الجمعة، أكتوبر ٢٩، ٢٠١٠

تصنيف الديون السيادية لدول العالم

نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 29/10/2010.
تتميز الديون السيادية بأنها تلقى إقبالا كبيرا من قبل المستثمرين في العالم، نظرا لانخفاض مستويات المخاطر المصاحبة لإقراض حكومات العالم بشكل عام، مقارنة بديون مؤسسات الأعمال الخاصة. غير أن الأزمة المالية العالمية قد غيرت إلى حد كبير هذا المفهوم، بحيث أصبح خطر توقف الحكومات في دول العالم المدينة عن السداد أحد الهواجس الأساسية التي تنتشر الآن بين المستثمرين في أسواق المال في العالم، وتحديدا فقد تعرضت الأسواق العالمية هذا العام لصدمتين شديدتين نتيجة تطورات الأوضاع المالية على نحو سيء في اليونان، والتي وضعتها على حافة الإفلاس، حتى تم تقديم برنامج المساندة لها من قبل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، بينما تمثلت الصدمة الثانية في إعلان شركة دبي العالمية عن طلبها إعادة جدولة ديونها نظرا لعدم قدرتها على سداد التزاماتها في مواعيدها المحددة، بسبب أزمة السيولة التي تعرضت لها، والتي نتجت عن الضغوط التي تعرض لها سوق العقار في الإمارة، نتيجة للأزمة المالية العالمية، حتى قامت ولاية أبو ظبي بتقديم مساعدة مؤقتة لدبي، حتى تتمكن إعادة جدولة ديونها.

الديون السيادية إذن هي ديون آمنة بشكل عام، غير أن ضخامة حجمها يجعل المخاطر الكامنة المصاحبة لها على الأسواق كبيرة جدا، وذلك في حالة تعرض إحدى الدول المدينة إلى أزمة سيولة تهدد قدرتها على السداد في المواعيد المجدولة لهذه الديون، إلى الدرجة التي تدعوني إلى الاعتقاد بأن الديون السيادية تظل، في وقتنا الحالي، تمثل القنبلة المالية الموقوتة القادمة، وهي بهذا الشكل أصبحت تمثل مشكلة كامنة، ربما تهدد جهود استعادة النشاط الاقتصادي في العالم، في حال تطورت الأمور نحو الأسوأ، ولم تتمكن الدول المدينة من استعادة توازنها المالي.

الدول المدينة حاليا تجد نفسها بين نارين، فهي من ناحية ترغب في وقف النمو في ديونها العامة، وهو أمر لا يمكن أن يتم إلا من خلال السيطرة على العجز المالي لديها. من ناحية أخرى، فإن محاولات تلك الدول للسيطرة على النمو في الدين العام تحد من قدرتها على مواجهة ضغوط الأزمة، ذلك أن محاولات تلك الدول تجنب الركود المحتمل، لابد وأن يصاحبها المزيد من جهود التحفيز المالي لدفع مستويات الطلب الكلي، ومن ثم رفع معدلات النمو والتوظف وتخفيض مستويات البطالة، وهو أمر لا يمكن أن يتم غالبا إلا بمزيد من العجز في الميزانيات العامة لدول العالم، وبالتالي ارتفاع مستويات الدين العام.

صدر مؤخرا تقرير مؤسسة CMA عن مخاطر الديون السيادية لدول العالم في الربع الثالث من هذا العام، وتعد مؤسسة CMA أحد أهم المؤسسات المتخصصة في المعلومات عن الائتمان في العالم، ويقدم تقريرها عن مخاطر الديون السيادية معلومات مهمة عن تصنيف الديون السيادية للدول العالم، والتي تعد دليلا مهما للأسواق حول مدى جودة الدين السيادي لدولة ما للاستثمار فيه.

تقرير مؤسسة CMA يقيس الاحتمال التراكمي للتوقف عن السداد Cumulative probability of default، أي احتمال أن تكون الدولة غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها نحو دينها العام على مدى الخمس سنوات القادمة، ويتم حساب الاحتمال التراكمي للتوقف عن السداد من خلال نموذج معياري، يتم تطبيقه من جانب المؤسسة على الدول المدينة، وبناء على النتائج يتم وضع تصنيف ائتماني ضمني لكل دولة، ووفقا لهذا التصنيف الائتماني الضمني، يتم ترتيب دول العالم وفقا لأكثر الديون السيادية لدول العالم أمانا، أو أكثر الديون السيادية لدول العالم خطورة.

الجدول رقم (1) يعرض الترتيب الذي أعدته المؤسسة عن أخطر الديون السيادية في العالم في الربع الثالث من هذا العام، واتجاهات تطور ترتيب هذه الديون مقارنة بالربع الثاني، والاحتمال التراكمي للتوقف عن السداد خلال الخمس سنوات القادمة، ووفقا للجدول فإن أهم نتائج التقرير الأخير هي بقاء أسوأ خمس دول في الترتيب العالمي من حيث ارتفاع درجة المخاطر المحيطة بديونها السيادية على حالها، وهي على التوالي، من الأسوأ، فنزويلا واليونان والأرجنتين وباكستان وأوكرانيا، بدون حدوث أي تحسن في احتمالات التوقف عن السداد بالنسبة لهذه الدول الخمس.

كنت قد تناولت في مقال سابق بعنوان "الدين الأمريكي من أفضل الديون السيادية في العالم"، نتائج عملية التقييم للمؤسسة عن الربع الثاني من هذا العام، وقد توقعت في هذا المقال أن يتحسن ترتيب الدين السيادي اليوناني في التقرير القادم للمؤسسة عن الربع الثالث من هذا العام، مستفيدا من التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي عن أوضاع اليونان، والذي أشار إلى العديد من التطورات الايجابية في البيئة الاقتصادية الكلية. غير أن هذا التوقع لم يتحقق بسبب استمرار المخاطر مرتفعة حول مسار الأوضاع المالية في اليونان وقدرتها على تجنب التوقف عن السداد، خصوصا مع تراجع تصنيف الديون السيادية لعدد من الدول الأوروبية والتي أصبحت ديونها مصنفة الآن أيضا بين اخطر الديون السيادية في العالم.

أهم نتائج هذا التقرير هو دخول دولتين من الدول الأعضاء في اليورو، لأول مرة، في قائمة الدول صاحبة أخطر الديون السيادية في العالم، وهما أيرلندا صاحبة سادس اخطر دين سيادي في العالم الآن، نتيجة الأوضاع السيئة المحيطة بالاقتصاد الايرلندي وقطاع المال فيه. كذلك دخلت البرتغال، كصاحبة تاسع أخطر دين سيادي في العالم، نتيجة للأوضاع السيئة على المستوى الاقتصادي الكلي، والحقيقة أنني عندما كنت أحلل نتائج التقارير السابقة، كنت أستغرب عدم إدراج هاتين الدولتين في قائمة أخطر الديون السيادية، على الرغم من كل التحليلات التي أقرأها عن الأوضاع المالية لهاتين الدولتين، وكنت دائما ما أرجع ذلك إلى المتانة النسبية للأوضاع الاقتصادية لهاتين الدولتين على المستوى الكلي.


وفقا لنتائج هذا التقرير، وحتى هذه اللحظة، فإن الدين السيادي لثلاث دول أعضاء في اليورو، وهي اليونان وايرلندا والبرتغال مصنف على أنه من أخطر الديون السيادية في العالم، كما أنه، وحتى هذه اللحظة، لم تدخل اسبانيا قائمة الدول صاحبة أخطر الديون السيادية، بالرغم من أوضاع الدين العام بها، ونظرا لأوضاعها المتردية اقتصاديا، أتوقع ان تنضم ديون اسبانيا إلى قائمة أخطر الديون السيادية في العالم قريبا. كان من المفترض في ظل هذه الأوضاع أن تتزايد الضغوط على اليورو، لكن لحسن الحظ أن تلك التطورات كانت مصحوبة بضغوط هائلة على الدولار، الأمر الذي ساعد على دفع اليورو نحو المزيد من التحسن، وبالطبع المزيد من التراجع للدولار الأمريكي. وجود هذه الدول الثلاث في قائمة أسوأ الديون السيادية في العالم يؤكد المخاطر الكامنة المحيطة باليورو حاليا، إذا ما تطورت الأوضاع المالية لهذه الدول على نحو أسوأ، وبالطبع استجابت أسواق المال لذلك.

الدول التي تحسنت أوضاع ديونها السيادية في قائمة اخطر الديون السيادية في العالم وفقا للتقرير الحالي هي رومانيا، والتي أصبحت في المركز العاشر بتحسن درجتين، ودبي والتي كانت في المركز السادس في التقرير السابق، بتحسن درجة، والعراق والتي كانت في المركز الثامن في التقرير السابق بتحسن درجة، بينما خرج من قائمة اخطر الديون السيادية كل من لاتفيا، وهي في طور انضمامها لليورو، والتي تحتل المركز الحادي عشر الآن عالميا، وبلغاريا والتي تحسن تصنيفها بصورة جوهرية حيث تحتل المركز الخامس عشر بين قائمة الدول صاحبة اخطر الديون السيادية في العالم.

الجدول رقم (2) يوضح ترتيب المؤسسة لقائمة أفضل عشرة ديون سيادية في العالم. نتائج التقرير تشير إلى أن قائمة أفضل عشرة ديون سيادية في العالم ظلت كما هي بدون تغيير، مع حدوث تبادل في المراكز داخل القائمة، فبينما ظلت النرويج على رأس القائمة، وفنلندا في المركز الثاني، وكذلك الدانمرك في المركز الرابع بدون تغيير، تحسن ترتيب استراليا بدرجتين، فأصبحت تحتل المركز الثامن عالميا، وكذلك تحسنت تصنيفات الدين العام لكل من ألمانيا وسويسرا وهولندا بدرجة واحدة، كما يلاحظ من الجدول، الدولتان اللتان تراجع ترتيبهما في القائمة هما هونج كونج، والتي تراجع ترتيبها بدرجة واحدة، حيث كانت تحتل المركز التاسع في التقرير الماضي، والولايات المتحدة والتي أصبحت تحتل المركز التاسع كصاحبة أفضل دين عام عالميا.

كنت قد توقعت في مقالي السابق أن يتراجع تصنيف الدين العام الأمريكي في الربع الثالث من هذا العام، استنادا إلى نتائج التقرير الأخير الصادر عن لجنة الميزانية في الكونجرس، والذي توقع حدوث تزايد المستمر في الدين العام الأمريكي واستمرار ارتفاع نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي بصورة شبه مستمرة حتى عام 2020، على نحو يثير قلق المستثمرين في كافة أنحاء العالم، وقد جاء التقرير ليؤكد توقعاتي، حيث تراجع تصنيف الدين العام الأمريكي من المركز الثالث، كأفضل دين سيادي في العالم، إلى المركز التاسع، أي بتراجع 6 درجات عن التصنيف السابق. الحقيقة لم أكن أتوقع هذا التدهور الكبير في تصنيف الدين العام الأمريكي خلال 3 أشهر فقط، ولكن تطور الأوضاع الاقتصادية مؤخرا مع احتمال لجوء الاحتياطي الفدرالي للتيسير الكمي، نظرا لاستمرار تأثير الأزمة على نحو واضح على معدلات النمو والبطالة، فضلا عن الضغوط الكبيرة التي يتعرض لها الدولار الأمريكي، قد ساعد على تراجع التصنيف على هذا النحو الكبير.

 

الأمر الذي ينبغي التأكيد عليه هو أنه، وعلى الرغم من كل ما يحدث، ما زال الدين العام الأمريكي مصنفا بين أفضل الديون السيادية في العالم، حيث ما زال يحتل ترتيبا بين أفضل عشرة ديون سيادية عالميا. استمرار بقاء الولايات المتحدة في قائمة الدول صاحبة أكثر الديون أمانا في العالم يعكس الثقة في قدرة الولايات المتحدة على خدمة ديونها، لأن الدين العام الأمريكي هو ببساطة شديدة الدين العام لأقوى اقتصاد في العالم، وبعملة العالم، والذين يتوقعون انهيار الدولار بسبب مشكلة الديون الأمريكية يتجاهلون حقيقة مهمة، وهي أن هذا الدين الأمريكي مقوم أساسا بالعملة الأمريكية، ومن ثم فإنه ليس هناك أدنى احتمال لتوقف الولايات المتحدة عن السداد نتيجة عدم قدرتها على خدمة هذا الدين، حيث يمكن للولايات المتحدة ببساطة أن تخدم الدين الأمريكي، في حالة تدهور الأوضاع على نحو شديد، بطبع المزيد من الدولارات، ومن ثم تتحمل بعض التضخم في سبيل استيفاء احتياجات خدمة دينها العام، وهي ميزة أساسية تتمتع بها الدولة صاحبة عملة الاحتياط الأولى في العالم.

الحقيقة أنه يصعب في ظل الأوضاع الحالية عمل أي توقعات حول تصنيف الدين العام الأمريكي في الربع الرابع من هذا العام، ففي ظل ارتفاع درجة عدم التأكد، يصعب على المرء ان يأتي بتوقعات صحيحة حول مسار الأوضاع في المستقبل، وهناك احتمالات ثلاثة جميعها محتمل في المستقبل القريب، وهي استمرار تراجع تصنيف الدين العام الأمريكي، بعض الشيء في التقرير القادم، نظرا لاستمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية الكلية في الاقتصاد الأمريكي، وتزايد المخاطر المحيطة بالدولار، بفعل سياسات التيسير الكمي الجديدة التي ينوي الاحتياطي الفدرالي تنفيذها، ربما على نطاق واسع هذه المرة، ومن ثم خروج الدين العام الأمريكي من قائمة أفضل الديون السيادية في العالم في التقرير القادم. الاحتمال الثاني هو أن يرتفع تصنيف الدين السيادي الأمريكي في ضوء تراجع تصنيفات الديون السيادية لدول العالم الأخرى، بصفة خاصة في أوروبا، إذا ما تطورت الأوضاع المالية للدول على نحو أسوأ، أما الاحتمال الثالث فهو أن يبقى التصنيف الحالي على ما هو عليه، أو يتراجع بدرجة واحدة، والحقيقة أنني أميل إلى استبعاد تحقق الاحتمال الأول، والاعتقاد باحتمال تحقق الاحتمالين الثاني والثالث، وأن يظل الدين العام الأمريكي ضمن قائمة أفضل الديون في العالم.

والآن ماذا عن تصنيف الديون السيادية للدول العربية، الجدول رقم (3) يوضح تصنيف المؤسسة للديون السيادية العربية في الربع الثالث من هذا العام. أهم ما في هذا التصنيف هو أن المملكة العربية السعودية تحتل المركز الأول بين قائمة الدول العربية المدينة كصاحبة أفضل دين سيادي في المنطقة، وكذلك في العالم، غير أنه بالمقارنة مع التقرير السابق عن الربع الثاني من هذا العام، فإن الترتيب العالمي للمملكة قد تدهور بعض الشيء بتراجع تصنيفها من المركز الحادي عشر عالميا، إلى المركز الثامن عشر بين قائمة الدول صاحبة أأمن دين سيادي في العالم، في الوقت الذي تراجع فيه تصنيف كل من المغرب والبحرين وجمهورية مصر العربية، بينما استمرت كل من لبنان والعراق ودبي صاحبة أسوأ ترتيب عربيا وعالميا، بصفة خاصة فإنه على الرغم من التطورات التي حدثت في عمليات إعادة جدولة ديون دبي، مازالت ديون الإمارة ضمن قائمة أخطر الديون السيادية عربيا وعالميا.


وأخيرا تجدر الإشارة إلى أنه قد وجهت لمؤسسات التصنيف الائتماني الكثير من سهام النقد، وأصبحت تصنيفاتها عرضة للشك في أعقاب الدور الذي لعبته في أسواق الائتمان قبل نشوب الأزمة المالية العالمية. غير أن صندوق النقد الدولي قد نشر مؤخرا تقييما مكثفا لدور مؤسسات التصنيف الائتماني، وخلص إلى أن هذه المؤسسات تؤدي خدمات مفيدة جدا للأسواق. حيث تقوم بتجميع البيانات حول نوعية المقترضين، بما في ذلك الدول والشركات والمؤسسات المالية، ومن ثم فإنها تسهل على المقترضين حرية الوصول إلى الأسواق المحلية والعالمية، ومن ثم التمكن من جذب عروض الائتمان المناسبة، وهو ما يساعد على إضافة المزيد من السيولة إلى أسواق المال والتي كان من الممكن ان تكون اقل سيولة إذا لم تتوافر مثل هذه المؤسسات.

هناك ٤ تعليقات: