الجمعة، مايو ٠٤، ٢٠١٢

الأزمة الاقتصادية ومعدلات الجريمة في العالم

نشر في صحيفة الااقتصادية بتاريخ الجمعة 4/5/2012

قبل اندلاع أزمة قطاع المساكن في الولايات المتحدة شهدت البلاد تراجعا واضحا في معدلات الجريمة لمدة تزيد عن عقد من الزمن، غير أنه مع انطلاق الأزمة أخذت معدلات الجريمة في التزايد على نحو مقلق، وهو ما أعاد بؤرة الاهتمام مرة أخرى بقضية علاقة الأوضاع الاقتصادية السائدة في الدول بمعدلات الجريمة فيها.

الأزمة الاقتصادية تتمثل في تراجع مستويات النمو وارتفاع معدلات البطالة وتراجع مستويات الدخول، وهي تطورات جميعها يترتب عليها أن تعاني الفئات الأكثر عرضة للتأثر بهذه التطورات، مثل الشباب أو ذوي التعليم المنخفض أو الملونين، من انخفاض واضح في مستويات دخولها، الأمر الذي قد يولد الشعور بالإحباط، لدى قطاع كبير من هؤلاء، ومع تزايد الضغوط الاقتصادية يتولد الميل بين  الأفراد نحو السلوكيات غير الشرعية.

بالطبع يفترض ألا يكون تأثير الأزمة الاقتصادية على الجريمة آنيا، بمعنى أن اتساع نطاق الجريمة يأخذ وقتا حتى تستجيب الفئات الأكثر عرضة لارتكاب الجريمة للضغوط الاقتصادية، ولذلك يفترض من الناحية النظرية أن يكون هناك فترة تأخير بين انطلاق الأزمة وارتفاع معدلات  الجريمة، خلال هذه الفترة الزمنية تتراكم الضغوط الاقتصادية على الأفراد إلى الحد الذي تدفعهم بعدها إلى هذا السلوك غير الشرعي.

من الناحية النظرية يفترض أن الأوضاع الاقتصادية السيئة توفر الدوافع بصورة أكبر لدى بعض السكان نحو اللجوء إلى الممارسات غير الشرعية مثل السرقة أو القتل أو غيرها من أشكال الجرائم المختلفة، ومع اتساع انتشار الأزمة ترتفع مستويات الجريمة وتتعدد أشكالها كاستجابة طبيعية من الأفراد لانخفاض مستويات الدخول التي يحصلون عليها وارتفاع معدلات البطالة، فضلا عن الآثار الاجتماعية والنفسية التي تنتج عن ارتفاع معدلات البطالة بين السكان، ولذلك تحرص الدول التي ترتفع فيها المسئولية الاجتماعية للحكومة نحو الأفراد على أن تخفف من وقع الأزمات الاقتصادية عن كاهل السكان من خلال تقديم مختلف أشكال المساعدات والدعم للمحافظة على حد أدنى من مستوى الرفاهية لسكانها من ناحية، وللحد من الآثار التي يمكن أن تنجم عن الأزمة على الاستقرار الاجتماعي من ناحية أخرى. على سبيل المثال يعيش اكثر من 40 مليون أمريكي حاليا على كوبونات الطعام التي تقدمها الحكومة، وذلك لتأمين حاجة الغذاء لدى هؤلاء وخفض الدوافع لديهم نحو السرقة.

كذلك تشير النظرية الاقتصادية إلى أنه مع تزايد رصيد السلع في المجتمع فإن الحافز على ارتكاب الجريمة يزداد وهو ما يعرف بأثر الفرصة Opportunity effect، وحيث يعد الاستهلاك  أهم مؤشرات الرفاه فإن نمو الاستهلاك يكون مصحوبا بتزايد معدلات الجريمة جرائم السرقة نظرا لأن نمو الاستهلاك يزيد مع عدد السلع ذات القيمة المتاحة للسرقة، ومن ثم تزداد فرص السرقة بازدياد عدد تلك السلع . بالطبع في أثناء فترات الانحسار الاقتصادي يزيد الطلب على السلع المسروقة، ويتسع نشاط الأسواق السوداء وتتزايد أعداد المتعاملين فيها. فمن الناحية الاقتصادية ينظر إلى السلع المسروقة على أنها سلع رديئة Inferior، والسلع الرديئة هي السلع التي يزداد الطلب عليها مع انخفاض مستوى الدخول، حيث تنخفض الفرصة أمام الأفراد لشراء سلع ذات جودة أعلى، بينما مع تزايد دخول الأفراد فإنهم يفضلون سلعا ليست مسروقة لأنها من هذا المنطلق تمثل سلعا ذات جودة أعلى، وبما أن الدخول تنخفض في أوقات الانحسار الاقتصادي فإن الطلب على السلع المسروقة يتزايد، الأمر الذي يوفر حوافز أكبر نحو اتساع نشاط الجريمة.

من ناحية أخرى فإن ارتفاع مستويات الاستهلاك في مجتمع ما يعكس زيادة التوقعات حول ارتفاع مستوى الدخل الدائم للفرد في هذا المجتمع، ويؤدي ارتفاع التوقعات حول الدخل القانوني إلى التقليل من الحافز على السلوك غير الشرعي للأفراد، وهذا ما يطلق عليه أثر الحافز Motivation effect، حيث يرى الاقتصاديون أن معدلات الجريمة لا ترتفع بذاتها، وإنما غالبا ما ترتفع مع ضعف  حالة الاقتصاد، على سبيل المثال عندما ترتفع معدلات البطالة بين العمال الأقل تعليما والأقل من حيث الأجور فإن معدلات الجريمة تميل نحو التزايد.

البعض الأخر يحمل وجهة نظر مختلفة، وهي أنه في الأوقات التي يتحسن فيها الأداء الاقتصادي فإن خطر الجريمة يرتفع على الأقل في المدن، حيث ترتفع أعداد الضحايا المحتملين لها، نظرا لما يحصلون عليه من سلع مرتفعة الثمن أو ما يحملونه من نقود أو ما يقودونه من سيارات مرتفعة الثمن.

في جميع حالات الكساد التي مرت بالولايات المتحدة شهدت البلاد ارتفاعا في معدلات الجريمة، بصفة خاصة سرقة المساكن وسرقة الأشخاص، والتي تعزى بصفة أساسية إلى التغيرات في الظروف الاقتصادية، ووفقا للدراسات في الولايات المتحدة فإن هناك فترة تأخير حوالي سنة التغيرات في الظروف الاقتصادية ومعدلات البطالة، حتى تنعكس الأزمة على ارتفاع معدلات الجريمة. على سبيل المثال عندما حدثت أزمة 1987 في وول ستريت ارتفعت معدلات الجريمة بصورة كبيرة وبلغت حالات القتل مستويات تاريخية في مدينة نيويورك. من ناحية أخرى فإنه قبل اندلاع الأزمة العالمية شهدت الولايات المتحدة انخفاضا كبيرا في معدلات الجريمة لمدة اكثر من عقد من الزمان، وقد توصل Brenner 2001 إلى أن زيادة معدلات البطالة في الولايات المتحدة بنسبة 1% فإنه عبر 6 سنوات سوف تزداد أعداد ضحايا القتل ب 668 ضحية، وأعداد المساجين إلى 3300 سجينا.

لم تكن الأزمة الاقتصادية الحالية استثناء من هذا الاتجاه العام لتأثير الأزمات الاقتصادية على الجريمة. ففي دراسة موسعة أجراها مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة في فيينا عن أثر الأزمة المالية العالمية على الجريمة في العالم تم تتبع معدلات الجريمة في 15 دولة في أسيا وأوروبا والأمريكيتين، وقد توصلت الدراسة إلى أن العوامل الاقتصادية مرتبطة بصورة كبيرة مع معدلات الجريمة في العالم سواء أكنا نتحدث عن  الأوقات العادية الخالية من الأزمات أو أوقات انتشار الأزمات.

غير أنه لوحظ أن بعض أشكال الجريمة في العالم تضاعفت معدلاتها تقريبا في أوقات الأزمة، وبشكل عام أثبتت الدراسة أن الافتراضات النظرية حول الارتباط بين الضغوط الاقتصادية وبين معدلات  الجريمة صحيحة. فمن بين الدول التي تم فحصها خلال الأزمة وجد أن 70% منها ظهر فيها ارتفاع في معدلات الجريمة. كذلك وجدت حالات ارتفاع واضحة في جريمة القتل في الدول ذات المستويات المرتفعة في العنف مثل البرازيل والسلفادور جاميكا. كما تضاعفت حالات السرقة مرة ونصف في جاميكا، وفي ساو باولو ارتفعت حالات السرقة بحوالي 20% وفي كوستاريكا بنسبة 30%، وفي المكسيك كانت معدلات النمو سالبة في 2009 مع ارتفاع في مستويات الأسعار، وهو ما أدى إلى زيادة معدلات السطو المسلح وسرقة السيارات.

لقد سجل البوليس ارتفاع حالات السرقة عندما ترتفع الأسعار في جاميكا في الفترة بين 2000 و 2007، وكذلك في ساو باولو في2003 مع ارتفاع الأسعار، كذلك وجدت الدراسات أنه في إيطاليا والفلبين ترتفع مستويات البطالة في مواسم محددة من السنة، وأنه خلال هذه المواسم ترتفع معدلات جريمة سرقة الأشخاص وسرقة السيارات، بينما تقل حالات سرقة السيارات في مواسم انخفاض البطالة. أهم أشكال هذه الجريمة ارتباطا بالأزمة هي جرائم السطو وسرقة المساكن حيث كانت أكثر أنواع الجريمة انتشارا مع الأزمة كما توصل المكتب إلى أن جرائم القتل وسرقة السيارات ارتفعت خلال فترة الأزمة مقارنة بالفترات السابقة عليها.

بالطبع هناك عدة عوامل تساعد على تعميق أثر الأزمات الاقتصادية على معدلات الجريمة في العالم أهمها ظاهرة انتشار عصابات الشباب Youth gangs وغالبا ما تكون هذه العصابات عنيفة في سلوكياتها الإجرامية، وهي ظاهرة أصبح يعاني منها جانب كبير من دول العالم اليوم، وانتشار الأسلحة فضلا عن ارتفاع معدلات استهلاك المشروبات الكحولية وجميعها عوامل تساعد على مضاعفة تأثير الأزمات الاقتصادية على معدلات الجريمة.

هناك ٥ تعليقات:

  1. استاذنا العزيز
    بعد الاعتراف بفضلك في نشر الثقافة الاقتصاديه على الانترنت بالمحتوى العربي .
    ارجو منك اكمالا للمعروف ترجمة مقال التالي
    "Better Measurements of Worth"
    ولك بالغ الاحترام والتقدير على كل حال

    ردحذف
  2. الله يفرجها ع العباااااااااد

    ردحذف