نشر في صحيفة الاقتصادية السعودية بتاريخ الجمعة 27/5/2011
كان من المفترض ان يكون مقالي اليوم هو الحلقة الثانية من مقال ضم الأردن والمغرب إلى دول مجلس التعاون، ولكن الأخبار السارة التي كشف عنها الأشقاء في المملكة العربية السعودية حول حزمة المساعدات المكثفة التي تم تقديمها للاقتصاد المصري حولت اتجاه قلمي 180 درجة نحو موضوع المساعدات السخية الأخيرة التي قدمتها المملكة لمصر.
في أعقاب انطلاق ثورة 25 يناير دار نقاش بيني وبين أخي الفاضل د. مقبل الذكير بمناسبة منع نشر مقالنا الأسبوعي عن ثورة مصر، ربما لسخونة ما احتواه المقالين بمعايير ذلك الوقت، فقد نشرت الاقتصادية بعد ذلك مقالات أكثر جرأة من مقالينا، وأثناء النقاش تعرضنا للمشكلات الاقتصادية المتوقع أن تواجهها مصر في أعقاب الثورة والتي تناولتها بالتفصيل هنا في أكثر من موضع على الاقتصادية، وقد أخبرني د. الذكير أن هذه اللحظة تتطلب وقوف دول الخليج إلى جانب مصر، وأنه سيطالب بأن تقف المملكة إلى جانب الشعب المصري في هذه الظروف.
طوال هذه الفترة وأنا أراقب أوضاع الاقتصاد المصري عن كثب، وتزداد مخاوفي يوما بعد يوم وأنا أرى الكثير من المؤشرات الكلية للاقتصاد المصري تتهاوى أمامي، بصفة خاصة احتياطي مصر من النقد الأجنبي والذي يتآكل بسرعة الصاروخ، بعد أن استغرق الأمر وقتا طويلا من مصر لتكوين هذا الاحتياطي، ومعه بالطبع تزداد المخاوف من انهيار الجنيه، ومن ثم تصاعد مخاطر انطلاق موجة تضخمية تأكل الأخضر واليابس من الدخول الحقيقية لملايين المصريين الذين يعانون أساسا من صعوبة التعايش مع الأسعار الحالية بدخولهم المنخفضة، وترتفع معاناتهم ومطالبهم بزيادة دخولهم، وهو ما يدخل البلد في حلقة خبيثة من الضغوط التضخمية.
فقد أدت الاضطرابات التي سادت في أعقاب الثورة، في ظل الفراغ الأمني والسياسي، حيث لا توجد قيادة سياسية ولا برلمان، وإنما حكومة تصريف أعمال مؤقتة، إلى تردي الأوضاع على نحو أسرع مما كنت أتخيل سابقا في كتاباتي عن الاقتصاد المصري، وقد بات من الواضح ان الاقتصاد المصري يستعد لدخول حالة ركود عميق، حيث انخفضت مستويات الطلب الكلي بصورة كبيرة، وتراجع الإنفاق الاستثماري، بصفة خاصة، على نحو كبير، وتراجع صافي الصادرات إلى مستويات مخيفة، وتضاءلت تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى الصفر تقريبا، في الوقت الذي تراجعت فيه الإيرادات السياحية، أحد المصادر الأساسية للدخل بصورة واضحة، وانخفضت معدلات النمو على نحو ينذر بكارثة.
المصادر الوحيدة التي استمرت في التدفق إلى مصر حاليا هي إيرادات قناة السويس وتحويلات المصريين العاملين في الخارج وإيرادات الصادرات الهيدروكربونية، وهي في مجموعها لا تمثل إلا جانبا محدودا من احتياجات مصر من النقد الأجنبي التي تزيد سنويا عن 50 مليار دولارا. من ناحية أخرى فإن التزام مصر بحرية تدفقات رؤوس الأموال وعدم الرغبة في فرض قيود رقابية على العمليات بالنقد الأجنبي، دفعت البنك المركزي المصري إلى ضخ ما يزيد عن 8 مليار دولار في غضون الأشهر الثلاث الماضية لمواجهة عمليات تحويل رؤوس الأموال إلى الخارج والدفاع عن الجنيه المصري وسداد التزامات مصر بالنقد الأجنبي، ومن ثم أصبح الجنيه المصري اليوم يواجه مخاطر حقيقية أكثر من أي وقت مضى. فقد تراجعت احتياطيات النقد الأجنبي لمصر من حوالي 36 مليار دولارا قبل قيام الثورة إلى حوالي 28 مليار دولارا في آخر ابريل الماضي. وأخذا في الاعتبار معدل التآكل الذي تتم به تلك الاحتياطيات حاليا، فإن احتياطيات النقد الأجنبي ربما تصل إلى الصفر بنهاية هذا العام، إذا لم تتمكن مصر من تعبئة مواردها من النقد الأجنبي.
الوضع بالنسبة لميزانية مصر يعد أكثر سوءا، حيث تواجه مصر الآن وضعا حرجا للغاية بسبب محاولة استيفاء مطالب الفئات المختلفة من خلال رفع الأجور وزيادة الدعم للسيطرة على الأسعار والحفاظ على مستويات المعيشة، في الوقت الذي تتراجع فيه إيرادات الدولة على نحو كبير نظرا لضعف معدلات النمو وانخفاض مستويات الناتج، باختصار شديد مصر تواجه أزمة سيولة حادة.
منذ فترة تحاول مصر الاتصال بالمجتمع الدولي، سواء المصادر المتعددة الأطراف Multilateral (مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمجتمع الأوروبي) أو المصادر الثنائية Bilateral (مثل الدول الصديقة) لتوفير تسهيلات مالية ومساعدات اقتصادية قدرت ما بين 10-12 مليار دولارا حتى يونيو 2012.
تجدر الإشارة إلى أن هناك سوء فهم شائع حول مفهوم المساعدات الاقتصادية، حيث يفهمها العامة على أنها هبات أو منح، لا ترد، تقدمها الدول المانحة للدول المتلقية لهذه المساعدات، وهو أمر غير صحيح. فالمساعدات الاقتصادية في معظمها تكون عبارة عن قروض واجبة الرد من جانب الدول المتلقية لهذه المساعدات إلى الدول المانحة مرة أخرى، ويطلق عليها عبارة مساعدات لأنها غالبا ما تكون قروضا بشروط سهلة أو ميسرة، أي أنها إما أن تكون قروض تقدم بمعدلات فائدة منخفضة أو بفترات سماح من احتساب الفوائد عليها، أو بفترات سماح من دفع الأقساط لمدة زمنية محددة، أو قروض تقدم بدون فوائد على الإطلاق، أو قروض تستحق السداد على فترات زمنية طويلة نسبيا. المهم أن الجانب الأكبر من هذه المساعدات سوف يرد إلى الدول المانحة مرة أخرى.
لقد تزايد الاهتمام بتدفق المساعدات إلى الدول النامية باعتبارها مصدرا هاما لتمويل برامج التنمية في دول العالم الثالث بعد أن أعلنت الأمم المتحدة عقد الستينيات من القرن الماضي "عقدا للتنمية"، والذي حدد هدفين أساسيين بحلول عام 1970 هما: تحقيق معدل نمو سنوي يصل إلى 5% في الدول النامية، وزيادة تدفق المساعدات التنموية بصورة جوهرية إلى تلك الدول. ولتحقيق هذا الهدف طالبت الأمم المتحدة الدول الغنية بتخصيص 1% من ناتجها المحلي الإجمالي لمساعدة الدول النامية، وتم إنشاء مجموعة مساعدات التنمية Development Assistance Group في عام 1960، وأعلن عن أنها ستركز في عملها على مساعدة الدول النامية على التغلب على مشكلة الفقر. غير أن نتائج التطبيق جاءت مخيبة للآمال، فتم تخفيض النسبة المستهدفة للمساعدات إلى 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي للدول الغنية في العقد الثاني للتنمية خلال السبعينيات (أي أقل من 1%).
من ناحية أخرى أعلنت لجنة مساعدات التنمية عن أن عقد التسعينيات سوف يركز على التعاون من أجل التنمية والمحافظة على البيئة، في إطار مفهوم للمشاركة في التنمية يهدف بصفة أساسية إلى دعم استدامة النمو الاقتصادي، حيث عبر أعضاء لجنة مساعدات التنمية عن أنهم سوف ينتهزون الفرص للعمل مع الدول النامية لتوفير الشروط اللازمة لقطاعات إنتاجية ديناميكة، وتقوية روح المبادرة وتقوية دور المشروعات الخاصة وقوى السوق ودعم المشاركة الفردية في تلك المجتمعات، وتشجيع الديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلا عن تشجيع الاستخدام الكفء للموارد وخلق مناخ أفضل لعدالة توزيع الدخول في تلك الدول.
والآن ما هو مغزى ومضمون ذلك؟ الإجابة هي أن المساعدات الاقتصادية هي أحد الالتزامات التي ينبغي على الدول الغنية أن تقوم بتقديمها سنويا إلى الدول الفقيرة في العالم، وينبع هذا الالتزام من المسئولية الأخلاقية للدول المانحة أولا، والمسئولية التي تفرضها عضويتها في هذا المجتمع الدولي ثانيا، وتلك خلفية أردت أن أفصلها للقارئ في دول الخليج بالذات. فمن وقت لآخر أقرأ على الصحف اتهامات للحكومات الخليجية بأنها تنثر أموالها في كل مكان في الخارج بينما تضن بها على المواطن الخليجي، وهذا غير صحيح! فحكومات الدول الغنية لا تنثر أموالها هكذا كما هو مفهوم، كما أن قيامها بتقديم المساعدات للدول الفقيرة ليس خيارا لتلك للحكومات وإنما التزاما عليها في عالم اليوم، كونها عضو في المجتمع الدولي وعضو في منظماته الدولية التي تتخذ من مبدأ المساعدات الاقتصادية هدفا أساسيا لها مثل برنامج الأمم المتحدة للتنمية، ومن ثم فإنه عندما تقوم حكوماتنا بتقديم مساعدات للدول الأخرى فإنها لا تنثر الأموال كما يشاع، وإنما تستوف أحد التزاماتها تجاه المجتمع الدولي التي هي عضو فيه.
الآن أعود إلى الموضوع الأساسي لهذا المقال، هذا الأسبوع حدثت انفراجة كبيرة في الموارد المالية المتاحة لمصر، من خلال تدفق غير مسبوق للمساعدات للاقتصاد المصري، حيث تم تقديم عروضا سخية لمنح ومساعدات من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والبنك الدولي لدعم الاقتصاد المصري، والبقية تأتي. وكان الرئيس أوباما هو أول من أعلن عن تقديم مساعدات للاقتصاد المصري حيث قال بأنه سوف يعفي مصر من ديون تصل إلى مليار دولار إضافة تقديم إلى مليار دولار أخرى ستقدم في صورة قروض لتمويل مشروعات للبنية التحتية وخلق الوظائف من خلال تمويل المشروعات كثيفة الاستخدام لعنصر العمل.
هذا الأسبوع طالعتنا الصحف بقرار الأشقاء في المملكة العربية السعودية بدعم الاقتصاد المصري بحوالي أربعة مليار دولار، تتوزع بين منح لا ترد، وقروض ميسرة وودائع مصرفية لدى البنك المركزي. تفاصيل حزمة المساعدات سوف تكون تقديم 500 مليون دولار على شكل منحه عاجلة لدعم الميزانية العامة التي تعاني من مشكلة خطيرة في الموارد حاليا، خصوصا وأن مصر مقدمة على اعتماد اكبر ميزانية في تاريخها بحزمة زيادات كبيرة في الأجور والدعم، ومن ثم تحقيق عجز فلكي، يتوقع وفقا لبعض التقديرات بأن يصل إلى حوالي 11% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو تقريبا 4 أضعاف الحدود الآمنة لنسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي. كما سيتم تخصيص 200 مليون دولارا كمنحة لصالح صندوق تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
هذا هو عنصر المنحة التي لا ترد في المساعدات المقدمة من الأشقاء في المملكة. باقي المساعدات سوف تكون 500 مليون دولارا لشراء سندات للخزانة المصرية وذلك وفقا للقواعد التي ستتم عليها عمليات طرح تلك السندات، وذلك للمساعدة في تمويل عجز الميزانية العامة للدولة، وقرض ميسر بقيمة 500 مليون دولارا و 500 مليون دولارا أخرى في صورة قروض ميسرة من الصندوق السعودي للتنمية. كذلك سوف يتم تخصيص 750 مليون دولارا كمساعدات لعملية تمويل الصادرات السعودية إلى مصر، وذلك لدعم الصادرات المصرية، وأخيرا سوف يتم إيداع مليار دولار كوديعة لدى البنك المركزي المصري، وسوف يتم الاتفاق لاحقا على كيفية الإيداع وشروطه. بهذا الشكل يبلغ إجمالي المساعدات المقدمة من المملكة الشقيقة إلى مصر 3950 مليون دولارا، وهي بكل المقاييس أضخم المساعدات الثنائية التي تم تقديمها إلى الاقتصاد المصري حتى الآن.
الدعم السعودي لمصر ليس وليد اليوم، فقد وقف الأشقاء السعوديون بجانب مصر بعد هزيمة 5 يونيو، عندما تعهدت المملكة مع باقي الدول العربية النفطية بإعادة بناء الجيش المصري، وتقديم الدعم المالي اللازم للمجهود الحربي المصري للاستعداد للحرب القادمة مع إسرائيل، وقد قدمت المملكة مئات الملايين من الدولارات سنويا لهذا الغرض، حتى تحقق نصر العرب على إسرائيل في حرب 6 أكتوبر 1973، واستمر الدعم العربي أيضا بعد الحرب، حتى بدأ السادات في الاتصال باليهود وعقد معهم معاهدة السلام، فتم استبدال المعونات العربية بالمعونة الأمريكية. نحن في مصر نكن كل الاحترام والحب لإخواننا في المملكة، ونسأل الله أن يقدرنا على رد الجميل لهذا البلد العظيم بقيادته وشعبه الكريم، فمصر لا تنسى أبدا من وقف بجانبها، وفي أيام عزها، لم تبخل مصر بمساعداتها على أي دولة شقيقة.
هذا الأسبوع أيضا أعلن البنك الدولي أنه سوف يقدم مساعدات إلى مصر بمبلغ 4.5 مليار دولار على مدى السنتين القادمتين. كذلك فإن بعثة صندوق النقد الدولي تزور القاهرة حاليا لتقييم احتياجات الاقتصاد المصري للسيولة تمهيدا لتحديد حزمة المساعدات التي سيقدمها الصندوق لمصر وشروط هذه المساعدات. أتوقع أيضا أننا سوف نسمع أخبارا سارة قريبا من الصندوق الكويتي للتنمية بتقديم مساعدات للاقتصاد المصري تقدر بحوالي 3 مليار دولارا، هناك حديث أيضا عن مبادرة قطرية وإماراتية في الأيام القادمة.
هذه الحزمة من المساعدات أبلغ رد على الشائعات التي تتردد هذه الأيام بأن بعض الحكام العرب يشترط الإفراج عن حسني مبارك أو عدم محاكمته كشرط لتقديم المساعدات لمصر، وهي شائعات أقل ما يمكن أن توصف به بأنها سخيفة، فما بين مصر ودول الخليج من روابط أعمق وأوثق من إطلاق حرية حسني مبارك أو محاكمته. لقد جاء تدفق هذه المساعدات في الوقت الحرج، فمما لا شك فيه أن هذه المساعدات السخية سوف تسهم في تعزيز إمكانيات الاقتصاد المصري، وتساعده على تجاوز تداعيات الأحداث التي لحقت بالثورة بما لها من آثار سلبية عديدة، بصفة خاصة على الميزانية العامة للدولة.
من الواضح أن أصدقاء مصر يقدرون الوزن الذي تمثله مصر ودورها الحيوي كضابط للأمن والاستقرار في المنطقة، ويعلمون أن ما تمر به مصر حاليا من أوضاع انتقالية، إنما هو انتقال نحو الأفضل، أي نحو دولة الديمقراطية والقانون والمؤسسات، دولة خالية من الفساد، دولة تتطلع إلى أن تقوم بدورها العربي والإقليمي كما يجب، من منطلق مسئوليتها الحقيقية نحو أشقاءها، وأن ما تمر به مصر حاليا هو أوضاع مؤقتة.
أصدقاء مصر يدركون مدى صعوبة الوضع الاقتصادي الذي تواجهه مصر حاليا، وحاجتها الماسة إلى السيولة من النقد الأجنبي، ومن الواضح أيضا أن أصدقاء مصر فعلوا ما هو مطلوب منهم، الكرة الآن في ملعب المصريين، عليهم أيضا أن يفعلوا ما هو مطلوب منهم في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ مصر حتى يتمكنوا من البناء على مكاسب الثورة والوصول بقاربها إلى بر الأمان بإذن الله تعالى، وأنا واثق من أن حكمة المصريين سوف تمكنهم من التغلب على كافة العقبات التي تخلقها القوى الداعمة لعدم الاستقرار حاليا في مصر. فالشعب الذي صنع هذه الثورة العظيمة التي تعد أعظم ثورات التاريخ، قادر بأن يتغلب على مشكلاته وأن يعبر بمصر إلى قائمة الدول الناشئة في هذا العالم بإذنه تعالى. الأسبوع القادم أعود إلى الجزء الثاني من مقال ضم الأردن والمغرب إذا أحيانا الله.