نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 26/6/2012
في المقال السابق تناولنا الآثار السلبية
والإيجابية المتوقعة للإنفاق العسكري على الاقتصاد الوطني من الناحية النظرية،
وتساءلنا عن نتائج الحرب على الاقتصاد الأمريكي، اليوم نحلل النتائج التي توصل إليها
معهد السلام والاقتصاد في دراسة له نشرت مؤخرا بعنوان "آثار الحرب على
الاقتصاد الأمريكي"، قام المعهد فيها بتحليل الآثار الكلية للإنفاق الحكومي
في خمس حروب أساسية وهي الحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام والحرب
الباردة وحرب العراق وأفغانستان، على الميزانية العامة وأثار عملية تمويل الإنفاق
الحكومي على الحرب، والآثار على الاستهلاك والاستثمار والضرائب والتضخم.
غالبا ما يشار إلى أن الولايات المتحدة خرجت بصورة أساسية من الكساد
الكبير الذي بدأ في 1929 من خلال خوض الحرب العالمية الثانية، فقد شهدت فترة الحرب
العالمية الثانية واحدا من أعلى معدلات النمو قصير الأجل في تاريخ أمريكا (17% في
1942)، لكن هذا النمو الاستثنائي كان مدفوعا أساسا بالإنفاق الحكومي، فلم تشهد
الولايات المتحدة في تاريخها نسبة للإنفاق الحكومي إلى الناتج كتلك التي تحققت
خلال فترة الحرب العالمية الثانية، حيث بلغت نسبة الإنفاق الحكومي إلى الناتج
حوالي 80%، وهي نسبة مرتفعة جدا، حيث تجاوز الإنفاق الحكومي الإنفاق الاستهلاكي
الخاص لأول مرة، كما تناقص الإنفاق الاستهلاكي الخاص من 65% من الناتج في بداية
الحرب إلى 45% في 1944، بينما اقتصر الاستثمار على 3% فقط من الناتج، وهو بكل
المقاييس أمرا استثنائيا، فقد كانت الموارد مخصصة أساسا للإنتاج العسكري.
أما عن تمويل هذا الإنفاق الحكومي فقد كان يتم أساسا من خلال
الاقتراض، ولذلك بلغت نسبة الدين العام إلى الناتج أعلى مستوياتها على الإطلاق في
تاريخ الولايات المتحدة بنهاية الحرب العالمية الثانية، والتي تجاوزت نسبة 120% من
الناتج، لم تصل نسبة الدين إلى الناتج هذه المستويات من قبل. بالطبع من المتوقع
تحقيق هذه المعدلات من النمو في مقابل هذا الحجم الضخم للإنفاق العام، لأنه حتى لو
تصورنا قيام الحكومة بهذا القدر من الإنفاق في ظل غياب الحرب، فقد كان سيؤدي إلى
نفس النتائج على النمو وربما إلى نتائج أفضل.
من المؤكد أن أفضل نتائج الحرب العالمية الثانية كانت على معدلات
البطالة التي انخفضت من حوالي 15% عام 1940 إلى 1.9% فقط في 1945 وهو من أدنى معدل
للبطالة في التاريخ الأمريكي، حيث كان يعمل حوالي 20% من السكان الأمريكيين في
القوات المسلحة. غير أن معهد السلام والاقتصاد يشير إلى أن أحد أهم نتائج الحرب
العالمية الثانية هي أنها مهدت الطريق لتوزيع أفضل للثروة، وهو الاتجاه الذي استمر
في الولايات المتحدة حتى نهاية حرب فيتنام، الأمر الذي مهد لنشوء اقتصاديات
الاستهلاك الكبير في أمريكا. فقد كان للحرب تأثيرا إيجابيا واضحا على تركز توزيع
الدخل في الولايات المتحدة، وفقا للإحصاءات المتاحة فإن الـ 10% الأعلى دخلا من
السكان الأمريكيين كانوا يحصلون 45% من الدخل خلال الفترة من 1920-1940، غير أنه
مع قيام الحرب انخفض نصيبهم إلى 32.5%، قبل أن تعود مرة أخرى إلى 45% في 2007.
كان للحرب الكورية 1950-1953 نفس التأثير على النمو في الاقتصاد
الأمريكي والذي بلع في عام 1951 حوالي 11%، والذي كان أيضا مدفوعا بنمو الإنفاق الحكومي على الحرب، وكما
حدث في الحرب العالمية الثانية، انخفضت مستويات الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري في
مقابل زيادة الإنفاق الحكومي، غير أن الولايات المتحدة كانت قد استوعبت درس الحرب
العالمية الثانية في تمويل الإنفاق من خلال العجز، وبدلا من ذلك تم تعديل أسلوب
التمويل بالضرائب بدلا من التمويل بالعجز الذي تسبب في رفع نسبة الدين إلى الناتج إلى
مستويات استثنائية خلال الحرب العالمية الثانية، وارتفع معدل التضخم نتيجة لذلك.
من حيث التكلفة كانت حرب فيتنام التي بدأت فعليا في 1965، أقل تكلفة
من الحربين العالمية الثانية والحرب الكورية، ذلك أن الإنفاق العسكري الأمريكي كان
مرتفعا أساسا بسبب الحرب الباردة مع المعسكر الشرقي، فلم تزد نسبة الإنفاق العسكري
في أقصى مستوياتها عن 9.5% من الناتج، ومرة أخرى لم تلجأ الولايات المتحدة إلى
التمويل بالعجز، وإنما بزيادة مستويات الضرائب، ونظرا لأن الإنفاق العام لم ينم
بصورة جوهرية، فلم يترتب على نمو الإنفاق الحكومي تراجع الاستهلاك أو مستويات
الاستثمار في الاقتصاد الأمريكي خلال فترة الحرب الكورية، وبشكل عام بلغ معدل نمو
الناتج اقصى مستوياته خلال الحرب حوالي 7.3% في عام 1966.
كان الوضع مختلفا بالنسبة لحرب العراق وأفغانستان، حيث كان الاقتصاد
الأمريكي يعيش مرحلة الكساد التي نتجت عن انفجار فقاعة شركات التكنولوجيا في عام
2000 وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ولعل قيام الولايات المتحدة بإعلان هذه
الحرب يعد أحد أسباب الاعتقاد الذي يسود حاليا باحتمال قيام الولايات المتحدة بحرب
قريبة لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي من حالة الكساد التي يعاني منها.
في أثناء حرب العراق وأفغانستان بلغ الإنفاق العسكري أوجه عند نسبة
4.3% من الناتج المحلي الإجمالي، وتجدر الإشارة إلى أن مستشاري الرئيس الأمريكي قد
صوروا له حرب العراق وأفغانستان على أنها عملية جراحية دقيقة محسوبة النتائج
والتكاليف، إلا أن الواقع العملي اثبت أن التزامات الولايات المتحدة في حرب أفغانستان
بالذات أخذت في التزايد مع مرور الوقت، وهناك من يرى أن التكلفة الحقيقية لحرب
العراق وأفغانستان كانت باهظة للغاية، على سبيل المثال يقدر الاقتصادي الأمريكي ستجلز
الحاصل على جائزة نوبل، تكلفة الحرب بحوالي 3 تريليون دولارا، وفي تحديث آخر لهذه
التكلفة يقدرها ستجلز بخمسة تريليونات دولارا.
على العكس من الحروب السابقة التي تم فيها تمويل الإنفاق على الحرب من
خلال الضرائب، لم تمكن ضغوط الكساد والإعفاءات الضريبية التي أقرها الرئيس بوش مرتين
بهدف تشجيع النشاط الاقتصادي الخاص، الولايات المتحدة من تمويل حربها من خلال
الضرائب، لذلك عادت الولايات المتحدة إلى التمويل من خلال العجز مرة أخرى، فقد
كانت هذه هي المرة الأولى في الولايات المتحدة التي يتم فيها إقرار خفض للضرائب
وهي مقدمة على حالة حرب، وفي الحقيقة يصعب فصل أثر حرب العراق وأفغانستان على الاقتصاد الأمريكي لتداخلها بشكل واضح مع أزمة
سوق المساكن وما تلاها من أزمة مالية واقتصادية، وأعتقد أنه ما زال هناك المزيد من
الوقت لكي يمكن تقييم الأثر الصافي النهائي لحرب العراق وأفغانستان على الاقتصاد
الأمريكي، والذي من المؤكد أنه لن يكون مهمة سهلة.
من هذا التحليل نصل إلى خلاصة مفادها أن الحروب التي خاضتها الولايات
المتحدة كان لها تأثير إيجابي بشكل عام على معدلات النمو، حيث حققت الولايات المتحدة معدلات نمو استثنائية
أثناء تلك الحروب، غير أنه تنبغي الإشارة إلى أن هذا النمو كان مرجعه الأساسي هو
زيادة مستويات الإنفاق الحكومي، وفي كثير من الحالات على حساب الإنفاق الاستهلاكي
والاستثماري، وتصاعد عجز الميزانية ونسبة الدين العام إلى الناتج إلى مستويات
مرتفعة، ولذلك أعتقد أنه يصعب القول بأن الأثر الصافي للحرب على اقتصاد الولايات
المتحدة كان موجبا من الناحية الحقيقية.