وشك إنهاء عقودهم يقفون ليردوا على الزبائن المغفلين أمثالي، بأن المحل لا توجد به بضاعة، ذهبت فورا إلى الفرع الآخر لعمر أفندي والكائن في ميدان الجيزة، على بعد عشرات الأمتار، فوجدت الحال أسوأ والفرع أقذر، وسألت العامل (اقصد الحارس)، ما الذي حدث، فكانت الإجابة هي "خصخصة".

أشتم في صفقة خصخصة عمر أفندي لعبة قذرة وأشياء كثيرة مثيرة للشبهة، ومخطط تم رسمه بصورة ذكية جدا من أحد شياطين البزنس الجدد في مصر، بحيث يبدو للعيان ان السلسلة بعد خصخصتها قد تحولت إلى مشروع أعمال غير مجد اقتصاديا، أو شبه مفلس، لتبدأ عملية البيع بالتجزئة، أو إعادة التأجير، للممتلكات العقارية التي تمتلكها السلسلة، والتي يبدو أنها كانت محط الاهتمام الأول للمستثمر الذي اشترى السلسلة في عملية الخصخصة.

عندما أخذت أبحث بصورة أكثر عن تفاصيل العملية صعقت من البيانات المنشورة، فممتلكات عمر أفندي تفوق الثمن الزهيد الذي دفع في السلسلة بعشر مرات تقريبا! فقد بيعت السلسلة بحوالي 655 مليون جنية (أكثر قليلا من مائة مليون دولارا)، بينما تقدر العقارات التي تمتلكها السلسلة بأكثر من خمس مليارات جنيه. خصخصة عمر أفندي كما تبدو لي عملية بيع قذرة، تم صياغتها على نحو قانوني في مناخ تفوح منه رائحة الفساد ليتم تخطيط عملية تحويل السلسلة إلى سلسلة مفلسة، حتى يتوفر الغطاء القانوني لجني الأرباح الخيالية من إعادة بيع عقارات السلسلة من أراضي ومباني وحقوق إيجار. من أقوى الترشيحات أن يتم إعادة بيع السلسلة لقطر لتلحق سلسلة محلات هارودز الشهيرة في بريطانيا، فقبل تأميمها كانت عمر أفندي هارودز مصر، والمبنى الأساسي لها في شارع عبد العزيز مشابه لمبنى هارودز، مع الفارق في أن مبنى هارودز يتم صيانته، بينما مبنى عمر افندي بشارع عبد العزيز يتم اهماله. من الافكار التي تدور برأس المستثمر هو أن تتم إعادة تأجير ممتلكات السلسلة لمشروعات مثل كارفور، وهي صفقة رابحة بكل المقاييس.

للأسف فإن إعادة فتح ملف صفقة خصخصة عمر أفندي لن يفيد مصر، لأن العقد على ما يبدو قد تم صياغته بصورة ذكية جدا، بحيث تتكبد الحكومة المصرية خسائر فادحة من أي عملية تحكيم تتم على عقد البيع، ومن ثم تفقد الحكومة أي اهتمام بمتابعة الموضوع لاحقا، هذا إذا كانت مهتمة أصلا. رائحة الفساد في صفقة عمر أفندي تزكم الأنوف، ولكن من فتح ملف صفقة عمر أفندي نريد فقط أن نعرف من قبض ثمن بيع سلسلة عمر أفندي قبل أن نلفها في كفنها لتختفي من حياتنا إلى الأبد. فالسلسلة التي خدمت ملايين المستهلكين في مصر والعالم تستحق على الأقل شهادة وفاة محترمة لتضع الذين كانوا وراء هذه الصفقة أمام محكمة التاريخ.

هناك ٤ تعليقات:

  1. أخطر آفة في مصر والعالم العربي والاسلامي

    ردحذف
  2. نهاية محزنة لسلسلة محلات أشهر من نار على علم.

    عندما كنا نزور مصر و نحن صغار المحلات الوحيدة التي يكنت أذكرها هي سلسلة عمر أفندي.

    ردحذف
  3. شكرا مساعد،
    هي نهاية محزنة جدا، للسلسلة، ولكن ما يحز في القلب أن الموضوع كما يبدو شبه مدبر.

    ردحذف