طالعتنا وسائل الإعلام المختلفة الأسبوع الماضي بأنباء عن قيام البنك المركزي الأوروبي باعتماد معدلات الفائدة السالبة على مودعات البنوك، وذلك ضمن حزمة من السياسات التي تهدف إلى انتشال الاقتصاد الأوروبي من مصيدة الركود طويل الأجل، وحتى تتجنب الكارثة التي واجهتها اليابان في القرن الماضي والمعروفة باسم العقد الضائع.
كان البنك المركزي الأوروبي قد أعلن مسبقا أنه على استعداد لاتخاذ ما يجب للتعامل مع استمرار ارتفاع معدلات البطالة في أوروبا، التي لازمها انخفاض واضح في معدلات التضخم مع ما يصاحب ذلك من مخاطر مرتبطة بالانحسار السعري، وبالفعل في اجتماعه الأخير الذي عقد في الأسبوع الماضي، أدخل البنك المركزي الأوروبي ثلاثة إجراءات غير تقليدية تهدف جميعها إلى زيادة عرض السيولة، وتمثلت هذه الإجراءات في:
أولا: خفض معدلات الفائدة على قروض إعادة التمويل من البنك المركزي الأوروبي من 0.25 في المائة إلى 0.15 في المائة. من ناحية أخرى قام البنك المركزي الأوروبي بخفض معدلات الفائدة التي يدفعها على مودعات البنوك لديه لمدة ليلة إلى سالب 0.10 في المائة، بمعنى أن البنوك التي ترغب في الاحتفاظ باحتياطياتها لدى البنك المركزي الأوروبي أصبح عليها الآن أن تقوم بدفع فائدة على هذه المودعات بنسبة 0.10 في المائة.
ثانيا: أعلن البنك المركزي الأوربي أنه سيفتح خطوط ائتمان طويلة الأجل بنحو 400 مليار يورو "أي أكثر من نصف تريليون دولار" للأسر ومؤسسات الأعمال التي في حاجة إلى تمويل (لا يشمل تمويل المساكن).
ثالثا: وقف عمليات التعقيم Sterilization، التي يقوم بها البنك المركزي الأوروبي، أي وقف سحب النقود من التداول في مقابل مشترياته من السندات.
لكن لماذا يقوم البنك المركزي الأوروبي بهذه الإجراءات العنيفة؟ من المعلوم أن البنك المركزي الأوروبي كان أكثر تحفظا في سياساته النقدية من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، سواء من حيث طبيعة الإجراءات التي قام بها لخفض معدلات الفائدة، أو من حيث حجم التوسع النقدي الذي قام به للتخفيف من حدة الأزمة المالية، ناهيك عن الفروق في برامج التحفيز المالي التي طبقها كلا الاقتصادين، على الرغم من أن أوروبا تعرضت لمخاطر أكثر من تلك التي تعرضت لها الولايات المتحدة.
على النقيض كان الاحتياطي الفيدرالي أكثر جرأة وهجومية في مواجهة الأزمة، وأكثر إفراطا في التوسع في عرض النقود على النحو الذي جعل الكثير من المراقبين يتهمون الاحتياطي الفيدرالي بأنه بفتح خطوط السيولة غير المنضبطة في إطار البرامج المختلفة التي قام بها بدءا ببرنامج إغاثة الأصول المضطربة TARP، يساعد على نشر المخاطر الأخلاقية بين قادة سوق المال، طالما أن البنك المركزي لا يعاقب من تسببوا في الأزمة، وبدلا من ذلك يقدم لهم خطوط الائتمان بتكلفة زهيدة، فضلا عن أنه لا يميز في توزيع الائتمان بين من يستحق ومن لا يستحق. كذلك اتهم الاحتياطي الفيدرالي بأنه ينشر بذور التضخم الجامح Hyper-inflation بسياساته النقدية المتهورة بتبني استراتيجية التيسير الكمي ثلاث مرات متتالية.
ومع ذلك لم يتردد الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في المضي قدما في سياساته النقدية الهجومية، يرجع السبب في هذه الفروق في سلوك المؤسستين إلى شخص واحد هو بن برنانكي رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق، الذي تركزت أبحاثه حول الكساد العالمي الكبير الذي حدث في نهاية العشرينيات من القرن الماضي. كانت أهم النتائج التي توصل إليها برنانكي هي أن الأزمة المالية التي حدثت للولايات المتحدة تحولت بسرعة إلى الاقتصاد الحقيقي في صورة ركود طويل الأجل بسبب سلوك السلطات النقدية آنذاك، التي وقفت مترددة في دعم المؤسسات المالية بتدبير السيولة اللازمة لها، وسمحت لآلاف البنوك والمؤسسات المالية بأن تسقط صريعة الإفلاس في غضون فترة زمنية قصيرة.
لم يكن بن برنانكي مستعدا كي يرتكب الخطأ نفسه الذي وقعت فيه السلطات النقدية في ثلاثينيات القرن الماضي، وظل دائما مستعدا لتوفير السيولة اللازمة للاقتصاد الأمريكي في ظل استراتيجيات عديدة لجأ إليها بدءا من خفض معدل الخصم مرورا بتبني سياسة معدلات الفائدة الصفرية ZIRP، ودفع فائدة على احتياطيات البنوك لديه ولأول مرة، وضخ مئات المليارات في صورة توسع نقدي من خلال برنامجه لشراء السندات... إلخ. ذلك كله بهدف واحد وهو دعم الثقة بالاقتصاد الأمريكي والحد من سلوكيات بعض مؤسسات القطاع المالي التي يمكن أن تكون مدمرة في مثل هذه الحالات، مثل الاتجاه إلى سياسات الحرق السعري للأصول، لتدبير السيولة التي يمكن أن تنتهي بكارثة تلحق بحملة الأسهم والمستثمرين في القطاع المالي بشكل عام، كما هدف إلى نشر التوقعات بأن الدولة تقف خلف المؤسسات المالية، وأن من يتعرض منها لنقص في رؤوس الأموال لا يتمكن من تدبيرها من خلال مصادر رأس المال الخاصة ستتم إعادة رسملتها من خلال الأموال العامة لمساعدتها على عبور حالة الكساد.
كان بن برنانكي على يقين بأن شح السيولة سيخنق مؤسسات القطاع المالي، التي مثل العديد منها قنابل مؤقتة قابلة للانفجار في أي لحظة، مثل مؤسسات الإقراض العقاري فاني ماي، وفريدي ماك، والمجموعة الأمريكية العالمية AIG، وبنك أوف أمريكا، وسيتي جروب. في كتابه بعنوان "اختبار ضغط" أطلق تيم جايثنر على هذه المؤسسات لقب القنابل الخمس. كان وقوع إحداها سيمثل كارثة للاقتصاد الأمريكي والعالم، فقد كانت أكبر بكثير من حيث الحجم من بنك ليمان براذرز، الذي أدى انهياره إلى انطلاق الأزمة.
بالطبع لم يكن الهدف حماية هذه المؤسسات من الأخطاء التي ارتكبتها، إنما لمنع انفجارها معرضة الاقتصاد الأمريكي والعالم للخطر، ولم تقتصر المواجهة الأمريكية على التحفيز النقدي، إنما أيضا شملت برامج ضخمة للتحفيز المالي، وإنفاق مئات المليارات من أجل تعزير الطلب الكلي، كل ذلك من أجل تجنب تكرار ما حدث في يابان التسعينيات.
في طريقها للتعافي وقعت أوروبا في العديد من الأخطاء التي أدت إلى تأخر خروج الاقتصاد الأوروبي من حالة الكساد الطويل الذي عاصرته في أعقاب الأزمة، ومثلما واجه الاقتصاد الأمريكي قنابل مؤقتة كان من الممكن أن تطيح باستقراره، فإن الاقتصاد الأوروبي وعلى وجه الخصوص منطقة اليورو، واجه العديد من المشاكل كان أخطرها، ولا يزال، حالة الدول المثقلة بالديون، أو ما اصطلح على تسميته بمجموعة الـ PIIGS.
منذ فترة طويلة والتقارير الدورية لمكتب الإحصاء الأوروبي Eurostat تشير إلى استمرار تراجع النمو في منطقة اليورو وتراجع معدلات التضخم مصحوبة بارتفاع معدلات البطالة، مثل هذه التطورات تزيد من مخاطر وقوع الاقتصاد الأوروبي في مصيدة الركود وضياع سنوات طويلة من النمو، مثلما حدث في اليابان، ورغبة في مواجهة هذه المخاطر يعود البنك المركزي الأوروبي بسياسات هجومية غير تقليدية في محاولة يائسة لتعزيز النمو، بصفة خاصة تبني معدلات الفائدة الاسمية السالبة، لكن ما هذه السياسة غير التقليدية وهل تفلح في معالجة المشكلات التي يواجهها الاقتصاد الأوروبي؟ هذا ما سنحاول تحليله في الأسبوع المقبل - إن أحيانا الله.
كان البنك المركزي الأوروبي قد أعلن مسبقا أنه على استعداد لاتخاذ ما يجب للتعامل مع استمرار ارتفاع معدلات البطالة في أوروبا، التي لازمها انخفاض واضح في معدلات التضخم مع ما يصاحب ذلك من مخاطر مرتبطة بالانحسار السعري، وبالفعل في اجتماعه الأخير الذي عقد في الأسبوع الماضي، أدخل البنك المركزي الأوروبي ثلاثة إجراءات غير تقليدية تهدف جميعها إلى زيادة عرض السيولة، وتمثلت هذه الإجراءات في:
أولا: خفض معدلات الفائدة على قروض إعادة التمويل من البنك المركزي الأوروبي من 0.25 في المائة إلى 0.15 في المائة. من ناحية أخرى قام البنك المركزي الأوروبي بخفض معدلات الفائدة التي يدفعها على مودعات البنوك لديه لمدة ليلة إلى سالب 0.10 في المائة، بمعنى أن البنوك التي ترغب في الاحتفاظ باحتياطياتها لدى البنك المركزي الأوروبي أصبح عليها الآن أن تقوم بدفع فائدة على هذه المودعات بنسبة 0.10 في المائة.
ثانيا: أعلن البنك المركزي الأوربي أنه سيفتح خطوط ائتمان طويلة الأجل بنحو 400 مليار يورو "أي أكثر من نصف تريليون دولار" للأسر ومؤسسات الأعمال التي في حاجة إلى تمويل (لا يشمل تمويل المساكن).
ثالثا: وقف عمليات التعقيم Sterilization، التي يقوم بها البنك المركزي الأوروبي، أي وقف سحب النقود من التداول في مقابل مشترياته من السندات.
لكن لماذا يقوم البنك المركزي الأوروبي بهذه الإجراءات العنيفة؟ من المعلوم أن البنك المركزي الأوروبي كان أكثر تحفظا في سياساته النقدية من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، سواء من حيث طبيعة الإجراءات التي قام بها لخفض معدلات الفائدة، أو من حيث حجم التوسع النقدي الذي قام به للتخفيف من حدة الأزمة المالية، ناهيك عن الفروق في برامج التحفيز المالي التي طبقها كلا الاقتصادين، على الرغم من أن أوروبا تعرضت لمخاطر أكثر من تلك التي تعرضت لها الولايات المتحدة.
على النقيض كان الاحتياطي الفيدرالي أكثر جرأة وهجومية في مواجهة الأزمة، وأكثر إفراطا في التوسع في عرض النقود على النحو الذي جعل الكثير من المراقبين يتهمون الاحتياطي الفيدرالي بأنه بفتح خطوط السيولة غير المنضبطة في إطار البرامج المختلفة التي قام بها بدءا ببرنامج إغاثة الأصول المضطربة TARP، يساعد على نشر المخاطر الأخلاقية بين قادة سوق المال، طالما أن البنك المركزي لا يعاقب من تسببوا في الأزمة، وبدلا من ذلك يقدم لهم خطوط الائتمان بتكلفة زهيدة، فضلا عن أنه لا يميز في توزيع الائتمان بين من يستحق ومن لا يستحق. كذلك اتهم الاحتياطي الفيدرالي بأنه ينشر بذور التضخم الجامح Hyper-inflation بسياساته النقدية المتهورة بتبني استراتيجية التيسير الكمي ثلاث مرات متتالية.
ومع ذلك لم يتردد الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في المضي قدما في سياساته النقدية الهجومية، يرجع السبب في هذه الفروق في سلوك المؤسستين إلى شخص واحد هو بن برنانكي رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق، الذي تركزت أبحاثه حول الكساد العالمي الكبير الذي حدث في نهاية العشرينيات من القرن الماضي. كانت أهم النتائج التي توصل إليها برنانكي هي أن الأزمة المالية التي حدثت للولايات المتحدة تحولت بسرعة إلى الاقتصاد الحقيقي في صورة ركود طويل الأجل بسبب سلوك السلطات النقدية آنذاك، التي وقفت مترددة في دعم المؤسسات المالية بتدبير السيولة اللازمة لها، وسمحت لآلاف البنوك والمؤسسات المالية بأن تسقط صريعة الإفلاس في غضون فترة زمنية قصيرة.
لم يكن بن برنانكي مستعدا كي يرتكب الخطأ نفسه الذي وقعت فيه السلطات النقدية في ثلاثينيات القرن الماضي، وظل دائما مستعدا لتوفير السيولة اللازمة للاقتصاد الأمريكي في ظل استراتيجيات عديدة لجأ إليها بدءا من خفض معدل الخصم مرورا بتبني سياسة معدلات الفائدة الصفرية ZIRP، ودفع فائدة على احتياطيات البنوك لديه ولأول مرة، وضخ مئات المليارات في صورة توسع نقدي من خلال برنامجه لشراء السندات... إلخ. ذلك كله بهدف واحد وهو دعم الثقة بالاقتصاد الأمريكي والحد من سلوكيات بعض مؤسسات القطاع المالي التي يمكن أن تكون مدمرة في مثل هذه الحالات، مثل الاتجاه إلى سياسات الحرق السعري للأصول، لتدبير السيولة التي يمكن أن تنتهي بكارثة تلحق بحملة الأسهم والمستثمرين في القطاع المالي بشكل عام، كما هدف إلى نشر التوقعات بأن الدولة تقف خلف المؤسسات المالية، وأن من يتعرض منها لنقص في رؤوس الأموال لا يتمكن من تدبيرها من خلال مصادر رأس المال الخاصة ستتم إعادة رسملتها من خلال الأموال العامة لمساعدتها على عبور حالة الكساد.
كان بن برنانكي على يقين بأن شح السيولة سيخنق مؤسسات القطاع المالي، التي مثل العديد منها قنابل مؤقتة قابلة للانفجار في أي لحظة، مثل مؤسسات الإقراض العقاري فاني ماي، وفريدي ماك، والمجموعة الأمريكية العالمية AIG، وبنك أوف أمريكا، وسيتي جروب. في كتابه بعنوان "اختبار ضغط" أطلق تيم جايثنر على هذه المؤسسات لقب القنابل الخمس. كان وقوع إحداها سيمثل كارثة للاقتصاد الأمريكي والعالم، فقد كانت أكبر بكثير من حيث الحجم من بنك ليمان براذرز، الذي أدى انهياره إلى انطلاق الأزمة.
بالطبع لم يكن الهدف حماية هذه المؤسسات من الأخطاء التي ارتكبتها، إنما لمنع انفجارها معرضة الاقتصاد الأمريكي والعالم للخطر، ولم تقتصر المواجهة الأمريكية على التحفيز النقدي، إنما أيضا شملت برامج ضخمة للتحفيز المالي، وإنفاق مئات المليارات من أجل تعزير الطلب الكلي، كل ذلك من أجل تجنب تكرار ما حدث في يابان التسعينيات.
في طريقها للتعافي وقعت أوروبا في العديد من الأخطاء التي أدت إلى تأخر خروج الاقتصاد الأوروبي من حالة الكساد الطويل الذي عاصرته في أعقاب الأزمة، ومثلما واجه الاقتصاد الأمريكي قنابل مؤقتة كان من الممكن أن تطيح باستقراره، فإن الاقتصاد الأوروبي وعلى وجه الخصوص منطقة اليورو، واجه العديد من المشاكل كان أخطرها، ولا يزال، حالة الدول المثقلة بالديون، أو ما اصطلح على تسميته بمجموعة الـ PIIGS.
منذ فترة طويلة والتقارير الدورية لمكتب الإحصاء الأوروبي Eurostat تشير إلى استمرار تراجع النمو في منطقة اليورو وتراجع معدلات التضخم مصحوبة بارتفاع معدلات البطالة، مثل هذه التطورات تزيد من مخاطر وقوع الاقتصاد الأوروبي في مصيدة الركود وضياع سنوات طويلة من النمو، مثلما حدث في اليابان، ورغبة في مواجهة هذه المخاطر يعود البنك المركزي الأوروبي بسياسات هجومية غير تقليدية في محاولة يائسة لتعزيز النمو، بصفة خاصة تبني معدلات الفائدة الاسمية السالبة، لكن ما هذه السياسة غير التقليدية وهل تفلح في معالجة المشكلات التي يواجهها الاقتصاد الأوروبي؟ هذا ما سنحاول تحليله في الأسبوع المقبل - إن أحيانا الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق