السبت، مايو ١٢، ٢٠١٢

منطقة اليورو بين الحاجة إلى النمو وضرورة التقشف 2/2

نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الجمعة 11/5/2012

في مواجهة تصاعد أزمة الديون في أوروبا انصرف اهتمام صناع السياسة الاقتصادية في أوروبا، وكذلك وصفات العلاج المقترحة من صندوق النقد الدولي، على ضرورة انتهاج الدول المدينة في منطقة اليورو لسياسات التقشف المالي Austerity، تتمثل سياسات التقشف المالي في ضرورة خفض مستويات الإنفاق الحكومي ورفع إيرادات الضرائب بهدف السيطرة على العجز المالي أو الحد من تصاعد معدلاته إلى الناتج المحلي الإجمالي. السيناريوهات المتاحة حاليا تشير إلى أن دول المنطقة تسير بالفعل في هذا الجانب، على سبيل المثال يوضح الجدول رقم (1) نسبة عجز الميزانية إلى الناتج المحلي في دول منطقة اليورو وتوقعات نسبة العجز إلى الناتج حتى عام 2013، ومن الجدول يلاحظ ميل معدلات العجز إلى الناتج المحلي في دول منطقة اليورو نحو التراجع بصورة واضحة بصفة خاصة في دول الـ PIIGS بفعل الأثر المتوقع لهذه السياسات التقشفية.
قد تبدو سياسات التقشف جذابة من الناحية النظرية للسيطرة على النمو في الدين العام ووضع المالية العامة للدول نحو السيطرة، غير أن المشكلة هي أن تلك السياسات سوف تكون مكلفة جدا للدول المدينة، لأنها سوف تخفض مستويات الطلب الكلي، على سبيل المثال فإن رفع معدلات الضريبة سوف يخفض مستويات الدخل بعد الضريبة، كما أن خفض مستويات الإنفاق الحكومي سوف يقلل الإنفاق الكلي وكلاهما يؤديان إلى خفض معدلات النمو ومن ثم رفع معدلات البطالة. كذلك ارتفعت درجة عدم الاستقرار السياسي في الكثير من الدول المدينة نتيجة لسياسات التقشف، فالآلاف من الناس تنزل الشوارع من وقت لآخر في الدول المدينة اعتراضا على عمليات الخفض المتزايد في الإنفاق الحكومي والتي تؤثر بصولة سلبية على خدمات التعليم والصحة وغيرها من الخدمات العامة، كما لم تتمكن الأحزاب التي وقعت اتفاقيات الإنفاذ التي صاحبها تطبيق السياسات التقشفية من تشكيل حكومة أغلبية في اليونان، أكثر من ذلك فإن العزم السياسي نحو رفض خطط التقشف يتصاعد في كافة أنحاء المنطقة.


من الواضح أن الروشتة التي تتبعها منطقة اليورو حاليا ليست الروشتة المناسبة، فعلاج مشكلات المنطقة ليس في تبني سياسات تقشفية وإنما العلاج الصحيح للمشكلة الأوروبية هو في دعم النمو وليس في تعطيله، فمنذ عدة أيام نبه ماريو دراغي محافظ البنك المركزي الأوروبي إلى "أن التقشف الذي تتبعه دول المنطقة بدأ يترك آثاره الانكماشية على اقتصاديات المنطقة". فما سيحدث من الناحية الفعلية هو أن برامج التقشف ربما تقلل من عجز الميزانية على نحو أولي في البداية، غير أن تراجع النمو سوف يؤدي إلى تعقد الوضع وزيادة العجز على نحو معاكس لا حقا.
انتهاج سياسات تقشفية وتراجع معدلات النمو لا يقتصر أثره على الدول التي تطبق مثل هذه السياسات، وإنما ينتقل أثره إلى الدول الأخرى من خلال قنوات التجارة. فأخذا في الاعتبار ارتفاع مستويات التجارة البينية بين الدول الأوروبية وارتفاع نسبة القطاع الخارجي إلى الناتج المحلي، بل واعتماد النمو في جانب كبير منه في الكثير من الحالات على الصادرات، فإن السياسات التقشفية تعقد من المشكلة الأوربية وتؤدي إلى انتقالها من الدول المدينة إلى الدول الأخرى ذات الأوضاع المالية الأفضل نسبيا. ذلك أن قيام مجموعة ما من الدول باتباع سياسات تقشفية يؤثر سلبا على صادرات الدول الأخرى إليها ومن ثم معدلات النمو في الدول المصدرة. على سبيل المثال فإن النمو الألماني قائم أساسا على قطاع التصدير، ومن ثم فإن اتساع صافي صادرات ألمانيا يعكس بدرجة كبيرة ازدياد الطلب من الدول الأخرى في أوروبا، واتباع الدول المدينة لسياسات تقشفية يقلل من قدرة ألمانيا على التصدير ومن ثم على معدلات النمو المحققة فيها.
مما يعقد أوضاع منطقة اليورو هو أن الدول المدينة تواجه مشكلة صعوبة الوصول إلى الأسواق المالية وعدم القدرة على الحصول على احتياجاتها المالية بمعدلات فائدة معقولة، وارتفاع معدلات الفائدة يضر الأسواق ويضر أيضا بالنمو، المطلوب الآن لأوروبا توفير التمويل المناسب للدول المدينة بهدف رفع درجة الثقة في أداء هذه الدول، ومن ثم الحد من معدلات العائد المطلوبة على قروضها الأمر الذي يقلل من تكلفة الاقتراض وفي ذات الوقت يرفع من معدلات النمو.  
في الحالة الأوروبية حيث ترتفع معدلات العائد المطلوب على ديون هذه الدول فإن التقشف يزيد الأمور سوء ويعقد أوضاع الدول المدينة. فوفقا للنظرية الاقتصادية الكلية في مجال السياسة المالية فإن هناك علاقة بين معدل الفائدة على الدين العام ومعدل النمو الاقتصادي للدولة، إذ لا بد وان يكون معدل النمو الاقتصادي للدولة أكبر من معدل العائد على سندات الدين بصورة كافية لخفض أثر مدفوعات الفائدة على أعباء الدين العام، وفي جميع الأحوال ينبغي ألا يزيد معدل الفائدة على سندات الدين العام عن معدل النمو لأنه في هذه الحالة سوف يصبح الدين العام خارج نطاق السيطرة، ماذا يعني ذلك بالنسبة للحالة الأوروبية؟ دول اليورو كما ذكرنا في المقال السابق تواجه تراجعا حادا في معدلات النمو وبعضها يحقق معدلات نمو سالبة، في الوقت الذي تميل فيه معدلات العائد على سندات الدين العام لهذه الدول نحو التصاعد، وهو ما يعني أن مشكلة الدين العام في هذه الدول سوف تتجه نحو التفاقم من خلال السياسات التقشفية.
الجميع في منطقة اليورو متفق اليوم على ضرورة استعادة دوران عجلة النمو في المنطقة، ومعالجة البطالة التي تميل نحو الارتفاع، والأكثر من ذلك مواجهة المخاطر التي تلاحق النظام المصرفي الأوروبي، على سبيل المثال قال فرنسوا هولاند الرئيس الفرنسي المنتخب أنه سيحاول أن يتفاوض على حزمة من الإجراءات التي تهدف إلى دفع النمو وفي ذلك الوقت الدفع بمشروع الاتحاد المالي الذي يمكن الاتحاد الأوروبي من أن يفرض على الدول الأعضاء في منطقة اليورو حدودا على العجز المالي الذي يمكن أن تحققه الدول الأعضاء.
هناك أيضا إشارات توحي بأن البنك المركزي الأوروبي ربما يستعد لإطلاق دورة جديدة من السياسات النقدية المتراخية، وان كانت الملامح العامة لهذه السياسات غير واضحة بعد، فقد يلجأ البنك المركزي الأوروبي إلى زيادة عرض النقود لتحفيز معدلات النمو في المنطقة من خلال تخفيض معدلات الفائدة، أو لخفض معدلات صرف اليورو للمساعد على رفع تنافسية أوربا التجارية. شخصيا لا أعتقد أن خفض معدلات الفائدة سوف يكون ذات تأثير جوهري في دفع عجلة النمو في الاقتصاد الأوروبي، فمعدلات الفائدة في ظل الظروف الحالية تتوقف عن أداء الدور المتوقع أن تؤديه في تحفيز مستويات الطلب الكلي أخذا في الاعتبار أقصى مدى يمكن تخفيض معدلات الفائدة خلاله، والذي ربما لن يتجاوز ربع إلى نصف في المئة.
البنك المركزي الأوروبي بجانب خفض معدلات الفائدة يمكنه أيضا اللجوء إلى خيار تفعيل برنامج شراء السندات الذي توقف البنك عنه خلال الأسابيع الماضية. غير أنه ينبغي التنبيه إلى أن المشكلة الأساسية هي أن حزمة دفع النمو لا بد وان تتضمن مجموعة من التعديلات الهيكلية في هذه الاقتصاديات لجعلها أكثر ملائمة لمناخ الأعمال الذي يرفع من مستويات تنافسيتها ويعزز قدراتها التصديرية.
الخلاصة هي إن ما تحتاج إليه أوربا اليوم هو الاهتمام أساسا بالسياسات المحفزة للنمو لكي تتمكن من التعامل مع أزمة الديون السيادية فيها وترتفع قدرة الدول المدينة على خدمة تلك الديون لا أن تتقشف فينحسر النمو فيها وتتعقد أوضاع هذه الدولة على النحو الذي نراه حاليا.

هناك ٤ تعليقات: