الجمعة، ديسمبر ٠٩، ٢٠١١

ترتيبات جديدة لتبادل السيولة بين البنوك المركزية

نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية يوم الجمعة 9/12/2011
أعلن مجلس المحافظين للاحتياطي الفدرالي يوم الأربعاء الماضي، وكذلك الخمس بنوك المركزية الرئيسة في العالم وهي البنك المركزي الأوروبي، والبنك المركزي الياباني والبنك المركزي البريطاني والبنك المركزي الكندي والبنك المركزي السويسري عن عقد اتفاق فيما بينها يقضي بأن تقوم بتبادل ترتيبات السيولة المتبادلة Liquidity Swaps بالعملات المحلية للبنوك المركزية الستة لاقتراض الكميات التي تحتاج إليها من عملات هذه البنوك، بصفة خاصة الدولار الأمريكي، وذلك بمعدلات فائدة منخفضة لتمكين هذه البنوك المركزية من مواجهة احتياجات السيولة الطارئة للبنوك التجارية التي تتبعها، ووفقا للبنوك المركزية الست فإن المدة المقترحة لهذه الترتيبات ستكون على مدى الفترة من 5 ديسمبر 2011 حتى الأول من فبراير 2013.
اتفاقيات ترتيبات السيولة المتبادلة تهدف إلى تجنب حدوث هزة جديدة في الأسواق المالية العالمية وتخفيض المخاطر المحيطة بالدول الأوروبية والناجمة عن تعقد أزمة ديونها السيادية، مع تراكم المؤشرات على قرب حدوث أزمة سيولة عالمية، يمكن أن يترتب عليها انهيار بعض البنوك التجارية، بصفة خاصة في أوروبا، مما قد يؤدي إلى تكرار سيناريو إفلاس بنك ليمان براذرز الذي ترتب عليه انطلاق الأزمة المالية العالمية من الولايات المتحدة إلى كافة أنحاء العالم. ذلك أن انخفاض السيولة لدى البنوك الأوروبية يدفع بمعدلات الفائدة نحو الارتفاع، وهو ما يؤثر بصورة سلبية على الطلب الكلي ومستويات النشاط ومعدلات النمو في وقت تسعى فيه الدول إلى تحفيز النمو في اقتصاداتها. في خطوة موازية لهذا الاتفاق بين البنوك المركزية الرئيسة في العالم قام أيضا البنك المركزي الصيني باتخاذ خطوات لتشجيع عمليات الإقراض للبنوك الصينية وتخفيض تكلفته عليها وتوفير السيولة اللازمة لذلك.
اتفاقيات ترتيبات السيولة المتبادلة بين الاحتياطي الفدرالي والبنوك المركزية الأخرى في العالم ليست جديدة، وإنما مورست على نطاق واسع فيما سبق لتمكين البنوك المركزية من تدبير احتياجاتها بالدولار الأمريكي خلال فترة زمنية محددة، ولتوضيح المقصود بهذه الترتيبات وآلية عملها في حالة الدولار الأمريكي، نفترض أن هذه الترتيبات المتبادلة سوف تتم مع البنك المركزي الأوروبي. يتم تنفيذ هذه الاتفاقيات في حال تعرض البنوك التجارية في منطقة اليورو لنقص في السيولة، على النحو التالي:
-          يقوم البنك المركزي الأوروبي بحصر احتياجات السيولة الطارئة للبنوك التجارية في منطقة اليورو من الدولار الأمريكي، ثم يقوم بطلب تدبير هذه الكمية من الدولار من الاحتياطي الفدرالي، الذي بدوره يقوم بتدبير هذه الاحتياجات على نحو سريع للبنك المركزي الأوربي.
-          يقوم البنك المركزي الأوروبي بتحويل ما يوازي هذه التسهيلات الائتمانية الدولارية بعملته المحلية (اليورو) إلى الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، على أساس معدل الصرف السائد بين الدولار واليورو وقت التحويل.
-          يتولى البنك المركزي الأوروبي توفير احتياجات البنوك التجارية من الدولار الذي تم تدبيره من خلال ترتيبات السيولة المتبادلة مع الاحتياطي الفدرالي.
-          عند انتهاء مدة ترتيبات السيولة المتبادلة يقوم البنك المركزي الأوروبي بإعادة الكميات المقترضة من الدولار إلى الاحتياطي الفدرالي واسترداد ما تم تقديمه من يورو في مقابل هذه التسهيلات الائتمانية.
-          عادة ما يتم تقديم هذه الترتيبات الائتمانية بمعدلات فائدة منخفضة نسبيا وذلك لتقليل تكلفة تدبير السيولة على البنوك التجارية وتشجيع هذه البنوك على الاقتراض في اطار هذه الترتيبات لمواجهة أي مخاطر للسيولة يمكن أن تتعرض لها، ووفقا للاتفاقية الأخيرة سوف يتم حساب معدل الفائدة على هذه الترتيبات الائتمانية من خلال استخدام الرقم القياسي لمعدل الفائدة على الترتيبات الائتمانية الدولارية المتبادلة لمدة ليلة بالإضافة إلى نصف في المئة فقط، مقارنة بنسبة 1% كان يتم إضافتها على الرقم القياسي مسبقا، وبما أن الرقم القياسي لمعدل الفائدة على الترتيبات الدولارية المتبادلة يقترب حاليا من الصفر، فإن هذه المعدلات المتدنية للفائدة تعني ضمنا أن الاحتياطي الفدرالي سوف يوفر هذه التسهيلات الائتمانية للبنوك التجارية الأوروبية بتكاليف أقل من تلك التي تحصل عليها البنوك التجارية الأمريكية والتي تدفع حاليا معدل للخصم يساوي 0.75% على قروضها من نافذة الخصم لدى الاحتياطي الفدرالي، الأمر الذي يقلل من تكلفة مثل هذه الترتيبات ويساعد على حل مشكلة نقص السيولة الدولارية بتكاليف زهيدة.
-          يقوم البنك المركزي الأوروبي بتحويل مدفوعات الفائدة على هذه القروض بالكامل إلى الاحتياطي الفدرالي دون أن يحقق عوائد خاصة على مثل هذه العمليات من البنوك التجارية المقترضة.
-          لضمان عدم تعرض الاحتياطي الفدرالي، وكذلك البنك المركزي الأوروبي، لأي مخاطر ناجمة عن تقلبات معدل الصرف بين الدولار الأمريكي واليورو يتعهد البنك المركزي الأوروبي بأن يقوم بإعادة تسديد هذه التسهيلات بنفس معدل الصرف الذي تم على أساسه تحويل الدولار إلى اليورو يوم التحويل، وهو ما يعني ضمنا تثبيت معدل الصرف بين الدولار واليورو بالنسبة لهذه الترتيبات المتبادلة. من هذا المنطلق فإن المخاطر التي يتعرض لها الاحتياطي الفدرالي في هذا النوع من المعاملات تعد منعدمة، حيث سيتم تجنب مخاطر الصرف في هذه الترتيبات.
-          إذا تعرض أي بنك من البنوك التجارية المقترضة لهذه التسهيلات للإفلاس، فإن البنك المركزي الأوروبي يظل ملتزما بسداد هذه التسهيلات الائتمانية مرة أخرى للاحتياطي الفدرالي في الموعد المتفق عليه للسداد.
نفس هذه الترتيبات سوف يقوم بها البنك المركزي لأي من البنوك الست لتوفير عملته للبنوك المركزية الخمس الأخرى إذا احتاجت إلى ذلك، معنى هذا أن البنوك التجارية للدول المشتركة في الاتفاقيات سوف يتم تدبير احتياجاتها بالدولار الأمريكي واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني والفرنك السويسري والدولار الكندي إذا ما احتاجت إلى ذلك وبمعدلات فائدة مخفضة.
من الواضح أن الترتيبات الائتمانية المتبادلة سوف تؤدي إلى تكثيف سياسات النقود الرخيصة حول العالم وذلك لتسهيل عمليات البنوك وكذلك لتيسير الطلب على الأصول المالية في أسواق المال بما يساعد على الحد من تراجع مؤشرات الأسواق العالمية في ظل تصاعد المخاطر المحيطة بالديون السيادية الأوروبية. حيث يتصاعد القلق الدولي حول الصورة المالية السيئة التي تنعكس بشكل متزايد من أوروبا هذه الأيام، بصفة خاصة من اليونان وإيطاليا والتي ترتب عليها تغيير القادة السياسيين في الدولتين.
ولكن ما الذي يدفع الاحتياطي الفدرالي للإقدام على مثل الخطوة؟ ولماذا الدولار بالذات؟ الإجابة على هذا السؤال تكمن في أن البنوك التجارية في الكثير من دول العالم تواجه صعوبة في اقتراض احتياجاتها من الدولار، وذلك للوفاء بالالتزامات الدولارية المتزايدة عليها، وفي ذات الوقت مواجهة الطلبات المتزايدة من عملاءها باقتراض الدولار. من ناحية أخرى فإن الجانب الأكبر من المعاملات المالية العالمية، كما هو معلوم، تتم أساسا بالدولار الأمريكي.
الاتفاق الذي قام به الاحتياطي الفدرالي تعرض للانتقاد داخل أمريكا من منطلق أن تركيز الاتحاد الفدرالي ينبغي أن يكون موجها نحو الولايات المتحدة، وليس نحو البنوك التجارية في الخارج، ولكن المنتقدين ربما لا يدركون حقيقة أن تعرض أوروبا لمخاطر مصاحبة لنقص السيولة بها سوف ينعكس سلبا على معدلات النمو في الولايات المتحدة، ومن ثم فإن مساعدة الاحتياطي الفدرالي للبنك المركزي الأوربي في هذا الجانب يدخل أيضا ضمن جهود حماية الاقتصاد الأمريكي بالتبعية، ومن ثم فإن اشتراك الاحتياطي الفدرالي في مثل هذه الترتيبات يهدف إلى تأمين الاقتصاد الأمريكي من أية تطورات مفاجئة على الشاطئ الآخر للأطلنطي يمكن أن تجر على الولايات المتحدة الكثير من المتاعب، نتيجة انتقال العدوى المالية من أوروبا لو تعرضت أي من الدول المدينة لمخاطر التعثر، في وقت هي أحوج ما تكون فيه لتجنبها.
من ناحية أخرى فإن المؤسسات المالية الأمريكية لا تواجه في الوقت الحالي أية مشكلات في توفير السيولة اللازمة لها، في الأجل القصير، ولكن اذا تعقدت الأمور داخل الولايات المتحدة فإن الاحتياطي الفدرالي لديه العديد من الأدوات المتاحة التي تمكنه من توفير السيولة لهذه المؤسسات عند اللزوم لدعم الاستقرار المالي لهذه المؤسسات وتوفير الائتمان اللازم لها.
بقي أن نشير إلى أنه على الرغم من أهمية الخطوة في تخفيف ضغوط المخاطر التي تحيط بالاقتصاد العالمي إلا أنها مرة أخرى تتعامل مع أعراض الأزمة وليس مع مسبباتها الجوهرية والتي تهدد الوحدة النقدية الأوروبية حاليا، ومن ثم فإن التأثير المتوقع للاتفاق ربما يكون وقتيا، على سبيل المثال صرح محافظ البنك المركزي الياباني بأن حل أزمة أوروبا لا يكون بمزيد من السيولة فقط، في إشارة إلى ضرورة الاهتمام بالجوانب الاقتصادية والمالية لدول اليورو من أجل تخفيض حجم الديون السيادية، والتي تمثل مربط الفرس في التعامل مع الأزمة. المشكلة التي يواجهها العالم اليوم، بصفة خاصة الدول المدينة هي تعارض سياسات تخفيض الدين مع سياسات تحفيز النمو. فقد حظي النوع الثاني من السياسات بأولوية أولى في بداية الأزمة المالية العالمية، مما ترتب عليه تصاعد مشكلة الديون، الآن التعامل مع مشكلة الديون يتطلب بصورة أساسية انتهاج سياسات تقشفية لوضع الديون تحت السيطرة وهو ما يؤدي إلى آثار انكماشية ومن ثم تعمق تأثير الأزمة الاقتصادية الحالية.

هناك تعليق واحد: