نشر في صحيفة الاقتصادية بتاريخ الثلاثاء 19/6/2012
تواجه الصين هذا العام تراجعا مستمرا في معدلات النمو الحقيقي مع
تصاعد الضغوط الخارجية، بصفة خاصة تلك التي تأتي من أوروبا مع تصاعد ازمتها، وتواضع
معدلات النمو في الاقتصاد الأمريكي، وكذلك من المصادر الداخلية، خصوصا مع تراجع
سوق العقارات الصيني، الأمر الذي أثر على مستويات ثقة المستهلكين في الصين. فقد
اقتصر معدل النمو في الربع الأول من هذا العام على 7.5%، كذلك يتوقع حاليا أن يكون
النمو المحقق في الربع الثاني من هذا العام اقل من 7%، اذا لم تتحسن الأوضاع في الصين. الاقتصاد الصيني لا ينحسر من
الناحية المطلقة إذن، ولكن معدل النمو الذي يحققه يتراجع، حيث تشير التوقعات
الحالية حول معدلات النمو الاقتصادي في الصين في 2012 أنها لن تتجاوز 7.5%، وهو
بالفعل المعدل المستهدف حاليا من الحكومة الصينية، والذي يعد اقل من المعدل الذي
كان متوقعا منذ البداية والذي يصل إلى 8.2%.
قد يرى البعض أن هذا التراجع في التوقعات حول النمو الصيني ليس
جوهريا، أخذا في الاعتبار أن النمو الفعلي ينخفض عن المتوقع بحوالي نصف في المئة تقريبا،
إلا أن فداحة الانحسار في النمو تصبح أكثر وضوحا عندما نأخذ في الاعتبار اتجاهات
النمو العامة في الصين منذ بداية هذا العقد، حيث بلغ متوسط معدل النمو حوالي 10%
تقريبا لعدة سنوات مضت، بما في ذلك أحلك سنوات الأزمة، وإذا صدقت هذه التوقعات بأن
النمو سوف يقتصر على 7.5% فإن ذلك يعني أن الصين ستحقق هذا العام اقل معدلات للنمو
منذ العام 2004، حيث سيتراجع النمو بشكل مستمر من 10.4% في 2010 إلى 9.2% ثم إلى
7.5% هذا العام، وهي اتجاهات تؤكد بوضوح تواضع معدلات النمو الاقتصادي الصيني المحققة
خلال هذا العام.
العوامل المسئولة عن انحسار النمو تتلخص وفقا للحكومة الصينية في
تراجع سوق العقار، وانخفاض الصادرات وانخفاض ثقة المستهلكين وتراجع النمو في
مبيعات التجزئة. فقد بات من الواضح أن سوق العقارات الصيني ربما يستعد لتكرار نفس
تجربة سوق المساكن في دول العالم الصناعي، حيث يتراجع الطلب على المساكن بصورة
واضحة، ويواجه المطورون العقاريون وشركات الرهن العقاري نفس المخاطر التي تعرضت
لها المؤسسات المالية المتعاملة في سوق المساكن في دول العالم الأخرى، ولذلك ليس
من المستغرب أن نجد أن قطاع الإنشاءات هو أكثر القطاعات حاليا تأثرا، حيث أخذت
معدلات البطالة في الارتفاع بشكل واضح بين عمال البناء، فمطورو العقارات يواجهون أزمة
سيولة حادة مع تراجع مبيعات المساكن، ويواجهون مشكلة ارتفاع أعباء الفوائد على
قروض البنوك. المثير للقلق أيضا أن النمو في الإنفاق الاستثماري في مجالات الآلات
والمعدات والأراضي والمباني وغيرها من أشكال الاستثمار الثابت يتراجع بصورة لم
تشهدها الصين هذا العقد.
بسبب التشابك الكبير الذي أصبح أحد سمات الاقتصاد الآسيوي حاليا،
يتوقع أن ينحسر النمو في آسيا أيضا، فقد أشار البنك الدولي أن انحسار النمو في
الاقتصاد الصيني سوف يترتب عليه أن تتأثر معدلات النمو في منطقة شرق آسيا بالكامل
هذا العام، وبناء عليه يتوقع البنك أن يتراجع النمو في هذه المنطقة من 8.2% في
العام السابق إلى 7.6% هذا العام.
الحل الذي يقترحه البنك الدولي على الصين لرفع معدلات النمو هو في
رأيي أشبه بالسم الزعاف للاقتصاد الصيني، حيث يقترح البنك الدولي أن تخفف الصين
اعتمادها على الصادرات وتتجه إلى دعم الطلب المحلي، وهي روشتة تقاومها الصين منذ
فترة، فقد يبدو الحل الذي يقترحه البنك الدولي معقولا، على الأقل من الناحية
النظرية، غير أن توجه الصين نحو الداخل من المؤكد سوف يفقدها تنافسيتها الحالية،
والتي هي أساسا مصدر نموها الأساسي، ومن ثم سيسبب لها المزيد من التراجع في النمو.
في مواجهة تراجع النشاط الاقتصادي الصيني، قرر البنك المركزي الصيني
(بنك الشعب) خفض نسبة الاحتياطي القانوني في البنوك الصينية بنصف في المئة في مارس
الماضي، وهو ما يعد من الأدوات التي تيسر السياسة النقدية وترفع من قدرة البنوك
على منح المزيد من الائتمان، وتساوي هذه الخطوة في تأثيرها تأثير خفض معدلات
الفائدة لمحاولة رفع معدلات السيولة في الاقتصاد الصيني، لم تكف هذه الخطوة لتحقيق
مستهدفات بنك الشعب، ولذلك قام البنك بتخفيض معدلات الفائدة لأول مرة منذ 2008
بمقدار ربع في المئة ليصل معدل الإقراض إلى 6.3% ومعدل الفائدة على المودعات إلى
3.25%، ووفقا لبنك الشعب الصيني سوف يسمح للبنوك الصينية بأن ترفع معدل الفائدة
على المودعات بنسبة 10%، وأن تمنح القروض بمعدلات تقل بنسبة 20% عن المعدلات
السابقة. هذه التطورات الكبيرة (بالمقاييس الصينية) تعكس عمق المشكلة التي يواجهها
النمو في الصين، والرغبة الحكومية دفع مستويات السيولة في الاقتصاد المتراجع ودفع
معدلات النمو مرة أخرى. الجدير بالذكر أن الحكومة الصينية كانت قد رفعت معدلات
الفائدة خمس مرات في السنتين الماضيتين بهدف السيطرة على التضخم، ولذلك جاء خفض
معدلات الفائدة الصينية مفاجئا للجميع، وهو ما يعكس عمق الضغوط التي يتعرض لها
الاقتصاد الصيني حاليا.
ولكن هل تنجح عملية تيسير السياسة النقدية في استعادة عزم النمو
الصيني، الإجابة هي في أغلب الظن لا، لأن الشروط الدولية غير متاحة حاليا لكي
تنعكس إجراءات السياسة على الصادرات الصينية أخذا في الاعتبار تراجع النمو
العالمي، خصوصا في أوروبا وبدرجة اقل في الولايات المتحدة، وفي رأيي أن الصين ربما
تحتاج اليوم بصورة أكبر من أي وقت مضى لحزمة تحفيز مثل تلك التي نفذتها مع بداية
الأزمة لضمان استمرار معدلات النمو على نحو مرتفع، بصفة خاصة تحتاج الصين رفع
مستويات الإنفاق الاستثماري في مشروعات البنى التحتية مثل خطوط السكك الحديدية،
وتحسين شبكات الطرق التي توصل القرى بالمدن، وتشجيع عمليات شراء المساكن من خلال
حزم التحفيز المختلفة.
تراجع النمو الصيني يحمل أخبارا سيئة للعالم أجمع، ولنا نحن الدول
المنتجة للنفط بصفة خاصة، حيث أصبح سوق النفط حاليا رهينة للتطورات التي تحدث في الاقتصاد
الآسيوي وفي الصين على نحو خاص، ذلك أنه الصين هو الاقتصاد الوحيد تقريبا الذي
يشكل في الوقت الحالي مولد النمو الأساسي في الاقتصاد العالمي، بعد تراجع دور
الاقتصادات التقليدية بسبب الأزمة، فأوروبا ما زالت تصارع من أجل السيطرة على
قنبلة الديون، والولايات المتحدة تعاني من تراجع معدلات النمو بصورة واضحة بعد
نفاد تأثير حزم التحفيز المالي والنقدي للاقتصاد الأمريكي. فالإحصاءات المتاحة عن
التجارة الدولية تشير إلى أن الصين
هي اكبر مستهلك ومستورد في العالم للمواد الأولية مثل الحديد والنحاس، وهي كذلك
مشتري رئيسي لمعدات المصانع في العالم وكذلك لسلع الاستهلاك الرفاهية، فضلا عن
أنها ثاني اكبر مستهلك للنفط في العالم، ولذلك يتوقع أن يكون تأثير تراجع النمو الصيني اكبر على منتجي المواد الأولية
في العالم. أما الأثر على الولايات المتحدة فسوف يكون منخفضا بسبب انخفاض نسبة
صادرات الولايات المتحدة إلى الصين كنسبة من ناتجها المحل الإجمالي والتي تقل عن
1% من الناتج المحلي الأمريكي، وعلى ذلك يمكن القول بأنه إذا حدث ودخل الاقتصاد الصيني مثل غيره من
الاقتصاديات الكبرى في العالم مرحلة الانحسار، فستمر الدورة الاقتصادية في العالم أجمع
في مرحلة سيئة للغاية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق